لو أن الأئمة يعلمون بطريقة استشهادهم ، فلمإذا يقدم على ذلك
علم الغيب
منذ 15 سنةلو أن الأئمة يعلمون بطريقة استشهادهم ، فلمإذا يقدم على ذلك
السؤال : من المتيقن لدينا أنّ الأئمة يعلمون بطريقة استشهادهم ، وأنّ أغلبهم مات مسموماً ، فإذا ما علم بأنّ الطعام المقدم له مسموماً ، وسيؤدى إلى وفاته ، فلمإذا يقدم على ذلك ، أليس هذا خلاف قوله تعالى:{ وَلاَ تُلْقُوا بِأَيْدِيكُمْ إِلَى التَّهْلُكَةِ }(البقرة/195) ؟
الجواب : من سماحة الشيخ هادي العسكري
وأمّا الإجابة على السؤال: فهي أنّ الثابت لدينا والوارد في رواياتنا قولهم عليهم السلام: « ما منا إلا مسموم أو مقتول » ، وهذه الجملة بنفسها لا تكفي للاستدلال بها على علمهم بكيفية الشهادة ، وخصوصياتها ، ووقتها ، والإحاطة بكل جوانبها ، وهذا واضح .
نعم المقطوع عندنا واعتقادنا أنّهم يعلمون الغيب ، والعلم بالغيب على قسمين:
قسم حصولي : ومعناه أنّهم متى شاؤا وأرادوا معرفة شيء تنكشف لهم ويعرفوه ، فعلمهم به يكون بعد إرادتهم واختيارهم العلم بذلك المجهول ، وبناءً على هذا القسم من الغيب ليس عندنا دليل قاطع على علمهم بالخصوصية والكيفية أيضاً ماعدا عليٍ أمير المؤمنين وابنه الشهيد الحسين صلى الله عليه وآله.
والقسم الثاني : من الغيب العلم الحضوري : ومعناه إنّ الأشياء بنفسها وبذاتها بطبعها تكون معلومة ومعروفة لديهم ، ولا حاجة إلى إرادة واختيار وطلب منهم ، وهذا هو الذي نعتقده فيهم ، لكن فيه تدرجاً طبعاً ، وكثرة وزيادة ، وقابل للاستزادة قال الحكيم : {وَقُلْ رَبِّ زِدْنِي عِلْمًا}(طه/114).
ثمّ إنّ الحوادث الواقعة المستقبلية والوقائع الحادثة الآتية قسمان ، قسم محتوم مختوم مقدر كائن لا تغيير فيه ولا تبديل ، وقسم خاضع للتغيير والتبديل ، وقابل للمحو والإثبات ، ومعلق على أمر وموقوف ، فإذا كان علمهم بالشهادة في مورد من القسم الثاني ، ونحن نعلم كما هم علمونا أنّهم يؤمنون ويعتقدون بالبداء ، واحتمال تبدل القضاء ، ودفع المضار والأسواء ، وتغييره بالدعاء وسائر أسباب دفع الأسى والبلاء ، وبما يمحو الله به ويثبت ما يشاء ، فلهم أن يعملوا به سلام الله عليهم ، ويدفعوا عن أنفسهم الأذى ، ولهم أن يصبروا ويسلموا الأمر إلى الله ويختاروا ما هو يختار وما به يرضى ، أليس يمتدح بصبر أيوب ، وابتلاء يعقوب ، فمإذا قال إبراهيم الخليل عندما أضرم له النار الجحيم ، وأتاه جبرائيل الأمين ، وسئله عن حاجته ، وأجاب علمه بحالي يكفي عن مقالي ولم يزد ، فذكره الله ومدحه بأنّه الأواه الحليم ، فالتسليم والرضى بما قدر وقضى ، يكون من أفضل ما يقرب العبد إلى المولى .
وهل ينكر على إبراهيم الخليل بتلٌه ابنه للجنين ، ورضاه بذبح ولده بيده ، امتثالاً لرب العالمين ، أو يؤخذ عليه بأنّه قتل نفس محترمة لا يجوز صدروه من نبي من للأنبياء المرسلين ، كلا ثمّ كلا ، فرضا المحبوب غاية مراد المحبين ، والتسليم لأمره ورضاه ، نهاية آمال المخبتين ، فلا فرق بين نار نمرود ، وسيف المرادي ، وقتل الشهيد وأسر العليل ، وسجن هارون وسم المأمون ، بل يا ترى لو نوافق على نظرة البسطاء ، ونقول كان على الإمام الرضا أن يمتنع عن السم في المرة الاُولى ؟ قل لي بربك فهل كان يترك أبداً ، أو كان يتكرر عليه بدفعة بل بدفعات اُخرى ؟ وهل ترضى أنت أن يمتنع الإمام بنفسه ، فيمسك ويحبس ويوجر في فمه ويعامل بأشد وأقسى ؟ أو ليس هكذا يكون عادة المجرمين الطغاة الأشقياء ؟ وبعد هذا هل كان يسلم من ألسُن الملامة من المحبين فضلا عن الأعداء مع أنّه كان بإجبار وبغير اختيار من المرة الاُولى ؟ فما صدر منهم إلا ما هو في غاية الحكمة ومدح الحكماء فعلهم ، صلوات الله وملائكته وجميع الخلق عليهم إلى يوم الجزاء ، ولعنة الله على أعدائهم ما دامت الأرض والسماء .
هذا وذكر ابن هشام في سيرته إنّ الرسول صلى الله عليه وآله كان يشكو في مرض موته من سّم دس إليه في غزوة خيبر.
هذا كله في القسم الثاني من العلم بالغيب .
وأمّا القسم الأوّل ، أعني : المحتوم المختوم ، فالعلم منهم بما يحدث ويقع يكون كالعلم بما تحقق ووقع ؛ فلنفرض أنّ مولوداً من لحظة ولادته صحبته شاشة التصوير وآلة التسجيل ، فالتقطت وسجلت كل حركاته وسكناته ، وتابعته متابعة الظل ، وصاحبته مصاحبة الروح معه ، ثمّ رأينا ونظرنا كلّ ما حدث وصدر منه مطلوباً ومحبوباً لنا ، أوغير مرضي ومرغوب لنا ، فهل علمنا به يغيّر ما وقع ، أم الواقع لا يتغير عما وقع ؟ ! فكذلك علمهم سلام الله عليهم بالغيب والمستقبل الذي يرونه من شاشة عالم الملكوت ، وفي هذا القسم ، بل لا يزيد على علم الله بما يقع ، فإنّ علمه عز اسمه لا يغير ولا يبدل ، ولا تأثير له في ما يحدث ؛ فإنّ الحوادث تحدث بأسبابها وعللها ، وموجبات حدوثها ، وعوامل وجودها ، والعلم بها لا يكون له أي تأثير فيها.
نعم إرادة الله وحدها تغير وتبدل ، لكن كلامنا في علمه ، لا في إرادته ، والأئمة سلام الله عليهم هم سلم لما أراد وقدر وقضى ، ولا يحبون إلا ما يحب ويرضى ، فليس لقائلٍ أن يقول عمّا ومإذا ، ولمإذا هذا ؟ ! والحمد لله رب العالمين .
التعلیقات