مناظرة الشيخ المفيد « ره » مع بعضهم
في الإمامة
منذ 14 سنةسُئل ( الشيخ المفيد عليه الرحمة ) في مجلس الشريف أبي الحسن أحمد بن القاسم العلويّ المحمّدي ، فقيل له : ما الدليل على أنّ أمير المؤمنين عليّ بن أبي طالب ـ عليه السلام ـ كان أفضل الصحابة ؟
فقال : الدليل على ذلك قول النبيّ ـ صلّى الله عليه وآله ـ : اللهمّ ائتني بأحبّ خلقك إليك يأكل معي من هذا الطائر ، فجاء أمير المؤمنين ـ عليه السلام ـ (1) ، وقد ثبت أنّ أحبّ الخلق إلى الله عزّ وجلّ أعظمهم ثوابا عند الله تعالى ، وأنّ أعظم الناس ثوابا لا يكون إلاّ لانّه أشرفهم أعمالاً وأكثرهم عبادة للّه تعالى ، وفي ذلك برهان على فضل أمير المؤمنين ـ عليه السلام ـ على الخلق كلّهم سوى الرسول ـ صلّى الله عليه وآله.
فقال له السائل : ما الدليل على صحّة هذا الخبر ، وما أنكرت أن يكون غير معتمد ، لانّه إنّما رواه أنس بن مالك وحده ، وأخبار الاحاد ليست بحجّة فيما يقطع على الله عزّ وجلّ بصوابه ؟
فقال الشيخ ـ آدام الله عزّه ـ : هذا الخبر وإن كان من أخبار الاحاد على ماذكرت ، من أنّ أنس بن مالك رواه وحده فإنّ الامّة بأجمعها قد تلقّته بالقبول ، ولم يروا أنّ أحدا ردّه على أنس ولا أنكر صحّته عند روايته ، فصار الاجماع عليه هو الحجّة في صوابه ، ولم يخلّ ببرهانه كونه من أخبار الاحاد بما شرحناه ، مع أنّ التواتر قد ورد بأنّ أمير المؤمنين ـ عليه السلام ـ احتج به في مناقبه يوم الدار (2) ، فقال : أنشدكم الله هل فيكم أحد قال له رسول الله ـ صلّى الله عليه وآله ـ : اللهم ائتني بأحبّ خلقك إليك يأكل معي من هذا الطائر فجاء أحد غيري ؟
قالوا : اللهم لا.
قال : اللهم اشهد ، فاعترف الجميع بصحّته ، ولم يك أمير المؤمنين ـ عليه السلام ـ ليحتج بباطل ، لاسيّما وهو في مقام المنازعة والتوصّل بفضائله إلى أعلى الرتب الّتي هي الامامة والخلافة للرسول ـ صلّى الله عليه وآله ـ ، وإحاطة علمه بأنّ الحاضرين معه في الشورى يريدون الامر دونه ، مع قول النبيّ ـ صلّى الله عليه وآله ـ : « عليّ مع الحقّ والحقّ مع عليّ يدور حيثما دار » (3) وإذا كان الامر على ما وصفناه دل على صحّة الخبر حسبما بيّنّاه.
فاعترض بعض المجبّرة ، فقال : إنّ احتجاج الشيعة برواية أنس من أطرف الاشياء وذلك أنّهم يعتقدون تفسيق أنس بل تكفيره ، فيقولون : إنّه كتم الشهادة في النصّ حتّى دعا عليه أمير المؤمنين ـ عليه السلام ـ ببلاء لا يواريه الثياب ، فبرص (4) على كبر السنّ ومات وهو أبرص ، فكيف يستشهد برواية الكافرين ؟ (5)
فقالت المعتزلة : قد أسقط هذا الكلام الرجل ولم يجعل الحجّة في الرواية أنسا ، وإنّما جعلها الاجماع ، فهذا الّذي أوردته هذيان وقد تقدّم ابطاله.
فقال السائل : هب أنّا سلّمنا صحّة الخبر ما أنكرت أن لا يفيد ما ادّعيت من فضل أمير المؤمنين ـ عليه السلام ـ على الجماعة ؟ وذلك أنّ المعنى فيه : اللهمّ ائتني بأحبّ خلقك إليك يأكل معي ، يريد أحبّ الخلق إلى الله عزّ وجلّ في الاكل معه ، دون أن يكون أراد أحبّ الخلق إليه في نفسه لكثرة أعماله ، إذ قد يجوز أن يكون الله سبحانه يحبّ أن يأكل مع نبيّه مَن غيره أفضل منه ، ويكون ذلك أحبّ إليه للمصلحة.
