الاستشفاع برسول الله (ص)
السيّد مرتضى العسكري
منذ 11 سنةالاستشفاع برسول الله (ص)
يستدلّ القائلون بمشروعيّة التوسّل برسول الله (ص) والاستشفاع به في كلّ زمان ، بأنّ ذلك وقع برضا من الله قبل أن يخلق النبيّ (ص) وفي حياته وبعد وفاته ، وكذلك يقع يوم القيامة. و في ما يأتي الدليل على ذلك :
أوّلاً ـ التوسّل بالنبيّ (ص) قبل أن يخلق
روى جماعة منهم الحاكم في المستدرك ، من حديث عمر بن الخطاب (رض) أنّ آدم لمّا اقترف الخطيئة قال :
يا ربّ أسألك بحقّ محمّد لمّا غفرت لي. فقال الله :
يا آدم وكيف عرفت محمّداً ولم أخلقه ؟ قال :
يا ربّ لأنّك لمّا خلقتني بيدك ، ونفخت فيّ من روحك ، رفعت رأسي ، فرأيت على قوائم العرش مكتوباً : « لا إله إلّا الله محمّد رسول الله » فعلمت أنّك لم تضف إلى اسمك إلّا أحبّ الخلق إليك. فقال الله:
صدقت يا آدم ، إنّه لأحبّ الخلق إليّ ، ادعني بحقّه فقد غفرت لك ، ولو لا محمّد ما خلقتك.
وذكره الطبراني وزاد فيه : « وهو آخر الأنبياء من ذرّيّتك » (1).
وأخرج المحدّثون والمفسّرون في تفسير الآية : ( وَلَمَّا جَاءَهُمْ كِتَابٌ مِّنْ عِندِ اللَّـهِ مُصَدِّقٌ لِّمَا مَعَهُمْ وَكَانُوا مِن قَبْلُ يَسْتَفْتِحُونَ عَلَى الَّذِينَ كَفَرُوا فَلَمَّا جَاءَهُم مَّا عَرَفُوا كَفَرُوا بِهِ فَلَعْنَةُ اللَّـهِ عَلَى الْكَافِرِينَ ) [ البقرة : 89 ] : أنّ اليهود من أهل المدينة وخيبر إذا قاتلوا من يليهم من مشركي العرب من الأوس والخزرج وغيرهما قبل أن يبعث النبيّ ، كانوا يستنصرون به عليهم ، ويستفتحون لما يجدون ذكره في التوراة ، فيدعون على الّذين كفروا ويقولون : « اللّهمّ إنّا نستنصرك بحقّ النبيّ الأميّ إلّا نصرتنا عليهم » أو يقولون : « اللّهمّ ربّنا انصرنا عليهم باسم نبيّك ... » (2) فينصرون. فلمّا جاءهم كتاب من عند الله وهو القرآن مصدّق لما معهم ، وهو التوراة والإنجيل ، وجاءهم ما عرفوا ، وهو محمّد (ص) ولم يشكّوا فيه ، كفروا به ، لأنّه لم يكن من بني إسرائيل (3).
ثانياً ـ التوسّل بالنبيّ (ص) في حياته
روى أحمد بن حنبل والترمذي وابن ماجة والبيهقي عن عثمان بن حنيف : أنّ رجلاً ضرير البصر أتى النبيّ (ص) فقال :
ادع الله أن يعافيني. قال :
إن شئت دعوت ، وإن شئت صبرت فهو خير لك. قال :
فادعه. قال :
فأمره أن يتوضّأ فيحسن وضوءه ويدعو بهذا الدعاء :
« اللهمّ إنّي أسألك وأتوجّه بنبيّك محمّد نبيّ الرحمة. يا محمّد ، إنّي توجّهت بك إلى ربّي في حاجتي لتقضى لي. اللهمّ شفّعه فيّ » (4). صحّحه البيهقي والترمذي.
ثالثاً ـ التوسّل بالنبيّ (ص) بعد وفاته
روى الطبراني في معجمه الكبير من حديث عثمان بن حنيف :
أنّ رجلاً كان يختلف إلى عثمان بن عفّان (رض) في حاجة له ، فكان لا يلتفت إليه ، ولا ينظر في حاجته ، فلقي ابن حنيف فشكا إليه ذلك. فقال عثمان بن حنيف : ائت الميضاة فتوضّأ ، ثمّ ائت المسجد فصلّ ركعتين ، ثمّ قل :
« اللّهمّ إنّي أسألك وأتوجّه إليك بنبيّنا محمّد (ص) نبيّ الرحمة.
