آيتان على منضدة التشريح
التوحيد
منذ 15 سنة
المصدر : الإلهيات على هدى الكتاب والسنّة والعقل : للشيخ جعفر السبحاني ، ج3 ، ص 325 ـ 330
( 325 )
التنبيه الأول
آيتان على منضدة التشريح
بعد أن وقفت على الدعائم الأربع الّتي يتحقق معها إعجاز القرآن ، فهلّم
إلى تحليل آيتين من آياته ، نستجلي فيهما حقيقة الإعجاز ، ونقف على المزايا
الفريدة الموجودة فيهما ـ مضافاً إلى اشتمالهما على الدعائم الأربع ـ فسترى أنّ كل
واحدة منهما كافية في إثبات أنّها أعلى من أن تكون مصنوعة للبشر ، وإن بلغوا في
الفصاحة والبلاغة كلّ مبلغ.
1 ـ أية (يَا أَرْضُ ابْلَعِي)
قال ـ عَزَّ مِنْ قائل ـ : (وَ قِيلَ يَا أَرْضُ ابْلَعِي مَاءَكِ وَ يَا سَمَاءُ أَقْلِعِي
وَ غِيضَ الْمَاءُ وَ قُضِيَ الأَمْرُ وَ اسْتَوَتْ عَلَى الْجُودِيِّ وَ قِيلَ بُعْداً لِلْقَوْمِ
الظَّالِمِينَ)(1).
هذه الآية الكريمة من بدائع آيات القرآن الكريم ، وهي الّتي أُنْزِلَتْ ،
فأَنْزَلَتْ قُريشُ معلقاتها السبع عن جدران الكعبة ، وهي الّتي شغلت بال باقعة
الأُدباء ، عبد الله بن المقفع(2) ، وهي الّتي شغلت بال أساتذة البديع ؛ لأنّها
ــــــــــــــــــــــــــــ
1- سورة هود: الآية 44.
2- روى هشام بن الحكم، قال: اجتمع ابن أبي العوجاء وأبو شاكر الديصاني، وعبد الملك البصري، =
________________________________________
( 326 )
اشتملت على عشرات الأنواع من المحسنات البديعية ، بينما هي لا تتجاوز سبعة
عشر لفظاً . وإليك الإشارة إلى بعضها:
1 ـ المناسبة التامة بين « إبْلَعي وأَقْلِعي».
2 ـ الإستعارة فيهما.
3 ـ الطِّباق بين الأرض والسماء.
المجاز في قوله: ( يَا سَمَاءُ ) ؛ فإنَّ الحقيقة يا مطرَ السَّماء.
ــــــــــــــــــــــــــــ
= وابن المقفع ، عند بيت الله الحرام يستهزئون بالحاج ، ويطعنون بالقرآن فقال ابن أبي العوجاء:
« تعالوا ننقض كلُّ واحد منا ربع القرآن ، وميعادنا من قابل في هذا الموضع ، نجتمع فيه ، وقد نقضنا
القرآن كلَّه ؛ فإنّ في نقض القرآن إبطال نَبوَّة محمّد ، وفي إبطال نبوَّته إبطال الإسلام ، وإثبات ما
نحن فيه » ، فاتّفقوا على ذلك وافترقوا.
فلما كان من قابل ، اجتمعوا عند بيت الله الحرام ، فقال ابن أبي العواجا ء: « أمّا أنا فمتفكر منذ
افترقنا في هذه الآية : (فَلَمَّا اسْتَيْأَسُوا مِنْهُ خَلَصُوا نَجِيّاً) (سورة يوسف: الآية 80)، فما أقدر أن
أَظُمَّ إليها في فصاحتها وجميع معانيها شيئاً ، فشغلتني هذه الآية عن التفكر في سواها».
