الحمدانيون
الدول الشيعية عبر التاريخ
منذ 14 سنة
المصدر : الشيعة في الميزان ، تأليف : محمّد جواد مغنية ، ص 164 ـ 173
/ صفحة 164 /
الحمدانيون نسبهم ومذهبهم:
من هم الحمدانيون؟ وما هو مذهبهم؟
ينتسب الحمدانيون إلى قبيلة تغلب، وكان بنو تغلب بن وائل من أعظم بطون ربيعة بن نزار، وكانوا من نصارى العرب في الجاهلية، لهم محل في الكثرة والعدد. ثم كان منهم في الإسلام ثلاثة بيوت: آل عمر بن الخطاب العدوي، وآل هارون المغمر، وآل حمدان بن حمدون.
وحمدان هذا هو جد الأمراء الحمدانيين، وكان على جانب من الثراء، ورب قبيلة، تنظر إليه بقية القبائل بالتجلة والاحترام، وكان أميرا على قلعة ماردين القريبة من الموصل من قبل العباسيين، ثم أعلن الاستقلال عنهم سنة 281 ه، وكان ذلك في خلافة المعتضد، ودارت بين حمدان والخليفة العباسي معارك كانت الغلبة فيها على حمدان.
وأنجب حمدان سبعة أولاد (1) منهم أبو الهيجاء والد ناصر الدولة وسيف الدولة، وأبو العطاف.
أما تشيع الحمدانيين فلا يختلف فيه اثنان، وقد ظهر ذلك جليا في هجرة علماء الشيعة إليهم، كالشريف أبي ابراهيم جد بني زهرة، وفي مدح الشعراء لهم، كالسري والصنوبري وكشاجم والناشي والزاهي وغيرهم، وفي سنة 354 ه ضرب سيف الدولة دنانير جدبدة كتب عليها " لا إله إلا الله محمد رسول الله أمير المؤمنين علي بن أبي طالب فاطمة الزهراء الحسن والحسين جبريل عليهم السلام ".
ــــــــــــــــــــ
(1) السيد محسن الأمين " أبو فراس ". (*)
/ صفحة 165 /
ويأبى المستشرقون إلا أن يفسروا الأشياء على أهوائهم وبغير حقيقتها، قال كبيرهم بركلمن في الجزء الثاني من " تاريخ الشعوب الإسلامية " ص 89 طبعة 1954 ترجمة منير بعلبكي: " إن سيف الدولة أظهر الطاعة للفاطميين عندما نشروا سلطانهم على مصر، وبالتالي اتبع المذهب الشيعي " أي إن سيف الدولة تشيع إرضاء للفاطميين، مع العلم بأن سيف الدولة توفي قبل دخول الفاطميين مصر (1).
الاثنا عشرية:
بقي أن نعرف إلى أي مذهب شيعي تنتسب اسرة الحمدانيين، إلى الزيدية أو الإسماعيلية أو الاثني عشرية؟
ويجيب عن هذا التساؤل مصطفى الشكعة في كتابه " فنون الشعر في مجتمع الحمدانيين "، ويتخلص قوله بما يلي:
إن شعر أبي فراس يكشف لنا هذا اللغز الذي ظل غامضا، حتى الآن، والذي لم يحاول أحد من المؤرخين القدامى، ولا من المحدثين أن يدرسه، وبذلك يكون الشعر قد أسدى إلى علم التاريخ مآثر جليلة، وكشف حقيقة كان الأولى بالتاريخ أن يحتضنها.
