مناظرة الشيخ المفيد مع أبي القاسم الداركي في حكم المتعة
في الاحكام
منذ 14 سنةقال الشيخ المفيد ـ عليه الرحمة ـ : وقد كنت استدللت بالآية التي قدمت تلاوتها على تحليل المتعة في مجلس كان صاحبه رئيس زمانه ، فاعترضني أبوالقاسم الداركي.
فقال : ما أنكرت أن يكون المراد بقوله تعالى : ( فَمَا استمتَعتُم بهِ مِنهنَّ فآتُوهُنَّ اُجورَهُنَّ فَرِيضَةً )(2) إنما أراد به نكاح الدوام وأشار بالاستمتاع إلى الالتذاذ ، دون نكاح المتعة الذي تذهب إليه.
فقلت له : إن الاستمتاع وإن كان في الاَصل هو الالتذاذ فإنّه إذا علق بذكر النكاح وأطلق بغير تقييد لم يرد به إلا نكاح المتعة خاصة ، لكونه علماً عليها في الشريعة وتعارف أهلها، ألا ترى أنه لو قال قائل : نكحت أمس امرأة متعة، أو هذه المرأة نكاحي لها، أو عقدي عليها للمتعة، أو أن فلاناً يستحل نكاح المتعة ، لما فهم من قوله إلا النكاح الذي يذهب إليه الشيعة خاصة، وإن كانت المتعة قد تكون بوطىء الاِماء والحرائر على الدوام ، كما أن الوطىء في اللغة هو وطىء القدم ومماسة باطنه للشيء على سبيل الاعتماد .
ولو قال قائل : وطئت جاريتي، ومن وطىء امرأة غيره فهو زانٍ ، وفلان يطأ امرأته وهي حائض ، لم يعقل من ذلك مطلقاً على أصل الشريعة إلاّ النكاح دون وطىء القدم ، وكذلك الغائط الذي هو الشيء المحوط، وقيل هو الشيء المنهبط ، ولو قال قائل : هل يجوز أن آتي الغائط ثم لا أتوضأ وأصلي أو قال : فلان أتى الغائط ولم يستبريء لم يفهم قوله إلاّ الحدث الذي يجب منه الوضوء وأشباه ذلك مما قد قرر في الشريعة، وإذا كان الاَمر على ما وصفناه فقد ثبت أن إطلاق لفظ نكاح المتعة لا يقع إلا على النكاح الذي ذكرناه، وإن كان الاستمتاع في أصل اللغة هو الالتذاذ كما قدمناه .
فاعترض القاضي أبو محمد بن معروف فقال : هذا الاستدلال يوجب عليك أن لا يكون اللهتعالى أحل بهذه الآية غير نكاح المتعة لاَنّها لا تتضمن سواه، وفي الاِجماع على انتظامها تحليل نكاح الدوام دليل على بطلان ما اعتمدته.
فقلت له : ليس يدخل هذا الكلام على أصل الاستدلال ، ولا يتضمن معتمدي ما ألزمنيه القاضي فيه ، وذلك أن قوله سبحانه : ( وَأُحِلَّ لَكُم مَّا وَرَاء ذَلِكُم أنْ تَبتَغوا بأمْوالِكم مُحصِنينَ غَيرَ مُسافِحينَ )(3) يتضمن تحليل المناكح المخالفة للسفاح في الجملة ، ويدخل فيه نكاح الدوام من الحرائر والاِماء، ثم يختص نكاح المتعة بقوله : ( فَمَا استمتَعتُم بهِ مِنهنَّ فآتُوهُنَّ اُجورَهُنَّ فَرِيضَةً )(4) ويجري ذلك مجرى قول القائل : وقد حرم اللهعليك نساء بأعيانهن، وأحلَّ لكم ما عداهن فإن استمتعت منهن فالحكم فيه كذا وكذا، وإن نكحت الدوام فالحكم فيه كيت وكيت، فيذكر فيه المحللات في الجملة وتبين له حكم نكاح بعضهن كما ذكرهنّ له، ثم بين له أحكام نكاحهن كلّهن، فما أعلمه زاد عليَّ شيئاً(5).
____________
(1) هو : أبو القاسم عبد العزيز بن عبداللهبن محمد الداركي ، الفقيه الشافعي ، نزل نيسابور عدة سنين ودرس بها الفقه ، ثم صار إلى بغداد فسكن بها إلى حين موته ، وكان يُدرس ببغداد في مسجد دعلج بن أحمد ، وله حلقة في الجامع للفتوى والنظر ، وكان متهماً بالاعتزال ، وكان يقول الاَخذ بالحديث أولى من الاَخذ بقول الاِمامين (يعني الشافعي وأبا حنيفة) ، وتوفي الداركي ببغداد سنة 375 هـ عن نيف وسبعين سنة : راجع ترجمته في : وفيات الاَعيان لابن خلكان : ج 3 ص 188 ـ 189 ، ترجمة رقم : 385 ، تاريخ بغداد للخطيب : ج 10 ص 463 ترجمة رقم : 5635 .
(2) سورة النساء : الآية 24 .
(3) سورة النساء : الآية 24 .
(4) سورة النساء : الآية 24 .
(5) الفصول المختارة للشيخ المفيد : ص123 ـ 125 .
التعلیقات