وقال عبد الملك : « أنا منذ فارقتكم مفكر في هذه الآية: ( يَا أَيُّهَا النَّاسُ ضُرِبَ مَثَلٌ فَاسْتَمِعُوا لَهُ
إِنَّ الَّذِينَ تَدْعُونَ مِنْ دُونِ اللهِ لَنْ يَخْلُقُوا ذُبَاباً وَ لَوِ اجْتَمَعُوا لَهُ وَ إِنْ يَسْلُبْهُمُ الذُّبَابُ شَيْئاً لاَ
يَسْتَنْقِذُوهُ مِنْهُ ضَعُفَ الطَّالِبُ وَ الْمَطْلُوبُ) (سورة الحج: الآية 73)، ولم أقدر على الإتيان
بمثلها».
فقال أبو شاكر : « أنا منذ فارقتكم مفكّر في هذه الآية: ( لَوْ كَانَ فِيهِمَا آلِهَةٌ إِلاَّ اللهُ لَفَسَدَتَا) (سورة
الأنبياء: الآية 22)، ولم أقدر على الإتيان بمثلها.
فقال ابن المقفع : « يا قوم إِنّ هذا القرآن ليس من جنس كلام البشر ، وأنا منذ فارقتكم مفكّر في
هذه الآية : (وَ قِيلَ يَا أَرْضُ ابْلَعِي مَاءَكِ وَ يَا سَمَاءُ أَقْلِعِي وَ غِيضَ الْمَاءُ وَ قُضِيَ الأَمْرُ وَ اسْتَوَتْ
عَلَى الْجُودِيِّ وَ قِيلَ بُعْداً لِلْقَوْمِ الظَّالِمِينَ) (سورة هود: الآية 44)، لم أبلغ غاية المعرفة بها ،
ولم أقدر على الإتيان بمثلها».
قال هشام بن الحكم: فبينما هم في ذلك إذ مر بهم جعفر بن محمّد الصادق ـ عليه السَّلام ـ فقال: ( قُلْ لَئِنِ
اجْتَمَعَتِ الإِنْسُ وَ الْجِنُّ عَلَى أَنْ يَأْتُوا بِمِثْلِ هَذَا الْقُرْآنِ لاَ يَأْتُونَ بِمِثْلِهِ وَ لَوْ كَانَ بَعْضُهُمْ لِبَعْض
ظَهِيراً) (سورة الإسراء: الآية 88).
فنظر القوم بعضهم إلى بعض ، وقالوا لئن كان للإسلام حقيقة لما انتهى أمر وصية محمّد إلاّ إلى
جعفر بن محمّد ، والله ما رأيناه قطُّ إلاّ هِبْناه ، واقشعرت جلودنا لِهَيْبَتِه. ثمّ تفرّقوا مُقرِّين بالعجز.
( الإحتجاج للطبرسي : ج 2، ص 142 ـ 143، ط النجف الأشرف).
________________________________________
( 327 )
5 ـ الإشارة في: ( وَ غِيضَ الْمَاءُ )؛ فإنّه عَبَّرَ به عن معان كثيرة ؛ لأنّ الماءَ
لا يغيض حتى يُقْلِع مَطَرُ السماء وتبلع الأرض ما يخرج منها من عيون الماء.
6 ـ الإرداف في قوله: ( واسْتَوَتْ على الجُودِيِّ) ؛ فإِنَّه عَبّر عن استقرارها في
المكان بلفظ قريب من لفظه الحقيقي.
7 ـ التمثيل في قوله : (وَ قُضِيَ الأَمْرُ)؛ فإنّه عبّر عن هلاك الهالكين ونجاة
الناجين بلفظ بعيد عن المعنى الموضوع.
8 ـ التعليل ، فإنّ: ( غِيضَ الْمَاءُ)، علّة الإستواء.
9 ـ صحّة التقسيم ؛ فإنّه استوعب أقسام الماء حالة نقصه ؛ إذ ليس إلاّ
احتباس ماء السماء ، والماء النابع من الأرض ، وغَيْض الماء الّذي على ظهرها.
