مزايا القُرآن البيانية
التوحيد
منذ 15 سنة
المصدر : الإلهيات على هدى الكتاب والسنّة والعقل : للشيخ جعفر السبحاني ، ج3 ، ص 331 ـ 336
( 331 )
التنبيه الثاني
مزايا القُرآن البيانية
قد تعرفتَ على الدعائم الأربع المحقِّقة لإعجاز القرآن ، وكفى بذلك
عظمة لهذا الكتاب . غير أنّ لهذه المعجزة الخالدة مزايا أخرى يناسب ذكرها هنا ،
وترجع جميعها إلى المزية البيانية الّتي نحن بصدد بيانها. وحيث إنّه لا يسع المقام
الإتيان بجميع ما ذكره المحققون ، فنأتي ببعضه ، الّذي يتجلى معه هذا الكتاب
السماوي بمزاياه البيانية المنفردة.
1 ـ الصراحة في بيان الحقائق
إنّ الصراحة إحدى الميزات الّتي يتصف بها القرآن الكريم ، وتظهر بوضوح
في آياته. فمن ذلك صراحته في التنديد بالوثنية ، والطعن في الأصنام المعبودة
يومذاك ، ودعوته إلى تحطيمها.
يقول سبحانه: ( إِنَّ الَّذِينَ تَدْعُونَ مِنْ دُونِ اللهِ لَنْ يَخْلُقُوا ذُبَابًا وَ لَوِ
اجْتَمَعُوا لَهُ وَ إِنْ يَسْلُبْهُمُ الذُّبَابُ شَيْئًا لاَ يَسْتَنْقِذُوهُ مِنْهُ ضَعُفَ الطَّالِبُ
وَ الْمَطْلُوبُ)(1).
إنّ الصراحة وليدة الشجاعة المختمرة بالإيمان ، في حين أنّ السكوت عن
ــــــــــــــــــــــــــــ
1- سورة الحج: الآية 72.
________________________________________
( 332 )
الحق ، أو التلوّن والتحفظ في الحديث ، دليلٌ على جُبْن القائل وعدم اعتقاده
بالقول الّذي يلقيه على الناس ، وتخوّفه من المستمعين.
غير أنّ هذا الكتاب المعجز ، منزّه عن هذه الوصمات . فهذا هتافه في أُذن
الكافرين ، يقول : (قُلْ يَا أَيُّهَا الْكَافِرُونَ * لاَ أَعْبُدُ مَا تَعْبُدُونَ * وَ لاَ أَنْتُمْ
عَابِدُونَ مَا أَعْبُدُ * وَ لاَ أَنَا عَابِدٌ مَا عَبَدْتُمْ * وَ لاَ أَنْتُمْ عَابِدُونَ مَا أَعْبُدُ * لَكُمْ
دِينُكُمْ وَلِي دِينِ)(1).
هذه هي سيرة الأنبياء العظام ، فهم يمتلكون الصراحة في البيان ، ويمتازون
بها عن غيرهم ، فيعلنون الحقائق ، بلا تتعتع ولا تحفّظ . هذا هو إبراهيم الخليل
ـ بطل التوحد ـ يندد بعمل عبدة الأصنام بقوله : (أَفَتَعْبُدُونَ مِنْ دُونِ اللهِ مَا لاَ
يَنْفَعُكُمْ شَيْئاً وَ لاَ يَضُرُّكُمْ * أُفّ لَكُمْ وَ لِمَا تَعْبُدُونَ مِنْ دُونِ اللهِ أَفَلاَ
تَعْقِلُونَ)(2).
قل لي بربِّك ، هل تجدُ كلاماً أصرح وأمتن وأبلغ في التنديد بمن يتحذ ولياً
غير الله من قوله سبحانه: ( مَثَلُ الَّذِينَ اتَّخَذُوا مِنْ دُونِ اللهِ أَوْلِيَاءَ كَمَثَلِ
الْعَنْكَبُوتِ اتَّخَذَتْ بَيْتاً وَ إِنَّ أَوْهَنَ الْبُيُوتِ لَبَيْتُ الْعَنْكَبُوتِ لَوْ كَانُوا
يَعْلَمُونَ)(3).
