أبو منصور عبد القاهر البغدادي
الشيخ جعفر السبحاني
منذ 13 سنةأبو منصور عبد القاهر البغدادي « المتوفّى ٤٢٩ هـ »
أبو منصور عبد القاهر بن طاهر بن محمّد البغدادي ، أحد العلماء البارزين في معرفة الملل والنحل ، وكتابه « الفرق بين الفرق » من الكتب المعروفة في هذا المجال ، ويعد سنداً وثيقاً لمعرفة المذاهب الإسلاميّة بعد كتاب « مقالات الإسلاميّين » للشيخ أبي الحسن الأشعري وكأنّه حذا حذوه في النقل والتقرير ، ويمتاز بحسن الضبط واستيعاب البحث ، وإتقان التبويب ، ودقّة العرض.
يعرّفه ابن خلكان بقوله : كان ماهراً في فنون عديدة خصوصاً علم الحساب ، فإنّه كان متقناً له ، وكان له فيه تآليف نافعة منها كتاب « التكملة ». وكان عارفاً بالفرائض والنحو ، وله أشعار. ونقل عن الحافظ عبد الغافر بن إسماعيل الفارسي في « سياق تاريخ نيسابور » أنّه ورد مع أبيه نيسابور وكان ذا مال وثروة ، تفقّه على أهل العلم والحديث ، ولم يكتسب بعلمه مالاً ، وصنف في العلوم وأربى على أقرانه في الفنون ، ودرس في سبعة عشر فناً ، وكان قد تفقّه على أبي إسحاق الإسفرائيني وجلس بعده للإملاء في مكانه بمسجد عقيل فأملى سنين ، واختلف إليه الأئمّة فقرأوا عليه ... وتوفّي سنة تسع وعشرين وأربعمائة بمدينة « اسفرائن » ودفن إلى جانب شيخه أبي إسحاق. (1)
وترجمه الزركلي في الأعلام وقال : عالم متقن من أئمّة الأُصول ، ولد ونشأ في بغداد ، ورحل إلى خراسان فاستقرّ بنيسابور ، وفارقها على أثر فتنة التركمان ، ومات في اسفرائين. ثمّ ذكر تصانيفه المطبوعة والمخطوطة. (2)
وترجمه « عبد الرحمن بدوي » فذكر له تسعة عشر كتاباً ، غير أنّ الواصل إلينا ما هو المطبوع وهو اثنان :
١ ـ « الفرق بين الفرق » نشر لأوّل مرّة في دار المعارف عام ١٩١٠ م ، مليئاً بالأخطاء ، ثمّ نشر بتحقيق وإشراف الشيخ محمّد زاهد الكوثري ، وأخيراً بتحقيق محمّد محيي الدين.
٢ ـ « أُصول الدين » وقد طبع لأوّل مرّة في استانبول عام ١٣٤٦ وطبع بالأُفست أخيراً في بيروت عام ١٤٠١ هـ. والكتاب يشتمل على خمسة عشر أصلاً من أُصول الدين ، وشرح كلّ أصل بخمس عشرة مسألة ، وعليه يكون الكتاب مشتملاً على مائتين وخمس وعشرين مسألة.
وإليك فهرس الأُصول الخمسة عشر التي جعلها أساساً للدين.
ذكر الأُصول الخمسة عشر
الأصل الأوّل : في بيان الحقائق والعلوم على الخصوص والعموم.
الأصل الثاني : في حدوث العالم على أقسامه من أعراضه وأجسامه.
الأصل الثالث : في معرفة صانع العالم ونعوته في ذاته.
الأصل الرابع : في معرفة صفاته القائمة بذاته.
الأصل الخامس : في معرفة أسمائه وأوصافه.
الأصل السادس : في معرفة عدله وحكمه.
الأصل السابع : في معرفة رسله وأنبيائه.
الأصل الثامن : في معرفة معجزات أنبيائه وكرامات أوليائه.
الأصل التاسع : في معرفة أركان شريعة الإسلام.
الأصل العاشر : في معرفة أحكام التكليف في الأمر والنهي والخبر.
الأصل الحادي عشر : في معرفة أحكام العباد في المعاد.
الأصل الثاني عشر : في بيان أُصول الإيمان.
الأصل الثالث عشر : في بيان أحكام الإمامة وشروط الزعامة.
الأصل الرابع عشر : في معرفة أحكام العلماء والأئمّة.
الأصل الخامس عشر : في بيان أحكام الكفر وأهل الأهواء الفجرة.