10 ـ الإحتراس في قوله : (وَ قِيلَ بُعْداً لِلْقَوْمِ الظَّالِمِينَ) ؛ إذ الدعاء يشعر
بأنّهم مستحقوا الهلاك احتراساً من ضعيف يتوهم أنّ الهلاك لعمومه ، ربما يشمل
غير مستحقه.
11 ـ المساواة ؛ لأنّ لفظ الآية لا يزيد على معناها.
12 ـ حسن النسق ؛ فإنّه تعالى قصّ القِصّة وعطف بعضها على بعض
بحسن الترتيب .
13 ـ ائتلاف اللفظ مع المعنى ؛ لأنّ كل لفظة لا يصلح معها غيرها.
14 ـ الإيجاز ؛ فإنّه تعالى أمر فيها ونهى ، وأخبر ونادى ، ونعت وسمى ،
وأهلك وأبقى ، وأسعد وأشقى ، وقصّ من الأنباء ما لو شرح لا ستغرق كتاباً
مفرداً.
15 ـ التفهيم ؛ لأنّ أوّل الآية يدلّ على آخرها.
16 ـ التهذيب ؛ لأنّ مفرداتها موصوفة بصفات الحُسن ؛ إذ كل لفظة عليها
رونق الفصاحة ، سليمة عن التنافر ، بعيدة عن البشاعة وتعقيد التركيب.
________________________________________
( 328 )
17 ـ حُسْن البيان ؛ لأنّ السامع لا يتوقف في فهم معنى الكلام ، ولا يشكل
عليه شيء منه.
18 ـ الإعتراض ، وهو قوله: (وَغيضَ الماءُ واسْتَوَتْ على الجُوديّ).
19 ـ الكناية ؛ فإنّه لم يُصَرِّح بمن أَغاض الماء ، ولا بمن قُضيَ الاَمر ، ولا
بمن سوى السفينة وأقرّها في مكانها ، ولا بمن قال: (وَ قِيلَ بُعْداً). كما لم
يصرّح بقائل: (يَا أَرْضُ ابْلَعِي)، و(يَا سَمَاءُ أَقْلِعِي) في صدر الآية ،
سالكاً في كل واحد من ذلك سبيل الكناية ، لأنّ تلك الأمور العظام لا تتأتى إلاّ
من ذي قدرة قهّارة لا يغالب. فلا مجال لذهاب الوهم إلى أن يكون غيره سبحانه
قائل: ( يا يَا أَرْضُ ابْلَعِي)، (يَا سَمَاءُ أَقْلِعِي)، ولا أن يكون غائض ما
غاض ، ولا قاضي مثل ذلك أمر الهائل ، غيره.
20 ـ التعرّض ؛ فإنّه تعالى عرّض بكل من سلك مسلكهم في تكذيب
الرُّسل ظلماً ، وأنّ الطوفان وتلك الأُمور الهائلة ما كانت إلاّ لأجل ظلمهم.
21 ـ التمكين ؛ لأنّ الفاصلة مستقرة في محلّها ، مطمئنة في مكانها غير قلقة ،
ولا مستدعاة.
22 ـ الإنسجام ؛ لأنّ الآية بجملتها منسجمة ، كالماء الجاري في
السلاسة.
23 ـ اشتمالها على بعض البحور الشعرية ؛ إذ قوله: ( وَقيلَ يا أَرضُ
ابْلعي ماءَك)، على وزن « مستفعلن مستفعلن فاعل» ، و(يَا سَمَاءُ أَقْلِعِي)
على وزن « مفاعلن مفاعل».
24 ـ تنزيل من لا يعقل منزلة من يقعل في النداء والمخاطبة.
25 ـ الإبهام في قوله : (واسْتَوَتْ على الجُوديّ) ، وهو إسم الجبل الصغير ،
والزق المنفوخ الّذي تستقر عليه السُفُن المائية.