يا محمّد إنّي أتوجّه بك إلى ربّي فتقضي حاجتي » . وتذكر حاجتك.
فانطلق الرجل فصنع ما قال له. ثمّ أتى باب عثمان بن عفّان ، فجاءه البوّاب ، فأخذ بيده. فأدخله على عثمان ، فأجلسه معه على الطنفسة فقال :
ما حاجتك ؟ فذكر حاجته فقضاها له. ثمّ قال له : ما ذكرت حاجتك حتّى كانت الساعة. وقال: ما كان لك من حاجة فاذكرها (5)
الاستشفاع بالعبّاس عمّ النبيّ (ص)
في صحيح البخاري : أنّ عمر بن الخطّاب (رض) كان إذا قحطوا استسقى بالعبّاس بن عبد المطلب فقال :
قماجة ، كتاب إقامة الصلاة والسنّة فيها ، باب ما جاء في صلاة الحاجة ح 1385 ص 441. و ابن الأثير بسنده بترجمة عثمان بن حنيف من أسد الغابة. والبيهقي برواية صاحب كتاب تحقيق النصرة عنه. تحقيق النصرة ص 114.
وأوردنا لفظ إمام الحنابلة أحمد لأن المنكرين للشفاعة من أتباع الشيخين : ابن تيميّة وابن عبد الوهاب هم من أتباع ابن حنبل.
[18] تحقيق النصرة ص 114-115، رواه عن الطبراني في معجمه الكبير.
اللّهم إنّا كنّا نتوسّل إليك بنبيّنا فتسقينا، و إنّا نتوسّل إليك بعمّ نبيّنا فاسقنا. قال: فيسقون [19] .
كان الاستشفاع بالعباس لأنّه عمّ رسول اللّه (ص) و ليس لصفة أخرى فيه.
مع وجود هذه الأحاديث من سنّة الرسول (ص) لا ينبغي أن يكون ثمّت خلاف في مسألة صفات الأنبياء، و خاصّة خاتم الرسل، المذكورة و ما فضّلهم اللّه بها و خصّهم على سائر الناس. و سنذكر في ما يأتي بعض ما نراه سببا للخلاف في صفات خاتم الرسل خاصّة.
منشأ الخلاف حول صفات رسول اللّه (ص)
مع صراحة النّصوص المتواترة المذكورة آنفا حول بعض صفات الأنبياء، كيف نشأ الخلاف حولها؟ الجواب أنّا إذا أنعمنا النظر في روايات جمّة أخرى رويت في انتقاص شأن الأنبياء، و انتشرت في كتب الحديث، و اللاّتي تنزّل منزلة الأنبياء عن مستوى سائر الناس، وجدنا أنّها هي الّتي تكوّن للمعتقد بصحّتها رؤية خاصّة تناقض محتوى الأحاديث الآنفة. و لئلاّ يطول بنا المقام، نكتفي في ما يأتي بالإشارة إلى بعض ما روي بشأن خاتم الأنبياء و أفضل المرسلين (ص) ففيه كفاية لمن أراد أن يتدبّر و يتبصّر. منها:
1- ما رواه البخاري في صحيحه و قال:
إنّ رسول اللّه (ص) قبل أن ينزل عليه الوحي قدّم إلى زيد بن عمرو بن
[19] صحيح البخاري، كتاب الاستسقاء، باب سؤال الناس الإمام الاستسقاء إذا قحطوا.
و كتاب فضائل أصحاب النبي، باب مناقب العبّاس بن عبد المطلب، 2/200 و 1/124.
و سنن البيهقي، كتاب صلاة الاستسقاء، باب الاستسقاء بمن ترجى بركة دعائه، 3/352.
نفيل سفرة فيها لحم، فأبى أن يأكل منها، ثمّ قال: إنّي لا آكل إلاّ مما ذكر اسم اللّه عليه [20] .
إذا فإنّ زيدا كان في الجاهليّة أفضل من رسول اللّه يتجنّب من أمر الجاهليّة ما لا يتجنّبه رسول اللّه (ص) .