وليست الصراحة ميزة القرآن في مجال المعارف والعقائد فحسب ، بل هي
سارية أيضاً في مجال العلاقات السياسية فها هو يقول: ( بَرَاءَةٌ مِنَ اللهِ وَ رَسُولِهِ
إِلَى الَّذِينَ عَاهَدْتُمْ مِنَ الْمُشْرِكِينَ)(4).
هذه إلمامَةٌ عابرة في تبيين هذه الميزة ، تُعْرِب عن إيمان القائل وإذعانه بما
يقول ، ويطرح في مختلف المجالات والأصعدة.
ــــــــــــــــــــــــــــ
1- سورة الكافرون.
2- سورة الأنبياء: الآيتان 66 و 67.
3- سورة العنكبوت: الآية 41.
4- سورة التوبة: لاحظ الآيات 1 ـ 16.
________________________________________
( 333 )
2 ـ علو الجهة المنزل منها القرآن
ومن مزايا بيان القرآن ، تَكَلُّمه من موقع الإستعلاء ، وتحدّثه بلسان من يملك
الأمر كلّه ، ومن بيده ملكوت السموات والأرض ، وفي قبضته كلُّ شيء ، فهو
في مخاطباته ومجادلاته ، وأَوامره ونواهيه ، وفي وعده ووعيده ، وفي أمثاله وقصصه ، وفي
مواعظه ونُذُره ، يتَّسم بالعلو الشامخ ، ويتصدر المقام الرفيع الّذي لا يُنال ،
ويتحدث إلى الناس حديث من يملك كل شيء ، ومن يقول على كل شيء ، ومن
يُدَبّر ويُقَدّر ، دون أن يقف أحد أمام سلطانه ، فاستمع لقوله سبحانه :
( تَبَارَكَ الذِي بِيَدِهِ الْمُلْكُ وَ هُوَ عَلَى كُلِّ شَيء قَدِيرٌ * الذِي خَلَقَ الْمَوْتَ
وَ الْحَيَاةَ لِيَبْلُوَكُمْ أَيُّكُمْ أَحْسَنُ عَمَلاً وَ هُوَ الْعَزِيزُ الْغَفُورُ * الذِي خَلَقَ سَبْعَ سَمَاوَات
طِبَاقاً مَا تَرى فِي خَلْقِ الرَّحْمَنِ مِنْ تَفَاوُت فَارْجِعِ الْبَصَرَ هَلْ تَرى مِنْ
فُطُور * ثُمَّ ارْجِعِ الْبَصَرَ كَرَّتَيْنِ يَنْقَلِبْ إِلَيْكَ الْبَصَرُ خَاسِئًا وَ هُوَ حَسِيرٌ)(1).
وقوله سبحانه: ( وَ أَسِرُّوا قَوْلَكُمْ أَوِ اجْهَرُوا بِهِ إِنَّهُ عَلِيمٌ بِذَاتِ
الصُّدُورِ * أَلاَ يَعْلَمُ مَنْ خَلَقَ وَ هُوَ اللَّطِيفُ الْخَبِيرُ)(2).
وقوله سبحانه : (قُلْ مَنْ يَرْزُقُكُمْ مِنَ السَّمَاءِ وَ الأَرْضِ أَمْ مَنْ يَمْلِكُ
السَّمْعَ وَ الأَبْصَارَ وَ مَنْ يُخْرِجُ الْحَيَّ مِنَ الْمَيِّتِ وَ يُخْرِجُ الْمَيِّتَ مِنَ الْحَيِّ وَ مَنْ يُدَبِّرُ الأَمْرَ
فَسَيَقُولُونَ اللهُ فَقُلْ أَفَلاَ تَتَّقُونَ * فَذَلِكُمُ اللهُ رَبُّكُمُ الْحَقُّ فَمَاذَا بَعْدَ الْحَقِّ إِلاَّ
الضَّلاَلُ فَأَنى تُصْرَفُونَ)(3).
3 ـ العفة والإحتشام
إِمتاز القرآن المجيد في تعابيره بالنزاهة والعفة ، مع أنّه ظهر في بيئة لا تعرف
للعفَّة مفهوماً ، فلا تجد فيه تعبيراً سيئاً ، ومَنْهجاً ركيكاً ، يخالف الأدب حتى في
ــــــــــــــــــــــــــــ
1- سورة المُلْك : الآيات 1 ـ 4.
