أفعال العباد مخلوقة لله سبحانه
آراء الأشعري
منذ 13 سنةبحوث في الملل والنحل لأية الله الشيخ جعفر السبحاني ، ج 2 ، ص 115ـ 124
________________________________________
أفعال العباد مخلوقة لله سبحانه
قد وقفت عند ترجمة الشيخ الأشعري على أنّه رقي كرسياً في جامع البصرة ونادى بأعلى صوته: من عرفني فقد عرفني ـ إلى أن قال ـ : كنت أقول بخلق القرآن، وأنّ الله لا تراه الأبصار، وأنّ أفعال الشر أنا أفعلها،وأنا تائب مقلع معتقد للرد على لمعتزلة.(1)
وقد ذكر في «الإبانة» في الباب الثاني: أنّه لا خالق إلاّ الله وأنّ أعمال العبد مخلوقة لله ومقدورة، كما قال: (وَاللّهُ خَلَقَكُمْ وَما تَعْمَلُونَ) (2) وأنّ العباد لا يقدرون أن يخلقوا شيئاً وهم يُخْلَقُون كما قال سبحانه: (هَلْ مِنْ خالِق غَيْرُ الله)(3).(4)
وقال في «مقالات الإسلاميين» في حكاية جملة قول أهل الحديث وأهل السنّة: وأقروا أنّه لا خالق إلاّ الله، وأنّ سيئات العباد يخلقها الله، وأنّ أعمال العباد يخلقها الله عزّوجلّ، وأنّ العباد لا يقدرون أن يخلقوا منها شيئاً.(5)
________________________________________
1. وفيات الأعيان:3/285; فهرست ابن النديم: 257. 2. الصافات: 96. 3. فاطر:3. 4. الإبانة: 20. 5. مقالات الإسلاميين: 1/321.
________________________________________
الدليل الأوّل
ما ذكره في «اللمع » وحاصله:
1.الإيمان متصف بالحسن والكمال ولكنّه متعب; والكفر متصف بالقبح، ولكنّه ملائم للقوى الحيوانية.
2. إذا أراد المؤمن أن لا يكون إيمانه متعباً مؤلماً لم يقدر على ذلك، ولو أراد الكافر أن يكون كفره على خلاف ما هو عليه، أي أن يكون مخالفاً للشهوات لم يقدر عليه.
3. كلّ فعل كما يحتاج في أصل الوجود إلى موجد، فكذلك يحتاج إليه في الصفات والخصوصيات.
4. لا يصحّ أن يكون المؤمن موجداً للإيمان، والكافر موجداً للكفر بما لهما من الخصوصيات، لأنّ كلاًّ منهما يقصدهما على غير حقيقتهما، فالكافر يقصد الكفر بما أنّه أمر حسن، ولكنّه في الحقيقة قبيح. كما أنّ المؤمن يقصد الإيمان بما أنّه غير متعب، وهو ليس كذلك، فينتج: إذا لم يكن المحدث للكفر على ما له من الوصف شخص الكافر، ولا المحدث للإيمان على حقيقته شخص المؤمن، فوجب أن يكون المحدث هو الله تعالى سبحانه.(1)
وباختصار:إنّ الإيمان في الحقيقة متعب لكونه مخالفاً للقوى النفسانية والشهوانية; والكفر قبيح باطل; ولو قصد المؤمن أن يقع الإيمان على خلاف ما وقع من كونه مؤلماً و متعباً، لم يكن له إلى ذلك من سبيل. ولو أراد الكافر أن يتحقّق الكفر في الخارج حسناً صواباً لم يقدر عليه، هذا من جانب.
ومن جانب آخر: إنَّ المؤمن يجنح إلى الإيمان بما أنّه غير مؤلم ولا متعب، والكافر يجنح إلى الكفر بما أنّه حسن حق. ولما كان واقع الإيمان والكفر على غير
________________________________________
1. عبارة اللمع غير خالية عن التعقيد والبسط الممل، وما ذكرناه في المتن ملخص مراده. راجع اللمع: 71ـ 72.
________________________________________
يلاحظ عليه:أوّلاً: أنّ توصيف الإيمان بالإتعاب والإيلام، والكفر على خلافه، إنّما يصحّ إذا قيسا إلى الإنسان الذي تتحكم به القوى الحيوانية، فلا شكّ أنّ الإيمان يجعل الإنسان محدوداً مكبوحاً جماحه أمام الشهوات واللذات; والكفر يجعل الإنسان حرّاً غير محدود في حياته، فيكون الأوّل مؤلماً متعباً، والثاني ملذاً وموافقاً للطبع.
ولكن إذا قيسا إلى الفطرة الإنسانية العلوية التي خمرت بالإيمان والتوحيد، فالأمر على العكس. فالإيمان نور و ضياء للروح،والكفر سواد وظلمة لها. ويشهد على ذلك ما ورد في الكتاب العزيز حول الإيمان والكفر والفطرة الإنسانية، ولا نطيل الكلام بذكرها،ويكفي في ذلك قوله سبحانه: (فَأَقِمْ وَجْهَكَ لِلدِّينِ حَنِيفاً فِطْرَةَ اللّهِ الّتي فَطَرَ النّاسَ عَلَيْها لا تَبْديلَ لِخَلْقِ اللّه ذلِكَ الدِّينُ القَيِّمُ) .(1)
ثانياً: لو صحّ هذا الدليل لوجب القول بأنّ شارب الماء بتخيل أنّه خمر لم يشرب شيئاً ولم يصدر منه عمل ولا فعل، لأنّه قصد شربه بعنوان أنّه خمر وكان الواقع في الحقيقة شرب الماء، فما وقع لم يقصد، وما قصد لم يقع.
