هوامش على كتاب : المرتضىٰ
السيد علي الميلاني
منذ 4 سنواتهوامش على كتاب : المرتضىٰ
سيرة أمير المؤمنين سيّدنا أبي الحسن علي بن أبي طالب رضي الله عنه وكرّم وجهه
بقلم : أبو الحسن علي الحسني الندوي
بسم الله الرحمٰن الرحيم
الحمد لله ربّ العالمين ، والصلاة والسلام على سيّدنا محمّد وآله الطاهرين ، ولعنة الله على أعدائهم أجمعين ، من الْأَوّلين والآخِرين.
وبعد :
فإنّه يصلنا بين كلّ يومٍ وآخر كتاب عن الشيعة وأئمّتها وعقائدها ، من مختلف البلدان ، الإِسلامية منها وغير الإِسلامية ، يكتبها « دكاترة » و « مشايخ » يحاولون الصدّ من انتشار التشيّع ، والوقوف أمام توجّه أبناء الفرق الْأُخرى إليه ...
وكذلك الحال في كلّ زمان ومكان .. فما خرج « منهاج السُنّة » من الشام ولا « الصواعق المحرقة » من مكّة ، ولا « التحفة الاثنا عشرية » من الهند ، ولا غير هذه الكتب في الْأَزمنة والْأَمكنة المختلفة .. إلّا لهذا السبب ...
يقول ابن حجر المكّي في مقدّمة كتابه : « سئلت قديماً في تأليف كتاب يبيّن حقيقة خلافة الصدّيق وإمارة ابن الخطّاب ، فأجبت إلى ذلك مسارعةً في خدمة هذا الجناب .. ثمّ سئلت في إقرائه في رمضان سنة 950 بالمسجد الحرام ، لكثرة الشيعة والرافضة ونحوهما الآن بمكّة المشرّفة ، أشرف بلاد الإِسلام ، فأجبت إلى ذلك رجاءً لهداية بعض من زلّ به قدمه عن أوضح المسالك » !!
وكأنّ هذا السبب الآن أقوى من أيّ وقتٍ مضى .. فما أكثر الكتب والمقالات في المجلّات .. وحتّى الْأَشرطة .. التي تُنشر ضدّ هذا المذهب على مختلف المستويات .. في هذه الْأَيّام .. لكنّها ـ في الْأَغلب ـ تكرار لِما تقوّله الْأَقدمون ، واجترار لِما لفظه الغابرون ، وتهجّمات لا يقوم بها إلّا الجاهلون .. ولا جواب لها .. إلا « السلام ».
إلّا أنّا نجد من بين تلك الكتب كتباً نادرةً يبدو أنّ مؤلّفيها شعروا بأنّ التهريج والافتراء لا يلائم روح العصر ، وأنّه لا يجدي إنْ لم يثمر العكس ..
فجاءوا يدّعون العلميّة والتحقيق ، ويتظاهرون للنبيّ وآله بالولاء والتصديق .. فكانت كتبهم بظاهرها جديرةً بالقراءة والدراسة ..
لكنّك إذا لاحظتها وجدتها لا تختلف في واقعها عن غيرها .. إلّا من ناحية الْأُسلوب ، أعني خلوصها ـ إلى حدٍّ ما ـ من السبّ والشتم ..
أمّا خلوصها من التحريف ، من الكذب ، من كتم الحقائق ، من إنكار الْأُمور المسلَّمة .. فلا ..
ولقد وقع اختياري من بين هذه الكتب المعدودة من هذا القبيل على كتيّب وضعه أحدهم حول حديث « إنّي تارك فيكم الثقلين ، كتاب الله وعترتي أهل بيتي ... » ونشرت في ردّه كتاب « حديث الثقلين : تواتره ، فقهه » ، وكتاب آخر وضعه بعضهم حول كتاب « المراجعات » وأنا مشغول بالنظر فيه ، وهذا كتاب ثالث أنا بصدد التنبيه على بعض ما فيه ، والله المستعان.
الكتاب عنوانه « المرتضى : سيرة أمير المؤمنين سيّدنا أبي الحسن عليّ ابن أبي طالب ، رضي الله عنه وكرّم وجهه » ومؤلّفه : « أبو الحسن علي الحسني الندوي » من منشورات « دار القلم للطباعة والنشر والتوزيع ، بدمشق ».
وهو في فصول عشرة :
الفصل الْأَول : عليّ بن أبي طالب في مكّة ، من الْأُسرة والولادة إلى الهجرة ، 13 ـ 35.
الفصل الثاني : عليّ في المدينة من الهجرة إلى وفاة الرسول ، 37 ـ 55.
الفصل الثالث : سيّدنا عليّ في خلافة أبي بكر ، 57 ـ 93.
الفصل الرابع : سيّدنا عليّ في خلافة عمر ، 95 ـ 114.
الفصل الخامس : سيّدنا عليّ في خلافة عثمان ، 115 ـ 136.
الفصل السادس : سيّدنا عليّ في خلافته ، 137 ـ 157.
الفصل السابع : سيّدنا عليّ إزاء الخوارج وأهل الشام إلى شهادته ، 159 ـ 174.
الفصل الثامن : سيّدنا عليّ بعد الخلافة ، 175 ـ 192.
الفصل التاسع : سيّدا شباب أهل الجنّة الحسن والحسين 193 ـ 219.
الفصل العاشر : سادة أهل البيت وأولاد عليّ ، 221 ـ 250.
فالكتاب كلّه يقع في 250 صفحة !
والمتعلّق منه بالموضوع ـ وهو سيرة المرتضى أمير المؤمنين ـ 190 صفحة فقط !!
تناولت هذا الكتاب .. وأنا مستغرب كيف تمكّن المؤلّف من أنْ يودع « سيرة المرتضى أمير المؤمنين » في 190 صفحة فقط ؟!
فوجدته يقول في المقدّمة :
« ومن هذه الشخصيّات المظلومة أو المهضومة حقّها : شخصيّة سيّدنا عليّ بن أبي طالب ، التي تراكمت عليها حجب كثيفة !! على مدى القرون والْأَجيال ، لأَسباب مذهبيّة طائفيّة ونفسيّة ، ولم ينصف لها حقّ الإِنصاف ، ولم تعرض للدارسين والباحثين ـ وحتّىٰ للمحبّين المُجِلِّين ـ في صورتها الحقيقية ، وإطارها الواسع الشامل ، وفي استعراض ـ أمين دقيق محايد ـ للعصر الذي نبغت فيه ، والْأَحداث التي عاشتها ، والمجتمع ورجاله وقادته الّذين عاصرتهم وتعاونت معهم ، والمعضلات والمصاعب التي واجهتها ، والقيم والمُثل التي تمسّكت بها أشدّ التمسّك ، والخطّة السياسيّة والإِدارية التي آثرتها ، ولم يبحث عن أسبابها ونتائجها ، ولم تقارن بنقيضها وضدّها ونتائجه ، لو فضّله وسار عليه ».
قرأت هذه الفقرة وازداد تعجّبي واستغرابي ، وخشيت أن يكون هذا المؤلّف أيضاً ممّن لم ينصف تلك الشخصية المظلومة أو المهضومة حقّها » !! بل يكون هو أيضاً من الظالمين لها والهاضمين لحقّها !!
ثم رأيته يقول :
« ولكنّي بدأت بعد ذلك أشعر ـ بشدّةٍ ـ بفراغ مثير للاستغراب والدهشة في المكتبة الإِسلامية العالمية ، فيما يختصّ بموضوع سيرة سيّدنا عليّ بن أبي طالب ، سيرةً موسّعة مؤسّسة على دراسة تاريخية جديدة واسعة ، يتخطّى فيها المؤلّف الحدود المرسومة التي قيّد فيها المؤلّفون كتاباتهم ... ».
فقلت : وهل مَلأْتَ الفراغ المثير للاستغراب والدَّهشة ، وجئتَ بـ « سيرةٍ موسّعة مؤسّسة على دراسة ... » في فصولٍ لا تبلغ المائة ورقة ؟!
وحينئذٍ عزمت على مواصلة القراءة ، لأَفهم ـ قبل كلّ شيء ـ كيف تكون المعجزة ؟! ... « سيرة موسّعة » ... « تملأ الفراغ » ... لشخصيّة « مظلومة أو مهضومة حقّها ... » « في إطارها الواسع الشامل ... » ... « في استعراضٍ أمينٍ دقيقٍ محايد ... » ... في 190 صفحة !!
* * *
وثمّة شيء آخر .. في المقدّمة .. يلفت النظر .. وهو وصفه هذا الكتاب بقوله :
« لا يكون عيالاً على ما كتب وأُلّف ، ولا على مصادر التاريخ المعدودة العرفية المعيّنة ، التي يستقي منها المؤلّفون معلوماتهم في الغالب ... ».
ثم قوله :
« إنّي التزمت في تأليف هذا الكتاب مبدأين كلّ الالتزام :
أوّلاً : أنْ أعتمد على الكتب القديمة الموثوق بها المتلقّاة بالقبول فقط.
ثانياً : التزمت الإِحالة في النقل إلى اسم الكتاب بقيد الجزء ورقم الصفحة ... ».
ولكنّك إذا ما راجعت فهرس مصادره وجدتَه يستقي معلوماته من « مصادر التاريخ المعدودة العرفيّة المعيّنة » أمثال « سيرة ابن هشام » و « البداية والنهاية » .. ويخالف ما يدّعي الالتزام به في قوله : « أعتمد على الكتب القديمة ... » فقد اعتمد كثيراً على « البداية والنهاية » و « إزالة الخفاء في سيرة الخلفاء » و « السيرة الحلبية » ونحوها من كتب المتأخّرين ، حتّى أنّه رجّح في غير موردٍ ما جاء في أحد هذه الكتب على ما روته « الكتب القديمة » كـ « تاريخ الطبري » و « سيرة ابن هشام » ... مضافاً إلى تصريحه في هامش الصفحة 9 من المقدّمة بأنّه قد « أفاد كثيراً » من كتاب « عبقرية الإِمام » للْأُستاذ عبّاس محمود العقّاد ، بعد أن وصفه بقوله : « إنّ ممّا يقتضيه الإِنصاف والاعتراف بالحقّ : إنّ خير ما كتب عن سيّدنا عليّ رضي الله عنه هو كتاب عبقرية الإِمام ... ».
* * *
وبعد :
فهذه هوامش وضعتها باختصار على أهمّ الفصول المتعلّقة من الكتاب بـ « المرتضى » تبييناً للحقائق التي أنكرها أو أغفلها ، وتنبيهاً على الْأَساليب الملتوية التي سلكها متّبعاً أثر أئمّته السابقين ، ومشيّداً لِما أسّسه أسلافه الْأُوَل .. لكنْ بدسّ السمّ في العسل ... ومن الله الهداية في القول والعمل.
