قدرته سبحانه على القبيح
العدل
منذ 13 سنةبحوث في الملل والنحل لأية الله الشيخ جعفر السبحاني ، ج 3 ، ص 346 ـ 348
________________________________________(346)
قد عرفت أنّ القاضي قد رتّب على القول بالعدل عدّة مسائل، ولأجل التعرّف على منهج الاعتزال نطرح هذه المسائل مكتفين على ما جاء به القاضي في (شرح الاُصول الخمسة) فهو رائدنا في هذه المباحث، ومن أراد التبسّط فعليه المراجعة بكتابه الآخر: «المغني» وقد طبع منه أربعة عشر جزءاً، وعلى كلّ حال فكتب القاضي هي الممثّلة لرأي المعتزلة في أعصارهم. والمسألة الاُولى في قدرته سبحانه على القبيح وإنّما عنونها في هذا الفصل لأدنى مناسبة، مع أنّ عنوانها في عموم القدرة أولى من عنوانها في مسألة التّحسين والتّقبيح، والمخالف فيها عدّة من المعتزلة منهم النظّام وعليّ الأسواري والجاحظ، حيث ذهبوا إلى أنّه تعالى غير موصوف بالقدرة على ما لو فعله لكان قبيحاً، وقد ردّ عليه القاضي بقوله «إنّه تعالى قادر على أن يخلق فينا العلم كما هو قادر على أن يخلق بدله الجهل، وأيضاً قادر على أن يخلق الشّهوة في أهل الجنّة كما هو قادر على أن يخلق فيهم النّفرة»(1).المسألة الاُولى:
قدرته سبحانه على القبيحأقول: إنّ التّفصيل بين القدرة على الحسن والقدرة على القبيح، موهون جدّاً، وناش عن عدم التعرّف على مفهوم القدرة، فإنّها تستعمل فيما إذا كان الفاعل بالنّسبة إلى الفعل والتّرك متساوياً، وإلاّ لما وصف بالقدرة، بل بالايجاب. فلو كان قادراً على إدخال المطيع إلى الجنّة، ولم يكن قادراً على إدخاله في النار لما وصف بالقادر، بل كان فاعلاً موجباً، وبذلك يعلم حال عدّة من المسائل الّتي اختلف فيها المعتزلة، وإليك عناوينها:
1- ذهب عبّاد بن سليمان إلى عدم قدرته تعالى على خلاف معلومه، قائلاً بأنّ ما علم وقوعه يقع قطعاً، فهو واجب الوقوع، وما علم عدم وقوعه لا يقع قطعاً، فهو ممتنع
________________________________________
1. شرح الاُصول الخمسة: ص 314.
________________________________________
(347)
الوقوع.يلاحظ عليه: أنّ معناه نفي القدرة و توصيفه سبحانه بالايجاب أوّلاً، وأن تعلّق العلم بوقوعه لا يخرجه عن الاختيار ثانياً، لأنّه تعلّق بصدوره عنه سبحانه اختياراً لا اضطراراً وإيجاباً وقد قلنا نظير ذلك في تعلّق علمه سبحانه بصدور أفعال العباد عنهم. فلاحظ(1).
2- ذهب البلخي إلى عدم قدرته تعالى على مثل مقدور العبد، لأنّه إمّا طاعة، أو معصية، أو عبث. وهو منزّه عن أن يكون مطيعاً، أو عاصياً، أو عابثاً.
وقد غفل عن أنّ الاطاعة والمعصية، ليستا من الاُمور الحقيقيّة الدّخيلة في ماهيّة العمل، فلو قام إنسان كالخليل لبناء بيت امتثالاً لأمره سبحانه، فالله سبحانه يقدر على إيجاد بيت مثله، والفعلان متّحدان ماهيّة و هيئة، وإن كان الأوّل مصداقاً للاطاعة دون الآخر.
وبعبارة أُخرى: أنّ الاطاعة أمر انتزاعيّ ينتزعه العقل من مطابقة المأتي به لما أمر به المولى، وعلى هذا فهناك واقعيّتان: الأوّل: الأمر، الثاني، المأتيّ به، وأمّا الموافقة والمخالفة فهما أمران ذهنيّان يتواردان على الذّهن من ملاحظتهما، فإن وجد بينهما المشابهة أو المخالفة يعبّر عن الاُولى بالطّاعة، وعن الثانية بالعصيان، وليس لهما واقعيّة وراء الذهن، فلا تكون الحقيقة الخارجيّة سواء صدرت عن الله سبحانه، أو عن عباده، أمرين متباينين.
3- ذهب الجبّائيان إلى عدم قدرته تعالى على عين مقدور العبد، وإلاّ لزم اجتماع النقيضين إذا أراده الله و كرهه العبد، أو بالعكس.
يلاحظ عليه: أنّه كان على القائل الاستدلال بوجه آخر، وهو أنّه يلزم حينئذ اجتماع العلّتين على معلول واحد. ومع ذلك كلّه، فما جاء في الاستدلال نشأ من فكرة ثنويّة ناشئة عن مبادئ الاعتزال، فتخيّل أنّ فعل العبد يجب أن يكون مخلوقاً للعبد
________________________________________
1. لاحظ الجزء الثاني: ص 301 ـ 307.
________________________________________
(348)
وحده ولا يكون للّه سبحانه فيه شأن، لما أنّ هناك فاعلين مستقلّين: «الله» و «الإنسان»، ولكلِّ مجاله الخاص. وعند ذلك لا يرتبط مقدور العبد بالله سبحانه كما لا يرتبط مقدوره بعباده، ولكنّه باطل، لما عرفت من أنّ العلّتين ليستا عرضيّتين بل طوليّتين، فالعلل الامكانيّة في طول العلّة الواجبة، وبما أنّه تنتهي العلل إلى الواجب، يكون مخلوق العبد مخلوقه سبحانه.
التعلیقات