ثالثاً: أنّ ما ذكره خلط بين الصفات الواقعية الحقيقية والصفات الانتزاعية، فالأُولى: كالبياض والسواد، والحرارة والبرودة، تحتاج إلى محدث كما يحتاج الموصوف بها إليه كذلك، والثانية: كالصغر والكبر المنتزعين من مقايسة شيء إلى شيء، لا تحتاج إليه، لأن ّ هذه الأوصاف من مصنوعات الذهن ومخترعاته. فالموجد يوجد نفس الجسم الكبير لا وصفه، كما أنّه يوجد
________________________________________
1. الروم: 30.
________________________________________
فالجسم الذي هو بقدر ذراع، أكبر من الجسم الذي على نصفه، والثاني أصغر منه. فالذي أوجده الفاعل إنّما هو ذات الجسمين لا وصفهما، فالموجد للجسم الكبير لا يقوم بعملين: إيجاد الجسم وإيجاد وصف الكبر فيه، وهكذا في الجسم الصغير، وإنّما ينتقل الإنسان إلى ذينك الوصفين عند المقارنة، ولولاها لم يتبادر إلى الذهن أي من الوصفين.
وعلى ذلك فالموجد للإيمان إنّما يوجد ذات الإيمان، وهكذا الموجد للكفر يوجد ذات الكفر. وأمّا كون الأوّل مؤلماً متعباً، والثاني قبيحاً مخالفاً للواقع الحقّ الذي يضاد الكفر، فلا يحتاج إلى فاعل وعلة أبداً.
وإن شئت قلت: إنّ الذي يوجد الإيمان لا يوجد إلاّ شيئاً واحداً، وهو ذاته لا شيئين: أحدهما ذاته والآخر وصفه. وهكذا الكفر لا يقوم الموجد له بعملين. وهذا أمر واضح لمن له إلمام بالقضايا الاعتبارية والانتزاعية. وعندئذلا يصح قوله: «إنّ الإيمان في نظر المؤمن حلو مع أنّه في الواقع مر والكفر في نظر الكافر صواب حسن، مع أنّه في الواقع باطل قبيح، فلا يصحّ عد المؤمن والكافر خالقين لهما، لكونهما في نظريهما على غير الوجه الذي هما عليه حسب الواقع».
والعجب أنّ الأشعري المنكر للحسن والقبح اعترف هنا بقبح الكفر وحسن الإيمان، مع أنّه ليس في منهجه أثر من الحسن والقبح العقليّين، بالكل عنده شرعيّان.
الدليل الثاني
إنّ الدليل على خلق الله تعالى حركة الاضطرار، قائم في خلق حركة الاكتساب، وذلك أنّ حركة الاضطرار إن كان الذي يدلّ على أنّ الله خلقها، حدوثها، فكذلك القصة في حركة الاكتساب، وإن كان الذي يدلّ على خلقها، حاجتها إلى مكان وزمان، فكذلك قصة حركة الاكتساب، فلماّ كان كلّ دليل يستدل به على حركة الاضطرار مخلوقة لله تعالى، يجب به القضاء على
________________________________________
وحاصله: إذا كانت الحركة الاضطرارية مخلوقة لله تعالى سبحانه لأجل حدوثها واحتياجها إلى الزمان والمكان، فلذلك لملاك موجود في الحركة الاختيارية للإنسان فيجب أن تكونا مخلوقتين له تعالى.
يلاحظ عليه: أنّ ما ذكر من القياس والمشابهة بين الحركتين لا ينتج إلاّ أنّ للحركة الاكتسابية أيضاً محدثاً وموجداً. وأمّا كون محدثه هو الله سبحانه فلا يثبته القياس، لأنّ مشاركة الحركتين في الحدوث والحاجة إلى الزمان والمكان، تقضي بأنّ الثانية مثل الأُولى في الحاجة إلى المحدث. وأمّا كون محدثهما شخصاً واحداً فهذا ممّا لا يعلم من القياس.
وأمّا نسبة الحركة الاضطرارية إلى الله سبحانه على وجه القطع واليقين، فلأجل أنّها ليست مستندة إلى الإنسان، وليست واقعة في إطار اختياره وإرادته، فيحكم باستنادها إلى الله، إذ الأمر دائر بين أن يكون الفاعل أحدهما. وأمّا الحركة الاكتسابية فلا وجه لنفي إستنادها إلى الإنسان، وتأكيد انتسابها إلى الله.
نعم لو قال أحد بمقالة الأشعري من أنّ القدرة الحادثة في العبد غير مؤثرة في وجود الفعل، لكان له أن يسند الحركتين معاً إلى الله سبحانه. ولكنّه أوّل الكلام، والاستناد إلى ذلك الأصل أشبه بكون المدّعى نفس الدليل.
إنّ المتأخرين من الأشاعرة كالرازي في محصله، و(الإيجي) في مواقفه، والتفتازاني في شرح مقاصده، والقوشجي في شرحه لتجريد الطوسي... حرّروا المسألة بصورة واضحة، واعتمدوا في إقامة البرهان عليه على غير ما اعتمد عليه الشيخ الأشعري.
أوّلاً: بحثوا عن المسألة تحت عنوان «أنّ الله قادر على كلّ المقدورات»
________________________________________
1. اللمع: 74ـ 75.
________________________________________
وعلى ذلك فالمراد من عموم قدرته هو المؤثر بالفعل من القدرة، لا القدرة الشأنية، وإن لم يستعملها; فلو قيل: إنّ قدرته سبحانه عامة، يراد أنّه هو الفاعل الخالق لكلّ شيء موجود في الخارج بلا واسطة.
ثانياً: اعتمدوا في إثبات المطلوب على الإمكان دون الحدوث، و بين الملاكين فرق واضح لا يخفى على من له أدنى إلمام بالمسائل الكلامية.