فقال الشيخ ـ أدام الله عزّه ـ : هذا الّذي اعترضت به ساقط ، وذلك أنّ محبّة الله تعالى ليست ميل الطباع ، وإنّما هي الثواب ، كما أنّ بغضه وغضبه ليسا باهتياج الطباع ، وإنّما هما العقاب ولفظ أفعل في أحبّ وابغض لا يتوجه إلاّ إلى معناهما من الثواب والعقاب ، ولا معنى على هذا الاصل لقول من زعم أنّ أحبّ الخلق إلى الله عزّ وجلّ يأكل مع رسول الله ـ صلّى الله عليه وآله ـ توجّه إلى محبة الاكل والمبالغة في ذلك بلفظ أفعل ، لانّه يخرج اللّفظ عمّا ذكرناه من الثواب إلى ميل الطباع ، وذلك محال في صفة الله سبحانه.
وشيء آخر : وهو أنّ ظاهر الخطاب يدّل على ما ذكرناه دون ما عارضت به أن لو كانت المحبّة على غير معنى الثواب ، لانّه ـ صلّى الله عليه وآله ـ قال : اللهم ائتني بأحبّ خلقك إليك يأكل معي من هذا الطائر ، وقوله : بأحبّ خلقك إليك كلام تامّ ، وبعده : يأكل معي من هذا الطائر كلامٌ مستأنفٌ ولا يفتقر الاوّل إليه ، ولو كان أراد ما ذكرت لقال : اللهمّ ائتني بأحبّ خلقك إليك في الاكل معي ، فلمّا كان اللّفظ على خلاف هذا وكان على ما ذكرناه لم يجز العدول عن الظاهر إلى محتمل على المجاز.
وشيء آخر : وهو أنّه لو تساوى المعنيان في ظاهر الكلام لكان الواجب عليك تحميلهما اللّفظ معا دون الاقتصار على أحدهما إلاّ بدليل ، لانّه لا يتنافى الجمع بينهما فيكون أراد بقوله : « أحبّ خلقك إليك » في نفسه وللاكل معي ، وإذا كان الامر على ما بيّنّاه سقط اعتراضك.
فقال رجل من الزيدية ـ كان حاضرا ـ للسائل : هذا الاعتراض ساقط على أصلك وأصلنا ، لانّا نقول جميعا إن الله تعالى لا يريد المباح ، والاكل مع النبي ـ صلّى الله عليه وآله ـ مباح وليس بفرض ولا نفل ، فيكون الله يحبّه فضلاً عن أن يكون بعضه أحبّ إليه من بعض ، وهذا السائل من أصحاب أبي هاشم فلذلك أسقط الزيدي كلامه على اصله ، إذ كان يوافقه في الاصول على مذهب أبي هاشم.
فخلط السائل هنيئة ثمّ قال للشيخ ـ أدام الله عزّه ـ : فأنا أعترض باعتراض آخر وهو : أن أقول ما أنكرت أن يكون هذا القول إنّما أفاد أنّ عليّا ـ عليه السلام ـ كان أفضل الخلق في يوم الطائر ، ولكن بم تدفع أن يكون قد فضله قوم من الصحابة عند الله تعالى بكثرة الاعمال والمعارف بعد ذلك ؟ وهذا الامر لا يعلم بالعقل ، وليس معك سمع في نفس الخبر يمنع من ذلك ، فدلّ على أنّه ـ عليه السلام ـ أفضل من الصحابة كلّهم إلى وقتنا هذا ، فإنّا لم نسألك عن فضله عليهم وقتا بعينه.
فقال الشيخ ـ أدام الله عزّه ـ : هذا السؤال أوهن ممّا تقدّم ، والجواب عنه أيسر ، وذلك أنّ الامّة مجمعة على إبطال قول من زعم أنّ أحدا اكتسب أعمالاً زادت على الفضل الّذي حصل لامير المؤمنين ـ عليه السلام ـ على الجماعة ، من قبل أنّهم بين قائلين :
فقائل يقول : إنّ أمير المؤمنين ـ عليه السلام ـ كان أفضل من الكلّ في وقت الرسول ـ صلّى الله عليه وآله ـ لم يساوه أحد بعد ذلك ، وهم : الشيعة الاماميّة ، والزيديّة ، وجماعة من شيوخ المعتزلة ، وجماعة من أصحاب الحديث.
وقائل يقول : إنّه لم يبن لامير المؤمنين ـ عليه السلام ـ في وقت من الاوقات فضلٌ على سائر الصحابة يقطع به على الله تعالى ويجزم الشهادة بصحّته ، ولا بان لاحد منهم فضل عليه ، وهم : الواقفة في الاربعة من المعتزلة ، منهم : أبو عليّ وأبو هاشم وأتباعهما.
