الماتريدي وأفعال العباد
عقائد الماتريدية
منذ 13 سنةبحوث في الملل والنحل لأية الله الشيخ جعفر السبحاني ، ج 3 ، ص 48 ـ 54
________________________________________
________________________________________
ولا يعلم مدى الاختلاف بين المدرستين في تفسير الكسب إلاّ بنقل نصوصهما في هذا المجال.
معنى الكسب عند الأشعري:
قال الفاضل القوشجي وهو من أئمّة الأشاعرة: «المراد بكسبه إيّاه، مقارنته لقدرته وإرادته، من غير أن يكون هناك منه تأثير أو مدخل في وجوده سوى كونه محلاله»(1). وحاصله أنّه ليس للعبد دور في خلق الفعل وإيجاده، غير كونه ظرفاً ومحلا لخلق اللّه وإيجاده، غاية الأمر إنّ شرط إيجاده سبحانه هو قصد العبد وعزمه، فإذا قصد وعزم وحدثت فيه القدرة غير المؤثِّرة، خلق الله الفعل وأوجده، من دون أن يكون لقدرة العبد دور وتأثير، وهذه النظرية قد شغلت بال أئمّة الأشاعرة طوال قرون، وقد بذلوا الجهود لتبيينها فما أتوا بشيء يسكن إليه القلب.
إذ لقائل أن يسأل ويقول:
1ـ إذا كان الخالق للفعل هو اللّه سبحانه مباشرة، ولم يكن لقدرة العبد دور فيه، فلماذا صار الإنسان هو المسؤول عن فعله دون الله سبحانه، مع أنّ الفعل فعله، لا فعل الإنسان.
________________________________________
1. شرح التجريد للقوشجي: ص 444 ـ 445 .
________________________________________
3ـ إذا كان قصد العبد وعزمه شرطاً لإيجاده سبحانه الفعل بعده، فيسأل عن نفس ذاك القصد فمن خالقه؟ فهل هو مخلوق للقاصد، أو للّه سبحانه؟ فعلى الأوّل تنتقض القاعدة « لا خالق إلاّ اللّه» ويثبت في صحيفة الكون، فعل مخلوق للعبد دونه سبحانه، وعلى الثاني تتّحد النظرية مع نظريّة الجهميّة الّتي عرّفوها بالجبريّة الخالصة، فإذا كان وجود العبد وقصده وقدرته غير المؤثرة فعلاً مخلوقاً للّه سبحانه فبأيّ ذنب يدخل العاصي النّار؟ وبأيّ عمل حسن، يثاب المطيع ويدخل الجنّة.؟
والحاصل، إنّ تفسير الكسب بإيجاده سبحانه فعل العبد عند عزمه وقصده، يدور أمره بين نقض القاعدة، أو ثبوت الجبر الخالص.
ولو تدبّر القوم في آيات الذّكر الحكيم خصوصاً في الآيات الناصّة على أنّه لا خالق إلاّ الله، لوقفوا على المعنى الصحيح من الآيات والمراد منها، وذلك لأنّ المراد من حصر الخالقيّة هو حصرها بالمعنى المناسب لشأنه سبحانه، وليس اللاّئق بشأنه إلاّ القيام بالايجاد مستقلاً من دون استعانة من أحد، وعليه فلا مانع من حصر الخالقيّة في اللّه سبحانه، وفي الوقت نفسه أن يكون العبد موجداً لفعله، بقدرة مكتسبة من اللّه وإذن منه سبحانه، وحصر الخالقيّة المستقلّة، غير المعتمدة على غيره، في اللّه سبحانه، لا ينافي نسبة الخالقيّة إلى بعض الممكنات، لكن خالقيّة مستندة إلى القدرة المكتسبة والمعتمدة إليه، وبالوقوف على اختلاف الخالقيّة المنسوبة إلى اللّه، مع الخالقيّة المنسوبة إلى عبده، يتحرّر المفسِّر من مشكلة الجبر وعقدته، وقد أوضحنا الحال في الجزء الثاني عند عرض عقائد الأشعري(1).
________________________________________
1. الجزء الثاني، ص 128 ـ 158 .
________________________________________
إذا كان هذا معنى الكسب لدى الشّيخ الأشعري فما معناه لدى الماتريدي؟!