يقول الرازي: إنّ ما لأجله صحّ في البعض أن يكون مقدوراً لله تعالى هو الإمكان، لأنّ ما عداه إمّا الوجوب أو الامتناع، وهما بخلاف المقدورية، ولكن الإمكان وصف مشترك بين الممكنات، فيكون الكلّ مشتركاً في صحّة مقدوريته لله تعالى، ولو اختصت قادريته بالبعض دون البعض، افتقر إلى المخصص.(3)
يلاحظ عليه: أنّ ما ذكره صحيح،ولكنّه عاجز عن إثبات ما رامه، إذ لا شكّ أنّ جميع الموجودات الممكنة تنتهي إلى الواجب،ولا غنى لأي ممكن في ذاته وفعله عنه سبحانه، لكن فقر الممكنات وحاجتها إلى الواجب، لا يستلزم أن يكون الواجب هو السبب المباشر لكلّ ما دقّ وجلّ، ولكلّ حركة وسكون يعرضان على المادة. بل يكفي في رفع الحاجة إيجاد العوالم الإمكانية وفق نظام الأسباب والمسببات، فكلّ وجود،مسبب لما فوقه، وسبب لما دونه. وبذلك يجري الفيض منه سبحانه على نمط الأسباب العالية إلى الأسباب المتوسطة، إلى السافلة، حتى ينتهي إلى عالم الهيولي والطبيعة، فلكلّ حادث سبب،ولسببه سبب حتى ينتهي إلى الواجب عزّ اسمه; وسببية كلّ سبب وتأثير كلّ علّة
________________________________________
1. وقد يراد من «عموم قدرته تعالى»، قدرته على القبيح خلافاً للنظام حيث قال: بعدم قدرته عليه، ولكن المراد منه في المقام هو الأوّل. 2. هامش شرح المواقف لعبد الحكيم السيالكوتي. 3. المحصل: 298; شرح المواقف:8/60; شرح المقاصد:2/137.
________________________________________
وباختصار: إنّ الله سبحانه خلق الإنسان وأفاض عليه القدرة والاختيار، وهو بالقدرة المكتسبة يوجد فعله، وعليه يكون الفعل فعلاً لله سبحانه وفعلاً للعبد. أمّا الأوّل فلأنّ ذاته وقدرته مخلوقتان لله سبحانه. وأمّا الثاني فلأنّه باختياره وحريته النابعة من ذاته صرف القدرة المفاضة في مورد خاص، ولأجل ذلك يقول أهل الحقّ: إنّ لفعل العبد نسبة إلى الله ونسبة إلى العبد«والفعل فعل الله وهو فعل العبد».
الحجج الأُخرى للأشاعرة
احتج المتأخرون من الأشاعرة على كون أفعال العباد مخلوقة لله سبحانه بوجوه أُخرى نأتي ببعضها:
الأوّل: لو كان العبد موجداً لأفعال نفسه لكان عالماً بتفصيل أفعال،ه وهذا معنى قوله سبحانه: (أَلاَ يَعْلَمُ مَنْ خَلَقَ وَهُوَ اللَّطيفُ الخَبير) (1)، وبما أنّه غير لم بتفاصيل أفعاله، بشهادة أنّنا حال الحركة نفعل حركات جزئية لا نعقلها، وأنّنا نقصد الحركة من المبدأ إلى المنتهى، ولا نقصد جزئيات تلك الحركة، وجب القطع بأنّ العبد غير موجد لها.(2)
يلاحظ عليه: أنّ الإيجاد لا يستلزم العلم، فإنّ الفاعل قد يصدر عنه الفعل بمجرد الطبع، كالإحراق الصادر من النار من غير علم، فلا يلزم من نفي العلم نفي الإيجاد، والمثبتون لعلمه سبحانه لا يستدلّون عليه بالإيجاد، بل بإتقان الفعل وإحكامه. نعم الإيجاد بالاختيار لكونه مقارناً للقصد،
________________________________________
1. الملك:14. 2. الأربعون للرازي: 231 ـ 232، وشرح التجريد للقوشجي: 447 .
________________________________________
كما أنّ صانع شربة كيمياوية من عدة عناصر مختلفة، يقصد إدخال كلّ عنصر فيها على وجه التفصيل، فيلزمه العلم به تفصيلاً، وعلى ذلك يكون أصل العلم وكيفيته من الإجمال والتفصيل، تابعين لأصل القصد وكيفيته.
الثاني: لو كانت قدرة العبد صالحة للإيجاد فلو اختلفت القدرتان في المتعلّق مثل ما إذا أراد الله تعالى تسكين جسم و أراد العبد تحريكه، فإمّا أن يقع المرادان وهو محال، أو لا يقع واحد منهما، وهو أيضاً محال، لأنّه يلزم منه ارتفاع النقيضين، لأنّ الجسم لا يخلو من الحركة والسكون، أو يقع أحدهما دون الآخر، وهو أيضاً محال، لأنّ وقوع أحدهما ليس أولى من وقوع أحدهما دون الآخر، وهو أيضاً محال، لأنّ وقوع أحدهما ليس أولى من وقوع الآخر. لأنّ الله تعالى وإن كان قادراً على ما لا نهاية له، والعبد ليس كذلك، إلاّ أنّ ذلك لا يوجب التفاوت بين قدرة الله تعالى و قدرة العبد.(1)
يلاحظ عليه: أنّ هذا الدليل إنّما يجري فيما إذا كانت القدرتان متساويتين كما في البحث عن الإلهين المفروضين، فأراد أحدهما تحريك الجسم والآخر إيقافه وسكونه، لا في المقام; أعني: إذا كان أحدهما أقوى والآخر أضعف كما في المقام، ففي مثله يقع مراد الله لكون قدرته أقوى، إذ المفروض استواؤهما في الاستقلال بالتأثير، وهو لا ينافي التفاوت بالقوة والشدة.(2)
والأولى أن يقال: إنّ قدرة الله تعالى في الصورة المفروضة قدرة فعلية تامة في التأثير، وقدرة العبد قدرة شأنية غير تامة، وليست صالحة للتأثير، لأنّ من
________________________________________
1. الأربعون للرازي: 232. 2. كشف المراد: 16; شرح التجريد للقوشجي: 447.
