مناظرة هشام بن الحكم مع بيان وضرار في مجلس يحيى بن خالد
في الإمامة
منذ 14 سنةكان ليحيى بن خالد مجلس في داره يحضره المتكلّمون من كلّ فرقة وملّة ، يوم الاحد ، فيتناظرون في أديانهم ، ويحتجُّ بعضهم على بعض .
فبلغ ذلك الرشيد ، فقال ليحيى بن خالد : يا عباسيُّ ما هذا المجلس الّذي بلغني في منزلك يحضره المتكلّمون ؟ فقال : يا أمير المؤمنين ما شيء ممّا رفعني به أمير المؤمنين وبلغ من الكرامة والرفعة أحسن موقعا عندي من هذا المجلس ، فإنّه يحضره كلّ قوم مع اختلاف مذاهبهم ، فيحتجُّ بعضهم على بعض ، ويعرف المحقُّ منهم ، ويتبيّن لنا فساد كلِّ مذهب من مذاهبهم .
قال له الرشيد : فأنا أُحبُّ أن أحضر هذا المجلس ، وأسمع كلامهم من غير أن يعلموا بحضوري ، فيحتشمون ولا يظهرون مذاهبهم . قال : ذلك إلى أمير المؤمنين متى شاء .
قال : فضع يدك على رأسي ولا تعلمهم بحضوري ، ففعل ، وبلغ الخبر المعتزلة فتشاوروا فيما بينهم ، وعزموا أن لا يكلّموا هشاما إلاّ في الامامة لعلمهم بمذهب الرشيد وإنكاره على من قال بالامامة .
قال : فحضروا وحضر هشام ، وحضر عبد الله بن يزيد الاباضي ـ وكان من أصدق الناس لهشام بن الحكم ، وكان يشاركه في التجارة ـ فلمّا دخل هشام سلّم على عبد الله بن يزيد من بينهم .
فقال يحيى بن خالد لعبد الله بن يزيد : يا عبد الله كلّم هشاما فيما اختلفتم فيه من الامامة .
فقال هشام : أيّها الوزير ليس لهم علينا جواب ولا مسألة ، هؤلاء قوم كانوا مجتمعين معنا على إمامة رجل ثمَّ فارقونا بلا علم ولا معرفة ، فلاحين كانوا معنا عرفوا الحقَّ ، ولا حين فارقونا علموا على ما فارقونا ؟ فليس لهم علينا مسألة ولا جواب .
فقال بيان وكان من الحرورية : أنا أسألك يا هشام ، أخبرني عن أصحاب عليّ يوم حكّموا الحكمين أكانوا مؤمنين أم كافرين ؟
قال هشام : كانوا ثلاثة أصناف ، صنف مؤمنون ، وصنف مشركون ، وصنف ضلال .
فأمّا المؤمنون : فمن قال مثل قولي ، الّذين قالوا : إنَّ عليْا إمام من عند الله ومعاوية لا يصلح لها ، فآمنوا بما قال الله عزَّوجلَّ في عليٍّ وأقرُّوا به .
وأمّا المشركون : فقوم قالوا : عليُّ إمام ، ومعاوية يصلح لها ، فأشركوا إذ أدخلوا معاوية مع عليّ .
وأمّا الضلاّ ل : فقوم خرجوا على الحميّة والعصبيّة للقبائل والعشائر ، لم يعرفوا شيئا من هذا ، وهم جهّال .
قال : وأصحاب معاوية ما كانوا ؟
قال : كانوا ثلاثة أصناف : صنف كافرون ، وصنف مشركون ، وصنف ضلاّل .
فأمّا الكافرون : فالّذين قالوا : إنَّ معاوية إمام ، وعليُّ لا يصلح لها ، فكفروا من جهتين أن جحدوا إماما من الله ، ونصّبوا إماما ليس من الله .
وأمّا المشركون فقوم قالوا : معاوية إمام ، وعليُّ يصلح لها ، فأشركوا معاوية مع عليٍّ ـ عليه السلام ـ .
وأما الضلاّل فعلى سبيل أُولئك خرجوا للحميّة والعصبيّة للقبائل والعشائر . فانقطع بيان عند ذلك .
فقال ضرار : فأنا أسألك يا هشام فى هذا ؟
فقال هشام : أخطأت .
قال : ولم ؟
قال : لانْكم مجتمعون على دفع إمامة صاحبي ، وقد سألني هذا عن مسألة وليس لكم أن تثنّوا بالمسألة عليّ حتّى أسألك يا ضرار عن مذهب في هذا الباب .
قال ضرار : فسَل .