يقول أبو فراس من قصيدته الميمية:
يا للرجال أما لله منتصف * من الطغاة أما للدين منتقم
بنو علي رعايا في ديارهم * والأمر تملكه النسوان والخدم
محلئون فأقصى شربهم وشل * عن الورود وأوفى ودهم لمم
فالأرض إلا على ملاكها سعة * والمال إلا على أربابه ديم
وبعد هذه المقدمة المشحونة بالعطف على آل البيت ينتقل الأمير الشاعر إلى هجاء العباسيين، لأنهم نالوا الخلافة بالرسول، ثم لم يراعوا حرمة آل بيته، ويعقد مقارنة بين بني علي، وبني العباس، ويقول:
لا يطغين بني العباس ملكهم * بنو علي مواليهم وإن زعموا
ــــــــــــــــــــ
(1) مات سيف الدولة سنة 356، ودخل جوهر قائد الفاطميين مصر سنة 358. (*)
/ صفحة 166 /
أتفخرون عليهم لا أبالكم * حتى كأن رسول الله جدكم
وما توازن فيما بينكم شرف * ولا تساوت بكم في موطن قدم
ولا لكم مثلهم في المجد متصل * ولا لجدكم معشار جدهم
قام النبي بها يوم الغدير لهم * والله يشهد والأملاك والأمم
وصيرت بينهم شورى كأنهم * لا يعرفون ولاة الحق أيهم
تالله ما جهل الأقوام موضعها * لكنهم ستروا وجه الذي علموا
ثم ادعاها بنو العباس إرثهم * ولا لهم قدم فيها ولا قدم
بئس الجزاء جزيتم في بني حسن * أبوهم العلم الهادي وأمهم
لا بيعة ردعتكم عن دمائهم * ولا يمين ولا قربى ولا رحم
وهكذا يرمي بني العباس بالغدر الذي يتضاءل أمامه ما لاقوه على أيدي بني أمية:
ما نال منهم بنو حرب وإن عظمت * تلك الجرائم إلا دون نيلكم
كم غدرة لكم في الدين واضحة * وكم دم لرسول الله عندكم
أأنتم آله فيما ترون وفي * أظفاركم من بنيه الطاهرين دم
يا جاهدا في مساويهم يكتمها * غدر الرشيد بيحيى كيف يكتتم
وبعد هذه الحملة الشعواء على العباسيين يعطينا أبو فراس مفتاحا لمذهبه الشيعي، حيث يذكر موسى الكاظم وعلي الرضا، وهذان الإمامان ليسا من الأئمة عند الزيدية ولا عند الإسماعيلية، وإنما هما من أئمة الأثني عشرية.
قال:
ليس الرشيد كموسى في القياس ولا * مأمونكم كالرضا إن أنصف الحكم
خلوا الفخار لعلامين إن سئلوا * يوم السؤال وعمالين إن عملوا
لا يغضبون لغير الله إن غضبوا * ولا يضيعون حكم اله إن حكموا
تبدو التلاوة من أبياتهم أبدا * ومن بيوتكم الأوتار والنغم
منكم علية أم منهم وكان لكم * شيخ المغنين إبراهيم أم لهم
ما في ديارهم للخمر معتصر * ولا بيوتهم للسوء معتصم
والركن والبيت والأستار منزلهم وزمزم والصفا والحجر والحرم صلى الإله عليهم أينما ذكروا * لأنهم للورى كهف ومعتصم
/ صفحة 167 /
وإذا كان الشاعر قد أعطانا في هذه القصيدة إشارة عابرة إلى أنه يعتنق مذهب الاثني عشرية، فإنه ينتقل بنا إلى التصريح والتأكيد في الأبيات التالية التي عدد فيها الأئمة الاثني عشر واحدا بعد واحد:
لست أرجو النجاة من كل ما * أخشاه إلا بأحمد وعلي
وببنت الرسول فاطمة * الطهر وسبطيه والإمام علي
والتقي النقي باقر علم * الله فينا محمد بن علي
وابنه جعفر وموسى ومولا * نا علي أكرم به من علي
وأبي جعفر سمي رسول الله * ثم ابنه الزكي علي
وابنه العسكري والمظهر * حقي محمد بن علي
فبهم أرتجي بلوغ الأماني * يوم عرضي على مليك علي
في البيت الأول ذكر عليا، وفي البيت الثاني ذكر الحسن والحسين وعلي بن الحسين، وفي البيت الثالث ذكر محمد الباقر، وفي البيت الرابع ذكر جعفر الصادق وموسى الكاظم وعلي الرضا، وفي البيت الخامس ذكرا أبا جعفر، وهو محمد الجواد وعلي الهادي، وفي البيت السادس ذكر الإمام العسكري والمهدي المنتظر، له أبيات أخرى يتوسل بها ويطلب الشفاعة بمحمد وفاطمة والأئمة الاثني عشر:
شافعي أحمد النبي ومولا * ي علي والبنت والسبطان
وعلي وباقر العلم والصا * دق ثم الأمين ذو التبيان
وعلي ومحمد بن علي * وعلي العسكري الداني
والأمام المهدي في يوم لا * ينفع إلا غفران ذي الغفران
وإذا عرفنا أن أبا فراس ربي في حجر سيف الدولة منذ كان طفلا صغيرا، ونشأ على يديه، وتعلم تحت رعايته، وأنه قد اختار له معلما ومربيا اثني عشريا، إذا عرفنا ذلك عرفنا أن سيف الدولة بخاصة، والحمدانيين بعامة كانوا يعتنقون المذهب الاثني عشري.