وقد ذكر ما هو الوجه لأخذ الرقم « ١٥ » ، أساساً للتقسيم فقال :
وقد جاءت في الشريعة أحكام مرتبة على خمسة عشر من العدد ، وأجمعت الأُمّة على بعضها واختلفوا في بعضها ، فمنها على اختلاف سنّ البلوغ لأنّها عند الشافعي في الذكور والإناث خمس عشرة سنة بسني العرب دون سني الروم والعجم. ومنها مدّة أكثر الحيض عند الشافعي وفقهاء المدينة خمسة عشر يوماً بلياليها. ومنها أقلّ الطهر الفاصل بين الحيضتين ، فإنّه عند أكثر الأئمّة خمسة عشر يوماً ، وهذا كلّه على أصل الشافعي وموافقيه. فأمّا على أصل أبي حنيفة وأتباعه فإنّ كلمات الأذان عندهم خمس عشرة. ومقدار مدة الإقامة التي توجب عنده إتمام الصلاة خمسة عشر يوماً ، وعند الشافعي أربعة أيّام. (3)
إلى غير ذلك من الأحكام الفقهيّة التي أكثرها محلّ خلاف بين فقهاء السنّة ، فضلاً عن الشيعة ، كأقلّ الطهر الفاصل بين الحيضتين ، فإنّه عند أكثر الأئمّة ، خمسة عشر يوماً ؛ أو أنّ كلمات الأذان عندهم خمس عشرة إلى غير ذلك ... ، وعلى فرض صحّة الأحكام الفرعيّة التي ذكرها لا صلة بين صحّتها وكون أُصول الدين الأساسيّة خمسة عشر أصلاً ، وكلّ أصل مشتملاً على خمس عشرة مسألة ، فإنّ ذلك كلّه أُمور ذوقيّة استحسنها طبعه ، وإلّا ففي وسع القارئ أن يجعل الأُصول أكثر أو أقلّ ، والمسائل كذلك.
ثمّ إنّ هذه الأُصول التي اجتمع عليها أهل السنّة ـ حسب زعم هـ جاءت في كتابه « الفرق بين الفرق » مع اختلاف يسير في التعبير والكلمات. (4)
الفرق بين الكتابين في العرض
إنّ السابر في كتاب « الفرق بين الفرق » يجد أنّ في قلمه حدة خاصّة في عرض المذاهب ، فلا يعرض المذاهب الإسلامية ـ عدا مذهب أهل السنّة ـ بصورة موضوعيّة هادئة ، بل يعرضها بعنف وهجوم ، وهذا بخلاف سيرته في كتاب « أُصول الدين ».
ويكفي في هذا ما يقوله : ولم يكن بحمد الله ومنّه في الخوارج ولا في الروافض ، ولا في الجهمية ، ولا في القدرية ، ولا في المجسّمة ولا في سائر أهل الأهواء الضالّة إمام في الفقه ، ولا إمام في رواية الحديث ، ولا إمام في اللغة والنحو ، ولا موثوق به في نقل المغازي والسير والتواريخ ، ولا إمام في الوعظ والتذكير ، ولا إمام في التأويل والتفسير ، وإنّما كان أئمّة هذه العلوم على الخصوص والعموم من أهل السنّة والجماعة ، وأهل الأهواء الضالّة إذا ردّوا الروايات الواردة عن الصحابة في أحكامهم وسيرهم ، لم يصحّ اقتداؤهم بهم متى لم يشاهدوهم ولم يقبلوا رواية أهل الرواية عنهم. (5)
أقول : ما ذكره في حقّ الروافض ـ إن أراد منه الشيعة ما عدا الغلاة ـ فقد ظلم العلم وجفا أهله ، ولو قاله عن جد فقد قاله عن قصور باعه ، ـ وإن كان مؤلّفاً في الملل والنحل ـ في التعرف على جهودهم المتواصلة وآثارهم القيمة في العلوم الإسلاميّة ، فقد شاركوا الطوائف الإسلاميّة في تدوين المعقول والمنقول ، وجمع شذرات الحديث ، وتأليف شوارد السير ، ونظم جواهر الأدب ، ونضد قواعد الفقه ، وترصيف مباحث الكلام ، وتنسيق طبقات الرجال ، وضم حلقات التفسير ، وترتيب دروس الأخلاق ، كما فيهم الفلاسفة والعلماء والساسة والحكام والكتاب والمؤلّفون ، تشهد بذلك آثارهم وحياتهم.
وعلى أيّ تقدير ، فمن لطيف شعره ما نقله ابن عساكر عنه :
يا من عدا ، ثمّ اعتدى ثم اقترف |
ثمّ انتهى ثمّ ارعوى ثم اعترف |
|
أبشر بقول الله في آياته |
« إن ينتهوا يغفر لهم ما قد سلف » (6) |
الهوامش
1. وفيات الأعيان : ٣ / ٢٠٣ برقم : ٣٩٢ ؛ تبيين كذب المفتري : ٢٥٤.
2. الأعلام للزركلي : ٤ / ١٧٣.
3. أُصول الدين : ١ ـ ٢.
4. لاحظ الفصل الثالث من فصول الباب الخامس : ص ٣٢٣ ـ ٣٢٤.
5. الفرق بين الفرق : ٢٣٢.
6. تبين كذب المفتري : ٢٥٤.
مقتبس من كتاب : [ بحوث في الملل والنحل ] / المجلّد : 2 / الصفحة : 314 ـ 318
التعلیقات