أقول: يعلم مذهبه في هذا المجال مما روى عن شيخه أبي حنيفة، كيف وهو مؤسِّس منهجه واُستاذ مدرسته. قال في الفقه الأكبر: «لم يجبر أحداً من خلقه على الكفر ولا على الايمان، ولا خلقه مؤمناً ولا كافراً ولكن خلقهم أشخاصاً، والايمان والكفر فعل العباد، وجميع أفعال العباد من الحركة والسكون،كسبهم على الحقيقة، واللّه خالقها»(1).
وقال في الفقه الأبسط (على ما في بعض نسخه): «والعبد معاقب في صرف الاستطاعة الّتي أحدثها اللّه فيه، وأمر بأن يستعملها في الطاعة دون المعصية في المعصية»(2).
ولو صحّت هذه الكلمات من شيخ الماتريدي، فالكسب عنده هو صرف العبد القدرة في طريق الطاعة والمعصية عن اختيار، وهو نفس قول العدليّة جمعاء وأين هو من الكسب عند الأشاعرة المفسّر بإيجاد الفعل من اللّه سبحانه مباشرة، من دون أن يكون للعبد وقدرته الحادثة فيه دور في تحقّق الفعل غير كونه ظرفاً ومحلاًّ، وكون ظهور القصد في ضميره شرطاً لإيجاده سبحانه.
كلام الماتريدي في أفعال العباد:
هذا كلام أبي حنيفة شيخ الماتريدي، وإليك كلام الماتريدي نفسه في هذا المجال. قال: اختلف منتحلو الاسلام في أفعال العباد، فمنهم من جعلها لهم مجازاً وحقيقتها للّه لوجوه:
1 ـ وجوب إضافتها إلى اللّه، على ما أُضيف إليه خلق كل شيء في الجملة، فلم
________________________________________
1. اشارات المرام: ص 254 . 2. المصدر نفسه .
________________________________________
2 ـ إنّ بتحقيق الفعل لغيره تشابهاً في الفعل، وقد نفى الله ذلك بقوله: (أَمْ جَعَلُوا للّهِ شُرَكَاءَ خَلَقُوا كَخَلْقِهِ فَتَشَابَهَ الخَلْقُ عَلَيْهِم) (الرعد/16).
قال الشيخ (الماتريدي نفسه): وعندنا لازم تحقيق الفعل لهم (العباد) بالسمع والعقل والضرورة الّتي يصير دافع ذلك مكابراً. فأمّا السمع فله وجهان: الأمر به والنهي عنه، والثاني الوعيد فيه والوعد له. على تسمية ذلك في كلّ هذا فعلاً، من نحو قوله: (وَاعْمَلُوا ما شِئْتُم)(فصّلت/40) وقوله: (افعَلُوا الخَيرَ)(الحج/77) وفي الجزاء (يُرِيهِمُ اللهُ أعْمالَهمْ حَسَرات عَلَيهِمْ) (البقرة/167) وقوله: (جزاءً بما كانوا يَعمَلون) (الواقعة/24) وقوله: (فَمَن يَعمَلْ مِثقالَ ذَرّة)(الزلزلة/7) وغير ذلك مما أثبت لهم أسماء العمّال، ولفعلهم أسماء الفعل بالأمر والنهي والوعد والوعيد، وليس في الإضافة إلى الله سبحانه نفي ذلك، بل هي للّه، بأن خلقها على ما هي عليه، وأوجدها بعد أن لم تكن، وللخلق على ما كسبوها وفعلوها. على أنّ الله تعالى إذا أمر ونهى، ومحال الأمر بما لا فعل للمأمور أو المنهي. قال اللّه تعالى: (إنّ اللّهَ يأْمُرُ بِالعَدلِ والإحْسان) ولو جاز الأمر بذلك بلا معنى الفعل في الحقيقة، لجاز اليوم الأمر بشيء يكون لأمس، أو للعام الأول أو بإنشاء الخلائق، وإن كان لا معنى لذلك في أمر الخلق. ثمّ في العقل قبيح إن انضاف إلى اللّه الطاعة والمعصية، وارتكاب الفواحش والمناكير وأنّه المأمور، والمنهى، والمثاب، والمعاقب، فبطل أن يكون الفعل من هذه الوجوه له، ولا قوّة إلا باللّه.
وأيضاً إنّ الله تعالى إنّما وعد الثّواب لمن أطاعه في الدُّنيا، والعقاب لمن عصاه، فإذا كان الأمران فعله فإذاً هو المُجزَى بما ذكر، وإذا كان الثّواب والعقاب حقيقة، فالائتمار والانتهاء كذلك، ولا قوّة إلاّ باللّه.