* * *
الفصل الْأَوّل
عليّ بن أبي طالب في مكّة
[1] صفات أمير المؤمنين موروثة ؟!
قال في صفحة 17 :
« يحسن بنا أن نستعرض ـ في أمانةٍ تاريخيّة وحياد علمي ـ وضع الْأُسرة والسلالة ، اللتين وُلد ونشأ فيهما أمير المؤمنين عليّ بن أبي طالب ... ».
كأنّه يريد أن الخصائص التي امتاز بها أمير المؤمنين عليه السلام والصفات التي فضّلته على غيره ... إنّما هي قضايا موروثة من آبائه ، فللدم الموروث في أعضاء الْأُسرة كابراً عن كابر تأثير على أخلافها وذرّيّاتها ... فالفضل في كلّ ما كان الإِمام عليه السلام يتمتّع به من الصفات العالية في أعلى درجاتها ، كالشجاعة والبلاغة ... يعود إلى القبيلة التي كان ينتمي إليها ، والْأُسرة التي نشأ فيها ...
وكأنّ الرجل نسي ـ أو تناسي كما تقتضيهما الْأَمانة التاريخية والحياد العلمي !! ـ أنّه لم يوجد في بني هاشم ولا قريش ... من كان يداني سيّدنا المرتضى عليه السلام في شيء من الصفات التي كانت متوفّرة فيه ، وحتّى إخوته الّذين نشأوا معه وعاشوا سويّةً ... لم يبلغوا معشار ما بلغه ...
إذن ، ليست القضيّة قضيّة عشيرة وقبيلة ، أو أُسرة وبيئة ...
ثمَّ ما يقول المؤلّف في النبيّ صلّی الله عليه وآله وسلّم ؟! هل كانت صفاته التي كان عليها موروثةً من آبائه كما يقول « علم التشريح وعلم النفس وعلم الْأَخلاق وعلم الاجتماع » ـ على حدّ تعبيره ـ ؟!
إنّ حال أمير المؤمنين عليه السلام في فضائله التي ميّزته عن أبناء أُسرته حال النبيّ صلّی الله عليه وآله وسلّم ، فإنّ ذلك فضل الله يؤتيه حيث يجعل رسالته ..
[2] مات أبو طالب ولم يسلم ؟!
قال في صفحة 22 :
« مات أبو طالب في النصف من شوّال في السنة العاشرة من النبوّة ، وهو ابن بضع وثمانين سنة ، وهو العام الذي ماتت فيه خديجة زوج النبي صلّى الله عليه [وآله] وسلّم . ولم يسلم أبو طالب وهو المشهور الثابت من كتب الحديث والسيرة ، المعروف عند المسلمين قديماً وحديثاً ، وقد تأسّف على ذلك رسول الله صلّى الله عليه [وآله] وحزن له ، وذلك يدلُّ على أنّ هذا الدين دين مبدئي عقائدي ، لا يحابي فرداً ولا سلالةً على أساس نسبٍ وسلالةٍ ، أو رحم وقرابة ، ولا على حبٍّ ودفاع ، إذا لم تقرن به عقيدة صحيحة وإيمان بما جاء به الرسول ».
أقول :
أما أنّ ما زعمه هو المعروف بين المسلمين قديماً وحديثاً ، فكذب صريح ، إذ الشيعة مجمعون على إسلام سيّدنا أبي طالب عليه السلام وإيمانه ، وجماعة كبيرة من علماء الفرق الْأُخرى ، ينصّون على ذلك ويعترفون به وقد أُلّفت في إثباته الكتب قديماً وحديثاً.
وأمّا أنّه الثابت من كتب الحديث والسيرة ، فكذب آخر ، لأَنّ كتب الشيعة متّفقة على إسلامه ، وكتب غيرهم مشحونة بالْأَخبار والآثار الواضحة الدلالة على إيمانه.
وأمّا أنّ النبيّ صلّی الله عليه وآله وسلّم « قد تأسّف على ذلك » أي على عدم إسلام أبي طالب عليه السلام ، فكذب ثالث.
ولنذكر بعض الروايات الصريحة في موته مسلماً ومؤمناً عن المصادر « الموثوق بها المتلقّاة بالقبول » كما قال وذلك إلزاماً للمكابر ، وإلّا فلسنا بحاجةٍ إلى ما يروونه في مثل هذا الموضوع الثابت عندنا بالضرورة :
فمن ذلك : قول أبي طالب لعليٍّ عليه السلام لَمّا رآه يصلّي مع النبي : « أما إنّه لم يدعُك إلّا إلى خيرٍ ، فالزمه » (1).
ورووا قوله لجعفر ـ لَمّا رأى النبيّ وعليّاً عن يمينه يصلّيان ـ : « صِلْ جناحَ ابن عمّك وصلّ عن يساره » (2).
ومن ذلك : قوله مخاطباً لرسول الله صلّی الله عليه وآله وسلّم :
« والله لنْ يصلوا إليك بجمعهم |
حتى أُوسّد في التراب دفينا |
|
فٱصدع بأمرك ما عليك غضاضة |
وٱبشر بذاك وقرّ منك عيونا |
|
ودعوتني وعلمت أنّك ناصحي |
ولقد دعوتَ وكنتَ ثمَّ أمينا |
|
ولقد علمت بأنّ دين محمّد |
من خير أديان البريّة دينا » (3) |
ومن ذلك : قول في شعرٍ له في أمر الصحيفة المعروف المشهور :
« ألم تعلموا أنا وجدنا محمّداً |
رسولاً كموسى خُطَّ في أول الكتب » (4) |
ومن ذلك : ما ورد في كتب القوم بأسانيد يروون بها عن سيّدنا أبي طالب عليه السلام أنّه قال : « حدّثني محمّد ابن أخي ، وكان والله صدوقاً ، قال : قلت له : بمَ بُعثت يا محمّد ؟ قال : بصلة الْأَرحام وإقام الصلاة وإيتاء الزكاة » (5).
ومن ذلك : وصيّته ، فإنّه دعا بني عبد المطّلب فقال : « لن تزالوا بخير ما سمعتم من محمّد وما اتّبعتم أمره ، فاتّبعوه وأعينوه ترشدوا » (6).
ومن ذلك : إقراره بالشهادة قبيل وفاته ، كما ذكر علماء القوم في كتبهم ، ونكتفي هنا بكلام أبي الفداء حيث قال : « ذكر وفاة أبي طالب : توفّي في شوّال سنة عشر من النبوّة ، ولَمّا اشتدّ مرضه قال له رسول الله صلّى الله عليه [وآله] وسلّم : يا عمّ قلها ، أستحلّ لك بها الشفاعة يوم القيامة ـ يعني الشهادة ـ فقال له أبو طالب : يا ابن أخي ، لولا مخافة السبّة وأنْ تظنّ قريش إنّما قلتها جزعاً من الموت لقلتها. فلما تقارب من أبي طالب الموت جعل يحرّك شفتيه ، فأصغى إليه العبّاس بأُذنه وقال : والله يا ابن أخي لقد قال الكلمة التي أمرته أنْ يقولها. فقال رسول الله صلّى الله عليه [وآله] وسلّم : الحمد لله الذي هداك يا عمّ. هكذا روى ابن عبّاس. والمشهور (7) أنّه مات كافراً. ومن شعر أبي طالب ممّا يدلّ على أنّه كان مصدّقاً لرسول الله صلّى الله عليه [وآله] وسلّم قوله :
ودعوتني وعلمت أنّك صادقٌ |
ولقد صدقت وكنتَ ثَمَّ أمينا |
|
ولقد علمتُ بأنّ دينَ محمّد |
من خير أديان البريّة دينا |
|
والله لن يصلوا إليك بجمعهم |
حتى أُوسّد في الترب دفينا |
وكان [عمر] أبي طالب بضعاً وثمانين سنة » (8).
وقال السيّد أحمد زيني دحلان بعد نقل حديث العبّاس : « نقل الشيخ السحيمي في شرحه على شرح جوهرة التوحيد عَن الإِمام الشعراني والسبكي وجماعة : أنّ ذلك الحديث ثبت عند بعض أهل الكشف ، وصحَّ عندهم إسلامه ».
هذا ، ولا يخفى أنّه قد جاء حديث العبّاس في سيرة ابن هشام مع إضافة في آخره ، وهو أنّ النبيّ ـ لَمّا أخبره العبّاس بقول أبي طالب الكلمة التي أمرها بها ـ قال : « لم أسمع » ولكنّ الصحيح ما جاء في تاريخ أبي الفداء فإنّه عن ابن عبّاس ، ولا بُدّ وأنّه يرويه عن أبيه الذي هو صاحب القصّة ، لكنّ القوم زادوا تلك الكلمة وجعلوا يفسّرونها بما لا يخلو من اضطراب ، ففي « الروض الْأُنف » في شرح هذا الموضع : شهادة العبّاس لأَبي طالب لو أدّاها بعدما أسلم لكانت مقبولة ولم يُردّ بقوله : لم أسمع ، لأنّ الشاهد العدل إذا قال : سمعت ، وقال من هو أعدل منه : لم أسمع أُخذ بقول من أثبت السماع ، لأَنّ عدم السماع يحتمل أسباباً منعت الشاهد من السمع ، ولكنّ العبّاس شهد بذلك قبل أنْ يسلم ».
قلت :
أولاً : قد عرفت بطلانَ هذه الزيادة.
وثانياً : إنّ العبّاس في هذا الموضع مخبِرٌ وليس بشاهدٍ ، والمُخبر إنْ كان موثوقاً في إخباره يُقبل منه ، ولا يشترط فيه العدالة كما لا يشترط التعدُّد ، بل لا يشترط فيه الإِسلام ، ويشهد بذلك قبول النبيّ صلّیٰ الله عليه وآله وسلّم خبر سلمان رضوان الله عليه في الهديّة والصدقة قبل إسلامه ، وترتيب النبيّ صلّىٰ الله عليه وآله وسلّم الأثر علىٰ إخباره بأنّ الطبق المقدَّم له من الرطب صدقة فلم يأكل منه ، ثمّ إخباره مرّة أُخرىٰ عن طبق آخر قدّمه إليه بأنّه هديّة فجعل صلّىٰ الله عليه وآله وسلّم يأكل ويقول لأصحابه : كلوا ... فحينذاك أسلم سلمان.
وذلك في قضيّة معروفة رواها أحمد في المسند 5 / 438 وغيره ، واستشهد بها علماء الْأُصول في مبحث خبر الواحد ، راجع في ذلك كتاب : كشف الأسرار عن أُصول فخر الإِسلام البزدوي 2 / 685.
فيظهر أنّ السهيلي ـ علىٰ جلالته ـ نسي أو تناسىٰ قصّة سلمان التي كانت من الثبوت بحيث اعتمد عليها الْأُصوليّون في بحوثهم.