________________________________________
الثالث: إنّ نسبة ذاته سبحانه إلى جميع الممكنات على السوية، فيلزم أن يكون الله تعالى قادراً على جميع الممكنات، وأن يكون تعالى قادراً على جميع المقدورات، وعلى جميع مقدورات العباد ـ و على هذا ـ ففعل العبد: إمّا أن يقع بمجموع القدرتين ـ أعني: قدرة الله وقدرة العبد ـ وإمّا أن لا يقع بواحدة منهما، وإمّا أن يقع بإحدى القدرتين دون الأُخرى،وهذه الأقسام الثلاثة باطلة. فوجب أن لا يكون العبد قادراً على الإيجاد والتكوين.(1)
يلاحظ عليه: أنّ الفعل يقع بمجموع القدرتين، ولا يلزم منه محال، لأنّ قدرة العبد في طول قدرة الله سبحانه، ومفاضة منه، ونسبة قدرته إلى قدرة الواجب، نسبة المعنى الحرفي إلى المعنى الاسمي، والشيء المتدلّي إلى القائم بالذات.
وصلب البرهان هو تفسير عموم قدرته لكلّ المقدورات، ومنها أفعال العباد، بتعلّق قدرته الفعلية التامة بكلّ مقدور مباشرة وبلا واسطة، ومع هذا الفرض لا يبقى مجال لإعمال قدرة العبد، غير أنّ لعموم القدرة معنيين صحيحين:
1. إنّه تعالى قادر على القبيح خلافاً للنظام، فإنّه قال: لا يقدر على القبيح.
2. إنّ كلّ ما في صفحة الوجود من الأكوان والأفعال، محققة بقدرة الله تعالى، وموجودة بحوله وقوته، لأنّ كلّ ما سواه ممكن، ولا غنى للممكن عن الواجب، لا في الذات ولا في الفعل، لكن تحقّق الشيء بقدرته يتصور على وجهين:
أ: أن يتحقّق بقدرته سبحانه مباشرة وبلا واسطة، كما هو الحال في
________________________________________
1. الأربعون للرازي: 232.
________________________________________
ب: أن يتحقّق بقدرة مفاضة منه سبحانه إلى العبد، قائمة بقدرته، وموجدة بحوله وقوته، فالفعل مقدور للعبد بلا واسطة، ومقدور لله سبحانه عن طريق القدرة التي أعطاها له، و أقدر عبده بهاعلى الفعل، فيكون الفعل فعل الله من جهة، وفعل العبد من جهة أُخرى.
وباختصار: إنّ العوالم الممكنة من عاليها إلى سافلها متساوية النسبة إلى قدرته سبحانه، فالجليل والحقير،والثقيل والخفيف عنده سواسية، لكن ليس معنى الاستواء هو قيامه تعالى بكلّ شيء مباشرة وخلع التأثير عن الأسباب والعلل، بل يعني أنّ الله سبحانه يظهر قدرته وسلطانه عن طريق خلق الأسباب، وبعث العلل نحو المسببات والمعاليل، والكلّ مخلوق له،ومظاهر قدرته وحوله، ولا حول ولا قوّة إلاّ بالله.
فالأشعري، خلع الأسباب والعلل وهي جنود الله سبحانه عن مقام التأثير والإيجاد، كما أنّ المعتزلي عزل سلطانه عن ملكه وجعل بعضاً منه في سلطان غيره، أعني : فعل العبد في سلطانه.
والحقّ الذي عليه البرهان ويصدّقه الكتاب هو كون الفعل موجوداً بقدرتين، لكن لا بقدرتين متساويتين،ولا بمنعى علّتين تامّتين، بل بمعنى كون الثانية من مظاهر القدرة الأُولى وشؤونها وجنودها:(وَمَا يَعْلَمُ جُنُودَ رَبِّكَ إِلاّ هُوَ)(1) وقد جرت سنّة الله تعالى على خلق الأشياء بأسبابها، فجعل لكلّ شيء سبباً، وللسبب سبباً، إلى أن ينتهي إليه سبحانه، والمجموع من الأسباب الطولية علّة واحدة تامة كافية لإيجاد الفعل، والتفصيل يطلب من محله، ونكتفي في المقام بكلمة عن الإمام الصادق ـ عليه السَّلام ـ : «أبى الله أن يجري الأشياء إلاّ بأسباب، فجعل لكلّ شيء سبباً، وجعل لكلّ سبب شرحاً».(2)
ثمّ إنّ للأشاعرة في مسألة «خلق الأفعال» حججاً وأدلّة، أو شبهات وتشكيكات يقف عليها وعلى أجوبتها من سبر الكتب الكلامية للمحقّق الطوسي و شرّاح التجريد، فراجع.
________________________________________
1. المدثر: 31. 2. الكافي:1/183، باب معرفة الإمام، الحديث7.
(115)
(10)أفعال العباد مخلوقة لله سبحانه
قد وقفت عند ترجمة الشيخ الأشعري على أنّه رقي كرسياً في جامع البصرة ونادى بأعلى صوته: من عرفني فقد عرفني ـ إلى أن قال ـ : كنت أقول بخلق القرآن، وأنّ الله لا تراه الأبصار، وأنّ أفعال الشر أنا أفعلها،وأنا تائب مقلع معتقد للرد على لمعتزلة.(1)
وقد ذكر في «الإبانة» في الباب الثاني: أنّه لا خالق إلاّ الله وأنّ أعمال العبد مخلوقة لله ومقدورة، كما قال: (وَاللّهُ خَلَقَكُمْ وَما تَعْمَلُونَ) (2) وأنّ العباد لا يقدرون أن يخلقوا شيئاً وهم يُخْلَقُون كما قال سبحانه: (هَلْ مِنْ خالِق غَيْرُ الله)(3).(4)
وقال في «مقالات الإسلاميين» في حكاية جملة قول أهل الحديث وأهل السنّة: وأقروا أنّه لا خالق إلاّ الله، وأنّ سيئات العباد يخلقها الله، وأنّ أعمال العباد يخلقها الله عزّوجلّ، وأنّ العباد لا يقدرون أن يخلقوا منها شيئاً.(5)
________________________________________
1. وفيات الأعيان:3/285; فهرست ابن النديم: 257. 2. الصافات: 96. 3. فاطر:3. 4. الإبانة: 20. 5. مقالات الإسلاميين: 1/321.
