مناظرة الشيخ المفيد مع أبي بكر بن صراما
في الإمامة
منذ 14 سنةحضر الشيخ المفيد مجلس أبي منصور بن المرزبان وكان بالحضرة جماعة من متكلّمي المعتزلة ، فجرى كلام وخوض في شجاعة الامام ـ عليه السلام.
فقال أبو بكر بن صراما : عندي أنّ أبا بكر الصدّيق كان من شجعان العرب ومتقدّميهم في الشجاعة !
فقال الشيخ ـ أدام الله عزّه ـ : من أين حصل ذلك عندك ؟ وبأي وجه عرفته ؟
فقال : الدليل على ذلك أنّه رأى قتال أهل الردّة وحده في نفر معه ، وخالفه على رأيه في ذلك جمهور الصحابة وتقاعدوا عن نصرته.
فقال : أما والله لو منعوني عقالاً لقاتلتهم ، ولم يستوحش من اعتزال القوم له ، ولا ضعّف ذلك نفسه ، ولا منعه من التصميم على حربهم ، فلولا أنّه كان من الشجاعة على حدّ يقصر الشجعان عنه لما أظهر هذا القول عند خذلان القوم له !
فقال الشيخ ـ أدام الله عزّه ـ : ما أنكرت على من قال لك : إنّك لم تلجأ إلى معتمد عليه في هذا الباب ، وذلك أنّ الشجاعة لا تعرف بالحسّ لصاحبها فقط ولا بادّعائها ، وإنّما هي شيء في الطبع يمدّه الاكتساب ، والطريق إليها أحد الامرين : إمّا الخبر عنها من جهة علاّم الغيوب المطّلع على الضمائر جلّت عظمته ، فيعلم خلقه حال الشجاع وإن لم يبدُ منه فعل يستدل به عليها.
والوجه الاخر : أن يظهر منه أفعال يعلم بها حاله كمبارزة الاقران ، ومقاومة الشجعان ، ومنازلة الابطال ، والصبر عند اللّقاء ، وترك الفرار عند تحقّق القتال ، ولا يعلم ذلك أيضا بأوّل وهلة (1) ، ولا بواحدة من الفعل حتّى يتكرّر ذلك على حدّ يتميّز به صاحبه ممن حصل له ذلك اتّفاقا ، أو على سبيل الهوج (2) والجهل بالتدبير ، وإذا كان الخبر عن الله سبحانه بشجاعة أبي بكر معدوما وكان هذا الفعل الدالّ على الشجاعة غير موجود للرجل فكيف يجوز لعاقل أن يدّعي له الشجاعة بقول قاله ليس من دلالتها في شيء عند أحد من أهل النظر والتحصيل ؟ لاسيّما ودلائل جبنه وهلعه (3) وخوفه وضعفه أظهر من أن يحتاج فيها إلى التأمّل ، وذلك أنّه لم يبارز قطّ قرنا (4) ولا قاوم بطلاً ولا سفك بيده دما ، وقد شهد مع رسول الله ـ صلّى الله عليه وآله ـ مشاهده ، فكان لكلّ أحد من الصحابة أثر في الجهاد إلاّ له ، وفرّ في يوم أحد ، وانهزم في يوم خيبر ، وولّى الدبر يوم التقى الجمعان ، وأسلم رسول الله ـ صلّى الله عليه وآله ـ في هذه المواطن مع ما كتب الله عزّ وجلّ عليه من الجهاد ! فكيف تجتمع دلائل الجبن ودلائل الشجاعة لرجل واحد في وقت واحد لو لا أنّ العصبيّة تميل بالعبد إلى الهوى ؟
وقال رجل من طيّاب الشيعة كان حاضرا : عافاك الله أيّ دليل هذا ؟
وكيف يعتمد عليه وأنت تعلم أنّ الانسان قد يغضب فيقول : لو سامني السلطان هذا الامر ما قبلته ، وإنّ عندنا لشيخا ضعيف الجسم ، ظاهر الجبن ، يصلّي بنا في مسجدنا فما يحدث أمر يضجره وينكره إلاّ قال : والله لاصبرنّ على هذا أو لاجاهدنّ فيه ولو اجتمعت فيه ربيعة ومضر !.
فقال : ليس الدليل على الشجاعة ما ذكرت دون غيره ، والّذي اعتمدنا عليه يدلّ كما يدلّ الفعل والخبر ، ووجه الدلالة فيه أنّ أبا بكر باتّفاق لم يكن مؤوف العقل ، ولا غبيّا ناقصا ، بل كان بالاجماع من العقلاء ، وكان بالاتّفاق جيّد الاراء ، فلولا أنّه كان واثقا من نفسه عالما بصبره وشجاعته لما قال هذا القول بحضرة المهاجرين والانصار وهو لا يأمن أن يقيم القوم على خلافه فيخذلونه ، ويتأخّرون عنه ويعجز هو لجبنه أن لو كان الامر على ما ادّعيتموه عليه فيظهر منه الخلف في قوله ، وليس يقع هذا من عاقل حكيم ، فلمّا ثبتت حكمة أبي بكر دلّ مقاله الّذي حكيناه على شجاعته كما وصفناه.