قال : أتقول إنَّ الله عدل لا يجور ؟
قال : نعم ، هو عدل لا يجور ، تبارك وتعالى .
قال : فلو كلّف الله المقعد المشي إلى المساجد ، والجهاد في سبيل الله ، وكلّف الاعمى قراءة المصاحف والكتب ، أتراه كان عادلاً أم جائرا ؟
قال ضرار : ما كان الله ليفعل ذلك .
قال هشام : قد علمنا أنَّ الله لا يفعل ذلك ، ولكن على سبيل الجدل والخصومة ، أن لو فعل ذلك أليس كان في فعله جائرا ؟ وكلّفه تكليفا لا يكون له السبيل إلى إقامته وأدائه .
قال : لو فعل ذلك لكان جائرا .
قال : فأخبرني عن الله عزّوجلَّ كلّف العباد دينا واحدا لا اختلاف فيه لا يقبل منهم إلاّ أن يأتوا به كما كلّفهم ؟
قال : بلى .
قال : فجعل لهم دليلاً على وجود ذلك الدين ؟ أو كلّفهم ما لا دليل على وجوده ؟ فيكون بمنزلة من كلّف الاعمى قراءة الكتب ، والمقعد المشي إلى المساجد والجهاد ؟
قال : فسكت ضرار ساعة ثمَّ قال : لا بدَّ من دليل ، وليس بصاحبك .
قال : فضحك هشام وقال : تشيّع شطرك وصرت إلى الحقِّ ضرورة ، ولا خلاف بيني وبينك إلاّ في التسمية .
قال ضرار : فإنّي أرجع إليك في هذا القول .
قال : هات .
قال ضرار : كيف تعقد الامامة ؟
قال هشام : كما عقد الله النبوَّة .
قال : فإذاً هو نبيُّ ؟
قال هشام : لا لانَّ النبوَّة يعقدها أهل السماء ، والامامة يعقدها أهل الارض ، فعقد النبوَّة بالملائكة ، وعقد الامامة بالنبيِّ ، والعقدان جميعا بإذن الله عزَّوجلَّ .
قال : فما الدليل على ذلك ؟
قال هشام : الاضطرار في هذا .
قال ضرار : وكيف ذلك ؟
قال هشام : لا يخلو الكلام في هذا من أحد ثلاثة وجوه :
إمّا أن يكون الله عزَّوجلَّ رفـع التـكليف عـن الخلق بـعد الـرسول ـ صلّى الله عليه وآله وسلّم ـ فلم يكلّفهم ولم يأمرهم ، ولم ينههم ، وصاروا بمنزلة السباع والبهائم الّتي لا تكليف عليها ، أفتقول هذا يا ضرار أنَّ التكليف عن الناس مرفوع بعد رسول الله ـ صلّى الله عليه وآله ـ ؟
قال : لا أقول هذا .
قال هشام : فالوجه الثاني ينبغي أن يكون الناس المكلّفون قد استحالوا بعد الرسول علماء ، في مثل حدّ الرسول في العلم ، حتىّ لا يحتاج أحدُ إلى أحد فيكونوا كلّهم قد استغنوا بأنفسهم ، وأصابوا الحقَّ الّذي لا اختلاف فيه أفتقول هذا ، أنَّ الناس قد استحالوا علماء ، حتْى صاروا في مثل حدَّ الرسول في العلم حتّى لا يحتاج أحد إلى أحد ، مستغنين بأنفسهم عن غيرهم في إصابة الحقِّ ؟
قال : لا أقول هذا ، ولكنّهم يحتاجون إلى غيرهم .
قال : فبقي الوجه الثالث لانّه لا بدَّ لهم من علَم يقيمه الرسول لهم لا يسهو ولا يغلط ، ولا يحيف (1) ، معصـوم من الذنوب ، مبرَّأٌ من الخطايا ، يُحتاج إليه ولا يَحتاج إلى أحد .
قال : فما الدليل عليه ؟
قال هشام : ثمان دلالات أربع في نعت نسبه ، وأربع في نعت نفسه .