________________________________________
(116)
وقد استدلّ الشيخ بالأدلّة العقلية والنقلية فاكتفى من الأوّل بوجهين:الدليل الأوّل
ما ذكره في «اللمع » وحاصله:
1.الإيمان متصف بالحسن والكمال ولكنّه متعب; والكفر متصف بالقبح، ولكنّه ملائم للقوى الحيوانية.
2. إذا أراد المؤمن أن لا يكون إيمانه متعباً مؤلماً لم يقدر على ذلك، ولو أراد الكافر أن يكون كفره على خلاف ما هو عليه، أي أن يكون مخالفاً للشهوات لم يقدر عليه.
3. كلّ فعل كما يحتاج في أصل الوجود إلى موجد، فكذلك يحتاج إليه في الصفات والخصوصيات.
4. لا يصحّ أن يكون المؤمن موجداً للإيمان، والكافر موجداً للكفر بما لهما من الخصوصيات، لأنّ كلاًّ منهما يقصدهما على غير حقيقتهما، فالكافر يقصد الكفر بما أنّه أمر حسن، ولكنّه في الحقيقة قبيح. كما أنّ المؤمن يقصد الإيمان بما أنّه غير متعب، وهو ليس كذلك، فينتج: إذا لم يكن المحدث للكفر على ما له من الوصف شخص الكافر، ولا المحدث للإيمان على حقيقته شخص المؤمن، فوجب أن يكون المحدث هو الله تعالى سبحانه.(1)
وباختصار:إنّ الإيمان في الحقيقة متعب لكونه مخالفاً للقوى النفسانية والشهوانية; والكفر قبيح باطل; ولو قصد المؤمن أن يقع الإيمان على خلاف ما وقع من كونه مؤلماً و متعباً، لم يكن له إلى ذلك من سبيل. ولو أراد الكافر أن يتحقّق الكفر في الخارج حسناً صواباً لم يقدر عليه، هذا من جانب.
ومن جانب آخر: إنَّ المؤمن يجنح إلى الإيمان بما أنّه غير مؤلم ولا متعب، والكافر يجنح إلى الكفر بما أنّه حسن حق. ولما كان واقع الإيمان والكفر على غير
________________________________________
1. عبارة اللمع غير خالية عن التعقيد والبسط الممل، وما ذكرناه في المتن ملخص مراده. راجع اللمع: 71ـ 72.
________________________________________
(117)
الحقيقة التي يتصورها المؤمن والكافر، يستكشف أنّ الفاعل الحقيقي للإيمان والكفر، هو الله سبحانه. إذ لو كان الفاعل هو شخص المؤمن والكافر، وجب أن يتحقّق الإيمان والكفر على النحو الذي يريدانه، لا على الحقيقة التي هما عليها من الأوصاف والخصوصيات.يلاحظ عليه:أوّلاً: أنّ توصيف الإيمان بالإتعاب والإيلام، والكفر على خلافه، إنّما يصحّ إذا قيسا إلى الإنسان الذي تتحكم به القوى الحيوانية، فلا شكّ أنّ الإيمان يجعل الإنسان محدوداً مكبوحاً جماحه أمام الشهوات واللذات; والكفر يجعل الإنسان حرّاً غير محدود في حياته، فيكون الأوّل مؤلماً متعباً، والثاني ملذاً وموافقاً للطبع.
ولكن إذا قيسا إلى الفطرة الإنسانية العلوية التي خمرت بالإيمان والتوحيد، فالأمر على العكس. فالإيمان نور و ضياء للروح،والكفر سواد وظلمة لها. ويشهد على ذلك ما ورد في الكتاب العزيز حول الإيمان والكفر والفطرة الإنسانية، ولا نطيل الكلام بذكرها،ويكفي في ذلك قوله سبحانه: (فَأَقِمْ وَجْهَكَ لِلدِّينِ حَنِيفاً فِطْرَةَ اللّهِ الّتي فَطَرَ النّاسَ عَلَيْها لا تَبْديلَ لِخَلْقِ اللّه ذلِكَ الدِّينُ القَيِّمُ) .(1)
ثانياً: لو صحّ هذا الدليل لوجب القول بأنّ شارب الماء بتخيل أنّه خمر لم يشرب شيئاً ولم يصدر منه عمل ولا فعل، لأنّه قصد شربه بعنوان أنّه خمر وكان الواقع في الحقيقة شرب الماء، فما وقع لم يقصد، وما قصد لم يقع.
ثالثاً: أنّ ما ذكره خلط بين الصفات الواقعية الحقيقية والصفات الانتزاعية، فالأُولى: كالبياض والسواد، والحرارة والبرودة، تحتاج إلى محدث كما يحتاج الموصوف بها إليه كذلك، والثانية: كالصغر والكبر المنتزعين من مقايسة شيء إلى شيء، لا تحتاج إليه، لأن ّ هذه الأوصاف من مصنوعات الذهن ومخترعاته. فالموجد يوجد نفس الجسم الكبير لا وصفه، كما أنّه يوجد
________________________________________
1. الروم: 30.
________________________________________
(118)
ذات الصغير لا وصفه، وإنّما الذهن يقوم بعمل الانتزاع عند المقايسة.فالجسم الذي هو بقدر ذراع، أكبر من الجسم الذي على نصفه، والثاني أصغر منه. فالذي أوجده الفاعل إنّما هو ذات الجسمين لا وصفهما، فالموجد للجسم الكبير لا يقوم بعملين: إيجاد الجسم وإيجاد وصف الكبر فيه، وهكذا في الجسم الصغير، وإنّما ينتقل الإنسان إلى ذينك الوصفين عند المقارنة، ولولاها لم يتبادر إلى الذهن أي من الوصفين.