وقائل يقول : إنّ أبابكر كان أفضل من أمير المؤمنين ـ عليه والسلام ـ في وقت الرسول ـ صلّى الله عليه وآله ـ وبعده ، وهم : جماعة من المعتزلة ، وبعض المرجئة ، وطوائف من أصحاب الحديث.
وقائل يقول : إنّ أمير المؤمنين ـ عليه السلام ـ خرج عن فضله بحوادث كانت منه فساواه غيره ، وفضل عليه من أجل ذلك من لم يكن له فضل عليه ، وهم : الخوارج وجماعة من المعتزلة ، منهم : الاصم والجاحظ وجماعة من أصحاب الحديث أنكروا قتال أهل القبلة ، ولم يقل أحد من الامّة إنّ أمير المؤمنين ـ عليه السلام ـ كان أفضل عند الله سبحانه من الصحابة كلّهم ولم يخرج عن ولاية الله عزّ وجلّ ولا أحدث معصية الله تعالى ثمّ فضل عليه غيره بعمل زاد به ثوابه على ثوابه ، ولا جوز ذلك فيكون معتبرا ، فإذا بطل الاعتبار به للاتّفاق على خلافه سقط ، وكان الاجماع حجّة يقوم مقام قول الله تعالى في صحّة ما ذهبنا إليه ، فلم يأت بشيء.
وذاكرني الشيخ ـ أدام الله عزه ـ هذه المسألة بعد ذلك فزادني فيها زيادة ألحقتها ، وهي أن قال : إنّ الّذي يسقط ما اعترض به السائل من تأويل قول النبيّ ـ صلّى الله عليه وآله ـ « اللهمّ ائتني بأحبّ خلقك اليك » على المحبّة للاكل معه دون محبّته في نفسه بإعظام ثوابه بعد الّذي ذكرناه في إسقاطه : أنّ الرواية جاءت عن أنس بن مالك أنّه قال :
لمّا دعا رسول الله ـ صلّى الله عليه وآله ـ أن يأتيه الله تعالى بأحبّ الخلق إليه ، قلت : اللهمّ اجعله رجلاً من الانصار ليكون لي الفضل بذلك ، فجاء عليّ ـ عليه السلام ـ فرددته ، وقلت له : رسول الله على شغل ، فمضى ثمّ عاد ثانية فقال لي : استأذن على رسول الله ـ صلّى الله عليه وآله ـ ، فقلت له : إنّه على شغل ، فجاء ثالثة فاستأذنت له ودخل ، فقال له النبي ـ صلّى الله عليه وآله ـ : قد كنت سألت الله تعالى أن يأتيني بك دفعتين ، ولو أبطأت عليَّ الثالثة لا قسمت على الله عزّ وجلّ أن يأتيني بك.
فلولا أنّ النبيّ ـ صلّى الله عليه وآله ـ سأل الله عزّ وجلّ أن يأتيه بأحبّ خلقه إليه في نفسه وأعظمهم ثوابا عنده ، وكانت هذه من أجلّ الفضائل لما آثر أنس أن يختصّ بها قومه ، ولولا أنّ أنسا فهم ذلك من معنى كلام الرسول ـ صلّى الله عليه وآله ـ لما دافع أمير المؤمنين ـ عليه السلام ـ عن الدخول ، ليكون ذلك الفضل لرجل من الانصار فيحصل له جزء منه.
وشيء آخر : وهو أنّه لو احتمل معنى لا يقتضي الفضيلة لامير المؤمنين ـ عليه السلام ـ لما احتجّ به أمير المؤمنين ـ عليه السلام ـ يوم الدار ، ولا جعله شاهدا على أنّه أفضل من الجماعة ، وذلك أنّه لو لم يكن الامر على ما وصفناه وكان محتملاً لما ظنّه المخالفون من أنّه سأل ربّه تعالى أن يأتيه بأحبّ الخلق اليه في الاكل معه لما أمن أمير المؤمنين ـ عليه السلام ـ من أن يتعلّق بذلك بعض خصومه في الحال ، أو يشتبه ذلك على إنسان ، فلمّا احتجّ به ـ عليه السلام ـ على القوم واعتمده في البرهان دلّ على أنّه لم يك مفهوما منه إلاّ فضله ، وكان إعراض الجماعة أيضا عن دفاعه عن ذلك بتسليم ما ادّعى دليلاً على صحّة ما ذكرناه ، وهذا بعينه يسقط قول من زعم أنّه يجوز مع إطلاق النبي ـ صلّى الله عليه وآله ـ في أمير المؤمنين ـ عليه السلام ـ ما يقتضي فضله عند الله تعالى على الكافّة وجود من هو أفضل منه في المستقبل ، لانّه لو جاز ذلك لما عدل القوم عن الاعتماد عليه ، ولجعلوه شبهة في منعه ممّا ادّعاه من القطع على نقصانهم عنه في الفضل ، وفي عدول القوم عن ذلك دليل على أنّ القول مفيد بإطلاقه فضله ـ عليه السلام ـ ، ومؤمْن من بلوغ أحد منزلته في الثواب بشيء من الاعمال ، وهذا بيّن لمن تدبّره (6).