ومن ذلك : ما كان من النبيّ صلّی الله عليه وآله وسلّم من قولٍ وفعلٍ بعد وفاته ، وإيراد بعض ذلك ـ ولو باختصار ـ كافٍ في بيان المطلب وكذب المؤلّف :
1 ـ بكاؤه الشديد على فقده.
2 ـ حضوره جنازته .
3 ـ معارضته لجنازته.
4 ـ دعاؤه له بقوله : « جزاك الله عنّي خيراً ».
5 ـ أمره عليّاً بأنْ يغسّله ويكفّنه ويواريه (9).
وأخرج ابن سعد في الطبقات بسندٍ صحيح عن إسحاق بن عبدالله ، قال العبّاس : « يا رسول الله ، أترجو لأَبي طالب ؟ قال : كلّ الخير أرجو من ربّي » (10).
[3] أين كان مولد عليّ ؟!
قال في صفحة 28 :
« قال الحاكم في ترجمة حكيم بن حزام : قد تواترت الْأَخبار أنّ فاطمة بنت أسد ولدت أمير المؤمنين عليّاً في جوف الكعبة ، وولد حكيم بن حزام في الكعبة. وقال ابن أبي الحديد في شرح نهج البلاغة : اختلف في مولد عليّ عليه السلام أين كان ؟ فكثير من الشيعة يزعمون أنّه ولد في الكعبة ، والمحدّثون لا يعترفون بذلك ، ويزعمون أنّ المولود في الكعبة : حكيم بن حزام بن خويلد ابن أسد بن عبد العزّى بن قصيّ ».
أقول :
هنا نقاط :
أوّلاً : كلام الحاكم بترجمة حكيم بن حزام هو : « تواترت الْأَخبار أنّ فاطمة بنت أسد ولدت أمير المؤمنين علياً في جوف الكعبة » هذا كلامه. وليس بعده « وولد حكيم بن حزام في الكعبة » كما لا يخفى على من راجع المستدرك (11) ولعلّه من هنا لم يذكر المؤلّفُ المصدرَ الذي نقل عنه هذا الكلام !
نعم ، نقل الحاكم بترجمة حكيم بسندٍ له عن « عليّ بن غنّام العامري » أنّه وُلد حكيم بن حزام في جوف الكعبة ، لكنّ الذي يعتقده الحاكم هو الذي نصّ على تواتر الْأَخبار به ، أمّا القائل بولادة حكيم فيها وهو « عليّ بن غنّام العامري » فلم أجد له في الكتب الرجاليّة ذكراً ، فقيل : أنّ « غنّام » مصحّف « عثام » فهو أبو الحسن الكلابي المتوفّى سنة 228 (12) فإنْ كان الْأَمر كما ذكر ، خرج الرجل عن الجهالة ، إلّا أنّه لا قيمة لخبره ، لأَنّ المفروض كونه من رجال القرن الثالث ولا يدرىٰ عمّن يروي ذلك ؟!
وثانياً : نقله عن ابن أبي الحديد وكتابه « شرح نهج البلاغة » يُفيد كون المؤلّف والمؤلَّف موثوقاً به ومقبولاً عنده ، لكونه قد زعم الالتزام بالكتب الموثوق بها والمقبولة فقط.
وثالثاً : الغرض من ذكره كلام ابن أبي الحديد بعد كلام الحاكم وسكوته عليه هو التشكيك في صحّة ما نصّ عليه الحاكم ، ولكنْ كان من المناسب أن يُعارض كلام الحاكم بكلام إمامٍ من أئمّة الحديث ، لا بكلام أديبٍ مؤرّخ خلط في كتابه بين الغثّ والسمين.
ورابعاً : كلام ابن أبي الحديد مردود ، فإنّ القول بولادة أمير المؤمنين عليه السلام في الكعبة هو قول عامّة الشيعة لا كثير منهم.
وقوله : « والمحدّثون لا يعترفون بذلك » يردّه كلام الحاكم ، وأيضاً ، فقد نصّ على ولادته عليه السلام في الكعبة ، وتواتر الْأَخبار بذلك ، كثير من علماء أهل السُنّة من محدِّثين ومؤرخّين ، منهم شاه وليّ الله الدهلوي صاحب كتاب « إزالة الخفا » الذي هو من مصادر المؤلّف.
[4] إسلام عليّ عليه السلام
قال في صفحة 29 :
« ذكر ابن إسحاق : أنّ عليّ بن أبي طالب ـ رضي الله عنه ـ جاء وهما ـ أي النبيّ صلّى الله عليه [وآله] وسلّم وخديجة رضي الله عنها ـ يصلّيان ، فقال عليّ : يا محمّد ، ما هذا ؟ قال : دين الله الذي اصطفى لنفسه وبعث به رسله ، فأدعوك إلى الله وحده لا شريك له ، وإلى عبادته ، وأنْ تكفر باللات والعزّى.
فقال عليٌّ : هذا أمر لم أسمع به قبل اليوم ، فلست بقاضٍ أمراً حتّى أُحدّث به أبا طالب ، فكره رسول الله صلّى الله عليه [وآله] وسلّم أنْ يفشي عليه سرّه قبل أنْ يستعلن أمره ، فقال له : يا عليّ ، إذ لم تسلم فاكتم.
فمكث عليٌّ تلك الليلة ، ثم إنّ الله أوقع في قلب عليٍّ الإِسلام ... ».
أقول :
هذا الخبر ينقله عن ابن إسحاق ، لكنّ مصدره : البداية والنهاية لابن كثير ، ج 3 ص 24 ، والذي في سيرة ابن هشام ـ التي هي تهذيب سيرة ابن إسحاق كما هو معلوم ـ :
« ذِكْر أنّ عليَّ بن أبي طالب رضي الله عنه أوّل ذَكَرٍ أسلم. قال ابن إسحاق : ثم كان أوّل ذَكَرٍ من الناس آمن برسول الله صلّى الله عليه [وآله] وسلّم وصلّى معه وصدّق بما جاءه من الله تعالى : عليّ بن أبي طالب بن عبد المطّلب بن هاشم ، رضوان الله وسلامه عليه ، وهو يومئذٍ ابن عشر سنين.
وكان ممّا أنعم الله (به) على عليّ بن أبي طالب رضي الله عنه ، أنّه كان في حجر رسول الله صلّى الله عليه [وآله] وسلّم قبل الإِسلام.
قال ابن إسحاق : وحدّثني عبدالله بن أبي نجيح ، عن مجاهد بن جبر أبي الحجّاج ، قال : كان من نعمة الله على عليّ بن أبي طالب ، وكان ممّا صنع الله له وأراد به من الخير : أنَّ قريشاً أصابتهم أزمة شديدة ، وكان أبو طالب ذا عيال كثير ، فقال رسول الله صلّى الله عليه [وآله] وسلّم للعبّاس عمّه ـ وكان من أيسر بني هاشم ـ : يا عبّاس ، إنّ أخاك أبا طالب كثير العيال ... فأخذ رسول الله صلّى الله عليه [وآله] وسلّم عليّاً فضمّه إليه وأخذ العبّاس جعفراً فضمّه إليه ، فلم يزل عليٌّ مع رسول الله صلّى الله عليه [وآله] وسلّم حتى بعثه الله تبارك وتعالى نبيّاً ، فاتّبعه عليٌّ رضي الله عنه وآمن به وصدّقه ، ولم يزل جعفر عند العبّاس حتّى أسلم واستغنى عنه.
قال ابن إسحاق : وذكر بعض أهل العلم أنّ رسول الله صلّى الله عليه [وآله] وسلّم كان إذا حضرت الصلاة خرج إلى شعاب مكّة ، وخرج معه عليّ بن أبي طالب مستخفياً من أبيه أبي طالب ومن جميع أعمامه وسائر قومه ، فيصلّيان الصلوات فيها ، فإذا أمسيا رجعا ... ».
فالذي أورده عن « البداية والنهاية » غير موجود في سيرة ابن هشام ! والخبر الذي رواه ابن إسحاق بإسناده عن مجاهد ، أورده المؤلّف عن تاريخ الطبري بسنده عن مجاهد ! ثم قال في الهامش : « والحكاية عند محمّد بن إسحاق أيضاً » والذي جاء في السيرة لابن هشام أنّه « قال ابن إسحاق : وذكر بعض أهل العلم ... » أورده المؤلّف عن ابن إسحاق تحت عنوان « بين عليّ وأبي طالب » !!
فالملاحظ : أنّه يذكر شيئاً عن ابن إسحاق بواسطة ابن كثير الدمشقي وهو غير موجود في السيرة الهشامية ، والذي فيه لا يورده ... !!
وشيءٌ موجود عند ابن إسحاق يذكره عن الطبري ولا يورده عن ابن إسحاق ، وشيءٌ يورده عنه ولكن تحت عنوانٍ مخترَعٍ من عنده !!
والمهمُّ أنْ نقارن بين الذي في السيرة لابن هشام عن ابن إسحاق ، والذي ذكره ابن كثيرٍ عن ابن إسحاق ، ثم نسأل المؤلِّفَ عمّا دعاه إلى اعتماد نقل ابن كثير دون ما جاء في نفس سيرة ابن إسحاق ؟!
هذا ، وقد سبق ابن الْأَثير في « أُسد الغابة » ابن كثير في هذا الذي أورده معزوّاً إلى ابن إسحاق ، ولا أَستبعدُ أن يكون ابن كثير قد أخذ المطلب من « أُسد الغابة » بلا مراجعة لسيرة ابن إسحاق.
ثمّ إنّ المؤلّف بعدما رأى نفسه مضطرّاً إلى الاعتراف بأنّ عليّاً أوّل من أسلم ، قال في صفحة 30 :
« وهو ما تدلُّ عليه القرائن وطبيعة الْأَشياء ، فإنّه رضي الله عنه نشأ في أحضان رسول الله صلّى الله عليه [وآله] وسلّم ، وفي البيئة النبوية التي احتضنت الدعوة إلى الإِسلام ، وتبليغ رسالات الله إلى كافّة الْأَنام ، والخضوع لتأثيرها ـ إذا لم يكن مانع قاسر أو طبيعة منحرفة قاسية وحاشا عليّاً عن ذلك ـ شيء طبيعي ».
إذن ، كان إسلام عليٍّ عليه السلام على أثر وجوده في هذه البيئة ، والخضوع لتأثيرها شيء طبيعي ، فالفضل للبيئة التي أثّرت فيه وحملته على الخضوع ... !! هذا معنى كلامه ، ويشهد بذلك عبارته بعد هذا حيث قال :
« وقد جمع بعض المحقّقين والباحثين بين الروايات بأنّه كان أوّل النساء وأهل البيت إسلاماً خديجة أُمّ المؤمنين ، وأوّل الرجال الواعين الناضجين إسلاماً أبو بكر الصدّيق ، وأوّل الصغار والْأَحداث إسلاماً عليّ بن أبي طالب. والْأَوّل أقرب إلى القياس ، والله أعلم ».