وعلى ذلك فالموجد للإيمان إنّما يوجد ذات الإيمان، وهكذا الموجد للكفر يوجد ذات الكفر. وأمّا كون الأوّل مؤلماً متعباً، والثاني قبيحاً مخالفاً للواقع الحقّ الذي يضاد الكفر، فلا يحتاج إلى فاعل وعلة أبداً.
وإن شئت قلت: إنّ الذي يوجد الإيمان لا يوجد إلاّ شيئاً واحداً، وهو ذاته لا شيئين: أحدهما ذاته والآخر وصفه. وهكذا الكفر لا يقوم الموجد له بعملين. وهذا أمر واضح لمن له إلمام بالقضايا الاعتبارية والانتزاعية. وعندئذلا يصح قوله: «إنّ الإيمان في نظر المؤمن حلو مع أنّه في الواقع مر والكفر في نظر الكافر صواب حسن، مع أنّه في الواقع باطل قبيح، فلا يصحّ عد المؤمن والكافر خالقين لهما، لكونهما في نظريهما على غير الوجه الذي هما عليه حسب الواقع».
والعجب أنّ الأشعري المنكر للحسن والقبح اعترف هنا بقبح الكفر وحسن الإيمان، مع أنّه ليس في منهجه أثر من الحسن والقبح العقليّين، بالكل عنده شرعيّان.
الدليل الثاني
إنّ الدليل على خلق الله تعالى حركة الاضطرار، قائم في خلق حركة الاكتساب، وذلك أنّ حركة الاضطرار إن كان الذي يدلّ على أنّ الله خلقها، حدوثها، فكذلك القصة في حركة الاكتساب، وإن كان الذي يدلّ على خلقها، حاجتها إلى مكان وزمان، فكذلك قصة حركة الاكتساب، فلماّ كان كلّ دليل يستدل به على حركة الاضطرار مخلوقة لله تعالى، يجب به القضاء على
________________________________________
(119)
أنّ حركة الاكتساب مخلوقة لله تعالى، وجب خلق حركة الاكتساب بمثل ما وجب به خلق حركة الاضطرار.(1)وحاصله: إذا كانت الحركة الاضطرارية مخلوقة لله تعالى سبحانه لأجل حدوثها واحتياجها إلى الزمان والمكان، فلذلك لملاك موجود في الحركة الاختيارية للإنسان فيجب أن تكونا مخلوقتين له تعالى.
يلاحظ عليه: أنّ ما ذكر من القياس والمشابهة بين الحركتين لا ينتج إلاّ أنّ للحركة الاكتسابية أيضاً محدثاً وموجداً. وأمّا كون محدثه هو الله سبحانه فلا يثبته القياس، لأنّ مشاركة الحركتين في الحدوث والحاجة إلى الزمان والمكان، تقضي بأنّ الثانية مثل الأُولى في الحاجة إلى المحدث. وأمّا كون محدثهما شخصاً واحداً فهذا ممّا لا يعلم من القياس.
وأمّا نسبة الحركة الاضطرارية إلى الله سبحانه على وجه القطع واليقين، فلأجل أنّها ليست مستندة إلى الإنسان، وليست واقعة في إطار اختياره وإرادته، فيحكم باستنادها إلى الله، إذ الأمر دائر بين أن يكون الفاعل أحدهما. وأمّا الحركة الاكتسابية فلا وجه لنفي إستنادها إلى الإنسان، وتأكيد انتسابها إلى الله.
نعم لو قال أحد بمقالة الأشعري من أنّ القدرة الحادثة في العبد غير مؤثرة في وجود الفعل، لكان له أن يسند الحركتين معاً إلى الله سبحانه. ولكنّه أوّل الكلام، والاستناد إلى ذلك الأصل أشبه بكون المدّعى نفس الدليل.
إنّ المتأخرين من الأشاعرة كالرازي في محصله، و(الإيجي) في مواقفه، والتفتازاني في شرح مقاصده، والقوشجي في شرحه لتجريد الطوسي... حرّروا المسألة بصورة واضحة، واعتمدوا في إقامة البرهان عليه على غير ما اعتمد عليه الشيخ الأشعري.
أوّلاً: بحثوا عن المسألة تحت عنوان «أنّ الله قادر على كلّ المقدورات»
________________________________________
1. اللمع: 74ـ 75.
________________________________________
(120)
أو «عموم قدرته لكلّ شيء» و أرادوا من «عموم القدرة»(1) أنّ كلّ موجود، واقع بقدرته ابتداء، وإن توقف تأثيره في البعض على شرط، كتوقف إيجاده للعرض على إيجاده لمحله، لامتناع قيامه بنفسه.(2)وعلى ذلك فالمراد من عموم قدرته هو المؤثر بالفعل من القدرة، لا القدرة الشأنية، وإن لم يستعملها; فلو قيل: إنّ قدرته سبحانه عامة، يراد أنّه هو الفاعل الخالق لكلّ شيء موجود في الخارج بلا واسطة.
ثانياً: اعتمدوا في إثبات المطلوب على الإمكان دون الحدوث، و بين الملاكين فرق واضح لا يخفى على من له أدنى إلمام بالمسائل الكلامية.