26 ـ المحافظة على فواصل الآيات ؛ فإنّ الرويّ في قوله : (بُعْداً لِلْقَوْمِ
الظَّالِمِينَ)مطابق للآيات المتقدمة والمتأخرة.
________________________________________
( 329 )
27 ـ التكرار ، كما في « الماء » ، معرَّفاً باللام تارة ، والإضافة أُخرى.
28 ـ تخيّل مالكية الأرض ، بحيث لها سلطة في إرجاع الماء.
إلى غير ذلك من المحاسن البديعية الّتي يدركها الممعن في الآية.
فهذه بعض الميزات الواردة في الآية الكريمة ، وليس كل واحد منها ولا
جميعها أمراً معجزاً ، ولكن المجموع أعطى للآية نظماً خاصاً ، وأُسلوباً بديعاً ،
يعرف الذوق العربي أنّه يغاير سائر الأساليب والنظم الكلامية ، وهذا الجمال
الطبيعي ، يخلق في النفس جذبة روحية خاصة ، كأنّها كهرباء القلوب ، ومغناطيس
الأرواح ، ولأجل ذلك يقول الكرماني في كتاب « العجائب» :
« أجَمع المعاندون على أنّ طَوْقَ البشر قاصرٌ عن الإتيان بمثل هذه الآية ، بعد
أن فَتّشوا جميعَ كلام العرب والعجم ، ولم يجدوا مثلها في فخامة ألفاظها ، وحسن
نظمها ، في تصوير الحال مع الإيجاز من غير إخلال»(1).
ويقول العلامة الشهرستاني بأنّه أفرد بلاغة هذه الآية بالتأليف(2).
2 ـ آية (وَ أَوْحَيْنَا إِلَى أُمِّ مُوسَى)
قال تبارك وتعالى :(وَ أَوْحَيْنَا إِلَى أُمِّ مُوسَى أَنْ أَرْضِعِيهِ فَإِذَا خِفْتِ عَلَيْهِ
فَأَلْقِيهِ فِي الْيَمِّ وَ لاَ تَخَافِي وَ لاَ تَحْزَني إِنَّا رَادُّوهُ إِلَيْكِ وَ جَاعِلُوهُ مِنَ
الْمُرْسَلِينَ)(3).
وهذه الآية الكريمة من بدائع آيات القرآن ، وهي على وجازتها ، قد جمعت
فعلين من الماضي ( أوحينا ، وخِفْتِ ) ، وفعلين من الأمر ( أرضعيه ، وأَلقيه) ،
وفعلين من النهي (لا تخافي ولا تحزني) ، ووزنين من اسم الفاعل (رادّوه ،
ــــــــــــــــــــــــــــ
1- العجائب : نقلاً عن المعجزة الخالدة للشهرستاني، ص 60.
2- المصدر السابق.
3- سورة القصص : الآية 7.
________________________________________
( 330 )
جاعلوه) ، ووزنين من إسم المفعول (موسى ، مرسل) ، وإسمين خاصين
( موسى ، وأُمّه).
ثمّ قد تكررت فيها « فاء الجواب » مرتين ( فإذا ، فأَلقيه ) ، وحرف
« إلى » مرتين ( إلى أُم موسى ، إليك) . ثمّ قد كرر الخوف مرتين ، وعبّر عن أُمّ
موسى باسم مزدوج بدل أن يسميها باسمها.
وفيها نبأ غيبي ، وهو الإخبار بردّ موسى إلى أُمه ، وفيها وعدان : الردّ ،
والنبوّة.
فاجتماع هذه الأمور في الآية يوجد في الإنسان عند سماعها ، لذّة وانجذاباً
واستغراقاً ، وتطرأ عليه الحالة الّتي طرأت على عتبة بن ربيعة عندما سمع من
رسول الله آيات من سورة فصلت ، فألقى يديه خلف ظهره ، معتمداً عليهما
مذهولاً مبهوتاً ، كما تقدّم.
* * *
التعلیقات