مناظرة الشيخ المفيد رحمه الله مع رجل من المعتزلة في علة غيبة الاِمام المهدي عليه السلام
في العقائد
منذ 14 سنةقال الشريف المرتضى عليه الرحمة : ومن حكايات الشيخ أدام الله عزه وكلامه في الغَيبَة ـ قال الشيخ أيده الله : قال لي شيخ من حذاق المعتزلة وأهل التدين بمذهبه منهم : أُريد أن أسألك عن مسألة كانت خطرت ببالي ، وسألت عنها جماعة ممن لقيت من متكلمي الاِماميه بخراسان وفارس والعراق فلم يجيبوا فيها بجواب مقنع !
فقلت : سل على اسم الله إن شئت .
فقال : خبرني عن الاِمام الغائب عندكم أهو في تقية منك ؟ كما هو في تقية من أعدائه ؟ أم هو في تقية من أعدائه خاصة ؟
فقلت له : الاِمام عندي في تقية من أعدائه لا محالة ، وهو أيضاً في تقية من كثير من الجاهلين به ، ممن لا يعرفه ولا سمع به فيعاديه أو يواليه ، هذا على غالب الظن والعرف ، ولست أنكر أن يكون في تقية من جماعة ممن يعتقد إمامته الآن ، فأما أنا فإنه لا تقية عليه مني بعد معرفته بي على حقيقة المعرفة والحمدلله.
فقال : هذا و الله جواب طريف لم أسمعه من أحد قبلك ، فأحب أن تفصل لي وجوهه وكيف صار في تقية ممن لا يعرفه ، وفي تقية من جماعة تعتقد إمامته الآن، وليس هو في تقية منك إذ عرفك ؟
فقلت له : أما تقيته من أعدائه فلا حاجة لي إلى الكلام فيها لظهور ذلك ، وأما تقيته ممن لا يعرفه فإنما قلت ذلك على غالب الظن وظاهر الحال ، وذلك أنه ليس يبعد أن لو ظهر لهم لكانوا بين أمور :
إما أن يسفكوا دمه بأنفسهم لينالوا بذلك المنزلة عند المتغلب على الزمان ويحوزوا به المال والرئاسة ، أو يسعوا به إلى من يحل هذا الفعل به ، أو يقبضوا عليه ويسلموه إليه ، فيكون في ذلك عطبه وفي عطبه وهلاكه عظيم الفساد ، وإنما غلب في الظن ذلك لاَن الجاهل لحقه ليس يكون معه المعرفة التي تمنعه من السعي على دمه ، ولا يعتقد في الكف عنه ما يعتقده المتدين بولايته ، وهو يرى الدنيا مقبلة إلى من أوقع الضرر به ، فلم يبعد منه ما وصفناه بل قرب وبعد منه خلافه .
وأما وجه تقيته من بعض من يعتقد إمامته الآن ، فإن المعتقدين بذلك ليسوا بمعصومين من الغلط ولا مأموناً عليهم الخطأ ، بل ليس مأموناً عليهم العناد والارتداد ، فلا ينكر أن يكون المعلوم منهم أنه لو ظهر لهم الاِمام عليه السلام أو عرفوا مكانه أن تدعوهم دواعي الشيطان إلى الاِغراء به والسعي عليه والاِخبار بمكانه، طمعاً في العاجلة ورغبة فيها وإيثاراً لها على الآجلة ، كما دعت دواعي الشيطان أمم الاَنبياء إلى الارتداد عن شرائعهم حتى غيَّرها جماعة منهم وبدَّلها أكثرهم، كما عاند قوم موسى نبيهم وإمامهم هارون وارتدرا عن شرعه الذي جاء به هو وأخوه موسى عليهما السلام واتبعوا السامري ، فلم يلتفتوا إلى أمر هارون ونهيه ، ولا فكَّروا في وعظه وزجره ، وإذا كان ذلك على ما وصفت لم ينكر أن تكون هذه حال جماعة من منتحلي الحق في هذا الزمان لارتفاع العصمة عنهم .