2- روى البخاري و مسلم:
أنّ رسول اللّه (ص) لمّا جاءه جبرائيل بآيات: اِقْرَأْ بِاسْمِ رَبِّكَ اَلَّذِي خَلَقَ -إلى قوله- عَلَّمَ بِالْقَلَمِ رجع النبيّ (ص) إلى بيته ترجف بوادره، و قال لخديجة: إنّي خشيت على نفسي. فقالت له خديجة: أبشر، كلاّ فو اللّه لا يخزيك اللّه أبدا. و انطلقت به إلى ورقة بن نوفل، و كان امرأ تنصّر في الجاهلية، فأخبره رسول اللّه (ص) خبر ما رآه. فقال ورقة: هذا الناموس الّذي أنزل على موسى-الحديث [21] .
إذا فإنّ ورقة النصراني كان أدرى بالوحي و جبرائيل من رسول اللّه (ص) الّذي خوطب بالوحي، و من كلام ورقة اطمأنّ النبيّ (ص) بمصيره، و إلاّ فإنّه كان يريد أن يلقي بنفسه من حالق من جبل، بحسب ما رواه ابن سعد في طبقاته، و قال الطبري: إنّ رسول اللّه (ص) قال: إنّ الأبعد
[20] البخاري، كتاب الذبائح، باب ما ذبح على النصب و الأصنام، 3/207. و مسند أحمد 2/69 و 86. و زيد بن عمرو بن نفيل كان ابن عمّ الخليفة عمر و والد زوجته، ورد ذكره في ترجمة ابنه سعيد في الاستيعاب 2/4.
[21] صحيح البخاري: باب بدء الوحي، 1/3 و تفسير سورة اقرأ. و صحيح مسلم؛ كتاب الإيمان باب بدء الوحي، ح 252. و مسند أحمد 6/223 و 233.
و البوادر: اللحمة بين المنكب و العنق تضطرب عند الفزع.
و قد لخصنا الخبر.
و ناقشنا روايات بعثة النبيّ الواردة في كتب الحديث و السيرة و التفسير و ذكرنا عللها في الجزء الرابع من (أثر الائمة في إحياء السنّة) ، و هو سلسلة دراسات عن أثر أئمة أهل البيت (ع) في إحياء السنّة. و أوردنا الخبر الصحيح في ذلك، و الحمد للّه.
-يعني نفسه-لشاعر أو مجنون لا تحدّث بها عنّي قريش أبدا [22] .
3- روى البخاري و مسلم و قالا:
إنّ رسول اللّه (ص) كان يغضب فيلعن و يسبّ و يؤذي من لا يستحقّها، و دعا اللّه أن يجعلها لمن بدرت منه إليه زكاة و طهورا [23] .
4- و رويا أيضا و قالا:
إنّ بعض اليهود سحر رسول اللّه (ص) حتّى يخيّل إليه أنّه يفعل الشيء و ما فعله [24] .
5- روى مسلم:
أن رسول اللّه (ص) مرّ بقوم يلقّحون النخل، فقال: لو لم تلقّحوها لصلح. فتركوا تلقيحها فخرج شيصا، فقال: أنتم أعلم بأمور دنياكم [25] .
6- و رويا أيضا:
أنّ رسول اللّه (ص) استمع إلى غناء جوار من الأنصار فنهرهنّ أبو بكر [26] .
7- روى مسلم:
[22] تاريخ الطبري ط. اوربا 1/1150.
[23] صحيح البخاري كتاب الدعوات، باب قول النبيّ (ص) : من آذيته. و صحيح مسلم كتاب البرّ و الصلة، باب من لعنه النبيّ (ص) و ليس له أهلا.
[24] صحيح البخاري، كتاب بدء الخلق، باب صفة إبليس و جنوده، و كتاب الطبّ باب هل يستخرج السحر، و باب السحر، و كتاب الأدب، باب إن اللّه يأمر بالعدل، و كتاب الدعوات، باب تكرير الدعاء. و صحيح مسلم باب السحر.
[25] صحيح مسلم، كتاب الفضائل، باب وجوب امتثال ما قاله شرعا دون ما ذكره من معايش الناس.... و سنن ابن ماجة، باب تلقيح النخل.
[26] صحيح البخاري، كتاب فضائل أصحاب النبيّ، باب مقدم النبيّ (ص) و أصحابه المدينة. و كتاب العيدين، باب سنّة العيدين لأهل الإسلام. و صحيح مسلم، كتاب صلاة العيدين، باب الرخصة في لعب يوم العيد.
أنّ رسول اللّه (ص) رفع عائشة على منكبه لتنظر إلى الحبشة الّذين يلعبون في المسجد فنهرهم عمر [27] .