وكذلك في أنّه محال أن يأمر أحد نفسه، أو يطيعها، أو يعصيها، ومحال تسمية الله عبداً، ذليلاً، مطيعاً، عاصياً، سفيهاً، جائراً، وقد سمّى اللهُ تعالى بهذا كلِّه اُولئك الّذين أمرهم ونهاهم، فإذا صارت هذه الأسماء في التحقيق له، فيكون هو الربّ، وهو
________________________________________
وأيضاً إنّ كلّ أحد يعلم من نفسه أنّه مختار لما يفعله، وأنّه فاعل كاسب ـ إلى آخر ما أفاده..(1).
هذا كلام الماتريدي، ولا أظنُّ أحداً يتأمّل في أطراف كلامه، فيتصوّره موافقاً مع الشيخ الأشعري، بل هما يتحرّكان في فلكين مختلفين، كيف ومن جاء بعده من الماتريديّة جعل كلامه في مقابل كلام الأشعري. هذا الإمام البزدوي جعل قول أهل السنّة والجماعة (يعني الماتريديّة المتّصلة إلى الامام أبي حنيفة) في مقابل قول الأشعري(2). وهو يترجم مذهبه بما يلي: «قال أهل السنّة والجماعة: أفعال العباد مخلوقة للّه تعالى ومفعوله، واللّه هو موجدها ومحدثها، ومنشئها، والعبد فاعل على الحقيقة، وهو ما يحصل منه باختيار وقدرة حادثين، وهذا هو فعل العبد، وفعله غير فعل اللّه تعالى»
(48)
9ـ الماتريدي وأفعال العباد:
اتّفق المسلمون على أنّه لا خالق إلاّ اللّه واختلفوا في تفسيره في أفعال العباد و آثار الموجودات فذهب أهل السنّة إلى أنّه لا صلة بين الطبائع وآثارها. والطبائع وآثارها من صنع الخالق مباشرة من دون دخالة للطّبيعة ولو بنحو الشرط، والمعدّ في سطوعها على الطبيعة وقد اشتهر بين الأزهريّين قول القائل: 9ـ الماتريدي وأفعال العباد:
ومن يقل بالطّبع أو بالعلّة * فذاك كفر عنـد أهـل الملّة
هذا كلّه في غير أفعال العباد، وأمّا فيها فذهبت الجهميّة أتباع جهم بن صفوان إلى أنّ العبد لا يقدر على إحداث شيء، ولا على كسب شيء، وهذه النظرية هي نظرية الجبريّة الخالصة، ولازم ذلك لغويّة بعث الرسل، وإنزال الكتب، وإغلاق باب المناهج التربويّة في العالم________________________________________
(49)
وأهل الدقّة من أهل السنّة حاولوا الجمع بين حصر الخلق في اللّه سبحانه، وصحّة تكليف العباد، فقالوا إنّ الله هو الخالق، والعبد هو الكاسب، والتكليف، والأمر، والنهي، والثواب، والعقاب، بالملاك الثّاني دون الأوّل، وقد أخذوا مصطلح الكسب من الذّكر الحكيم. قال سبحانه (لهَا ما كَسَبَتْ وَعَلَيْهَا ما اكْتسبَتْ)(البقرة/286) لكنّهم اختلفوا في تفسير حقيقة الكسب إلى حدّ صارت النظرية إحدى الألغاز إلاّ ما نقل عن الماتريدي وإمام الحرمين من الأشاعرة، فقد استطاعوا من توضيحها إلى حدّ معقول ومقبول.ولا يعلم مدى الاختلاف بين المدرستين في تفسير الكسب إلاّ بنقل نصوصهما في هذا المجال.
معنى الكسب عند الأشعري:
قال الفاضل القوشجي وهو من أئمّة الأشاعرة: «المراد بكسبه إيّاه، مقارنته لقدرته وإرادته، من غير أن يكون هناك منه تأثير أو مدخل في وجوده سوى كونه محلاله»(1). وحاصله أنّه ليس للعبد دور في خلق الفعل وإيجاده، غير كونه ظرفاً ومحلا لخلق اللّه وإيجاده، غاية الأمر إنّ شرط إيجاده سبحانه هو قصد العبد وعزمه، فإذا قصد وعزم وحدثت فيه القدرة غير المؤثِّرة، خلق الله الفعل وأوجده، من دون أن يكون لقدرة العبد دور وتأثير، وهذه النظرية قد شغلت بال أئمّة الأشاعرة طوال قرون، وقد بذلوا الجهود لتبيينها فما أتوا بشيء يسكن إليه القلب.