وأما حكمي لنفسي فإنه ليس يخصني ، لاَنه يعم كل من شاركني في المعنى الذي من أجله حكمت ، وإنما خصصت نفسي بالذكر لاَنني لا أعرف غيري عيناً على اليقين مشاركاً لي في الباطن فادخله معي في الذكر ، والمعنى الذي من أجله نفيت أن يكون صاحب الاَمر عليه السلام متقياً مني عند المعرفة بحالي لاَنني أعلم أنني عارف بالله عز وجل وبرسوله صلى الله عليه وآله وبالاَئمة أجمعين عليهم السلام ، وهذه المعرفة تمنعني من ايقاع كفر غير مغفور والسعي على دم الاِمام عليه السلام ، بل إخافته عندي كفر غير مغفور ، وإذا كنت على ثقة تعصمني من ذلك إلى ما أذهب إليه في الموافاة فقد أمنت أن يكون الاِمام في تقية مني أو ممن شاركني فيما وصفت من إخواني ، وإذا تحقق أمورنا على ما ذكرت فلا يكون في تقية مني بعد معرفته أني على حقيقة المعرفة ، إذ التقية إنما هي الخوف على نفس والاخافة للاِمام لا تقع من عارف بالله عز وجل على ما قدمت
فقال : فكأنك إنما جوزت تقية الاِمام من أهل النفاق من الشيعة ، فأما المعتقدون للتشيع ظاهراً وباطناً فحالهم كحالك ، وهذا يؤدي إلى المناقضة لاَن المنافق ليس بمعتقد للتشيع في الحقيقة ، وأنت قد أجزت ذلك على بعض الشيعة في الحقيقة فكيف يكون هذا ؟
فقلت له : ليس الاَمر كما ظننت ، وذلك أن جماعة من معتقدي التشيع عندي غير عارفين في الحقيقة ، وإنما يعتقدون الديانة على ظاهر القول بالتقليد والاسترسال دون النظر في الاَدلة والعمل على الحجة ، ومن كان بهذه المنزلة لم يحصل له الثواب الدائم المستحق للمعرفة المانع بدلالة الخبر به عن إيقاع كفر من صاحبه فيستحق به الخلود في الجحيم فتأمل ذلك .
قال : فقد اعترض الآن ها هنا سؤال في غير الغيبة احتاج إلى معرفة جوابك عنه ثم أرجع إلى المسألة في الغيبة ، خبرني عن هؤلاء المقلدين من الشيعة الاِمامية أنهم كفار يستحقون الخلود بالنار ؟ فإن قلت ذلك فليس في الجنة من الشيعة الاِمامية إذاً غيرك لاَنا لا نعرف أحداً منهم على تحقيق النظر سواك ، بل إن كان فيهم فلعلهم لا يكونون عشرين نفساً في الدنيا كلها ، وهذا ما أظنك تذهب إليه، وإن قلت : إنهم ليسوا بكفار وهم يعتقدون التشيع ظاهراً وباطناً فهم مثلك ، وهذا مبطل لما قدمت ؟!
فقلت له : لست أقول إن جميع المقلدة كفار ، لاَن فيهم جماعة لم يُكلَّفوا المعرفة ولا النظر في الاَدلة ، لنقصان عقولهم عن الحد الذي به يجب تكليف ذلك، وإن كانوا مكلفين عندي للقول والعمل ،وهذا مذهبي في جماعة من أهل السواد والنواحي الغامضة والبوادي والاَعراب والعجم والعامة ، فهؤلاء إذا قالوا وعملوا كان ثوابهم على ذلك كعوض الاَطفال والبهائم والمجانين ، وكان ما يقع منهم من عصيان يستحقون عليه العقاب في الدنيا وفي يوم المآب طول زمان الحساب ، أو في النار أحقاباً ، ثم يخرجون إلى محل الثواب ، وجماعة من المقلدة عندي كفار لاَن فيهم من القوة على الاستدلال ما يصلون به إلى المعارف فإذا انصرفوا عن النظر في طرقها فقد استحقوا الخلود في النار .
فأما قولك : إنه ليس في الدنيا أحد من الشيعة ينظر حق النظر إلا عشرون نفساً أو نحوهم ، فإنه لو كنت صادقاً في هذا المقال ما منع أن يكون جمهور الشيعة عارفين ، لاَن طرق المعرفة قريبة يصل إليها كلُّ من استعمل عقله وإن لم يكن يتمكن من العبارة عن ذلك ويسهل عليه الجدل ويكون من أهل التحقيق في النظر، وليس عدم الحذق في الجدل وإحاطة العلم بحدوده ، والمعرفة بغوامض الكلام ودقيقه ، ولطيف القول في المسألة دليلاً على الجهل بالله عز وجل .