ناصر الدولة:
كان لحمدان وأولاده شأن كبير في الدولة العباسية، ثاروا على الخلافة أكثر
/ صفحة 168 /
من مرة، وسجنوا مرات، وتولوا كثيرا من المناصب الكبرى في داخل بغداد وخارجها، فحمدان نفسه كان أميرا في قلعة ماردين، وابنه الحسين تولى ديار ربيعة، ثم قم وقاشان، واحتل مصر بعد انتصاره على الطوليين، وأخوه العلاء تولى الموصل، ثم تولاها بعده أخوه أبو الهيجاء والد ناصر الدولة وسيف الدولة، وبقي واليا عليها إلى أن قتل سنة 317، وترك عليها ابنه ناصر الدولة.
وكانت الدولة العباسية في هذا الوقت تعاني النزع والنحلال بظهور سلطان المتغلبين في أطراف المملكة والثغور، فقامت في فارس دولة بني بويه، وفي مصر وسورية دولة الاخشيديين، وفي إفريقيا دولة الفاطميين، وفي إسبانيا دولة الامويين، واستقل بنو سامان في خراسان، والقرامطة بالبحرين، وأعلن البريدي حكمه على البصرة وواسط، وزحف إلى بغداد، يحدث هذا كله، والحمدانيون ينتظرون الفرصة، ويعدون أنفسهم لما هو أهم من الولاية والامارة، مع أن الحكم في الموصل لهم وحدهم، ولا شئ للخليفة سوى الاسم.
ولم تمض الايام، حتى يهرب الخليفة المتقي من بغداد خوفا من البريديين، ويلتجئ إلى ناصر الدولة في الموصل، فألف ناصر الدولة جيشا كبيرا، وزحف به على بغداد، ومعه الخليفة وأخوه سيف الدولة، ولم يقترب الجيش من العاصمة، حتى نزح عنها البريدي إلى واسط، فتبعه سيف الدولة، وانتزعها منه، ولما استقرت الحال بالخليفة جعل ناصر الدولة أمير الامراء، وأخذ ناصر في مزاولة سلطته الجديدة في بغداد، فبدأ بالعمارة، وحال دون عبث التجار والصيارفة، وضرب دنانير جديدة، وهدد بإنزال العقاب على كل من لم يقلع عن الربا والغش، إلا أن إمرة الامراء لم تطل مدتها في الحمدانيين لاضطراب الامور في بغداد، فترك ناصر الدولة هذه الامرة، وعاد إلى الموصل ليبسط سلطانه عليها، وعلى الديار المجاورة، وعاد سيف الدولة، ليفتح حلب، ويوطد بها ملكه.
وظل ناصر الدولة يحكم الموصل بيد من حديد في حين يوطد أخوه سيف الدولة ملكه في حلب، ويغزو بلاد الروم إلى سنة 356، وهي السنة التي مات فيها سيف الدولة، فقبض أبو تغلب على أبيه الامير، واعتقله (1) ودارت حروب
ــــــــــــــــــــ
(1) توفي ناصر الدولة سنة 358 كما في الجزء ال 22 من أعيان الشيعة. (*)
/ صفحة 169 /
وخلافات بين أبي تغلب وأخيه حمدان، وكان خلاف ابناء ناصر الدولة، وقيام بعضهم ضد بعض مدعاة لان يتقدم عضد الدولة البويهي إلى الموصل، ويطرد أبا تغلب منها، ويستولي عليها بعد أن دامت في أيدي الحمدانيين من سنة 293 إلى سنة 367 التي استولى فيها عضد الدولة عليها، وكان الحمدانيون يجلون بعض الوقت عن الموصل خلال هذه المدة ثم يعودون إليها.