إذ لقائل أن يسأل ويقول:
1ـ إذا كان الخالق للفعل هو اللّه سبحانه مباشرة، ولم يكن لقدرة العبد دور فيه، فلماذا صار الإنسان هو المسؤول عن فعله دون الله سبحانه، مع أنّ الفعل فعله، لا فعل الإنسان.
________________________________________
1. شرح التجريد للقوشجي: ص 444 ـ 445 .
________________________________________
(50)
2ـ إذا كانت القدرة الحادثة في العبد، غير مؤثِّرة في الإيجاد والتكوين، فما هو الغاية في إحداثها في العبد، وإقداره على العمل، أليس هذا عملاً لغواً غير مناسب لساحة الفاعل الحكيم؟3ـ إذا كان قصد العبد وعزمه شرطاً لإيجاده سبحانه الفعل بعده، فيسأل عن نفس ذاك القصد فمن خالقه؟ فهل هو مخلوق للقاصد، أو للّه سبحانه؟ فعلى الأوّل تنتقض القاعدة « لا خالق إلاّ اللّه» ويثبت في صحيفة الكون، فعل مخلوق للعبد دونه سبحانه، وعلى الثاني تتّحد النظرية مع نظريّة الجهميّة الّتي عرّفوها بالجبريّة الخالصة، فإذا كان وجود العبد وقصده وقدرته غير المؤثرة فعلاً مخلوقاً للّه سبحانه فبأيّ ذنب يدخل العاصي النّار؟ وبأيّ عمل حسن، يثاب المطيع ويدخل الجنّة.؟
والحاصل، إنّ تفسير الكسب بإيجاده سبحانه فعل العبد عند عزمه وقصده، يدور أمره بين نقض القاعدة، أو ثبوت الجبر الخالص.
ولو تدبّر القوم في آيات الذّكر الحكيم خصوصاً في الآيات الناصّة على أنّه لا خالق إلاّ الله، لوقفوا على المعنى الصحيح من الآيات والمراد منها، وذلك لأنّ المراد من حصر الخالقيّة هو حصرها بالمعنى المناسب لشأنه سبحانه، وليس اللاّئق بشأنه إلاّ القيام بالايجاد مستقلاً من دون استعانة من أحد، وعليه فلا مانع من حصر الخالقيّة في اللّه سبحانه، وفي الوقت نفسه أن يكون العبد موجداً لفعله، بقدرة مكتسبة من اللّه وإذن منه سبحانه، وحصر الخالقيّة المستقلّة، غير المعتمدة على غيره، في اللّه سبحانه، لا ينافي نسبة الخالقيّة إلى بعض الممكنات، لكن خالقيّة مستندة إلى القدرة المكتسبة والمعتمدة إليه، وبالوقوف على اختلاف الخالقيّة المنسوبة إلى اللّه، مع الخالقيّة المنسوبة إلى عبده، يتحرّر المفسِّر من مشكلة الجبر وعقدته، وقد أوضحنا الحال في الجزء الثاني عند عرض عقائد الأشعري(1).
________________________________________
1. الجزء الثاني، ص 128 ـ 158 .
________________________________________
(51)
نظريّة أبي حنيفة (شيخ الماتريدي) في الكسب:إذا كان هذا معنى الكسب لدى الشّيخ الأشعري فما معناه لدى الماتريدي؟!
أقول: يعلم مذهبه في هذا المجال مما روى عن شيخه أبي حنيفة، كيف وهو مؤسِّس منهجه واُستاذ مدرسته. قال في الفقه الأكبر: «لم يجبر أحداً من خلقه على الكفر ولا على الايمان، ولا خلقه مؤمناً ولا كافراً ولكن خلقهم أشخاصاً، والايمان والكفر فعل العباد، وجميع أفعال العباد من الحركة والسكون،كسبهم على الحقيقة، واللّه خالقها»(1).
وقال في الفقه الأبسط (على ما في بعض نسخه): «والعبد معاقب في صرف الاستطاعة الّتي أحدثها اللّه فيه، وأمر بأن يستعملها في الطاعة دون المعصية في المعصية»(2).