فقال : ليس أرى أن أصل معك الكلام في هذا الباب الآن ، لاَن الغرض هو القول في الغيبة ، ولكن لما تعلق بمذهب غريب أحببت أن أقف عليه وأنا أعود إلى مسألتي الاَولى وأكلمك في هذاالمذهب بعد هذا يوماً آخر ، أخبرني الآن إذا لم يكن الاِمام في تقية منك فما باله لا يظهر لك فيعرفك نفسه بالمشاهدة ، ويريك معجزة ، ويبين لك كثيراً من المشكلات ، ويؤنسك بقربه ويعظم قدرك بقصده ويشرفك بمكانه ، إذا كان قد أمن منك الاِغراء به وتيقن ولايتك له ظاهرة وباطنة؟
فقلت له : أول ما في هذا الباب أنني لا أقول لك إن الاِمام عليه السلام يعلم السرائر وإنّه مما لا يخفى عليه الضمائر ، فتكون قد أخذت رهني، أنّه يعلم من ما اعرفه من نفسي، وإذا لم يكن ذلك مذهبي، وكنت أقول إنّه يعلم الظواهر كما يعلم البشر، وإن علم باطناً فبإعلام الله عزّ وجلّ له خاصة على لسان نبيه صلى الله عليه وآله بما أودعه آباؤه عليهم السلام من النصوص على ذلك أو بالمنام الذي يصدق ولا يخلف أبداً، أو لسبب أذكره غير هذا، فقد سقط سؤالك من أصله لاَن الاِمام إذا فقد علم ذلك من جهة الله عزّ وجلّ أجاز عليَّ ما يجيزه على غيري ممن ذكرت ، فأوجبت الحكمة تقيته مني ـ وإنّما تقيته مني ـ على الشـرط الذي ذكرت آنفاً ، ولم أقطع على حصوله لا محالة، ولم أقل إن الله عزّ وجلّ قد اطلع الاِمام على باطني وعرّفه حقيقة حالي قطعاً فتفرع الكلام عليه ، على أنني لو قطعت على ذلك لكان لترك ظهوره لي وتعرفه إليَّ وجه واضح غيرالتقية .
وهو أنه عليه السلام قد علم أنني وجميع من شاركني في المعرفة لا يزول عن معرفته ، ولا يرجع عن اعتقاد إمامته ، ولا يرتاب في أمره ما دام غائباً وعلم أن اعتقادنا ذلك من جهة الاستدلال، ومع عدم ظهوره لحواسنا أصلح لنا في تعاظم الثواب وعلو المنزلة باكتساب الاَعمال، إذ كان ما يقع من العمل بالمشاق الشديدة أعظم ثواباً مما يقع بالسهولة مع الراحة ، فلما علم عليه السلام ذلك من حالنا وجب عليه الاستتار عنا ، لنصل إلى معرفته وطاعته على حد يكسبنا من المثوبة أكثر مما يكسبنا العلم به والطاعة له مع المشاهدة وارتفاع الشبهة التي تكون في حالة الغيبة والخواطر، وهذا ضد ما ظننت ، مع أن أصلك في اللطف يؤيد ما ذكرناه ويوجب ذلك ، وإن علم أن الكفر يكون مع الغيبة والاِيمان مع الظهور ، لاَنك تقول: إنّه لا يجب على الله تعالى فعل اللطف الذي يعلم أن العبد إن فعل الطاعة مع عدمه كانت أشرف منها إذا فعلها معه، فكذلك يمنع الاِمام من الظهور إذا علم أن الطاعة للاِمام تكون غيبته أشرف منها عند ظهوره ، وليس يكفر القوم به في كلا الحالين، وهذا بيّن لا إشكال فيه، فلما ورد عليه الجواب سكت هنيئة.
ثم قال : هذا لعمري جواب يستمر على الاُصول التي ذكرتها والحق أولى ما استعمل.
فقلت له : أنا أجيبك بعد هذا الجواب بجواب آخر أظنه مما قد سمعته لاَنظر كلامك عليه .
فقال : هات ذلك ، فإنّي أحب أن أستوفِ ما في هذه المسألة .
فقلت له : إن قلت إن الامام في تقيّة مني وفي تقية ممن خالفني ما يكون كلامك عليه ؟
قال : أفتطلق أنه في تقية منك كما هو في تقية ممن خالفك .
قلت : لا.
قال : فما الفرق بين القولين ؟
قلت : الفرق بينهما أنني إذا قلت إنه في تقية مني كما هو في تقية ممن خالفني ، أو همت أن خوفه مني على حد خوفه من عدوه ، وأن الذي يحذره مني هو الذي يحذره منه أو مثله في القبح ، فإذا قلت : إنّه يتقي مني وممن خالفني ارتفع هذا الاِيهام .
قال : فمن أي وجه أتقى منك ؟ ومن أي وجه أتقى من عدوّه فصّل ليّ الاَمرين حتى أعرفهما .
فقلت له : تقيته من عدوّه هي لاَجل خوفه من ظلمه له وقصده الاِضرار به وحذره من سعيه على دمه ، وتقيته مني لاَجل خوفه من إذاعتي على سبيل السهو أو للتجمل والتشرف بمعرفته بالمشاهدة، أو على التقية مني بمن أوعزه إليه من إخواني في الظاهر فيعقبه ذلك ضرراً عليه ، فبان الفرق بين الاَمرين.
فقال : ما أنكرت أن يكون هذا يوجب المساواة بينك وبين عدوه، لاَنّه ليس يثق بك كما لا يثق بعدوه.
