تاريخ الارجاء
المرجئة
منذ 13 سنةبحوث في الملل والنحل لأية الله الشيخ جعفر السبحاني ، ج 3 ، ص 77 ـ 81
________________________________________(77)
1ـ إذا كان الحسن بن محمّد الحنفيّة هو الأصل في الإرجاء فيرجع أصل الارجاء وتاريخه إلى الربع الأخير من القرن الأوّل للهجرة، وقد توفّي محمّد بن الحنفيّة والد المؤسِّس عام ثمانين أو إحدى وثمانين، عن عمر يناهز خمساً وستين سنة، وقد توفّي ولده الحسن (أصل الارجاء) عام تسعة وتسعين أو قبله أو بعده بقليل، وعليه يعود ظهور الإرجاء إلى حوالي عام سبعين من الهجرة، أو ما يقاربه. هذا التاريخ المتضافر يدلّنا على اُمور:
2ـ إنّ الحسن بن محمّد هو وليد البيت الهاشمي العريق في الولاء والمحبّة لأميرالمؤمنين وشيعته ومحبّيه وأصحابه، وعند ذاك كيف يكون مثل هذا الشخص أساساً للإرجاء بهذا المعنى، ولعلّه أظهر هذه الفكرة في بداية الأمر (وإن ندم عليه في أواخر عمره وتمنّى الموت قبل كتابة ما كتبه) لغاية توحيد الكلمة، وإيقاف الهجمة على جدّه أمير المؤمنين ـ عليه السلام ـ حيث كان الخطباء و وعّاظ السلاطين يسبّونه على صهوات المنابر أعواماً مديدة، فأراد وليد البيت الهاشمي إيقاف السبّ بهذه الفكرة، وإلاّ فمن البعيد جدّاً أن لا يطّلع الحسن بن الحنفيّة على انحراف النّاكثين والقاسطين والمارقين الّذين ابتزّوا أمر الخلافة، وتطلّعوا إلى أمر، هم أقصر منه فحاول لنيل غايته بالقول بأنّا نتكلّم في الشيخين ولا نتكلّم في غيرهما ممّن جاءوا بعدهما بشيء من المدح والقدح.
والرجل وإن كان حسن النيّة لكنّه كان سيّىء العمل لما ترتّبت على هذا العمل من التوالي الفاسدة، ولعلّ ندامته في آخر العمر لأجل ما رأى من المفاسد الّتي ترتّبت
________________________________________
(78)
على هذه الفكرة.3ـ لو كان الحسن بن محمّد بن الحنفيّة هو الأصل في الإرجاء، فقد عرفت تاريخ حياته وأنّه قام بزرعه في الربع الأخير من القرن الأول، وعلى ذلك لايصحّ ما نقله أحمد أمين المصري عن ابن عساكر: «أنّهم هم الشكّاك الّذين شكّوا وكانوا في المغازي، فلمّا قدموا المدينة بعد قتل عثمان وكان عهدهم بالناس وأمرهم واحد، ليس بينهم اختلاف قالوا: تركناكم وأمركم واحد ليس بينكم اختلاف، وقدمنا عليكم وأنتم مختلفون فبعضكم يقول: قتل عثمان مظلوماً، وكان أولى بالعدل أصحابه، وبعضكم يقول: كان عليّ أولى بالحقّ، وأصحابه كلّهم ثقة وعندنا مصدّق، فنحن لا نتبرّأ منهما، ولا نلعنهما، ولا نشهد عليهما، ونرجئ أمرهما إلى الله حتّى يكون الله هو الذي يحكم بينهما»(1).