فإسلام عليٍّ عليه السلام كان إسلام تأثّر بالبيئة ، لا إسلام نضوج !! وهنا يأتي هذا السؤال :
إذا كان إسلام عليٍّ عن تأثير البيئة ، ولم يكن عن وعيٍ ونضج ، فما تصنع بـ « حديث الإِنذار » الصريح في خلافة عليٍّ بعد النبيّ فضلاً عن صحّةِ إسلامه ؟!
فيضطرّ المؤلّف إلى التعرّض للحديث ، لكنْ باختصارٍ !! وفي الهامش !! ثم التشكيك في صحّته !! فيقول :
« وقد جاءت قصّة ضيافة بني عبد المطّلب وصنع الطعام لهم ، وقيام عليّ ابن أبي طالب بذلك على أثر نزول آية ( وَأَنذِرْ عَشِيرَتَكَ الْأَقْرَبِينَ ) ودعوة رسول الله بني عبد المطّلب إلى الإِسلام ، وردّ أبي لهب على ذلك ردّاً قبيحاً ، واستجابة عليٍّ ومؤازرته لرسول الله ، وما تكلّم به الرسول ، في بعض كتب السيرة ، وسردها ابن كثير بطولها في كتابه البداية والنهاية 3 / 39 ـ 40 ، وتكلّم في بعض رواتها ، وفيها ما يشكّك في صحّتها وضبطها ».
فأقول للمؤلّف :
إنّ قصّة يوم الإِنذار وحديث بدء الدعوة المحمّديّة من أهمّ الْأَحداث الخالدة في تاريخ الإِسلام ، ومن أسمى أيام ومواقف أمير المؤمنين في كلّ حياته الكريمة وسيرته المشرّفة .. فكيف تغفل ذكرها كما هي واردة في « الكتب القديمة الموثوق بها » كما وصفتَ تلك الكتب والتزمت بالنقل عنها ؟!
أهكذا يكتب عن سيرة « هذه الشخصية المظلومة أو المهضومة حقّها ، شخصيّة سيّدنا عليّ بن أبي طالب ، التي تراكمت عليها حجب كثيفة على مدى القرون والْأَجيال ، لأَسبابٍ مذهبية طائفيّة ونفسيّة ، ولم ينصف لها حقّ الإِنصاف » كما عرّفتها ؟!
وكيف تقول : « وقد جاءت قصّة ... في بعض كتب السيرة » والحال أنَّ الشيخ عليّ المتّقي الهندي وحده أوردها في كتابه « كنز العمّال » ـ وهذا الكتاب من المصادر التي نقلت عنها في كتابك ـ عن : أحمد بن حنبل ، والطحاوي ، وابن إسحاق ، ومحمّد بن جرير الطبري ، وابن أبي حاتم ، وابن مردويه ، وأبي نعيم ، والضياء المقدسي ؟! (13).
ثمّ إنّ المتّقي ينصُّ على أنّ ابن جرير الطبري صحّح هذا الحديث ، كما أنّ الضياء المقدسي يراه صحيحاً لأَنّه أخرجه في كتابه « المختارة » الذي التزم فيه بالصحّة ، فما بالك تركت كلّ هؤلاء وقلتَ : « وسردها ابن كثير بطولها في كتابه البداية والنهاية 3 / 39 ـ 40 ، وتكلّم في بعض رواتها ، وفيها ما يشكّك في صحّتها وضبطها » ؟!!
هذا ، ولنورد نصّ الرواية عن ابن إسحاق وابن جرير وجماعة : « عن عليٍّ ، قال : لَمّا نزلت هذه الآية على رسول الله صلّى الله عليه [وآله] وسلّم ( وَأَنذِرْ عَشِيرَتَكَ الْأَقْرَبِينَ ) دعاني رسول الله فقال : يا عليّ ، إنّ الله أمرني أن أنذر عشيرتي الْأَقربين ، فضقت بذلك ذرعاً وعرفت أنّي مهما أُناديهم بهذا الْأَمر أرى منهم ما أكره ، فصمَتُّ عليها ، حتى جاءني جبريل فقال : يا محمّد ، إنّك إنْ لم تفعل ما تؤمر به يعذّبك ربّك.
فاصنع لي صاعاً من طعام ، واجعل عليه رِجل شاة ، واجعل لنا عُسّاً من لبن ، ثم اجمع لي بني عبد المطّلب حتى أُكلّمهم وأُبلّغ ما أُمرت به.
ففعلت ما أمرني به ، ثم دعوتهم له ، وهم يومئذ أربعون رجلاً ، يزيدون رجلاً أو ينقصونه ، فيهم أعمامه : أبو طالب وحمزة والعبّاس وأبو لهب ، فلمّا وضعته تناول النبيّ جشب حزبة من اللحم ، فشقّها بأسنانه ثم ألقاها في نواحي الصحفة ثم قال : كلوا بسم الله.
فأكل القوم حتى نهلوا عنه ، ما نرى إلّا آثار أصابعهم ، والله إن كان الرجل الواحد منهم ليأكل مثل ما قدّمت لجميعهم.
ثم قال : اسقِ القوم يا عليّ ، فجئتهم بذلك العسّ ، فشربوا منه حتّى رووا جميعاً ، وأيم الله إن كان الرجل منهم ليشرب مثله.
فلمّا أراد النبيّ أن يكلّمهم بَدرَه أبو لهب إلى الكلام فقال : لقد سحركم صاحبكم. فتفرّق القوم ، ولم يكلّمهم النبيّ.
فلمّا كان الغد فقال : يا عليّ ، إنّ هذا الرجل قد سبقني إلى ما سمعت من القول ، فتفرّق القوم قبل أنْ أُكلّمهم ، فعدَّ لنا مثل الذي صنعت بالْأَمس من الطعام والشراب ، ثم اجمعهم لي.
ففعلت ثم جمعتهم. ثم دعاني بالطعام فقرّبته ففعل به كما فعل بالْأَمس ، فأكلوا وشربوا حتى نهلوا ، ثم تكلّم النبيّ فقال :
يا بني عبد المطّلب ، إنّي والله ما أعلم شابّاً في العرب جاء قومه بأفضل ما جئتكم به ، إنّي قد جئتكم بخير الدنيا والآخرة ، وقد أمرني الله أنْ أدعوكم إليه ، فأيّكم يؤازرني على أمري هذا ؟
فقلت ـ وأنا أحدثهم سنّاً ، وأرمصهم عينا ، وأعظمهم بطناً ، وأحمشهم ساقاً ـ : أنا يا نبيّ الله ، أكون وزيرك عليه فأخذ برقبتي فقال : إنّ هذا أخي ووصيّي وخليفتي فيكم ، فاسمعوا له وأطيعوا.
فقام القوم يضحكون ويقولون لأَبي طالب : قد أمرك أن تسمع وتطيع لِعَلِيّ.
ابن إسحاق ، وابن جرير ، وابن أبي حاتم ، وابن مردويه ، وأبو نعيم والبيهقي معاً في الدلائل » (14).
في هذه الرواية دلالة على :
1 ـ إنّ عليّاً عليه السلام ـ على صغر سنّه ـ كان في أعلى درجات الوعي والنضج ، ولا يقاس به أحدٌ من الّذين أسلموا من بعده ...
2 ـ إنّ عليّاً عليه السلام هو الذي صنع الطعام ـ بأمر النبيّ صلّى الله عليه وآله وسلّم ـ وهو الذي دعا القوم وأطعمهم وسقاهم ...
3 ـ إنّ عليّاً عليه السلام أخو النبيّ ووصيّه وخليفته في المسلمين .. وإنّه يجب إطاعته والتسليم له عليهم جميعاً .. منذ ذلك الحين ...
ولهذه الْأُمور ـ لا غير ـ يشكِّك بعض القوم في صحّة الخبر .. كٱبن كثير ! .. وينكر ابن تيميّة وجوده في الصحاح والمسانيد بالرغم من وجوده في مسند أحمد ! .. ويحذفه محمد حسين هيكل من كتابه في الطبعة الثانية بعد أنْ أثبته في الْأُولى ! .. ويستهين به مؤلّفنا في كتابه الذي ألّفه أداءً لحقّ المرتضى !! ..
[5] بين عليّ وأبي طالب
وهذا عنوان يقصد به الغضّ من أمير المؤمنين عليه السلام ، وقد جاء في صفحة 30 تحت هذا العنوان ما نصّه :
« قال ابن إسحاق : وذكر بعض أهل العلم أنّ رسول الله صلّى الله عليه وآله وسلّم كان إذا حضرت الصلاة خرج إلى شعاب مكّة ، وخرج معه عليّ بن أبي طالب مستخفياً من أبيه أبي طالب ... ».
أقول :
أوّلاً : كيف ينقل هذا عن ابن إسحاق ، ويعتمد عليه ، ولا ينقل عنه ـ ولا عن غيره ـ قصّة يوم الإِنذار ؟!
وثانياً : كيف يعتمد على مثل هذا الخبر المنقول عن « بعض أهل العلم » ولم يعلم من هو ؟! بل يعتمد على تكلّم ابن كثير في بعض رواة حديث يوم الإِنذار مع وروده في مسند أحمد ، وتصحيح الطبري وغيره له ؟!
الفصل الثاني
عليٌّ في المدينة
[6] المؤاخاة
جاء في الكتاب ، صفحة 39 ، تحت هذا العنوان ما نصّه :
« جاء في الطبقات الكبرى لابن سعد : آخى رسول الله صلّى الله عليه [وآله] وسلّم بين علّي بن أبي طالب وسهل بن حنيف.
وقال ابن كثير : آخى النبيّ صلّى الله عليه [وآله] وسلّم بينه وبين سهل ابن حنيف. وذكر ابن إسحاق وغيره من أهل السير والمغازي أنّ رسول الله صلّى الله عليه [وآله] وسلّم آخى بينه وبين نفسه ، وقد وردت في ذلك أحاديث كثيرة لا يصحّ شيء منها لضعف أسانيدها وركّة بعض متونها ».
أقول :
أوّلاً : إنّ من يقرأ هذا النصّ المنقول عن ابن كثير ، ابتداءً بكلمة « آخىٰ النبي » وانتهاء بكلمة « متونها » ثم ينظر إلى وضع رقم الهامش على كلمة « متونها » والإِرجاع في الهامش إلى البداية والنهاية 3 / 226 ـ 227 ، لا يفهم إلّا كون هذا الكلام لابن كثير ...
إلّا أنّا لَمّا راجعنا الجزء والصفحة المذكورتين وجدنا عنوان ابن كثير هكذا : « فصل في مؤاخاة النبي صلّی الله عليه وآله وسلّم بين المهاجرين والْأَنصار » ولم نجد فيه هذا النصّ المذكور في كتاب المؤلّف !! ... ومن شاء فليراجع ...