2- سورة المُلْك : الآيتان 13 ـ 14.
3- سورة يونس : الآيتان 31 و32.
________________________________________
( 334 )
سرده لقصة غرامية ، هي قصة يوسف وزُلَيْخاء ، قِصَّةُ عشق امرأة حسنة
فاتنة ، لفتى طاهر جميل ، يُخْجِل وجهُهُ القَمرَ.
إنّ الكاتب في حقل القصص عندما يسرد أمثال هذه القصة الغرامية ، لا
يملك زمام قلمه ، ويخرج عن النزاهة والعفة ، ولكن القرآن قد شرح تلك القصة
وصوّرها ووضع خطوطها الغرامية بدقة فائقة في البيان ، مع وافر الإحتشام
والإتزان.
فعندما يعرض اجتماع هذه المرأة الجميلة ، مع ذاك الشاب الطاهر ،
واختلاءهما في بيتها ، وتعلّقها به ، يشرح تلك الواقعة من غير أن يثير الغريزة
الجنسية الحيوانية ، لئلا يناقض هدفه الّذي لأجله جاء بها ويقول :
(وَ رَاوَدَتْهُ الَّتِي هُوَ فِي بَيْتِهَا عَنْ نَفْسِهِ وَ غَلَّقَتِ الأَبْوَابَ وَ قَالَتْ هَيْتَ
لَكَ قَالَ مَعَاذَ اللهِ إِنَّهُ رَبِّي أَحْسَنَ مَثْوَايَ إِنَّهُ لاَ يُفْلِحُ الظَّالِمُونَ)(1).
ففي هذه الآية تتجلى عفة القرآن واحتشامه من جهات :
أوّلاً : استعمل كلمة « راود » ، وهي تستعمل في الإصرار على الطلب
مع اللّين والعطف ، فكأنّ زليخا طلبت من يوسف ما طلبت بإصرار وحنان .
وثانياً : لم يصرّح باسم المرأة ، حفظاً لكرامتها ، وإنّما عبّر عنها بقوله :
( الَّتِي هُوَ فِي بَيْتِهَا ) ، مشيراً ـ إضافة إلى ذلك ـ إلى قوة الضغط وشدّة سيطرتها على
يوسف ، فزمام أمره بيدها ، ولا مجال للهروب والتخلص منها ؛ لأنّه في بيتها.
وثالثاً : قالت الآية: ( وَ غَلَّقَتِ الأَبْوَابَ) ، إعراباً عن أَنً يوسف لم يجد
باباً للفرار ، وكانت مقدمات الإستسلام مهيئة.
ورابعاً : وقالت الآية: ( هَيْتَ لَكَ) ، وهذه كناية عن دعوتها إيّاه إلى
التلذذ الجنسي ، لكن بكناية فائقة ، فإنّ ( هَيْتَ لَكَ ) ، اسم فعل بمعنى هَلمّ.
ــــــــــــــــــــــــــــ
1- سورة يوسف: الآية 23.
________________________________________
( 335 )
خامساً : أجاب يوسف طلبها بقوله: ( مَعاذَ الله إنّه ربيّ أحسن مثواي) ،
أي أعوذ بالله معاذاً ، فيعرب عن أنّ يوسف لم يعرف خيانة ، ولم يَدُرْ بخلده أنْ
يخون صاحبه ( العزيز ) ومُنْعِمَه ومربّيه ، في امرأته. والضمير في ( إنّه ) ، يرجع
إلى « العزيز » . ولأجل ذلك بعدما اتّضحت الحقيقة ، وبانت خيانة الإمرأة ،
أرسل يوسف من أعماق زنزانته إلى الملك ، ووزيره « العزيز » ، بقوله: ( ذَلِكَ
لِيَعْلَمَ أَنِّي لَمْ أَخُنْهُ بِالْغَيْبِ وَ أَنَّ اللهَ لاَ يَهْدِي كَيْدَ الْخَائِنِينَ)(1).