يلاحظ عليه: أنّه قتل عثمان أواخر عام (35) من الهجرة، واستشهد الامام أميرالمؤمنين في شهر رمضان عام (40هـ)، ومقتضى ما ذكره الدكتور، تكوّن الإرجاء في العقد الرابع من القرن الأوّل. وهذا لايتّفق مع ذلك التاريخ المتضافر في أنّ أصل الإرجاء هو الحسن بن محمّد بن الحنفيّة لتأخّر عصره، وقد كان لوالده محمّد بن الحنفية يوم قتل عثمان من العمر خمس عشرة ويوم استشهد الإمام أمير المؤمنين ـ عليه السلام ـ عشرون سنة، وكان الحسن بن محمّد في أصلاب الآباء و أرحام الاُمّهات، وغاية ما يمكن أن يوجّه به هذا النقل، هو أنّ ـ الأحوال الحاضرة بعد قتل الخليفتين وقدوم المسلمين الغزاة، أوجدت أرضيّة لتكوّن هذه الفكرة، ولكنّها كانت خاملة تدور في الذاكرة، وأوّل من أظهرها و طرحها بصورة علميّة وكتب فيها رسالة هو الحسن بن محمّد ولذلك قال عمّ عثمان بن ابراهيم بن حاطب لابن أخيه:يا بنيّ: ليتخذنّ هؤلاء هذا الكلام إماماً.
4ـ وأبعد من هذا الكلام ما ذكره ذلك الكاتب حيث قال:إنّ نواة هذه الطائفة كانت موجودة في الصحابة في الصدر الأوّل، بحجّة أنّنا نرى أنّ جماعة من
________________________________________
1. فجر الاسلام: ص 279، نقلاً عن تاريخ ابن عساكر.
________________________________________
(79)
أصحاب رسول الله صلَّى الله عليه و آله و سلَّم امتنعوا أن يدخلوا في النزاع الذي كان في آخر عهد عثمان مثل «أبي بكرة» و«عبدالله بن عمر» و«عمران بن حصين» وروى أبوبكرة أنّ رسول الله صلَّى الله عليه و آله و سلَّم قال: ستكون فتن القاعد فيها خير من الماشي..»(1).5ـ قد عرفت أنّ من المحتمل أن يكون الحافز لمؤسّس هذه الفكرة، هو إيقاف الهجمة على جدّه أمير المؤمنين ـ عليه السلام ـ، ولكنّ العامل المؤثّر في نشوء هذه البذرة ونموّها هو اشتداد الدعاية من جانب الأمويين لتبرئة عثمان من الأحداث المؤلمة المنسوبة إليه، وتنزيه الناكثين ومن انضمّت إليهم من اُمّهات المؤمنين في نقض البيعة، والخروج على الإمام المفترض الطاعة، وإكثار الوقيعة في الإمام أمير المؤمنين ـ عليه السلام ـ، وقد أثّرت تلك الدّعايات والروايات الّتي كذبوا بها على لسان رسول الله صلَّى الله عليه و آله و سلَّم في بسطاء القوم وسذّاجهم بحيث أخذت تلك الأكاذيب صورة الحجاج، فلم يكن لهم بدُّ أمام هذه الدعايات من أحد أمرين: إمّا الإجتهاد، وخرق الحجب، وشهود الحقائق بعين الفكر والعقل. وإمّا الوقوف على الرأي الوسط والتوقّف عن التكلّم في حقّ هؤلاء، وإرجاء الأمر إلى الله، والفرض الأوّل كان أمراً غير ميسور لبساطة الفهم وسذاجته، فصار الثاني متعيّناً.
يقول أحد المصريين حول الدعايات الفارغة بعد عهد عثمان: «ومن هنا وهناك تألّفت سلسلة الموضوعات والخرافات والأساطير الّتي ابتلى بها المسلمون، وانتشرت بينهم التلبيسات الملتوية والشبه، فشوّهت جمال الشريعة المطهّرة، حتى أصبحت وبالاً على الدّين، وشرّاً على المسلمين، وحائلاً دون نهضتهم وتقدّمهم، وعائقاً أمام الوصول إلى كثير من الحقائق التاريخيّة والعلميّة والدينية»(2).