وثانياً : إذا كان قد « ذكر ابن إسحاق وغيره من أهل السير والمغازي أنّ رسول الله صلّى الله عليه [وآله] وسلّم آخى بينه وبين نفسه » فلماذا لم تذكر عبارة ابن إسحاق ولم تعتمد على نقله ، وأنت معتمد عليه في الموارد الْأُخرى حتّى مع الجهل برواة الخبر عنده ؟!
وثالثاً : إنّ أُخوّة أمير المؤمنين عليه السلام للنبيّ صلّی الله عليه وآله وسلّم ثابتة قبل يوم المؤاخاة ، ففي أخبار حديث يوم الإِنذار : أنّ النبيّ جعله أخاً له ...
ومن ذلك ما أخرجه أحمد في « المسند » بسندٍ صحيح ، فقد رواه عن عفّان ، ثنا أبو عوانة ، عن عثمان بن المغيرة ، عن أبي صادق ، عن ربيعة بن ناجذ ، عن عليّ رضي الله عنه ، قال : جمع رسول الله صلّى الله عليه [وآله] وسلّم ـ أو : دعا رسول الله صلّى الله عليه [وآله] وسلّم ـ بني عبد المطّلب ، فيهم رهط كلّهم يأكل الجذعة ويشرب الفرق.
قال : فصنع لهم مُدّاً من طعام ، فأكلوا حتى شبعوا. قال : وبقي الطعام كما هو كأنّه لم يُمسّ ، ثم دعا بغمر فشربوا حتى رووا ، وبقي الشراب كأنّه لم يُمسّ أو لم يُشرب . فقال : يا بني عبد المطّلب ، إنّي بُعثت إليكم خاصةً وإلى الناس بعامة ، وقد رأيتم من هذه الآية ما رأيتم : فأيّكم يبايعني على أن يكون أخي وصاحبي ؟ قال : فلم يقم إليه أحد ، قال : فقمت إليه وكنت أصغر القوم. قال : فقال : اجلس. قال ثلاث مرّات ، كلّ ذلك أقوم إليه فيقول لي : اجلس ، حتّى كان في الثالثة ضرب بيده على يدي » (15).
هذا ، ولو أردنا إيراد نصوص المؤاخاة لطال بنا المقام ، فراجع الترمذي في فضائل الإِمام عليه السلام ، حيث أخرجه عن ابن عمر وحسّنه ، وكذا الحاكم عن ابن عمر ، وجاء في الاستيعاب بترجمته عليه السلام : « وروينا من وجوه عن عليٍّ أنّه كان يقول : أنا عبدالله وأخو رسول الله ، لا يقولها أحد غيري إلّا كذّاب ».
[7] زواج عليّ بفاطمة
قال في صفحة 39 :
« وفي السنة الثانية من الهجرة زوّج رسول الله صلّى الله عليه [وآله] وسلّم بنته فاطمة عليّاً كرّم الله وجهه ، وقال رسول الله صلّى الله عليه [وآله] وسلّم لفاطمة : قد أنكحتك أحبّ أهل بيتي إليّ ، ودعا لها ، ونضح عليها من الماء ».
أقول :
نَقَل هذا عن « إزالة الخفاء » : 254 ، وهذا الكتاب من تأليف الشيخ وليّ الله الدهلوي ـ المتوفّى سنة 1176 هـ ـ ولست أدري لماذا لم ينقل عن الكتب القديمة الموثوق بها كما قال ؟!
فقد ورد في المصادر القديمة المعتبرة عندهم أنّه صلّی الله عليه وآله وسلّم قال لها حين زوّجها منه :
« زوّجتك خير أُمتي ، أعلمهم علماً ، وأفضلهم حلماً ، وأوّلهم سلماً » (16).
[8] جنايات المؤلّف على أحاديث الفضائل
هذا .. ولا يخفى على من يطالع كتاب المؤلّف جناياته على أحاديث فضائل مولانا أمير المؤمنين عليه السلام المرويّة في المصادر القديمة المعتبرة عند القوم ، فهو بالإِضافة إلى عدم ذكره كثيراً من مواقف الإِمام عليه السلام ، وإلى جنايته على حديث يوم الإِنذار ، وحديث المؤاخاة ... أغفل ذكر ما قاله النبي صلّی الله عليه وآله وسلّم في حقّه يوم الخندق ، ولم يذكر حديث الراية يوم خيبر بصورة كاملة ، وكذا حديث المنزلة الذي قاله النبيّ صلّی الله عليه وآله وسلّم لدى خروجه إلى تبوك ، ولم يأت من خبر « حجّة الوداع وخطبة غدير خمّ » بشيء حيث عنون ذلك ، إلّا أنّه قال : « فلما وصل إلى غدير خمّ خطب وذكر فيها فضل عليّ رضي الله عنه وقال : من كنت مولاه فعليٌّ مولاه ، اللّهمّ والِ من والاه ، وعاد من عاداه » !!
ثم إنّه أضاف بالنسبة إلى حديث « من كنت مولاه » :
« وكان سبب ذلك أنّ بعض الناس كانوا قد اشتكوا عليّاً وعتبوا عليه ، وتكلّم فيه بعض من كان معه بأرض اليمن ، بسبب ما كان صدر منه إليهم من المعدلة التي ظنّها بعضهم جوراً وتضييقاً وبخلاً ، والصواب كان مع عليٍّ في ذلك ».
أقول :
وهذا نفس ما يتقوّل به النواصب في هذا المقام !!
غير إنّ المؤلّف تفضّل !! فقال : « والصواب كان مع عليٍّ في ذلك » ليوهم أنّه ليس منهم !!
وعلى كلّ حالٍ ، فقد اضطرب المخالفون لأمير المؤمنين والمنكرون فضائله ومناقبه الصريحة في أفضليّته والدالّة على خلافته بعد النبي بلا فصل ... تجاه ما ورد من ذلك في كتب السُنّة ... وفي خصوص حديث الغدير ... تجد بعضهم يقدح في سنده ، وآخر يسلّم السند ويقدح في الدلالة ، وثالث يرى أن لا جدوى في شيء من ذلك فينكر وجود عليٍّ مع النبيّ في حجّة الوداع ، ورابع لَمّا وجد الحديث متواتراً ودلالته ثابتةً وأنّ وجود عليٍّ في الغدير لا ينكر ... عَمَدَ إلى دعوى أنّ الحديث وارد في قضيّةٍ خاصّة ومناسبة معيّنة ، فاضطربوا هذه المرّة في تحديد تلك القضيّة والمناسبة :
فبعضهم قال : إنّ قوماً نقموا على عليٍّ بعض أُموره ...
وبعضهم قال : إنّه وقع بينه وبين أُسامة بن زيد كلام ...
وبعضهم قال : إنّه وقع بينه وبين زيد بن حارثة كلام ، وهذا معناه ورود الحديث قبل حجّة الوداع بزمانٍ طويل ...
فلينظر المنصف !! كيف يسعى أعداء الحق وراء إنكاره ولو بارتكاب المستحيل !!
لقد كان على المؤلّف ـ الذي التزم بالنقل عن الكتب الموثوق بها المعتمدة !! وتصدّى لأن يكتب عن حسن نيّة ! سيرة شخصيةٍّ مظلومةٍ ـ أن يبذل جهداً قليلاً فيبحث عن واقع القضيّة أو يترك قوله : « وكان سبب ذلك ... » أو ينقل ـ في الأقلّ ـ ما جاء في سيرة ابن هشام التي أكثر من النقل عنها والإِرجاع إليها ، فإنّ الذي جاء فيها هكذا :
« قال ابن إسحاق : وحدّثني يحيى بن عبدالله بن عبد الرحمٰن بن أبي عمرة ، عن يزيد بن طلحة بن يزيد بن ركانة ، قال : لَمّا أقبل عليٌّ رضي الله عنه من اليمن ليلقى رسول الله صلّى الله عليه [وآله] وسلّم بمكّة ، تعجّل إلى رسول الله صلّى الله عليه [وآله] وسلّم ، واستخلف على جنده الّذين معه رجلاً من أصحابه ، فعمد ذلك الرجل فكسى كلّ رجلٍ من القوم حلّة من البزّ الذي كان مع عليٍّ رضي الله عنه ، فلمّا دنا جيشه خرج ليلقاهم فإذا عليهم الحلل ، قال : ويلك ! ما هذا ؟! قال : كسوت القوم ليتجمّلوا به إذا قدموا في الناس ، قال : ويلك ! انزع قبل أن تنتهي به إلى رسول الله صلّى الله عليه [وآله] وسلّم ، قال : فانتزع الحلل من الناس ، فردّها في البزّ. قال : وأظهر الجيش شكواه لما صنع بهم.
قال ابن إسحاق : فحدّثني عبدالله بن عبد الرحمٰن بن معمر بن حزم ، عن سليمان بن محمّد بن كعب بن عجرة ، عن عمّته زينب بنت كعب ـ وكانت عند أبي سعيد الخدري ـ عن أبي سعيد الخدري ، قال : اشتكى الناس عليّاً رضي الله عنه ، فقام رسول الله صلّى الله عليه [وآله] وسلّم فينا خطيباً ، فسمعته يقول : لا تشكوا عليّاً ، فوالله إنّه لأخشن في ذات الله. أو : في سبيل الله » (17).
فهذا هو الذي قاله رسول الله صلّی الله عليه وآله وسلّم في المناسبة التي أشار إليها المؤلّف ، حسب ما في سيرة ابن هشام ، الذي هو من أهمّ مصادره ... لا حديث الغدير ...
على أنّا لو سلّمنا صدور حديث الغدير من النبي صلّی الله عليه وآله وسلّم ، بسبب شيء من القضايا المزعومة ، فإنّ الحديث : « ألست أوْلى بكم من أنفسكم ؟ قالوا : بلى ، قال : فمن كنت مولاه فعليٌّ مولاه ، اللّهمّ وال من والاه وعاد من عاداه » وقد نصَّ غير واحدٍ من محقّقي القوم ، كالقاضي عبد الجبّار المعتزلي ـ في مقام الجواب عن الاستدلال بحديث الغدير ـ بأنّ كلّ ذلك لو صحَّ وكان الخبر خارجاً عليه ، فلم يمنع من التعلّق بظاهره وما يقتضيه لفظه ، فيجب أن يكون الكلام في ذلك دون بيان السبب الذي وجوده كعدمه.
قلت : وكيف يكون مانعاً عن التعلّق بظاهره وما يقتضيه لفظه ، والحال أنّ كبار الصحابة لم يعبأوا بالسبب ، وفهموا من الحديث ما هو ظاهر فيه ، فقال أبو بكر وعمر لعليٍّ : « بخ بخ ... » وقال حسان بن ثابت في معناه قصيدته المشهورة ، واغتاظ بعضهم من مدلوله وسأل بعذابٍ واقع للكافرين ليس له دافع ...