و في رواية الترمذي:
إذ طلع فانفضّ الناس، فقال رسول اللّه (ص) : إنّي لأنظر إلى شياطين الجنّ و الإنس قد فرّوا من عمر [28] .
و في رواية:
أنّ جارية سوداء ضربت بالدفّ و غنّت بين يدي رسول اللّه (ص) بعد رجوعه من إحدى غزواته، فدخل عمر فألقت الدفّ تحت استها، ثمّ قعدت عليها، فقال رسول اللّه (ص) : إنّ الشيطان ليخاف منك يا عمر [29] .
8- روى البخاري و مسلم في صحيحيهما:
عن عائشة أنّ النبيّ (ص) سمع رجلا يقرأ في المسجد، فقال:
رحمه اللّه، أذكرني كذا و كذا آية أسقطتها من سورة كذا [30] .
رأينا في ما مرّ أن زيد بن عمرو بن نفيل ابن عمّ الخليفة عمر كان أتقى للّه من رسوله (ص) ، يمتنع من أكل ما ذبح على الأنصاب و الأصنام، بينما يأكله رسول اللّه (ص) .
[27] صحيح مسلم، كتاب صلاة العيدين، باب الرخصة في اللعب الّذي لا معصية فيه في أيام العيد، ح 18 و 19 و 20 و 21 و 22.
[28] سنن الترمذي، أبواب المناقب، باب مناقب عمر.
[29] سنن الترمذي، أبواب المناقب، باب مناقب عمر. و مسند أحمد 5/353.
و قد ناقشنا هذه الأحاديث و ذكرنا عللها في الجزء 2 و 3 و 4 و 5 من كتاب أثر الأئمة في إحياء السنة.
[30] صحيح البخاري، كتاب الشهادات، باب شهادة الأعمى و نكاحه. و صحيح مسلم، كتاب فضائل القرآن، باب الأمر بتعهد القرآن، ح 224. و سنن أبي داود، كتاب التطوع، باب في رفع الصوت بالقراءة في صلاة الليل، ح 1331، و كتاب الحروف و القراءات، الباب الأوّل، ح 3970.
و أنّ ورقة بن نوفل النصراني يدرك أنّ الّذي جاء إلى رسول اللّه (ص) هو جبرائيل و رسول اللّه لم يعرفه، و خشي أن يكون أصابه مسّ من الجنّ و أنّ آيات سورة اقرأ هي من سجعهم.
و أنّ سحر اليهود أثّر في رسول اللّه (ص) فكان يرى أنّه يفعل الشيء و ما فعله.
و أنّه أسقط من القرآن آيات نسيها حتّى قرأها بعض الصّحابة.
و أنّه أمر بعدم تلقيح النخل ليصلح، فلمّا أصبح شيصا قال لهم:
أنتم أعلم بأمور دنياكم منّي.
و أنه استمع إلى غناء جوار من الأنصار، و كرهه أبو بكر، و قال في شأن عمر: إنّ الشّيطان ليفرّ منك.
إنّ تلكم الأحاديث و أمثالها تثبت أنّ رسول اللّه (ص) كان دون زيد في الجاهلية، و بعد الإسلام كان ورقة النصراني أدرى بالوحي و جبرئيل من رسول اللّه (ص) و أنّ أبا بكر و عمر كانا أكثر تجنبا للّهو و اللّغو من رسول اللّه (ص) ، و أن الصحابيّ الّذي قرأ من القرآن ما كان قد أسقطه الرسول (ص) منه كان أقوى ذاكرة من رسول اللّه (ص) ، و أنّ رسول اللّه (ص) كسائر الناس لا يعصمه اللّه من عبث اليهود و سحرهم و أنّه يغضب و يلعن و يسبّ من لا يستحقّ [31] .
[31] لمّا كانت أحاديث مدرسة الخلفاء تكوّن رؤية تنزّل من مستوى الرّسول الأكرم (ص) عن مستوى الإنسان العادي و خاصّة في مثل الخبر المختلق في قصّة الغرانيق الّتي بيّنّا زيفها في الجزء الرابع من (أثر الأئمة في إحياء السنّة) و يمكن من خلالها إلقاء الشبهات في الوحي و القرآن، استند المستشرقون من مبشري النصارى في دراساتهم للإسلام إلى أحاديث مدرسة الخلفاء، و تركت أحاديث مدرسة أهل البيت ظهريّا.