فقلت له : قد بيّنت الفرق وأوضحته ، وهذا سؤال بيِّن قد سلف جوابه وتكراره لا فائدة فيه على أنني أقلبه عليك .
فأقول لك : أليس قد هرب رسول الله صلى الله عليه وآله من أعدائه واستتر عنهم في الغار خوفاً على نفسه منهم .
قال : بلى .
قلت له : فهل عرف عمر بن الخطاب حال هربه ومستقره ومكانه كما عرف ذلك أبو بكر لكونه معه .
قال : لا أدري .
قلت : فهب عرف عمر ذلك ، أعرف ذلك جميع أصحابه والمؤمنين به ؟
قال : لا .
قلت : فأي فرق كان بين أصحابه الذين لم يعلموا بهربه ولا عرفوا بمكانه وبين أعدائه الذين هرب منهم ، وهلا أبانهم من المشركين بإيقافهم على أمره؟ ولم ستر ذلك عنهم كما ستره عن أعدائه ؟ وما أنكرت أن يكون لا فرق بين أوليائه وأعدائه وأن يكون قد سوى بينهم في الخوف منهم والتقية ، وإلا فما الفضل بين الاَمرين ، فلم يأت بشيء أكثر من أنه جعل يومي إلى معتمدي في الفرق بينما الزم ولم يأت به على وجهه ، وعلم من نفسه العجز عن ذلك .
قال الشريف أبو القاسم علي بن الحسين الموسوي واستزدت الشيخ ـ أدام الله عزه ـ على هذا الفصل من هذا المجلس حيث اعتل بأن غيبة الاِمام عليه السلام عن أوليائه إنّما هي لطف لهم في وقوع الطاعة منه على وجه يكون به أشرف منها عند مشاهدته .
فقلت له : فكيف يكون حال هؤلاء الاَولياء عند ظهوره عليه السلام أليس يجب أن يكون القديم تعالى قد منعهم اللطف في شرف طاعاتهم وزيادة ثوابهم ؟
فقال الشيخ ـ أدام الله عزه ـ : ليس في ذلك منع لهم من اللطف على ما ذكرت ، من قبل أنه لا ينكر أن يعلم الله سبحانه وتعالى منهم أنه لو أدام ستره عنهم وإباحة الغيبة في ذلك الزمان بدلاً من الظهور لفسق هؤلاء الاَولياء فسقاً يستحقون به من العقاب ما لا يفي أضعاف ما يفوتهم من الثواب فأظهره سبحانه لهذه العلة، وكان ما يقتطعهم به عنه من العذاب أرد عليهم وأنفع لهم مما كانوا يكتسبونه من فضل الثواب على ما تقدم به الكلام .
قال الشيخ أيده الله : ووجه آخر وهو : أنه لا يستحيل أن يكون الله تعالى قد علم من حال كثير من أعداء الاِمام عليه السلام أنهم يؤمنون عند ظهوره ويعترفون بالحق عند مشاهدته ويسلمون له الاَمر، وأنه إن لم يظهر في ذلك الزمان أقاموا على كفرهم ، وازدادوا طغياناً بزيادة الشبهة عليهم فوجب في حكمته تعالى إظهاره لعموم الصلاح ، ولو أباحه الغيبة لكان قد خصّ بالصلاح ومنع من اللطف في ترك الكفر، وليس يجوز على مذهبنا في الاَصلح أن يخص الله تعالى بالصلاح، ولا يجوز أيضاً أن يفعل لطفاً في اكتساب بعض خلقه منافع تزيد على منافعه إذ كان في فعل ذلك اللطف رفع لطفه لجماعة في ترك القبح والانصراف عن الكفر به سبحانه ، والاستخفاف بحقوق أوليائه عليهم السلام ، لاَنّ الاَصل والمدار على إنقاذ العباد من المهالك وزجرهم من القبائح، وليس الغرض زيادتهم في المنافع خاصة إذ كان الاقتطاع بالاَلطاف عما يوجب دوام العقاب أُولى من فعل اللطف فيما يستزاد به من الثواب ، لاَنّه ليس يجب على الله تعالى أن يفعل بعبده ما يصل معه إلى نفع يمنعه من أضعافه من النفع ، وكذلك لا يجب عليه أن يفعل اللطف له في النفع بما يمنع غيره من أضعاف ذلك النفع ، وهو إذا سلبه هذا اللطف لم يستدرجه به إلى فعل القبيح، ومتى فعله حال بين غيره وبين منافعه ومنعه من لطف ما ينصرف به عن القبيح، وإذا كان الاَمر على ما بيّناه كان هذان الفصلان يسقطان هذه الزيادة (1).
____________
(1) الفصول المختارة للشيخ المفيد : ص76 ـ 83 .
التعلیقات