فلو كان كلام النبيّ صلّی الله عليه وآله وسلّم في مناسبة خاصة وبسببٍ معيّن وخطاباً لشخصٍ أو أشخاصٍ فقط ... لَما كان ذلك كلّه.
هذا موجز البيان في هذا المقام ... والتفصيل موكول إلى محلّه.
[9] وفاة الرسول
وهذا آخر عنوان من عناوين الفصل الثاني من كتابه ، وقد تطرّق هنا إلى صلاة أبي بكر ، وزعم أنّها « كانت بأمرٍ من النبيّ ، وأنّه صلّی الله عليه وآله وسلّم خرج وجلس إلى جنب أبي بكر ، فجعل أبو بكر يصلّي قائماً ورسول الله يصلّي قاعداً » !!
أقول :
قد حقّقتُ في رسالة مستقلّةٍ أنّ صلاة أبي بكر لم تكن بأمرٍ منه صلّى الله عليه وآله وسلّم ، وأنّه خرج ونحّاه عن المحراب وصلّى بالمسلمين بنفسه.
ثمّ إنّه لم يتعرّض هنا لخبر سريّة أُسامة ، وأنّه صلّی الله عليه وآله وسلّم أبقى عنده عليّاً وأمر بخروج غيره ـ وفيهم المشايخ ـ مع أُسامة !
وإن كنت في ريبٍ من قولنا هذا فهذه عبارة الحافظ ابن حجر في شرح البخاري : « وكان ممّن انتدب مع أُسامة كبار المهاجرين والأنصار ، منهم : أبو بكر وعمر وأبو عبيدة وسعد وسعيد وقتادة بن النعمان وسلمة بن أسلم ، فتكلّم في ذلك قوم ... ثمّ اشتدّ برسول الله صلّى الله عليه [وآله] وسلّم وجعه فقال : أنفذوا بعث أُسامة.
وقد روي ذلك عن الواقدي وابن سعد وابن إسحاق وابن الجوزي وابن عساكر » (18).
ثم لم يذكر مناجاة النبيّ قبيل وفاته مع عليّ عليه السلام ، وأنّه توفّي ورأسه في حجر عليٍّ !!
هذا الخبر الثابت المتّفق عليه بين المسلمين ، قالت أُمّ سلمة رضي الله عنها : « والذي أحلف به أنْ عليّ لأقرب الناس عهداً برسول الله ... فأكبَّ عليه عليٌّ ، فجعل يسارّه ويناجيه ، ثمّ قبض رسول الله صلّى الله عليه [وآله] وسلّم من يومه ذلك ، فكان أقرب الناس به عهداً » (19).
وقالت عائشة : « قال رسول الله صلّى الله عليه [وآله] وسلّم وهو في بيتها لمّا حضره الموت : ادعوا لي حبيبي ، فدعوت له أبا بكر ، فنظر إليه ثمّ وضع رأسه ، ثمّ قال : ادعوا لي حبيبي ، فدعوت له عمر ، فلمّا نظر إليه وضع رأسه. ثمّ قال : ادعوا لي حبيبي ، فقلت : ويلكم ادعوا له عليّاً فوالله ما يريد غيره. فلمّا رآه أخرج الثوب الذي كان عليه ثمّ أدخله معه ، فلم يزل محتضنه حتّى قبض ويده عليه » (20).
هذا ، ولا يخفى ما اشتمل عليه هذا الخبر من فوائد.
الفصل الثالث
سيّدنا عليّ في خلافة أبي بكر
وفي هذا الفصل الذي يبدأ بالصفحة 59 ، ويختم بالصفحة 93 ذكر مقدّمة تتعلّق بمصير الديانات الْأُخرى وانحرافها عن الصراط المستقيم والطريق الصحيح ، حتّى جاء في الصفحة 61 :
[10] شروط خلافة النبيّ ومتطلّباتها
فذكر تحت هذا العنوان ستّة أُمورٍ اعتبرها شروط الخلافة عن النبيّ صلّى الله عليه وآله وسلّم ، نلخصها فيما يلي :
1 ـ يمتاز بأنّه ظلَّ طول حياته بعد الإِسلام متمتّعاً بثقة رسول الله به وشهادته له ، واستخلافه إيّاه في القيام ببعض أركان الدين.
2 ـ يمتاز هذا الفرد بالتماسك والصمود في وجه الْأَعاصير والعواصف.
3 ـ يمتاز هذا الفرد في فهمه الدقيق للإِسلام.
4 ـ يمتاز بشدّة غيرته على أصالة هذا الدين.
5 ـ يكون دقيقاً كلّ الدقّة ، وحريصاً أشدّ الحرص في تنفيذ رغبات الرسول.
6 ـ يمتاز بالزهد في متاع الدنيا والتمتّع به.
* * *
ثم قال في صفحة 62 :
تحقيق أبي بكر هذه الشروط والمتطلّبات :
فقال :
« وقد اجتمعت هذه الصفات والشروط كلّها في سيّدنا أبي بكر رضي الله عنه ... » !
وقال في صفحة 63 :
« ونتناول مظاهر تحقيق سيّدنا أبي بكر الشروط المذكورة أعلاه بالترتيب ... ».
فشرع يشرح تحقيق أبي بكر لتلك الشروط ... حتّى الصفحة 71 !
أقول :
أولاً : كلّ هذه الصفحات التي سوّدها المؤلّف أجنبيّة عن « سيرة أمير المؤمنين عليّ بن أبي طالب ».
وثانياً : البحث عن أنّ الْأَصل والْأَساس في خلافة النبيّ صلّى الله عليه وآله وسلّم ما هو ؟ وأنّ الشروط التي يعتبر وجودها في الخليفة ما هي ؟ وأنّ الذي كان واجداً لذلك وأهلاً للخلافة من هو ؟ والبحوث الْأُخرى المتعلّقة بموضوع (الإِمامة) ... موضعها (علم الكلام) ومرجعها (كتب الإِمامة).
وثالثاً : من يراجع كتب أهل السُنّة كـ « المواقف » و « المقاصد » وشروحهما وغيرهما ... يجد الشروط المعتبرة عندهم في الخليفة أشياء أُخرى غير هذه التي اخترعها هذا المؤلّف ... فهو في كلّ ما أتى به مخالف لما قال به أئمّة مذهبه.
ورابعاً : هذه الشروط التي زعم توفّرها في أبي بكر كانت متوفّرةً بصورة أتمّ وأكمل في كثير من أصحاب رسول الله صلّی الله عليه وآله وسلّم ، فيكون كلّ واحدٍ منهم أحقّ وأَوْلى منه بالخلافة عن النبيّ.
وخامساً : هذه الشروط التي زعم توفّرها في أبي بكر كانت متوفّرة ـ في هذا الحدّ الذي ادّعاه ـ في عشراتٍ ـ إنْ لم نقل مئات ـ من أصحاب النبي صلّی الله عليه وآله وسلّم ، فما الذي قدّمه وفضّله عليهم ؟!
ويشهد بما ذكرنا قوله المشهور المتّفق عليه : « أقيلوني ، فلست بخيركم ».
وسادساً : إنْ كان يقصد اختصاص أبي بكر ـ دون غيره ـ ببعض الْأُمور ، فلذا قُدّم على غيره ، فإنّا لم نجد فيما أورده شيئاً يختصّ بأبي بكر إلّا مسألة الصلاة في مرض النبيّ صلّی الله عليه وآله وسلّم ، وقد حقّقنا هذه المسألة من قبل في رسالة خاصّة مطبوعة ، وتوصّلنا ـ على ضوء أحاديث الصحاح والمسانيد المعتبرة لدى القوم ـ إلى أنْ لا أساس لذلك من الصحّة ... ومن شاء فليرجع إلى تلك الرسالة (21).
قال في صفحة 71 :
[11] الْأَمر الشورى في الإِسلام وخلافة أبي بكر
وتحت هذا العنوان ذكر أنّ الحكومة والسيطرة كانت في الْأُمم والْأَديان السالفة وراثية وقد قضى الإِسلام على ذلك.
ولا أعلم لهذا المطلب علاقة بـ (المرتضى أمير المؤمنين) إلّا دعوى أنّ القول بإمامته بعد النبيّ صلّی الله عليه وآله وسلّم مبنيٌّ على أساس الوراثة ، وأنّه لا دليل على هذا القول ، ويشهد بهذا قوله في صفحة 73 :
« وقد قضى الإِسلام على هذين الاحتكارين الوراثيّين اللذين جنيا على الإِنسانية جناية تجلّت شواهدها ومظاهرها في تاريخ روما وإيران والهند ، وترك الْأَمر إلى المسلمين وإلى أهل الشورى وأهل العلم والإِخلاص في اختيار الخليفة ، ولذلك لم يصرّح رسول الله صلّى الله عليه [وآله] وسلّم بشيءٍ في شأن من يكون خليفته بعده ووليّ أمر المسلمين ، فإن كان ذلك فريضةً من فرائض الدين وكان لا بُدّ من التصريح به ، لَنَفّذه رسول الله صلّى الله عليه [وآله] وسلّم وصرّح به ... يقول الْأُستاذ العقّاد معلّقاً على حديث القرطاس : أمّا القول بأنّ عمر هو الذي حال بين النبيّ عليه السلام والتوصية باختيار عليٍّ للخلافة بعده ، فهو قول من السخف ... ».
أقول :
أولاً : ليست إمامة عليٍّ وأولاده بعد النبيّ صلّی الله عليه وآله وسلّم من باب الوراثة وحصر الخلافة في الْأُسرة الهاشمية ، فإن كان الغرض من هذا الكلام نسبة هذا الاعتقاد إلى شيعة أهل البيت عليهم السلام ، فهو كذب وافتراء.
وثانياً : تعتقد الشيعة أنّ جميع ما قاله النبيّ صلّی الله عليه وآله وسلّم أو فَعَلَه كان بأمرٍ من الله سبحانه ، ولكنّ المنافقين يجوّزون عليه « الهجر » !!
وثالثاً : وتعتقد أنّ النبيّ صلّی الله عليه وآله وسلّم صرّح بأشياء ـ لا بشيءٍ ـ في شأن من يكون خليفته بعده ، والتفصيل موكول إلى محلّه في الكتب الكلامية ، ونكتفي هنا بالقول بأنّ في كلّ ما قاله في حقّ عليٍّ منذ يوم الإِنذار إلى يوم الغدير دلالة على خلافته من بعده.
ورابعاً : لقد ثبت في محلّه أنّ عمر هو الذي حال دون وصيّة النبيّ صلّى الله عليه وآله وسلّم بقوله : « حسبنا كتاب الله » و « إنّ الرجل ليهجر » .. وهذا ما تؤكّده « المصادر القديمة الموثوق بها » كما وصفها المؤلّف ، ولذا لم ينقل عنها شيئاً في الباب ، والتجأ إلى نقل كلام زميله في العناد : عبّاس محمود العقّاد.