6ـ يعتقد الكاتب المصري «أحمد أمين» أنّ المرجئة تكوّنت، بصورة حزب سياسي لا يريد أن يغمس يده في الفتن ولايريق دماء حزب، بل ولا يحكم بتخطئة فريق
________________________________________
1. فجر الاسلام ص 280. 2. عثمان بن عفان للاُستاذ صادق إبراهيم عرجون ص 41 ، كما في الغدير ، ج 8.
________________________________________
(80)
وتصويب آخر.وما ذكره حدس لا أساس له، ولقد استنتجه ممّا نقلناه عنه سابقاً من أنّ فكرة الإرجاء ترجع إلى الغزاة القادمين إلى المدينة بعد قتل الخليفتين.. وعرفت أنّه لا ينطبق مع ما تضافر في التاريخ.
والظاهر أنّ فكرة الإرجاء نشأت في أحضان الدعايات الأمويّة، والفضائل المفتعلة لجملة من أصحاب النبي صلَّى الله عليه و آله و سلَّم فغشيت وجه الحقيقة، وعاقت البسطاء عن الخوض في الأبحاث الخطيرة، واقتحام المعارك المدلهمّة، ممّا نقم به على هؤلاء من الطامّات والأحداث وما قيل في براءتهم، فتخيّل لهم أنّ الأصلح والرأي الأوسط هو عدم الجنوح إلى جانب دون آخر. وهؤلاء وإن كانوا غير معذورين في هذا الأمر، لكنّهم ـ في زعمهم ـ أخذوا جانب الإحتياط في مقابل الناقمين.
7ـ إنّ أصل الإرجاء هو التوقّف وترك الكلام في حقّ بعض الصحابة. لكنّ هذا الأصل قد نسي في الآونة اللاحقة، وأخذ أصل آخر مكانه، بحيث لم يبق من الأصل الأوّل أثر بين المرجئة اللاحقة وفرقهم المختلفة، وهو البحث عن تحديد الإيمان والكفر، والمؤمن والكافر.
فصار تحديد الإيمان بالاقرار دون العمل، أو المعرفة القلبيّة دون القيام بالأركان، ركناً ركيناً لهذه الطائفة بحيث كلّما أطلقت المرجئة، لا يتبادر من هذه الكلمة إلاّ من تبنّى هذا المعنى.
وقد أنهاهم أبو الحسن الأشعري في «مقالات الإسلاميين» في فصل خاصّ إلى اثنتي عشرة طائفة اختلفوا في حقيقة الإيمان بعد اتّفاقهم على إبعاد العمل عن ساحته وحقيقته.
وهذا يوضح صحّة ما قلناه من أنّ الإرجاء ـ يوم تكوُّنه ـ لم يظهر بصورة حزب سياسيّ. بل ظهر بصورة منهج فكري دينيّ التجأ إليه أصحابه، خضوعاً للدعايات
________________________________________
(81)
الفارغة، وتسليماً لها، وبما أنّ الإرجاء على كلا الأصلين كان لصالح السلطة من الأمويين، كانت السلطة يومذاك تؤيّدهم لأنّ في تبنّي كل من الأصلين، صلاحهم ودعم عروشهم.فالأصل الأوّل يدعو إلى أنّ الإنسان قاصر عن تشخيص المصيب والمخطئ، بل يترك أمر المخطئين إلى الله، وهذا التسليم هو نفس ما يطلبه أصحاب السلطة، حتّى يجتنب الناس عن القضاء في يزيد الخمور، وعبد الملك السفّاك، وعامله الحجّاج بن يوسف الثقفي، ممّن عاشوا قبل الفكرة أو بعدها، وسوّدوا صحيفة تاريخهم.
والأصل الثاني يعرب عن أنّ الشهادة اللّفظية بالتوحيد أو المعرفة القلبيّة يكفي في دخول الإنسان في عداد المؤمنين، فيحرم قتاله ونضاله بل يكون نفسه وماله مصونين من الإعتداء، وهذا أيضا كان اُمنية الأمويين، إذ على ضوء ذلك، يكون يزيد الخمور والحجّاج الظلوم من المؤمنين، ويكون دمهما ومالهما مصونين من الإعتداء.
التعلیقات