ولو صحّت هذه الكلمات من شيخ الماتريدي، فالكسب عنده هو صرف العبد القدرة في طريق الطاعة والمعصية عن اختيار، وهو نفس قول العدليّة جمعاء وأين هو من الكسب عند الأشاعرة المفسّر بإيجاد الفعل من اللّه سبحانه مباشرة، من دون أن يكون للعبد وقدرته الحادثة فيه دور في تحقّق الفعل غير كونه ظرفاً ومحلاًّ، وكون ظهور القصد في ضميره شرطاً لإيجاده سبحانه.
كلام الماتريدي في أفعال العباد:
هذا كلام أبي حنيفة شيخ الماتريدي، وإليك كلام الماتريدي نفسه في هذا المجال. قال: اختلف منتحلو الاسلام في أفعال العباد، فمنهم من جعلها لهم مجازاً وحقيقتها للّه لوجوه:
1 ـ وجوب إضافتها إلى اللّه، على ما أُضيف إليه خلق كل شيء في الجملة، فلم
________________________________________
1. اشارات المرام: ص 254 . 2. المصدر نفسه .
________________________________________
(52)
يجز أن تكون الإضافة إلى اللّه مجازاً.2 ـ إنّ بتحقيق الفعل لغيره تشابهاً في الفعل، وقد نفى الله ذلك بقوله: (أَمْ جَعَلُوا للّهِ شُرَكَاءَ خَلَقُوا كَخَلْقِهِ فَتَشَابَهَ الخَلْقُ عَلَيْهِم) (الرعد/16).
قال الشيخ (الماتريدي نفسه): وعندنا لازم تحقيق الفعل لهم (العباد) بالسمع والعقل والضرورة الّتي يصير دافع ذلك مكابراً. فأمّا السمع فله وجهان: الأمر به والنهي عنه، والثاني الوعيد فيه والوعد له. على تسمية ذلك في كلّ هذا فعلاً، من نحو قوله: (وَاعْمَلُوا ما شِئْتُم)(فصّلت/40) وقوله: (افعَلُوا الخَيرَ)(الحج/77) وفي الجزاء (يُرِيهِمُ اللهُ أعْمالَهمْ حَسَرات عَلَيهِمْ) (البقرة/167) وقوله: (جزاءً بما كانوا يَعمَلون) (الواقعة/24) وقوله: (فَمَن يَعمَلْ مِثقالَ ذَرّة)(الزلزلة/7) وغير ذلك مما أثبت لهم أسماء العمّال، ولفعلهم أسماء الفعل بالأمر والنهي والوعد والوعيد، وليس في الإضافة إلى الله سبحانه نفي ذلك، بل هي للّه، بأن خلقها على ما هي عليه، وأوجدها بعد أن لم تكن، وللخلق على ما كسبوها وفعلوها. على أنّ الله تعالى إذا أمر ونهى، ومحال الأمر بما لا فعل للمأمور أو المنهي. قال اللّه تعالى: (إنّ اللّهَ يأْمُرُ بِالعَدلِ والإحْسان) ولو جاز الأمر بذلك بلا معنى الفعل في الحقيقة، لجاز اليوم الأمر بشيء يكون لأمس، أو للعام الأول أو بإنشاء الخلائق، وإن كان لا معنى لذلك في أمر الخلق. ثمّ في العقل قبيح إن انضاف إلى اللّه الطاعة والمعصية، وارتكاب الفواحش والمناكير وأنّه المأمور، والمنهى، والمثاب، والمعاقب، فبطل أن يكون الفعل من هذه الوجوه له، ولا قوّة إلا باللّه.
وأيضاً إنّ الله تعالى إنّما وعد الثّواب لمن أطاعه في الدُّنيا، والعقاب لمن عصاه، فإذا كان الأمران فعله فإذاً هو المُجزَى بما ذكر، وإذا كان الثّواب والعقاب حقيقة، فالائتمار والانتهاء كذلك، ولا قوّة إلاّ باللّه.
وكذلك في أنّه محال أن يأمر أحد نفسه، أو يطيعها، أو يعصيها، ومحال تسمية الله عبداً، ذليلاً، مطيعاً، عاصياً، سفيهاً، جائراً، وقد سمّى اللهُ تعالى بهذا كلِّه اُولئك الّذين أمرهم ونهاهم، فإذا صارت هذه الأسماء في التحقيق له، فيكون هو الربّ، وهو
________________________________________
(53)
العبد، وهو الخالق والمخلوق، ولا غير ثمّة، وذلك مدفوع في السمع والعقل، ولا قوّة إلاّ باللّه.وأيضاً إنّ كلّ أحد يعلم من نفسه أنّه مختار لما يفعله، وأنّه فاعل كاسب ـ إلى آخر ما أفاده..(1).