فأمّا الاربع الّتي في نعت نسبه : بأن يكون معروف الجنس ، معروف القبيلة ، معروف البيت ، وأن يكون من صاحب الملّة والدَّعوة إليه إشارة ، فلم يُرجنس من هذا الخلق أشهر من جنس العرب ، الّذين منهم صاحب الملّة والدَّعوة ، الّذي يُنادى باسمه في كلِّ يوم خمس مرَّات على الصوامع ، أشهد أن لا إله إلاّ الله ، وأنَّ محمّدا رسول الله ، فتصل دعوته إلى كلِّ برّ وفاجر ، وعالم وجاهل ، ومقرّ ومنكر ، في شرق الارض وغربها ، ولو جاز أن يكون الحجّة من الله على هذا الخلق في غير هذا الجنس لاتى على الطالب المرتاد دهرٌ من عصره لا يجده ، ولو جاز أن يطلبه في أجناس هذا الخلق من العجم وغيرهم لكان من حيث أراد الله أن يكون صلاحا يكون فسادا ، ولا يجوز هذا في حكم الله تبارك وتعالى وعدله ، أن يفرض على الناس فريضة لا توجد .
فلمّا لم يجز ذلك لم يجز إلاّ أن يكون إلاّ في هذا الجنس لاتّصاله بصاحب الملّة والدَّعوة ، ولم يجز أن يكون من هذا الجنس إلاّ في هذه القبيلة لقرب نسبها من صاحب الملّة وهي قريش ، ولمّا لم يجز أن يكون من هذا الجنس إلاّ في هذه القبيلة لم يجز أن يكون من هذه القبيلة إلاّ في هذا البيت لقرب نسبه من صاحب الملّة والدَّعوة ، ولمّا كثر أهل هذا البيت ، وتشاجروا في الامامة لعلوِّها وشرفها ادَّعاها كلُّ واحد منهم ، فلم يجز إلاّ أن يكون من صاحب الملّة والدَّعوة إليه إشارة بعينه واسمه ونسبه لئلاً يطمع فيها غيره .
وأمّا الاربع الّتي في نعت نفسه : أن يكون أعلم الناس كلّهم بفرائض الله وسننه ، وأحكامه ، حتَّى لا يخفى عليه منها دقيق ولا جليل ، وأن يكون معصوماً من الذنوب كلّها وأن يكون أشجع الناس ، وأن يكون أسخى الناس .
قال : من أين قلت : إنّه أعلم الناس ؟
قال : لانه إن لم يكن عالما بجميع حدود الله وأحكامه وشرائعه وسننه ، لم يؤمن عليه أن يقلب الحدود ، فمن وجب عليه القطع حدَّه ، ومن وجب عليه الحدُّ قطعه ، فلا يقيم للّه حدّا على ما أمر به ، فيكون من حيث أراد الله صلاحا يقع فسادا .
قال : فمن أين قلت : إنّه معصوم من الذنوب ؟
قال : لانّه إن لم يكن معصوما من الذنوب ، دخل في الخطأ فلا يؤمن أن يكتم على نفسه ، ويكتم على حميمه وقريبه ، ولا يحتجُّ الله عزَّوجلَّ بمثل هذا على خلقه .
قال : فمن أين قلت : إنّه أشجع الناس ؟
قال : لانّه فئة للمسلمين الّذين يرجعون إليه في الحروب ، وقال الله عزَّوجلَّ : ( ومن يُولّهم يومئذٍ دُبُرَهُ إلاّ متُحَرِّفا لِقتالٍ أو مُتَحَيِّزا إلى فِئةٍ فقد بآءَ بِغَضبٍ من اللهِ ) (2) فإن لم يكن شجاعا فرَّ فيبوء بغضب من الله ، فلا يجوز أن يكون من يبوء بغضب من الله حجّة للّه على خلقه .
قال : فمن أين قلت : إنّه أسخى الناس ؟
قال : لانّه خازن المسلمين ، فإن لم يكن سخيّا تاقت نفسه إلى أموالهم فأخذها ، فكان خائنا ، ولا يجوز أن يحتجَّ الله على خلقه بخائن . فقال عند ذلك ضرار : فمن هذا بهذه الصفة في هذا الوقت ؟
فقال : صاحب العصر أمير المؤمنين ـ وكان هارون الرشيد قد سمع الكلام كلّه ـ .
فقال عند ذلك : أعطانا والله من جراب النورة ، ويحك يا جعفر ـ وكان جعفر بن يحيى جالسا معه في الستر ـ من يعني بهذا ؟
قال : يا أمير المؤمنين يعني موسى بن جعفر .
قال : ما عنى بها غير أهلها ، ثمَّ عضَّ على شفته ، وقال : مثل هذا حيُّ ويبقى لي ملكي ساعةً واحدةً ؟ ! فو الله للسان هذا أبلغ في قلوب الناس من مائة ألف سيف (3) .
____________
(1) الحائف : الظالم ، الجائر .
(2) سورة الانفال : الاية 16 .
(3) بحار الانوار ج48 ص197 ح7 ، كمال الدين وتمام النعمة ج2 ص362 بتفاوت .
التعلیقات