سيف الدولة:
كانت حلب كالريشة في مهب الريح تخضع تارة للخليفة العباسي في بغداد، وتارة للاخشيديين في مصر ودمشق، وهي إلى ذلك على حدود البيزنطيين، وكان سيف الدولة قد طلب من أخيه ناصر الدولة ولاية، فقال له: دونك الشام فلا أحد يمنعك عنها، وجهزه بألف فارس، فسار إلى حلب، ودخلها سنة 333 بدون مقاومة، ثم سار إلى دمشق وانتزعها من الاخشيديين، ونشبت بينهما حروب كان النصر فيها أولا حليف سيف الدولة، وأقام بدمشق مدة وجبى خراجها، ثم استردها الاخشيديون منه، وأخيرا تم الصلح بينهما، وتزوج سيف الدولة فاطمة بنت الاخشيد، وتقرر أن تكون حلب وحمص وإنطاكية لسيف الدولة، ودمشق وما وراءها، حتى مصر للاخشيديين.
" وكانت علائق الاخشيديين كصلات الحمدانيين اسمية مع خلفاء بغداد، وأشتهر الاخشيديون، وهم عجم، بشحهم، واشتهر الحمدانيون العرب في مغالاتهم بالكرم، وكان الاخشيديون من أهل السنة، والحمدانيون من الشيعة، ولذلك كثر التشيع في شمال الشام على عهدهم (1) ".
وقضى سيف الدولة حياته في حروب داخلية وخارجية، فقبل أن يفتح حلب حارب البريدي في واسط، وانتزعها منه، وفي سنة 326، غزا أرض الروم، فأستقبلوه بمائتي ألف فارس، فأعمل فيهم السيف وهزمهم، وأسر سبعين بطريقا، وسنة 328 كان انتصاره على الروم أعظم، حيث خرج غازيا مدينة فاليقا، وكان الروم قد بنوا حذاءها مدينة أسموها هفجيج، فلما علموا
ــــــــــــــــــــ
(1) خطط الشام لكرد علي ص 218 ج 1 طبعة 1925. (*)
/ صفحة 170 /
بمسيره خربوا المدينة وهربوا، وظل سيف الدولة يتقدم في بلاد الروم - قبل فتحه حلب - حتى وطأ مواطئ لم يصل إليها أحد من المسلمين (1).
وبعد أن فتح حلب، واستقر له الامر كانت لا تمر سنة دون غزوة أو أكثر، قال كرد علي في الجزء الاول من خطط الشام: " غزا سيف الدولة الروم أربعين غزوة، له وعليه، وقد حفظ بغزواته بيضة العرب والاسلام، ولولاه لتقدم الروم في بلاد الشام، وربما استصفوها كلها بعد أن ضعف العباسيون. وكان قد جمع من نفض الغبار الذي يجتمع عليه في غزواته شيئا، وعلمه لبنة بقدر الكف، وأوصى أن يوضع خده عليه في لحده، فنفذت وصيته ".
وأما الفتن الداخلية التي واجهها أيام ملكه في حلب فهي ثورة بني كلاب سنة 343 وبني عقيل، وبني قشير، وبني العجلان، ثم الفتنة التي قام بها رشيق النسيمي في إنطاكية سنة 354، وفتنة مروان العقيلي بحمص، وفي سنة 355 ثار دزبر الديلمي بإنطاكية. وهكذا كان سيف الدولة يغزو بلاد الروم، ثم يعود إلى مقره وعاصمته ليقضي على الفتن الداخلية.
وتوفي سيف الولة سنة 358، وقام بعده ابنه أبو المعالي الملقب بسعد الدولة، ومات سنة 381، وتولى بعده ابنه أبو الفضائل الملقب بسعيد الدولة، ومات سنة 392، وبموته انتهت إمارة الحمدانيين التي استمرت على الموصل وحلب، وما يتبعهما من سنة 293 إلى سنة 392.
