ابن تيمية وبناء المساجد على القبور
البناء على القبور
منذ 13 سنةبحوث في الملل والنحل لأية الله الشيخ جعفر السبحاني ، ج 4 ، ص 209 ـ 219
________________________________________(209)
قال ابن تيمية: «ولا يشرع اتّخاذها ـ أي القبور ـ مساجد»(1) .(5)
ابن تيمية وبناء المساجد على القبوروقال أيضاً: «لا يجوز بناء المسجد على القبور» .
وقد استدلّ الوهابيون على ما يتبنّونه بالحديث التالي المروي بعبارات مختلفة:
1- «قاتل اللّه اليهود اتّخذوا قبور أنبيائهم مساجد» .
2- «لعن اللّه اليهود والنصارى اتّخذوا قبور أنبيائهم مساجد».
3- «ألا ومن كان قبلكم كانوا يتّخذون قبور أنبيائهم وصالحيهم مساجد، ألا فلا تتخذوا القبور مساجد، إنّي أنهاكم عن ذلك» .
4- «أخرجوا أهل الحجاز وأهل نجران من جزيرة العرب، واعلموا أنَّ شرار الناس الذين اتّخذوا قبور أنبيائهم مساجد».
5- «لعن اللّه اليهود اتخذوا قبور أنبيائهم مساجد»(2) .
________________________________________
1. مضى مصدرها .
2. راجع للوقوف على مصادر هذه الأحاديث صحيح البخاري كتاب الجنائز ج 2 ص 111، السنن للنسائي ج 2 كتاب الجنائز ص 871، صحيح مسلم ج 2 ص 568 كتاب المساجد وغيرها، وقد جمع مصادر الحديث وصوره المختلفة محمد ناصر الدين الألباني في كتابه تحذير الساجد ص 11 ـ 28 فذكر للحديث 14 صورة كما جمعها أبو عبدالرحمن مقبل بن هادي الوادعي في كتاب رياض الجنة ص 278 ـ 281 .
________________________________________
(210)
إنّ الوهابيين استغلوا هذا الحديث وخرجوا بهذه النتيجة بأنّ مفادها:أ ـ حرمة بناء المساجد على القبور .
ب ـ وحرمة قصد الصلاة فيها .
حتّى قال ابن تيمية: إنّ المسجد والقبر لا يجتمعان(1) .
وهذا هو الكلام الّذي يجتره ويكرره كل من جاء بعده، فنظروا إلى الروايات بعقيدة مسبقة، وتركوا إجماع الأُمة ودلالة الكتاب على الجواز كما بيّناه، فنقول: إنّ لهذه الروايات محتملات:
1- الصلاة على القبور بالسجود عليها تعظيماً .
2- الصلاة باتّجاه القبور واتّخاذها قبلة .
3- بناء المساجد على القبور وقصد الصلاة فيها تبركاً بالمقبور .
4- إقامة الصلاة عند مراقد الأنبياء ومقابرهم فقط .
فهل للحديث إطلاق يعم هذه الصورة والمحتملات كما ادّعاه الألباني تبعاً لشيخه ابن تيمية، وزعم أنّ هذا الحديث من جوامع كلمه ـ صلَّى الله عليه وآله وسلم ـ .
أو أنّ الحديث ينصرف ـ بشهادة القرائن المتصلة والمنفصلة ـ إلى بعض الصور مما يلازم كون العمل شركاً، والمصلي مشركاً وخارجاً عن الحدود الّتي حددها الكتاب والسنة، كما هو الحق بشهادة القرائن العشر التالية؟ وإليك البيان:
1- إنّ الحديث يركّز على عمل اليهود والنصارى، وأنهم اتخذوا قبور أنبيائهم مساجد، وينهى المسلمين عن متابعتهم في ذلك .
________________________________________
1. مجموعة الرسائل والمسائل ج 1 ص 59 ـ 60 وزاد المعاد تأليف ابن القيم ص 661 .