فقال الشيخ ـ أدام الله عزّه ـ : ليس تسليمنا لعقل أبي بكر وجودة رأيه تسليما لما ادّعيت من شجاعته بما رويت عنه من القول ، ولا يوجب ذلك في عرف ولا عقل ولا سنّة ولا كتاب ، وذلك أنّه وإن كان ما ذكرت من الحكمة فليس يمنع أن يأتي بهذا القول من جبنه وخوفه وهلعه ليشجّع أصحابه ، ويحضّ (5) المتأخّرين عنه على نصرته ، ويحثّهم على جهاد عدوّه ، ويقوي عزمهم في معونته ، ويصرفهم عن رأيهم في خذلانه ، وهكذا تصنع الحكماء في تدبيراتهم ، فيظهرون من الصبر ما ليس عندهم ، ومن الشجاعة ما ليس في طبائعهم حتّى يمتحنوا الامر وينظروا عواقبه ، فإن استجاب المتأخّرون عنهم ونصرهم الخاذلون لهم وكلوا الحرب إليهم وعقلوا الكلفة بهم ، وإن أقاموا على الخذلان واتّفقوا على ترك النصرة لهم والعدول عن معونتهم أظهروا من الرأي خلاف ما سلف ، وقالوا : قد كانت الحال موجبة للقتال ، وكان عزمنا على ذلك تامّا فلمّا رأينا أشياعنا وعامّة أتباعنا يكرهون ذلك أوجبت الضرورة إعفاءهم ممّا يكرهون ، والتدبير لهم بما يؤثرون ، وهذا أمر قد جرت به عادة الرؤساء في كلّ زمان ، ولم يك تنقّلهم من رأي إلى رأي مسقطا لاقدارهم عند الانام ، فلا ينكر أن يكون أبو بكر إنّما أظهر التصميم على الحرب لحثّ القوم على موافقته في ذلك ، ولم يبد لهم جزعه لئلاّ يزيد ذلك في فشلهم ، ويقوّي به رأيهم ، واعتمد على أنّهم إن صاروا إلى أمره ونجع هذا التدبير في تمام غرضه فقد بلغ المراد ، وإن لم ينجع ذلك عدل عن الرأي الاوّل ! كما وصفناه من حال الرؤساء في تدبيراتهم ، على أنّ أبا بكر لم يقسم بالله تعالى في قتال أهل الردّة بنفسه ، وإنّما أقسم بأنصاره الّذين اتّبعوه على رأيه ، وليس في يمينه بالله سبحانه لينفذنّ خالدا وأصحابه ليصلوا بالحرب دليل على شجاعته في نفسه.
وشيء آخر : وهو أنّ أبا بكر قال هذا القول عند غضبه لمباينة القوم له ، ولا خلاف بين ذوي العقول أنّ الغضبان يعتريه عند غضبه من هيجان الطباع ما يفسد عليه رأيه حتّى يقدم من القول على مالا يفي به عند سكون نفسه ، ويعمل من الاعمال ما يندم عليه عند زوال الغضب عنه ، ولا يكون وقوع ذلك منه دليلاً على فساد عقله ، ووجوب إخراجه عن جملة أهل التدبير ، وقد صرح بذلك الرجل في خطبته المشهورة عنه الّتي لا يختلف اثنان فيها ، وأصحابه خاصّة يصولون بها ، ويجعلونها من مفاخره ، حيث يقول : إنّ رسول الله ـ صلّى الله عليه وآله ـ خرج من الدنيا وليس أحد يطالبه بضربة سوط فما فوقها وكان ـ صلّى الله عليه وآله ـ معصوما من الخطأ ، يأتيه الملائكة بالوحي ، فلا تكلفوني ما كنتم تكلّفونه فإنّ لي شيطانا يعتريني عند غضبي ، فإذا رأيتموني مغضبا فاجتنبوني ، لا أُوثر في أشعاركم وأبشاركم (6) فقد أعذر هذا الرجل إلى القوم فيما يأتيه عند غضبه من قول وفعل ، ودلّهم على الحال فيه ، فلذلك أمن من نكير المهاجرين والانصار عليه مقاله عند غضبه مع إحاطة العلم منهم بما لحقه في الحال من خلاف المخالفين عليه حتّى بعثه على ذلك المقال ، فلم يأت بشيء (7).
____________
(1) يقال : لقيته أول وهلة او واهلة أى أول شيء.
(2) الهوج محركة : الطيش والتسرع.
(3) الهلع : الجبن عند اللقاء.
(4) القرن بالكسر : نظيرك في الشجاعة أو العلم.
(5) حضه على الامر : حمله عليه وأغراه به.
(6) تقدمت تخريجاته.
(7) الفصول المختارة ج1 ص85 ـ 89 ، البحار ج10 ص436 ح13.
التعلیقات