عظمة سيف الدولة:
تحدث الناس قديما وحديثا عن عظمة سيف الدولة، وتغنى بها الشعراء، وأشاد بها المؤرخون والادباء في الشرق والغرب، ووضعوا في آثاره وأعماله الكتب والمجلدات، وخير ما قرأت في هذا الباب كتاب " سيف الدولة وعصر الحمدانيين " لسامي الكيالي، وقدم له إسماعيل أحمد ادهم، اقتطف من كلامهما القطعة التالية:
" سيف الدولة أحد أبطال التاريخ، وصاحب شخصية حافلة بالحياة والنشاط،
ــــــــــــــــــــ
(1) فنون الشعر في مجتمع الحمدانيين ص 75. (*)
/ صفحة 171 /
وذو نواح متعددة، تتراقص على جنباتها المغامرة، والشعر والسيف والقلم، والبطولة والادب، فهو من الشخصيات التي تثير الاعجاب، وتسترعي النظر.
مر بتاريخ العرب في فترة كانت الفوضى تقتلها، فنجح في أن يلجم الفوضى، وأخرج منها نظاما، وخلق من ضعف العرب قوة، وصمد لقوات الروم، وقاد جموع العرب يذود عن دولته بحد سيفه، وهو في هذا كله يذود عن العرب والاسلام قال غوستاف سيشلمبرجر، شغل سيف الدولة أذهان المؤرخين والكتاب والشعراء في القرن العاشر الميلادي، فما أن تقرأ صفحة لمؤرخ بيزنطي، أو قطعة لكاتب من كتاب ذلك العصر، أو قصيدة من قصائد شاعر من شعراء العرب أو اليونان، حتى يستهويك الوصف والحديث عنه.
لقد أقسم مؤرخ زار حلب في عصر سيف الدولة أن قصور الخلفاء في بغداد، وقصور ملوك الروم في القسطنطينية كانت أقل بهاء من قصور سيف الدولة، وأن الفنون على تباين أنواعها كانت مضطهدة في عاصمة المسيحية، ولكنها كانت تنعم بتسامح كبير في عاصمة الحمدانيين، وكان المصورون والمثالون من الروم يهربون من قيصر إلى سيف الدولة، فيستقبلهم، ويكرمهم ويشجعهم، ويستفيد من عبقرياتهم ".
وقال بروكلمن في " تاريخ الشعوب الاسلامية " ص 91 ج 2: " ولئن كان سيف الدولة مدينا بما تم له من شهرة عريضة لنضاله الموفق ضد الروم في المحل الاول فليس من شك في أنه مدين بذلك في المحل الثاني لعطفه على الفنون والعلوم، ورعايته لها ".
وبالتالي، فإن مدينة حلب في عهد سيف الدولة جمعت أكابر رجال ذلك العصر على اختلاف بلدانهم وتباين ثقافتهم، كالفارابي والشريف أبي إبراهيم جد بني زهرة، وابن نباتة والمتنبي والصنوبري وابن خالويه وابن جني والبكتمري والنامي وكشاجم وابن أبي الفياض وأبي الفرج العجلي، وكثيرين غيرهم من القضاة والنحويين والادباء والشعراء والفنانين العرب وغير العرب.
/ صفحة 172 /
الحمدانيون والتشيع:
انتشر التشيع، وارتفع شأنه في الموصل وحلب، وما إليهما في عهد الحمدانيين، واشتد بهم أزر الشيعة في العراق، قال آدم متز في " الحضارة الاسلامية ":
" وكان الحمدانيون أول أسرة تدخل في أمور بغداد ".
وقال الشيخ المظفر في " تاريخ الشيعة ":
" ارتفع شأن التشيع في سورية أيام سيف الدولة، وانتشق أهله الهواء الطلق بعد أن حبسه عنهم أرباب السلطات المتعاقبة. فكانت سورية أيام الحمدانيين مكتظة بالشيعة. وإذا دخلت المسجد الاموي الرفيع بناية، والمشيد عمارة، وتوسطته واقفا تحت قبته، فارفع رأسك لتنظر اسم علي والحسن والحسين في باطن القبة، فأين اسم معاوية ويزيد وملوك آل مروان الذين رفعوا بناء ذلك المسجد؟! ".