يقول الرازي: إنّ ما لأجله صحّ في البعض أن يكون مقدوراً لله تعالى هو الإمكان، لأنّ ما عداه إمّا الوجوب أو الامتناع، وهما بخلاف المقدورية، ولكن الإمكان وصف مشترك بين الممكنات، فيكون الكلّ مشتركاً في صحّة مقدوريته لله تعالى، ولو اختصت قادريته بالبعض دون البعض، افتقر إلى المخصص.(3)
يلاحظ عليه: أنّ ما ذكره صحيح،ولكنّه عاجز عن إثبات ما رامه، إذ لا شكّ أنّ جميع الموجودات الممكنة تنتهي إلى الواجب،ولا غنى لأي ممكن في ذاته وفعله عنه سبحانه، لكن فقر الممكنات وحاجتها إلى الواجب، لا يستلزم أن يكون الواجب هو السبب المباشر لكلّ ما دقّ وجلّ، ولكلّ حركة وسكون يعرضان على المادة. بل يكفي في رفع الحاجة إيجاد العوالم الإمكانية وفق نظام الأسباب والمسببات، فكلّ وجود،مسبب لما فوقه، وسبب لما دونه. وبذلك يجري الفيض منه سبحانه على نمط الأسباب العالية إلى الأسباب المتوسطة، إلى السافلة، حتى ينتهي إلى عالم الهيولي والطبيعة، فلكلّ حادث سبب،ولسببه سبب حتى ينتهي إلى الواجب عزّ اسمه; وسببية كلّ سبب وتأثير كلّ علّة
________________________________________
1. وقد يراد من «عموم قدرته تعالى»، قدرته على القبيح خلافاً للنظام حيث قال: بعدم قدرته عليه، ولكن المراد منه في المقام هو الأوّل. 2. هامش شرح المواقف لعبد الحكيم السيالكوتي. 3. المحصل: 298; شرح المواقف:8/60; شرح المقاصد:2/137.
________________________________________
(121)
متوسطة، بإذنه سبحانه وإرادته ومشيئته، و هذا هو المراد من التوحيد في الخالقية; فالخالق المستقل في خلقه، واحد. وخالقية غيره بإذنه وإقداره. وهذا المقدار من الاستناد يكفي في رفع حاجة الممكن من دون حاجة إلى أن يكون هناك استناد مباشر.وباختصار: إنّ الله سبحانه خلق الإنسان وأفاض عليه القدرة والاختيار، وهو بالقدرة المكتسبة يوجد فعله، وعليه يكون الفعل فعلاً لله سبحانه وفعلاً للعبد. أمّا الأوّل فلأنّ ذاته وقدرته مخلوقتان لله سبحانه. وأمّا الثاني فلأنّه باختياره وحريته النابعة من ذاته صرف القدرة المفاضة في مورد خاص، ولأجل ذلك يقول أهل الحقّ: إنّ لفعل العبد نسبة إلى الله ونسبة إلى العبد«والفعل فعل الله وهو فعل العبد».
الحجج الأُخرى للأشاعرة
احتج المتأخرون من الأشاعرة على كون أفعال العباد مخلوقة لله سبحانه بوجوه أُخرى نأتي ببعضها:
الأوّل: لو كان العبد موجداً لأفعال نفسه لكان عالماً بتفصيل أفعال،ه وهذا معنى قوله سبحانه: (أَلاَ يَعْلَمُ مَنْ خَلَقَ وَهُوَ اللَّطيفُ الخَبير) (1)، وبما أنّه غير لم بتفاصيل أفعاله، بشهادة أنّنا حال الحركة نفعل حركات جزئية لا نعقلها، وأنّنا نقصد الحركة من المبدأ إلى المنتهى، ولا نقصد جزئيات تلك الحركة، وجب القطع بأنّ العبد غير موجد لها.(2)
يلاحظ عليه: أنّ الإيجاد لا يستلزم العلم، فإنّ الفاعل قد يصدر عنه الفعل بمجرد الطبع، كالإحراق الصادر من النار من غير علم، فلا يلزم من نفي العلم نفي الإيجاد، والمثبتون لعلمه سبحانه لا يستدلّون عليه بالإيجاد، بل بإتقان الفعل وإحكامه. نعم الإيجاد بالاختيار لكونه مقارناً للقصد،
________________________________________
1. الملك:14. 2. الأربعون للرازي: 231 ـ 232، وشرح التجريد للقوشجي: 447 .
________________________________________
(122)
والقصد إلى الشيء لا يكون إلاّ بعد العلم به يستلزم العلم. ثمّ إنّ الفاعل لو كان قاصداً للفعل بالتفصيل، يوجده بالعلم التفصيلي، ولو كان قاصداً بالإجمال يوجده كذلك. فالفاعل للأكل والتكلّم يقصد أصل الفعل على وجه التفصيل، فيستلزم علم الفاعل به كذلك ـ و في الوقت نفسه ـ لا يقصد مضغ كلّ حبة، أو التكلّم بكلّ حرف وكلمة إلاّ إجمالاً، فيلزمه العلم بهما على وجه الإجمال.كما أنّ صانع شربة كيمياوية من عدة عناصر مختلفة، يقصد إدخال كلّ عنصر فيها على وجه التفصيل، فيلزمه العلم به تفصيلاً، وعلى ذلك يكون أصل العلم وكيفيته من الإجمال والتفصيل، تابعين لأصل القصد وكيفيته.
الثاني: لو كانت قدرة العبد صالحة للإيجاد فلو اختلفت القدرتان في المتعلّق مثل ما إذا أراد الله تعالى تسكين جسم و أراد العبد تحريكه، فإمّا أن يقع المرادان وهو محال، أو لا يقع واحد منهما، وهو أيضاً محال، لأنّه يلزم منه ارتفاع النقيضين، لأنّ الجسم لا يخلو من الحركة والسكون، أو يقع أحدهما دون الآخر، وهو أيضاً محال، لأنّ وقوع أحدهما ليس أولى من وقوع أحدهما دون الآخر، وهو أيضاً محال، لأنّ وقوع أحدهما ليس أولى من وقوع الآخر. لأنّ الله تعالى وإن كان قادراً على ما لا نهاية له، والعبد ليس كذلك، إلاّ أنّ ذلك لا يوجب التفاوت بين قدرة الله تعالى و قدرة العبد.(1)
يلاحظ عليه: أنّ هذا الدليل إنّما يجري فيما إذا كانت القدرتان متساويتين كما في البحث عن الإلهين المفروضين، فأراد أحدهما تحريك الجسم والآخر إيقافه وسكونه، لا في المقام; أعني: إذا كان أحدهما أقوى والآخر أضعف كما في المقام، ففي مثله يقع مراد الله لكون قدرته أقوى، إذ المفروض استواؤهما في الاستقلال بالتأثير، وهو لا ينافي التفاوت بالقوة والشدة.(2)
والأولى أن يقال: إنّ قدرة الله تعالى في الصورة المفروضة قدرة فعلية تامة في التأثير، وقدرة العبد قدرة شأنية غير تامة، وليست صالحة للتأثير، لأنّ من
________________________________________
1. الأربعون للرازي: 232. 2. كشف المراد: 16; شرح التجريد للقوشجي: 447.