هذا كلام الماتريدي، ولا أظنُّ أحداً يتأمّل في أطراف كلامه، فيتصوّره موافقاً مع الشيخ الأشعري، بل هما يتحرّكان في فلكين مختلفين، كيف ومن جاء بعده من الماتريديّة جعل كلامه في مقابل كلام الأشعري. هذا الإمام البزدوي جعل قول أهل السنّة والجماعة (يعني الماتريديّة المتّصلة إلى الامام أبي حنيفة) في مقابل قول الأشعري(2). وهو يترجم مذهبه بما يلي: «قال أهل السنّة والجماعة: أفعال العباد مخلوقة للّه تعالى ومفعوله، واللّه هو موجدها ومحدثها، ومنشئها، والعبد فاعل على الحقيقة، وهو ما يحصل منه باختيار وقدرة حادثين، وهذا هو فعل العبد، وفعله غير فعل اللّه تعالى»
ثمّ يعرض عقائد سائر الطّوائف من المجبِّرة، والجهميّة، والقدريّة، والأشعريّة، ويستدلّ على مختاره بالنصوص القرآنيّة ويقول: «فدلّتنا هذه النصوص على أنّ الأفعال منّا بقدرة حديثة منّا، وهي مخلوقة الله تعالى، فكانت هذه النّصوص حجّة على الخصوم أجمع (حتّى الأشعرية). واللّه تعالى أضاف الأفعال إلينا في كتابه في مواضع كثيرة. قال الله تعالى: (جَزاءً بما كانُوا يَعْمَلُون) (السجدة /17) (وَإذْ قَتَلْتُمْ نَفْساً فَادّارَأْتُمْ فِيها) (البقرة/72) وقال: (إذا قُمْتُمْ إلى الصَّلاةِ) (المائدة/6). وكذلك نهانا عن أفعال كثيرة وأمرنا بأفعال كثيرة، فلا بدّ أن يكون لنا فعل، ويجب أن يكون ذلك بهدايته، ومشيئته، وارادته»(3).
ولقد رسّم البياضي الماتريدي عقيدة شيخه في كتاب «إشارات المرام» وبيّنه على نحو يتّحد مع ما يعتقده الإماميّة من أنّه لا جبر ولا قدر (تفويض) بل أمر بين الأمرين،
________________________________________
1. التوحيد: ص 225 ـ 226 . 2. اُصول الدين: ص 101 . 3. اُصول الدين ص 99 و 104 ـ 105 .
________________________________________
ولقد رسّم البياضي الماتريدي عقيدة شيخه في كتاب «إشارات المرام» وبيّنه على نحو يتّحد مع ما يعتقده الإماميّة من أنّه لا جبر ولا قدر (تفويض) بل أمر بين الأمرين،
________________________________________
1. التوحيد: ص 225 ـ 226 . 2. اُصول الدين: ص 101 . 3. اُصول الدين ص 99 و 104 ـ 105 .
________________________________________
(54)
فقال: «وقال قوم من العلماء: إنّ المؤثّر مجموع القدرة وقدرة العبد، وهذا المذهب وسط بين الجبر والقدر، وهو أقرب إلى الحقّ وإليه أشار (أبوحنيفة) بقوله كسبهم على الحقيقة والله خالقها»(1).ويقول في فصل الخلافيّات بين جمهور الماتريديّة والأشاعرة: «واختيار العبد مؤثّر في الاتّصاف دون الإيجاد، فالقدرتان المؤثِّرتان في محلّين وهو الكسب لا مقارنة الاختيار بلا تأثير أصلاً، واختاره الباقلاّني كما في (المواقف) وهو مذهب السلف كما في الطريقة للمحقّق البركوي، واختاره الاُستاذ أبو إسحاق الاسفرائيني وإمام الحرمين في قوله الأخير: إنّ اختياره مؤثّر في الإيجاد بمعاونة قدرة اللّه تعالى، فلا تجتمع القدرتان المؤثِّرتان بالاستقلال، ولا يلزم تماثل القدرتين»(2).
________________________________________
1. اشارات المرام: ص 256 و 257. لاحظ بقية كلامه، فهو ينقل عن الامام الباقر ـ عليه السلام ـ قوله: لا جبر ولاتفويض الخ . 2. اشارات المرام: ص 55.
التعلیقات