____________
(1) تقدمت تخريجات الحديث.
(2) قد احتج ـ عليه السلام ـ بحديث الطائر في عدة مواطن راجع : الاحتجاج للطبرسي ج1 ص124 وص138 ، فرائد السمطين ج1 ص322 ح251.
(3) راجع : الامامة والسياسة لابن قتيبة ج1 ص73 ط مصطفى محمد بمصر وج1 ص68 ط أخرى ، ترجمة الامام علي بن أبي طالب من تاريخ دمشق لابن عساكر الشافعي ج3 ص119 ح1162 ، صحيح الترمذي ج5 ص297 ح3798 ، فرائد السمطين ج1 ص176 ـ 177 ح138 ـ 140 ، شرح نهج البلاغة لابن ابي الحديد ج10 ص270 ، مستدرك الحاكم ج3 ص119 و124 ، مجمع الزوائد ج7 ص235 ، كنز العمال ج11 ص603 ح32912 ، الملل والنحل ج1 ص103 ، تاريخ بغداد ج14 ص321 ، بتفاوت. وقال الرازي في تفسيره ج1 ص205 : ومن اقتدى بعلي بن أبي طالب ـ عليه السلام ـ فقد اهتدى ، والدليل عليه قوله ـ صلى الله عليه واله وسلّم ـ : اللهم أدر الحق مع علي حيث دار.
(4) راجع : المعارف لابن قتيبة ( في باب البرص ) ص194 وص391 ، بحار الانوار ج34 ص287 وج37 ص197 وج42 ص148 وج38 ص351 ، سفينة البحار للقمي ج1 ص47 ، عبقات الانوار ( حديث الثقلين ) ج2 ص309 ، شرح نهج البلاغة لابن أبي الحديد ج19 ص217 ـ 218 ، وقال في ج4 ص74 ( فصل في ذكر المنحرفين عن عليّ ـ عليه السلام ـ ) :
وذكر جماعة من شيوخنا البغداديين أنّ عدة من الصحابة والتابعين والمحدّثين كانوا منحرفين عن عليّ ـ عليه السلام ـ ، قائلين فيه السوء ، ومنهم من كتم مناقبه وأعان أعداءه ميلا مع الدنيا ، وإيثاراً للعاجلة ، فمنهم أنس بن مالك ، ناشد عليّ ـ عليه السلام ـ الناس في رَحبَة القصر ـ او قال : رحبة الجامع بالكوفة ـ : أيّكم سمع رسول الله ـ صلى الله عليه وآله ـ يقول : من كنت مولاه فعليّ مولاه. فقام اثنا عشر رجلاً فشهدوا بها ، وأنس بن مالك في القوم لم يقم ، فقال له : ياأنس ، ما يمنعك أن تقوم فتشهد ، ولقد حضرتها ؟ فقال : يا أمير المؤمنين ، كبرتُ ونسيت ، فقال : اللهم إن كان كاذباً فارمه بها بيضأ لا تواريها العمامة. قال طلحة بن عمير : فوالله لقد رأيت الوَضَح به بعد ذلك أبيض بين عينيه.
وروى عثمان بن مُطرِّف أنّ رجلاً سأل أنس بن مالك في آخر عمره عن علي بن أبي طالب ـ عليه السلام ـ ، فقال : إني آليت ألاّ أكتم حديثا سُئلتُ عنه في عليّ ـ عليه السلام ـ بعد يوم الرّحبة ، ذاك رأس المتقين يوم القيامة ، سمعته والله من نبيكم.
(5) بل الاعتراض من أطرف الاشياء ، لان المسلّم فى محله صحة استدلال الخصم في الحجاج بمـا يراه المستدل عليه صحيحا ، ولا يلزم أن يكون هو عند المستدل ايضا صحيحا.
(6) الفصول المختارة ج1 ص64 ـ 69 ، بحار الانوار ج10 ص431 ح12.
التعلیقات