قال في صفحة 76 :
[12] مبايعة أبي بكر
« وقف المسلمون في المدينة على مفترق طرق : إمّا اتّفاق الكلمة ، وإمّا تنازع واختلاف ، وقد زاد الْأَمر تعقّداً حدوث هذا الحادث في المدينة التي كانت موطن قبيلتين عظيمتين من قحطان وهم الْأَوس والخزرج ... فلم يكن غريباً ولا غير طبيعي أن يروا لهم حقّاً في خلافة النبيّ المكّي المهاجر. وقد فطن لهذه العقدة النفسية والمحنة عمر بن الخطّاب ، فاستعجل الْأَمر ، وقد علم أنّ الأنصار يستشرفون إلى أن يكون منهم الخليفة ، فجمع المسلمين في سقيفة بني ساعدة فقام ودعا إلى بيعة أبي بكر فبايع الناس أبا بكر ، ثم كانت البيعة العامة من غدٍ بعد بيعة السقيفة في المسجد النبوي ، ولم تكن مبايعة أبي بكر مصادفة من المصادفات التي قد يحالفها التوفيق ، ومؤامرة من المؤامرات التي قد تُكَلّل بالنجاح ، وقد أجاد الكاتب الإِسلامي الشهير (في الإِنجليزية) السيّد أمير علي التعبير عن هذه الحقيقة التاريخية ، إذ قال ... ».
أقول :
أوّلاً : كلّ هذه الْأُمور لا علاقة لها بموضوع الكتاب.
وثانياً : إنّه لم ينقل هنا شيئاً عن المصادر القديمة الموثوق بها !! وإنّما ذكر كلاماً للكاتب الإِسلامي الشهير في الإِنجليزية ... !!
وثالثاً : لم يتمّ أمر البيعة لأَبي بكر بهذه البساطة والسذاجة ، فأحداث السقيفة ، وأحداث دار عليٍّ والزهراء عليهما السلام مثبتة في التاريخ ، ومذكورة في محلّها من الكتب المفصّلة.
ورابعاً : قول عمر بن الخطّاب : « كانت بيعة أبي بكر فلتةً وقى الله شرّها ، ألا ومن عاد إلى مثلها فاقتلوه » ثابت مشهور بين المسلمين ... وهو يفيد أنّ بيعته كانت مصادفةً من المصادفات إن لم تكن مؤامرةً من المؤامرات ...
قال في صفحة 81 :
[13] الحكمة في تأخير خلافة سيّدنا عليّ
« وكان من تقدير العزيز العليم أنّه لم يخلف رسول الله صلّى الله عليه [وآله] وسلّم في ولاية أمر المسلمين ، ولم يتولّ خلافته على أثر وفاته أحد من أهل بيته وأبناء الْأُسرة الهاشمية مباشرة ... فما بقيت القضية قضية أُسرية وقضيّة محسوبيّة وعصبيّة ... ».
أقول :
حال خلافة سيّدنا أمير المؤمنين عليه السلام عن النبيّ ، حال خلافة هارون عن موسى ، فهارون كان أخاً لموسى وقد جعله خليفةً له بأمر من الله ، قال تعالى ( وَقَالَ مُوسَىٰ لِأَخِيهِ هَارُونَ اخْلُفْنِي فِي قَوْمِي وَأَصْلِحْ وَلَا تَتَّبِعْ سَبِيلَ الْمُفْسِدِينَ ) وعليٌّ عليه السلام كان أخاً لرسول الله صلّی الله عليه وآله وسلّم بنصّ منه يوم الإِنذار وغيره ، وقد جعله خليفةً من بعده بأمرٍ من الله كما في حديث يوم الإِنذار كذلك وغيره من الْأَحاديث الواردة في المواقف المختلفة ، وقد قال له : أما ترضى أن تكون مني بمنزلة هارون من موسى ...
وكما أنّ قوم موسى اتّبعوا السامريّ واتّخذوا العجل من بعده وتركوا هارون ... كذلك قوم محمّد صلّی الله عليه وآله وسلّم ، وكما أنّ موسى قال لهارون : ( وَلَا تَتَّبِعْ سَبِيلَ الْمُفْسِدِينَ ) كذلك النبي قال لعليٍّ وأوصاه بأنْ لا يتّبع سبيل المفسدين ...
فإذا كان إعراض قوم موسى عن هارون وضلالتهم ... من تقدير العزيز العليم ... فكذلك إعراض هذه الْأُمّة عن عليٍّ وانقلابهم على أعقابهم ... من تقدير العزيز العليم !!
قال في صفحة 81 :
[14] المحنة الْأُولى لأَبي بكر وموقفه الصارم فيها
« وقد ثبت واتّفق عليه المحدّثون وأصحاب السيرة أنّ رسول الله صلّى الله عليه [وآله] وسلّم قال : إنّا معشر الْأَنبياء لا نورّث ، ما تركنا صدقة » وجاءت محنة دقيقة تمتحن صرامة أبي بكر ، وتفصيل القصّة هو ما رواه البخاري بسنده عن عائشة. قالت : إنّ فاطمة والعبّاس أتيا أبا بكر رضي الله عنه يلتمسان ميراثهما ... وظلّ أبو بكر على ما اعتقده ودان به وعزم على تنفيذ وصيّة رسول الله ، وظلّت السيّدة فاطمة عليها السلام على مطالبتها ، وهي إمّا لم يبلغها ما عرفه الصدّيق ، وإمّا رأت متّسعاً أو مبرّراً لخليفة رسول الله لتحقيق ما أرادته وإجابة ما طلبته ، وكلٌّ مجتهد في ذلك وله العذر والصواب. وقد جاء في مسند الإِمام أحمد بن حنبل أنّ السيّدة فاطمة قالت : فأنت وما سمعت من رسول الله أعلم. وعاشت فاطمة بعد وفاة رسول الله ستّة أشهر وهي واجدة على ذلك مهاجرة لأَبي بكر حتّى توفّيت. ويقع مثل هذا كثيراً في حياة العشائر والجماعات ، وممّا تقتضيه الطبيعة البشرية ، وما جُبلت عليه من العاطفية والحسّاسيّة والاقتناع بما عرفه الإِنسان ودان به.
ولكنْ لم يكن اختلافها في هذا الْأَمر موجدتها (22) على أبي بكر متخطّيةً للحدود الشرعية ، مخالفة لما جُبلت عليه من كرم النفس وعلوّ النظر والسماحة ، فقد روي عن عامر أنّه قال : جاء أبو بكر إلى فاطمة وقد اشتدّ مرضها فاستأذن عليها فقال لها عليٌّ : هذا أبو بكر على الباب يستأذن ، فإنْ شئت أن تأذني له.
قالت : أَوَذاك أحبّ إليك ؟ قال : نعم. فدخل فاعتذر إليها وكلّمها فرضيت عنه.
ولنختم هذا البحث بما قاله الْأُستاذ العقّاد ... ».
أقول :
أوّلاً : ما نسبه إلى النبيّ صلّی الله عليه وآله وسلّم من أنّه قال : « إنّا معشر الْأَنبياء ... » ليس ممّا ثبت واتّفق عليه المحدّثون ، بل هو شيء تفوّه به أبو بكر وحده ! ولم ينقل عن غيره من الصحابة أنّه سمعه من رسول الله ، ولم يُسمع هذا النقل حتّى من أبي بكر قبل تلك الساعة التي اخترع فيها هذا الكلام ، ولذا فقد نصّ بعض أكابر الحفّاظ كالإِمام الحافظ البارع ابن خراش على أنّه حديث موضوع على رسول الله صلّی الله عليه وآله وسلّم.
وثانياً : قد ثبت في محلّه أنّ فدكاً نحلة من رسول الله نحلها إيّاها ، وكانت فاطمة تملك فدكاً في حياة الرسول صلّی الله عليه وآله وسلّم ، ثم إنّها بعد أنْ أصرّ أبو بكر على غصب فدكٍ منها رجعت وطالبت به وبغيره بعنوان الإِرث ، واستدلّت بالكتاب والسُنّة ، فلم يخضع أبو بكر للكتاب وأبى أن يعمل بأحكامه ، فطالبت للمرّة الثالثة بعنوان الخمس .. فلمّا رأته « صارماً » في مخالفة الكتاب والسُنّة هجرته وماتت واجدةً عليه.
وثالثاً : قد ظهر بما ذكرنا سقوط احتمال أنّه لم يبلغها شيء عرفه أبو بكر ، أو أنّها طالبته بشيء لم يكن من حقّها المطالبة به ...
ورابعاً : ما نقله عن « المسند » لأحمد وأرجع إلى الجزء الْأَول ، الصفحة رقم 4 ، في سنده : « الوليد بن جميع » هو متفرّد بهذا الحديث ، وقد ذكر ابن حبّان « فحش تفرُّده ، فبطل الاحتجاج به » وقال الحاكم : « لو لم يذكره مسلم في صحيحه لكان أَوْلى . وقال الفلّاس : كان يحيى لا يحدّثنا عنه » (23).
وخامساً : لقد ناقض المؤلّف نفسه في هذا المقام غير مرّة ، فهو في حين يقول : « ظلّت السيّدة فاطمة عليها السلام على مطالبتها » ينقل الحديث عن مسند أحمد ليستفيد أنّها سكتت عن مطالبتها !
وفي الوقت الذي ينصُّ على أنّها توفّيت مهاجرةً لأَبي بكر ، ينقل حديثاً عن « الرياض النضرة » أنّه « اعتذر إليها وكلّمها فرضيت عنه » !!
وسادساً : جعله ما كان بين الصدّيقة المعصومة وبين أبي بكر من قبيل « ما يقع كثيراً في حياة العشائر والجماعات ... » إلى آخر ما قال ... هو ظلم آخر للزهراء عليها السلام ...
وسابعاً : نقله كلمات العقّاد هنا ـ كسائر الموارد ـ لا يداوي جرحاً من الجروح ...
وثامناً : إنّ الذي أتى أبا بكر مع العبّاس هو « عليٌّ » لا « فاطمة » والمؤلّف لم يورد نصّ الخبر ، فلنذكره عن صحيح البخاري ، كتاب الجهاد ، باب حكم الفيء ، عن عمر بن الخطّاب ، أنّه قال لعليٍّ والعبّاس : « فلمّا توفّي رسول الله صلّى الله عليه [وآله] وسلّم قال أبو بكر : أنا وليُّ رسول الله صلّى الله عليه [وآله] وسلّم. فجئتما تطلب ميراثك من ابن أخيك ، ويطلب هذا ميراث امرأته عن أبيها. فقال أبو بكر : قال رسول الله صلّى الله عليه [وآله] وسلّم : لا نورّث ما تركناه صدقة. فرأيتماه كاذباً آثماً غادراً خائناً ، والله يعلم أنّه لصادقٌ بارٌّ راشدٌ تابعٌ للحقّ. ثمّ توفّي أبو بكر وكنت أنا وليُّ رسول الله صلّى الله عليه [وآله] وسلّم ووليُّ أبي بكر ، فرأيتماني كاذباً آثماً غادراً خائناً ، والله يعلم أنّي لصادق بارٌّ راشد تابع للحقّ ».