________________________________________
(211)
وبما أنّ أهل الكتاب معروفون بالشرك وعبادة غير اللّه طيلة الأجيال والقرون، فالمسيحية تعبد ـ المسيح وأمه ـ كما أنّ كثيراً منهم اتخذوا الأحبار والرهبان أرباباً من دون اللّه، يحرّمون ما أحلّ اللّه ويحلّلون ما حرّم اللّه .اليهود هم الذين طلبوا من نبيهم أن يجعل إلهاً كما أنّ لغيرهم آلهة، وهم الذين عبدوا العجل، بل عبدوا بعد رحلة الكليم أرباباً وآلهة، فهم كأنهم مفطورون على الوثنية وعبادة البشر ـ فعند ذلك ـ ينصرف الحديث إلى عمل يلحق المسلم بهم، ولا يمكن أن يدّعى أنّ الحديث يعم ما إذا كان عمل اتخاذ القبور مساجد مجرّداً عن أىّ شرك، أو إذا كانت إقامة الصلاة عند قبورهم من باب التبرك بهم.
2- نرى أنّ رسول اللّه ـ صلَّى الله عليه وآله وسلم ـ يصف هؤلاء الجماعة بكونهم شرار الناس. فقد روى مسلم في كتاب المساجد أنّ أُم حبيبة وأُم سلمة ذكرتا كنيسة رأتاها في الحبشة فيها تصاوير، فقال رسول اللّه ـ صلَّى الله عليه وآله وسلم ـ : إنّ أولئك إذا كان فيهم الرجل الصالح فمات بني على قبره مسجد، وصَوّر فيه تلك الصور، أولئك شرار الخلق عند اللّه(1) .
إنّ توصيفهم بأنهم شرار الخلق عند اللّه، يميط الستر عن حقيقة عملهم، إذ لا يوصف الإنسان بالشر المطلق، إلاّ إذا كان مشركاً. قال سبحانه: (إنَّ شَرَ الدَّوابِّ عِنْدَ اللّهِ الصُّمُّ البُكْمُ الّذينَ لاَ يَعْقِلُونَ)(2)، وقال تعالى: (إنَّ شَرَّ الدّوَابِّ عِندَ اللّهِ الّذينَ كَفَرُوا فَهُم لاَ يُؤْمِنُونَ)(3) .
كل ذلك يكشف عن مرمى الحديث، وأنّ عملهم لم يكن عملا مجرداً مثل صرف بناء المسجد على القبر والصلاة فيه، أو إقامة الصلاة عند القبور، بل كان عملا مقترناً بالشرك بألوانه وصوره المختلفة، كاتخاذ القبر إلهاً ومعبوداً أو قبلة عند الصلاة، أو السجدة عليها بمعنى اتخاذها مسجوداً .
3- إنّ الروايات الناهية الواردة في المقام على قسمين:
________________________________________
1. صحيح مسلم ج 2 كتاب المساجد ص 666 .
2. سورة الأنفال: الآية 22 .
3. سورة الأنفال: الآية 55 .
________________________________________
(212)
قسم يشتمل على اللعن، وهذا مختص باتخاذ قبور الأنبياء والصالحين مساجد.وقسم آخر مشتمل على مجرد النهي من دون اقتران باللعن، وقد ورد ذلك في مطلق القبور .
1- عن أبي مرصد الغنوي قال: قال رسول اللّه: لا تجلسوا على القبور، ولا تصلوا إليها(1) .
2- عن أبي سعيد الخدري قال: قال رسول اللّه ـ صلَّى الله عليه وآله وسلم ـ : الأرض كلها مسجد إلاّ المقبرة و الحمّام(2) وغير ذلك .
3- عن عبداللّه بن عمر: نهى عن الصلاة في المقبرة(3) .
فعندئذ يجب التأمل في هذا التفريق، لماذا اقترن الأول (اتخاذ قبور الأنبياء مساجد) باللعن دون الآخر، وإنّما ورد فيه مجرد النهي، (المحمول على الكراهة مطلقاً، أو في ما إذا كان القبر بحيال المصلي، أو كانت الصلاة بين القبرين) وما هذا إلاّ لأنّ القسم الأول ناظر إلى عمل اليهود والنصارى في مورد قبور أنبيائهم .