و من آمن بصحّة الأحاديث المذكورة آنفا، تتكوّن له رؤية تناقض محتوى الأحاديث الّتي أشرنا إليها فيما خصّ اللّه به خاتم أنبيائه (ص) و ميّزه من سائر الناس بفضائل حمّة، و حقّ للرجل (ذي المعرفة) من السعوديّين إذن أن يقول: «محمد رجالا مثلي، مات» .
أضف إلى هذه الأحاديث الّتي كوّنت رؤية تناقض تلك الفضائل، ما فعله الخليفة الصحابيّ عمر بن الخطاب و اجتهاده في قطعه الشجرة الّتي بويع تحتها رسول اللّه (ص) [32] . و تفصيل الخبر في شرح نهج البلاغة لابن أبي الحديد 1/59.
و ينقض جميع الأحاديث الّتي تنقص من منزلة رسول اللّه (ص) ما أخبر عنه الإمام عليّ (ع) عن رسول اللّه (ص) في خطبته القاصعة، حيث قال:
و لقد قرن اللّه به-صلّى اللّه عليه و آله-من لدن أن كان فطيما، أعظم ملك من ملائكته، يسلك به طريق المكارم و محاسن أخلاق العالم ليله و نهاره. و لقد كنت أتّبعه اتّباع الفصيل أثر أمّه، يرفع لي في كلّ يوم من أخلاقه علما و يأمرني بالاقتداء به. و لقد كان يجاور في كلّ سنة بحراء، فأراه و لا يراه غيري، و لم يجمع يومئذ في الإسلام غير رسول اللّه-صلّى اللّه عليه و آله-و خديجة، و أنا ثالثهما؛ أرى نور الوحي و الرسالة، و أشمّ ريح النبوة. و لقد سمعت رنّة الشّيطان حين نزل الوحي عليه-صلّى اللّه عليه و آله- فقلت: يا رسول اللّه ما هذه الرنّة؟قال: هذا الشيطان أيس من عبادته [33] .
و لست أدري كيف لم يكن الرسول (ص) يعرف نفسه كما ورد ذلك في
[32] شفاء الصدور ص 27، و هي شجرة بيعة الرضوان في صلح الحديبية.
[33] نهج البلاغة، شرح محمد عبده، الخطبة رقم: 192.
خبره مع ورقة [34] ، و كان على كتفه خاتم النّبوة الّذي يعرفه به كلّ من شاهده من أهل الكتاب.
و تنقضها أيضا الروايات الّتي ذكرت دلائل النبوة الّتي صدرت منه و له قبل أن يبعث، مثل ما تمّ له في سفرته الأولى إلى الشام مع عمّه أبي طالب، و الثانية في تجارة خديجة، و إخبار الرهبان بأمر بعثته، و تظليل سحابة له، ممّا علمه جميع من كان معه في السفرتين، و انتشرت أخبارهما في كتب الحديث و السير [35] .
و إخبار أهل الكتاب بظهوره قبل أن يبعث، و خبره في التوراة [36] .
و تسليم الشّجر و الحجر عليه قبل بعثته [37] .
كيف كان لا يعرف نفسه و قد بشّر به عيسى بن مريم (ع) كما أخبر تعالى
[34] راجع صحيح البخاري: كتاب المناقب و المرضى و الأدب. و صحيح مسلم: كتاب الفضائل، باب إثبات خاتم النّبوة. و سنن أبي داود، كتاب اللباس. و الترمذي: كتاب المناقب.
و مسند أحمد 2/223 و 3/434 و 442 و 4/195 و 5/35 و 77 و 82 و 83 و 90 و 95 و 98 و 104 و 340 و 341 و 354 و 438 و 442 و 443 و 6/329.
[35] طبقات ابن سعد، ط. أوربا 1/ق 1/76 و 98 و 99 و 109 و 83 و 101 و 73 و 100 منه، و الجزء الثالث ق 1/153، و ما رواه البخاري في آخر كتاب بدء الوحي من أخبار هرقل عن ظهوره. و سنن الترمذي، كتاب المناقب، باب ما جاء في بدء النبوة، 13/106. و سيرة ابن هشام 1/194 و 203، و راجع أيضا ص 231 و 239 و 251 منه.
[36] صحيح البخاري، كتاب البيوع، باب كراهية السخب في الأسواق، 2/10. و كتاب التفسير، باب تفسير سورة الفتح، و كتاب فضائل القرآن، الباب الأول. و طبقات ابن سعد، ط.