هذا هو الخبر ، فهل عرفتَ لِماذا ترك ذكره !
ولا بأس أن تعلم أنّه لَمّا كان يدلّ على ما يدلّ عليه ... فقد حرّفه البخاري ، فأورده في الأبواب الْأُخرى بأشكالٍ مختلفة :
أمّا في باب فرض الخمس ، فأسقط الفقرتين « فرأيتماه ... » و « فرأيتماني ... ».
أمّا في كتاب المغازي ، فحذف فقرة : « فرأيتماه » وجعل مكانها جملة « تذكران أنّ أبا بكر فيه كما تقولان » وحذف الفقرة الثانية.
وأمّا في كتاب النفقات ، فحذف الفقرة الْأُولى وجعل مكانها جملة : « تزعمان أنّ أبا بكر كذا وكذا » وحذف الفقرة الثانية.
وأمّا في كتاب الفرائض ، باب قول النبيّ : لا نورّث ... ، فحذف الفقرتين.
وأمّا في كتاب الاعتصام ، باب ما يكره من التعمّق والتنازع ، فحذف الفقرة الْأُولى ووضع مكانها جملة : « تزعمان أنّ أبا بكر فيها كذا » وحذف الفقرة الثانية.
قال في صفحة 87 :
« توفّيت فاطمة رضي الله عنها بعد رسول الله صلّى الله عليه [وآله] وسلّم بستّة أشهر على الْأَشهر ... ودفنت ليلاً ... وولدت لعليٍّ : حسناً وحسيناً ومحسّناً وأُمّ كلثوم ، رضي الله عنها وأرضاها ».
أقول :
أوّلاً : إذا كانت على قيد الحياة بعد أبيها مدّة ستّة أشهر ، وتوفّيت مهاجرةً لأَبي بكر ، ولم تبايعه بالخلافة ، فمن بايعت ؟! ومن كان إمامها ؟! وهل كان غير عليٍّ ؟!
وثانياً : لماذا كان دفنها ليلاً ؟!
وثالثاً : أين « محسّن » الّذي ولدته لعليٍّ ؟! متى وُلد ؟! وما كان مصيره ؟!
* * *
قال في صفحة 88 :
[15] مبايعة سيّدنا عليّ
« واختلفت الْأَخبار في مبايعة عليّ متى كانت ؟ ».
فذكر حديثاً عن البيهقي ثم قال : « والمشهور أنّ عليّاً عليه السلام رأی أنْ يراعي خاطر فاطمة رضي الله عنها بعض الشيء ، فلم يبايع أبا بكر ، فلمّا ماتت رضي الله عنها بعد ستّة أشهر من وفاة أبيها بايعه ... ».
أقول :
نعم ، هذا هو المشهور ، بل هو الواقع .. كما في كتب القوم .. بل إنّ مقتضى الأدلّة المشروحة بالتفصيل على ضوء أخبار الفريقين ـ من الكتاب والسُنّة وغير ذلك ـ هو أنّ عليّاً عليه السلام خليفة رسول الله صلّى الله عليه وآله وسلّم بلا فصل ، ومراعاة خاطر فاطمة عليها السلام هو أحد الأسباب لامتناعه عن البيعة وليس السبب الوحيد. وملابسات مبايعته مسطورة في الكتب الموثوقة بها المعتمد عليها.
وعلى فرض أن يكون هذا هو السبب الوحيد لامتناعه عن البيعة ، فلا يخفى أنّ معنى ذلك أنّها لو بقيت أضعاف هذه المدّة لَما بايع.
* * *
الفصل الرابع
سيّدنا عليّ في خلافة عمر
وافتتح هذا الفصل بذكر أشياء جعلها مناقب لعمر .. فجميع ما أورده من الصفحة 97 إلى الصفحة 114 لا علاقة له بموضوع كتابه ، فلا نعلّق عليه بشيء ، وإنْ كان لنا هنا كلام كثير ... والقدر الذي له صلة بالموضوع ما ذكره في الصفحة 103 :
[16] « وكان عليّ لسيّدنا عمر ناصحاً أميناً وقاضياً في المعضلات حكيماً يفضّ المشكلات ويزيح الشبهات ، حتّى أُثر عن سيّدنا عمر أنّه قال : (لولا عليّ لهلك عمر) واشتهر في التاريخ والْأَدب ، وذهب مثلاً : (قضية ولا أبا حسنٍ لها) وروي عن النبي صلّى الله عليه [وآله] وسلّم أنّه قال : أقضاهم عليّ ، وقد استخلفه عمر عند رحيله إلى القدس ، وقد زوّجه عليّ بنته أُمّ كلثوم ، وهو دليل على إكرامه له وارتباطه به ».
أقول :
أوّلاً : الكلمات التي قالها عمر في حقّ عليٍّ إنْ دلّت على شيء فإنّها تدلّ على جهله بالْأَحكام الشرعيّة ، وتحيّره أمام المشكلات العلمية ، والقضايا الطارئة ... فكان الْأَوْلى بالمؤلّف الّذي يريد ـ كما قال في المقدّمة ـ أن يدرس سيرة أمير المؤمنين عليه السلام وما امتاز به من خصائص ومواهب دراسة تاريخية محايدة ... أن يصرّح بما قلناه ، لا أنْ يصوّر عليّاً عليه السلام كقاضٍ من قضاة حكومة عمر ... !
وثانياً : لقد حقّق غير واحد من المحقّقين خبر تزويج عليٍّ عليه السلام ابنتَه من عمر ، وظهر أنْ لا واقعية لِما ينقل في بعض الكتب حول هذا الخبر ، ولنا رسالة مفردة في هذا الموضوع وهي مطبوعة (24).
وثالثاً : هناك موارد عَلَّمَ الإِمامُ عليه السلام ـ وهو باب مدينة العلم ـ عمرَ ابن الخطّاب وجهَ الحقّ والصواب ، لئلّا تنتهي تصرّفاته عن جهل بالْأُمور إلى وهن الإِسلام وخذلان المسلمين ، وهذه حقائق لا ينكرها أحد من المسلمين.
الفصل الخامس
سيّدنا عليّ في خلافة عثمان
وفي هذا الفصل يذكر المؤلّف العناوين التالية : مبايعة عثمان ، مكانة عثمان الدينية والاجتماعية ، الفتوح في زمن عثمان واتّساع الدولة الإِسلامية ، مأثرة عثمان العظيمة الخالدة ، محنة عثمان في الخلافة ، الفتنة تبلغ ذروتها ، حصر عثمان ، شهادته !! ودور سيّدنا عليّ الرائع في حمايته ، أثر العقيدة في عثمان وسيرته وعلوّ مكانته في الإِسلام.
وأنت ترى أنْ لا شيء من هذه العناوين يرتبط بسيّدنا أمير المؤمنين عليه السلام.
ولا يخفى أنّ أكثر ما جاء في هذا الفصل فإنّما هو كلمات ينقلها المؤلّف من الْأُستاذ كرد علي ، وعبّاس محمود العقّاد ...
ونحن في غنىً ـ الآن ـ من التعرّض لما جاء في هذا الفصل بالنقد ... لأَنّ المؤلّف بصدد الدفاع عن عثمان وبني أُميّة الّذين سوّدوا وجه التاريخ ، وشوّهوا صورة الإِسلام ... والْأَشنع من هذا سعيه في الفصلين اللاحقين وراء توجيه بغي الباغين وخروج الخارجين على أمير المؤمنين عليه السلام ... والإِعراض عمّا أتى به أَوْلى من التعرّض له ، فقد كان الغرض التنبيه على دسائس المؤلّف ووساوسه ، والكشف عن مقاصده وهواجسه ...
ربّنا آمنّا بما أنزلت واتّبعنا الرسول فاكتبنا مع الشاهدين ، وصلّى الله على سيّدنا محمّد وآله الطاهرين.
الهوامش
1. رواه المؤلّف في ص 31 عن سيرة ابن هشام 1 / 246 ، وهو أيضاً في تاريخ الطبري 2 / 214 ، وسيرة ابن سيّد الناس 1 / 94 ، وفي الإِصابة 4 / 116 ، وغيرها.
2. أُسد الغابة 1 / 287.
3. البداية والنهاية 3 / 42 ، فتح الباري 7 / 153 ، السيرة الحلبية 1 / 305 ، المواهب اللدنيّة 1 / 61.
4. سيرة ابن هشام 1 / 373 ، ابن كثير 3 / 87 ، وغيرهما.
5. الإِصابة 4 / 118 ، أسنى المطالب ـ لأَحمد زيني دحلان ـ : 6 ، وغيرهما.
6. الطبقات 1 / 79.
7. أي بين المناوئين لله ولرسوله ، لكنّ المتأمّل في كلام أبي الفداء صدراً وذيلاً يحكم بأنّ هذا المؤرّخ مخالف لهذا المشهور.
8. المختصر في أخبار البشر 1 / 120.
9. الطبقات الكبرى 1 / 105 ، تاريخ ابن كثير 3 / 125 ، تاريخ بغداد 13 / 196 ، الإِصابة 4 / 116 ، تاريخ اليعقوبي 2 / 26.
10. الطبقات الكبرى 1 / 106.
11. المستدرك على الصحيحين 3 / 482.
12. انظر : مجلّة « تراثنا » العدد 26 ، الولادة في الكعبة المعظّمة فضيلة لعليٍّ عليه السلام خصّه بها ربّ البيت ، بقلم الفاضل المتتبّع شاكر شَبَع.
13. كنز العمّال 13 / 129 و 131 و 149 و 174.
14. كنز العمّال 13 / 131 ـ 133.
15. مسند أحمد 1 / 159.
16. مسند أحمد 5 / 26 ، مجمع الزوائد 9 / 101 و 114 ، الاستيعاب 3 / 1099 ، الرياض النضرة 2 / 194.
17. سيرة ابن هشام 2 / 603.
18. فتح الباري 8 / 124.
19. مسند أحمد 6 / 300 ، المستدرك 3 / 138 ، ابن عساكر 3 / 16.
20. الرياض النضرة 2 / 180 ، ابن عساكر 3 / 14 ، ذخائر العقبى : 72.
21. انظر : « تراثنا » السنة السادسة / رجب 1411 هـ ، العدد 24 ، ص 7 ـ 76.
22. كذا.
23. ميزان الاعتدال في نقد الرجال ـ للحافظ الذهبي ـ 4 / 337.
24. انظر : « تراثنا » السنة الثامنة / محرّم ـ جمادى الآخرة 1413 هـ ، العددين 30 و 31 ، ص 378 ـ 433.
مقتبس من مجلّة : « تراثنا » / العدد : 34 / الصفحة : 17 ـ 59
التعلیقات