وبما أنه كان مقترناً بالشرك بالسجود لها تعظيماً لهم، أو باتخاذها قبلة، استحقوا اللعن، وعرفوا بأنهم شرار الناس، ووهي المسلمون عن اتّباعهم .
وأمّا القسم الآخر فلم يكن مقترناً بذلك أبداً، فجاء فيه النهي مجرداً عن اللعن .
وبهذا لا يمكن القول بإطلاق الحديث و عموميته لكل الأحوال .
4- إنّ السيدة عائشة، قالت: قال رسول اللّه: «لعن اللّه اليهود والنصارى، اتخذوا قبور أنبيائهم مساجد». قالت: فلولا ذاك لأبرز قبره،
________________________________________
1. صحيح مسلم ج 7 ص 38 .
2. سنن أبي داود ج 1 ص 184 .
3. موارد الضمآن ص 10 كما في رياض الجنة .
________________________________________
(213)
غير أنّه خشي أن يتّخذ مسجداً (1)إنّ المسلمين بعدما دفنوا الّنبي في بيته سوّروه بحائط مستدير، لا مربّع، لئلا يشابه الكعبة .
ومن المعلوم أنّ التسوير بالجدران وعدم إبراز قبره إنما يمنع عن اتخاذه مسجوداً له أو قبلة، وأمّا الصلاة في جنبه فلم يكن الجدار مانعاً عن إقامة الصلاة .
ومراد السيدة عائشة: إنّ عدم إبراز القبر وستره بالحيطان منع المسلمين عن أن يرتكبوا ما كان اليهود والنصارى يرتكبونه .
ومن المعلوم أنّ الجدران منعت عن الصور الشركية كصورة اتخاذه مسجوداً له أو قبلة، لا إقامة الصلاة المجردة من هذه الضمائم .
وهذا دليل واضح على أنّ الحديث كان بصدد نهي المسلمين عن اتخاذ القبر مسجوداً له أو قبلة .
والعجب من الشيخ الالباني حيث أراد استغلال الحديث لتأييد مذهبه، وموقفه، وفسِّر قولها: «فلولا ذاك لأبرز قبره» بأنّ المقصود هو الدفن خارج بيته، مع أنّ العبارة لا تتحمّل هذا، لانها تركزّ على ا لقبر الموجود، فيكون المقصود: ولو لا ذاك لكشف قبره ولم يتخذ عليه حائط .
5- قال أبو هريرة: قال رسول اللّه ـ صلَّى الله عليه وآله وسلم ـ : أللّهمّ لا تجعل قبري وثناً، لعن اللّه قوماً اتخذوا قبور أنبيائهم مساجد .
إنّ العلاقة بين الجملتين تكشف عن أنّ المقصود هو: اتخاذ قبور الأنبياء مساجد على نحو يعود القبر وثناً يعبد، أو يصلى إليه .
وأمّا الصلاة للّه تبارك وتعالى وإلى الكعبة عند القبر تبركاً به فلا تجعل القبر وثناً يعبد، وهذا هو قول اللّه تعالى وهو يأمر الحجيج باتّخاذ مقام إبراهيم مصلّى، ويقول: (وَاتَّخِذوا مِنْ مَقَامِ إبْرَاهِيمَ مُصَلّى)(2)
________________________________________
1. البخاري ج 3 ص 159 ومسلم ج 2 ص 76 .
2. سورة البقرة: الآية 125 .
________________________________________
(214)
وليست الصلاة عند القبر إلاّ كمثل الصلاة عند مقام إبراهيم .غير أنّ جسد النبي إبراهيم قد لامس هذا المكان مرة أو مرات عديدة، ولكن مقابر الأنبياء احتضنت أجسادهم الّتي لا تبلى دائماً.
6- إنّ علماء الحديث وجهابذته فهموا من هذه الأحاديث نفس ما قلناه، وإن لم يذكر الألباني وغيره شيئاً من هذه التفاسير .