وقال كرد علي في المجلد السادس من خطط الشام ص 258:
" كان أهل حلب سنة حنفية، حتى قدم الشريف أبو إبراهيم الممدوح - في عهد سيف الدولة - فصار فيها شيعة وشافعية، وأتى صلاح الدين، وخلفاؤه فيها على التشيع، كما أتى عليه في مصر، وكان المؤذن في جوامع الشهباء يؤذن بحي على خير العمل، وحاول السلجوقيون مرات القضاء على التشيع، فلم يوفقوا إلى ذلك، وكان حكم بني حمدان، وهم شيعة من جملة الاسباب الداعية إلى تأصل التشيع في الشمال، ولا يزال على حائط صحن المدفن الذي في سفح جبل جوشن بظاهر حلب ذكر الائمة الاثني عشر، وقد خرب الآن.
ووصف ابن جبير المذاهب المتغلبة على الشام في القرن السادس، فقال:
" للشيعة في هذه البلاد أمور عجيبة، وهم أكثر من السنيين بها، وقد عملوا البلاد بمذاهبهم ".
وحين أراد صلاح الدين الايوبي الاستيلاء على حلب، استنجد الوالي بأهلها، وطلب منهم العون، وأن يعبئوا أنفسهم تعبئة عامة، فاشترط عليه الشيعة إن أجابوه أن يعيد في الاذان حي على خير العمل في جميع المساجد، وينادي باسم الائمة الاثني عشر أمام الجنائز، ويكبر على الميت خمس تكبيرات، ويفوض أمر
/ صفحة 173 /
العقود والانكحة لشيخ الشيعة أبي المكارم حمزة بن زهرة، فقبل الوالي ذلك كله.
إن الحمدانيين لم يكرهوا أحدا على التشيع، ولم يغروه بالمال والمناصب، ولم يؤلفوا الهيئات والمنظمات للدعاية، بل تركوا الناس يختارون لانفسهم ما يشاؤون، ويعتقدون ما يريدون، فانبرى الدعاة المخلصين، وأعلنوا الحق، فآمن به من آمن، حيث لا ضغط ولا إكراه، على عكس العباسيين والامويين، وصلاح الدين.
لقد حمل الايوبي معه إلى مصر وسورية تيارا هائلا من التعصب الاعمى - وكل تعصب هو أعمى - كان له أسوأ الاثر في حياة المسلمين، وما زالوا يعانون منه، حتى اليوم. أما الحمدانيون فقد كانوا أصحاء في عقولهم، كما كانوا على حق في دينهم، لذا تسامحوا، وتركوا للناس حرية القول والتفكير مما جعلهم ملجأ وملاذا للعلماء والفلاسفة والادباء ورجال الفكر من جميع الاديان والمذاهب، حتى أن رجال الفن من الروم كانوا يهربون من مليكهم قيصر إلى سيف الدولة، حيث يجدون عنده ما لم يجدوه في بلادهم وعند أبناء دينهم ولغتهم. من هنا ترك لنا عصر الحمدانيين هذه الآثار والكنوز.
ولو افترض أن صلاح الدين الايوبي كان على حق في تسننه، وأن الشيعة كانوا على ضلال في تشيعهم أي مبرر له في قتلهم واستئصالهم؟ إن قوانين الدول المتحضرة تنص على أن لكل إنسان الحق في إعلان آرائه ومعتقداته، بل والترويج لها ما دام لا يتعدى على حق غيره. وهؤلاء المسلمون في كل مكان يعتقدون أن العين بالعين والسن بالسن، وقوانين دولهم تنص على خلاف ذلك، ولكنها لا تعاقب أحدا منهم، ما دام لم يسمل عين أحد، أو يكسر سن أحد.
لقد أراد صلاح الدين الايوبي، ومن على شاكلته أن يقضي على الشيعة والتشيع، ويأبى الله إلا أن يتم نور آل الرسول المنبثق عن نور الله بالذات.
التعلیقات
١