________________________________________
(123)
شرائط القدرة الفعلية، أن لا تكون ممنوعة من ناحية بالغة كاملة، فتعلّق قدرته وإرادته بتحريك الجسم تكون مانعة عن وصول قدرة العبد إلى درجة التأثير والإيجاد، فإحدى القدرتين مطلقة، والأُخرى مشروطة.الثالث: إنّ نسبة ذاته سبحانه إلى جميع الممكنات على السوية، فيلزم أن يكون الله تعالى قادراً على جميع الممكنات، وأن يكون تعالى قادراً على جميع المقدورات، وعلى جميع مقدورات العباد ـ و على هذا ـ ففعل العبد: إمّا أن يقع بمجموع القدرتين ـ أعني: قدرة الله وقدرة العبد ـ وإمّا أن لا يقع بواحدة منهما، وإمّا أن يقع بإحدى القدرتين دون الأُخرى،وهذه الأقسام الثلاثة باطلة. فوجب أن لا يكون العبد قادراً على الإيجاد والتكوين.(1)
يلاحظ عليه: أنّ الفعل يقع بمجموع القدرتين، ولا يلزم منه محال، لأنّ قدرة العبد في طول قدرة الله سبحانه، ومفاضة منه، ونسبة قدرته إلى قدرة الواجب، نسبة المعنى الحرفي إلى المعنى الاسمي، والشيء المتدلّي إلى القائم بالذات.
وصلب البرهان هو تفسير عموم قدرته لكلّ المقدورات، ومنها أفعال العباد، بتعلّق قدرته الفعلية التامة بكلّ مقدور مباشرة وبلا واسطة، ومع هذا الفرض لا يبقى مجال لإعمال قدرة العبد، غير أنّ لعموم القدرة معنيين صحيحين:
1. إنّه تعالى قادر على القبيح خلافاً للنظام، فإنّه قال: لا يقدر على القبيح.
2. إنّ كلّ ما في صفحة الوجود من الأكوان والأفعال، محققة بقدرة الله تعالى، وموجودة بحوله وقوته، لأنّ كلّ ما سواه ممكن، ولا غنى للممكن عن الواجب، لا في الذات ولا في الفعل، لكن تحقّق الشيء بقدرته يتصور على وجهين:
أ: أن يتحقّق بقدرته سبحانه مباشرة وبلا واسطة، كما هو الحال في
________________________________________
1. الأربعون للرازي: 232.
________________________________________
(124)
الصادر الأوّل من العقول والنفوس والأنوار الملكوتية.ب: أن يتحقّق بقدرة مفاضة منه سبحانه إلى العبد، قائمة بقدرته، وموجدة بحوله وقوته، فالفعل مقدور للعبد بلا واسطة، ومقدور لله سبحانه عن طريق القدرة التي أعطاها له، و أقدر عبده بهاعلى الفعل، فيكون الفعل فعل الله من جهة، وفعل العبد من جهة أُخرى.
وباختصار: إنّ العوالم الممكنة من عاليها إلى سافلها متساوية النسبة إلى قدرته سبحانه، فالجليل والحقير،والثقيل والخفيف عنده سواسية، لكن ليس معنى الاستواء هو قيامه تعالى بكلّ شيء مباشرة وخلع التأثير عن الأسباب والعلل، بل يعني أنّ الله سبحانه يظهر قدرته وسلطانه عن طريق خلق الأسباب، وبعث العلل نحو المسببات والمعاليل، والكلّ مخلوق له،ومظاهر قدرته وحوله، ولا حول ولا قوّة إلاّ بالله.
فالأشعري، خلع الأسباب والعلل وهي جنود الله سبحانه عن مقام التأثير والإيجاد، كما أنّ المعتزلي عزل سلطانه عن ملكه وجعل بعضاً منه في سلطان غيره، أعني : فعل العبد في سلطانه.
والحقّ الذي عليه البرهان ويصدّقه الكتاب هو كون الفعل موجوداً بقدرتين، لكن لا بقدرتين متساويتين،ولا بمنعى علّتين تامّتين، بل بمعنى كون الثانية من مظاهر القدرة الأُولى وشؤونها وجنودها:(وَمَا يَعْلَمُ جُنُودَ رَبِّكَ إِلاّ هُوَ)(1) وقد جرت سنّة الله تعالى على خلق الأشياء بأسبابها، فجعل لكلّ شيء سبباً، وللسبب سبباً، إلى أن ينتهي إليه سبحانه، والمجموع من الأسباب الطولية علّة واحدة تامة كافية لإيجاد الفعل، والتفصيل يطلب من محله، ونكتفي في المقام بكلمة عن الإمام الصادق ـ عليه السَّلام ـ : «أبى الله أن يجري الأشياء إلاّ بأسباب، فجعل لكلّ شيء سبباً، وجعل لكلّ سبب شرحاً».(2)
ثمّ إنّ للأشاعرة في مسألة «خلق الأفعال» حججاً وأدلّة، أو شبهات وتشكيكات يقف عليها وعلى أجوبتها من سبر الكتب الكلامية للمحقّق الطوسي و شرّاح التجريد، فراجع.
________________________________________
1. المدثر: 31. 2. الكافي:1/183، باب معرفة الإمام، الحديث7.
التعلیقات