كيف ينتقل التديّن من مسألة تقليد ووراثة إلى مسألة تعقّل وتبصّر ؟
السيّد علي الحائري
منذ 13 سنةالسؤال :
يقول الله سبحانه وتعالى في كتابه العزيز : ( فَأَقِمْ وَجْهَكَ لِلدِّينِ حَنِيفًا فِطْرَتَ اللَّـهِ الَّتِي فَطَرَ النَّاسَ عَلَيْهَا ... ) [ الروم : 30 ].
قديماً قال أحد المؤرّخين : لقد وجدت في التاريخ مدن بلا حصون ومدن بلا قصور ومدن بلا مدارس ، ولكن لم توجد أبداً مدن بلا معابد.
كيف ينتقل التديّن من مسألة تقليد ووراثة إلى مسألة تعقّل وتبصّر ؟
الجواب :
إنّ الشريعة لم تسمح للمكلّف بأن يقلّد في العقائد الدينيّة الأساسيّة ، وذلك لأنّ المطلوب شرعاً في أصول الدين هو أن يحصل للإنسان العلم واليقين بربّه ونبيّه ومعاده ودينه وإمامه ، فلابدّ لكلّ إنسان من أن يتحمّل بنفسه مسؤوليّة عقائده الدينيّة الأساسيّة بدلاً من أن يقلّد فيها ، ويحمّل غيره مسؤليّتها.
وقد عنّف القرآن الكريم ـ بأشكال مختلفة ـ أولئك الذين يبنون عقائدهم الدينيّة ومواقفهم الأساسيّة من الدين ـ سواء في القبول أو الرفض ـ على التقليد للآخرين بدافع الحرص على طريقة الآباء مثلاً ، ووراثتها منهم والتعصّب لهم أو بدافع الكسل عن البحث والهروب من تحمّل المسؤوليّة.
وليس تحصيل العلم واليقين بأصول الدين أمراً صعباً ، لأنّ هذه الأصول محدودة عدداً أوّلاً ، وليست كثيرة ومنسجمة مع فطرة الناس ثانياً بحيث يكون تحصيل العلم واليقين بها أمراً ميسوراً غالباً ، وهي من ناحية ثالثة ذات أهمّية قصوى في حياة الإنسان.
فلذا كان من الطبيعي أن تكلّف الشريعة كلّ إنسان ببذل الجهد مباشرة في البحث عن هذه الأصول واكتشاف حقائقها ، وحتّى لو كان تحصيل العلم واليقين بأصول الدين صعباً على الإنسان ، فإنّه مع ذلك يجب عليه بذل الجهد لتذليل الصعوبة مهما كانت حتّى لو استغرق ذلك شطراً من عمره ، لأنّ عقيدة الإنسان هي أهمّ ما في « الإنسان » ، وليكن على ثقة بأنّه لو بذل جهده في هذا الطريق فسوف يفتح الله تعالى عينه على الحقيقة ويهديه إليها ، قال تعالى : ( وَالَّذِينَ جَاهَدُوا فِينَا لَنَهْدِيَنَّهُمْ سُبُلَنَا ) [ العنكبوت : 69 ].
ولا ننسى بهذا الصدد نقطة أُخرى وهي عبارة عن اختلاف مستويات الناس الفكريّة والثقافيّة ، فالإنسان الأمّي الجاهل يختلف في مستواه الفكري والثقافي عن الإنسان العالم ، ولذا فلا يجب على كلّ إنسان سوى النظر والبحث في أصول الدين بالقدر الذي يتناسب مع مستواه ويصل به إلى قناعة كاملة بالحقيقة تطمئن بها نفسه ويعمر بها قلبه ويتحمّل مسؤوليّتها المباشرة أمام ربّه.
هذا هو الطريق للتعقّل والتدبّر في الدين وعدم التقليد في أصوله ، وهو أن تبذل جهدك في البحث عنها إلى أن يحصل لك اليقين بها ، ويزول عن نفسك كلّ شك وريب.
التعلیقات