أوربا 1/23 و 1/ق 2/17 و 87 و 89. و سنن الترمذي، كتاب المناقب، الباب الأوّل. و سنن الدارمي، المقدمة، الباب الأول. و مسند أحمد 2/174 و 3/467. و طبقات ابن سعد 1/ق 1/64 و 103 و 104 و 106 و 108 و 111.
[37] صحيح مسلم، كتاب الفضائل، باب نسب النبي، ح 2، ص 1782. و مسند أحمد 5/89 و 95 و 105. و مسند الطيالسي، ح 781. و طبقات ابن سعد 8/179.
و تسليم الشجر عليه في:
سنن الدارمي، المقدمة، الباب رقم 3. و طبقات ابن سعد 8/179.
عنه بقوله: وَ مُبَشِّراً بِرَسُولٍ يَأْتِي مِنْ بَعْدِي اِسْمُهُ أَحْمَدُ الصف/6.
كيف لا يعرف نفسه و أهل الكتاب كانوا يَعْرِفُونَهُ كَمََا يَعْرِفُونَ أَبْنََاءَهُمْ البقرة/146، و الأنعام/20.
يعرفون اَلرَّسُولَ اَلنَّبِيَّ اَلْأُمِّيَّ اَلَّذِي يَجِدُونَهُ مَكْتُوباً عِنْدَهُمْ فِي اَلتَّوْرََاةِ وَ اَلْإِنْجِيلِ الأعراف/157.
سيأتي في بحوث مصادر الشريعة الإسلاميّة من هذا الكتاب محاولات السّلطات الإسلامية رفع مقام الخلافة في أنظار المسلمين على مقام النبوّة، و نذكر هنا منها مثالا واحدا من سيرة الحجّاج بن يوسف الثقفي والي الخليفة عبد الملك على العراق، إذ خطب في الكوفة فذكر الّذين يزورون قبر رسول اللّه (ص) بالمدينة، فقال:
تبّا لهم!إنّما يطوفون بأعواد و رمّة بالية!هلاّ طافوا بقصر أمير المؤمنين عبد الملك!ألا يعلمون أنّ خليفة المرء خير من رسوله [38] . و سيأتي تفصيل ذلك في الجزء الثالث من هذا الكتاب إن شاء اللّه تعالى.
و إنّ الّذي نجده من اتّجاه بعض المسلمين في القرون المتأخرة من تهوين أمر الرسول (ص) إن هو إلاّ نتيجة لتلك المحاولات مدى القرون، سواء في ما رووا من روايات تحطّ من قدر رسول اللّه (ص) ، أم ما أوّلوا من آيات القرآن و غير ذلك ممّا فعلوا في توجيه المسلمين إلى ما أرادوا. و منها ما رأوا في الاحتفال بذكرى ميلاد الرسول (ص) ، كما سنذكره في ما يأتي.
[38] شرح نهج البلاغة لابن أبي الحديد 15/242. و راجع الكامل للمبرد ط. النهضة بمصر، ص 222.
1. مستدرك الحاكم ، كتاب التاريخ في آخر كتاب البعث ، 2 / 615 ، ومجمع الزوائد 8 / 253 وتحقيق النصرة للمراغي ـ ت : 816 هـ ـ ، ص 113 ـ 114. وهو الّذي نقله عن الطبراني.
2. يظهر من الروايات أنّهم كانوا يدعون بأمثال هذه الأدعية ممّا فيه التوسل بالنبيّ (ص) إلى الله جلّ اسمه.
3. تواترت الروايات بالمضمون الّذي أوردناه في كلّ من :
دلائل النبوّة للبيهقي ص 343 ـ 345. وتفسير الآية 89 من سورة البقرة بتفسير محمّد بن جرير الطبري 1 / 324 ـ 328. وتفسير النيسابوري بهامشه 1 / 333. والحاكم بتفسير الآية 89 من سورة البقرة من كتاب التفسير بمستدركه 4 / 263. وتفسير السيوطي عن دلائل النبوّة لأبي نعيم.
وتفسير محمّد بن عبد حميد. وتفسير أبي محمّد عبد الرحمن بن أبى حاتم بن إدريس الرازي. وتفسير أبي بكر محمّد بن إبراهيم بن المنذر النيسابوري ـ ت : 310 هـ ـ.
4. مسند أحمد 4 / 138. وسنن الترمذي ، كتاب الدعوات 13 / 80 ـ 81. وسنن ابن
مقتبس من كتاب : [ معالم المدرستين ] / المجلّد : 1 / الصفحة : 43 ـ 59
التعلیقات
١