وفي القصة مسرحية غرامية أُخرى هي دعوة إمرأة العزيز ، نِسْوَةَ أَشرافِ
المدينة إلى مأدُبة ليقفن على بهاء جمال هذا الفتى ، وأَنّ التعلق به ليس أَمْراً
اختيارياً ، بل كل من رآه يتعلق فؤاده به في أوّل لقاء . ويحكيه القرآن بقوله:
( وَ قَالَ نِسْوَةٌ فِي الْمَدِينَةِ امْرَأَةُ الْعَزِيزِ تُرَاوِدُ فَتَاهَا عَنْ نَفْسِهِ قَدْ شَغَفَهَا حُبًّا إ
ِنَّا لَنَرَاهَا فِي ضَلاَل مُبِين * فَلَمَّا سَمِعَتْ بِمَكْرِهِنَّ أَرْسَلَتْ إِلَيْهِنَّ وَ أَعْتَدَتْ لَهُنَّ
مُتَّكَأً وَ آتَتْ كُلَّ وَاحِدَة مِنْهُنَّ سِكِّينًا وَ قَالَتِ اخْرُجْ عَلَيْهِنَّ فَلَمَّا رَأَيْنَهُ أَكْبَرْنَهُ
وَ قَطَّعْنَ أَيْدِيَهُنَّ وَ قُلْنَ حَاشَ للهِ مَا هَذَا بَشَرًا إِنْ هَذَا إِلاَّ مَلَكٌ كَرِيمٌ)(2).
أنظر إلى العفة والإحتشام في التعبير عن جمال يوسف حيث قال: ( أَكْبَرْنَهُ
وَ قَطَّعْنَ أَيْدِيَهُنَّ وَ قُلْنَ حَاشَ للهِ مَا هَذَا بَشَراً إِنْ هَذَا إِلاَّ مَلَكٌ كَرِيمٌ).
كل ذلك يعرب عن أنّ القصة سُردت على أساس الدعوة إلى العفة ،
والعبرة والإنصراف عن الإنهماك في الشهوات. فهل يستطيع إنسان أُمِّي ، غير
متعلم ، ترعرع بين شعب متوحش ، أن يعرض تلك المسرحية الغرامية ، ولا
يخرج عن حدود العفة ونطاق النزاهة؟ كلا، لا(3).
ــــــــــــــــــــــــــــ
1- سورة يوسف: الآية 52. لاحظ الميزان : ج 11، ص 251.
2- سورة يوسف: الآيتان 30 و 31.
3- أضف إلى ذلك أنّ القرآن يستمد في بيان ما يستقبح التصريح به ، بالكلمات الكنائية ، ككلمات
« الفَرْج » (لاحظ المؤمنون: الآية 5) ، و « الغائظ » (المائدة: الآية 16) ؛ فإنّ الفرج ليس عَلَماً
للموضع الخاص من المرأة ، وإنّما يراد منه الخلل بين الشيئين. كما أنّ الغائظ ، بمعنى الموضع
المنخفض ، وقس على ذلك غيرها من الكلمات الّتي جاءت في بيان المسائل الراجعة إلى الزوج =
________________________________________
( 336 )
هذه بعض الميزات الموجودة في بيان القرآن الكريم ، والممعن في الذكر
الحكيم يجد له ميزات كثيرة سامية يستنتج من مجموعها أنّ هذا الكتاب ليس نتاج
وإبداع إنسان أُمي ولد ونشأَ في أُمّة متقهقرة ، بل هو كتاب إلهي نزل على ضميره
وقلبه ، ( ليكون من المنذرين ) (1).
ــــــــــــــــــــــــــــ
= والزوجة كقوله تعالى: ( وَكَيْفَ تَأْخُذُونَهُ وَقَدْ أَفْضَى بَعْضُكُمْ إِلَى بَعْض وَأَخَذْنَ مِنْكُمْ مِيثَاقاً
غَلِيظاً) (النساء: الآية 21 )، وغيره ، فكلها كنايات.
1- اقتباس من قوله سبحانه: ( نَزَلَ بِهِ الرُّوحُ الأَمِينُ * عَلَى قَلْبِكَ لِتَكُونَ مِنَ الْمُنْذِرِينَ)(سورة
الشعراء: الآيتان 193 و 194).
التعلیقات