أ ـ يقول العسقلاني: إنّما صوّروا أوائلهم الصور ليستأنسوا بها، ويتذكروا أفعالهم الصالحة فيجتهدوا كاجتهادهم، ثم خلفهم قوم جهلوا مرادهم ووسوس لهم الشيطان أنّ أسلافهم كانوا يعبدون هذه الصور ويعظمونها... إلى أن يقول: قال البيضاوي: لما كانت اليهود والنصارى يسجدون لقبور الأنبياء تعظيماً لشانهم، ويجعلونها قبلة يتوجهون في الصلاة نحوها، واتخذوها أوثاناً، لعنهم ومنع المسلمين عن مثل ذلك. فأمّا من اتخذ مسجداً في جوار صالح وقصد التبرك بالقرب منه، لا للتعظيم ولا للتوجه نحوه، فلا يدخل في الوعيد المذكور(1).
ب ـ ويقول النووي في شرح صحيح مسلم: قال العلماء إنما نهى النبي عن اتخاذ قبره و قبر غيره مسجداً خوفاً من المبالغة في تعظيمه والافتتان به، فربما أدّى ذلك إلى الكفر، كما جرى لكثير من الأُمم الخالية. ولما احتاجت الصحابة والتابعون إلى زيادة في مسجد رسول اللّه ـ صلَّى الله عليه وآله وسلم ـ حين كثر المسلمون، وامتدّت الزيادة إلى أن دخلت بيوت أُمهات المؤمنين فيه، ومنها حجرة عائشة، مدفن رسول اللّه ـ صلَّى الله عليه وآله وسلم ـ وصاحبيه، بنوا على القبر حيطاناً مرتفعة مستديرة حوله لئلاّ يظهر في المسجد فيصلي إليه العوام ويعود المحذور. ولهذا قالت عائشة في الحديث عنه: ولو لا ذلك لأبرز قبره، غير أنّه خشي أن يتّخذ مسجداً(2) .
ج ـ وقال السندي شارح الصحيح للنسائي: اتخذوا قبور أنبيائهم
________________________________________
1. فتح الباري في شرح صحيح البخاري ج 1 ص 525 ط دار المعرفة، وقريب منه ما في إرشاد الساري في شرح صحيح البخاري ج 2 ص 437 باب بناء المساجد على القبور .
2. صحيح مسلم بشرح النووي، ج 5 ص 13 ـ 14 .
________________________________________
(215)
مساجد، أي قبلة للصلاة ويصلون إليها، أو بنوا مساجد يصلون فيها، ولعلّ وجه الكراهة أنّه قد يقضي إلى عبادة نفس القبر .إلى أن يقول: يحذّر النبي أُمته أن يصنعوا بقبره ما صنع اليهود والنصارى بقبور أنبيائهم من اتخاذ تلك القبور مساجد، إمّا بالسجود إليها تعظيماً لها، أو بجعلها قبلة يتوجهون في الصلاة إليها(1).
د ـ وقال شارح آخر: إنّ حديث عائشة يرتبط بالمسجد البنوي قبل الزيادة فيه... أمّا بعد الزيادة وإدخال حجرتها فيه فقد بنوا الحجرة بشكل مثلث كي لا يتمكّن أحد من الصلاة على القبر، إنّ اليهود والنصارى كانوا يعبدون أنبياءهم بجوار قبورهم أو يجعلونهم شركاء في العبادة(2) .
هــ ـ قال الشيخ علي القاري: سبب لعنهم إمّا لأنهم كانوا يسجدون لقبور أنبيائهم تعظيماً لهم، وذلك هو الشرك الجلي، وإمّا لأنهم كانوا يتخذون الصلاة للّه تعالى في مدافن الأنبياء، والسجود على مقابرهم، والتوجه إلى قبورهم حال الصلاة، نظراً منهم بذلك إلى عبادة اللّه، والمبالغة في تعظيم الأنبياء، وذلك هو الشرك الخفي. فنهى النبي أُمته عن ذلك إمّا لمشابهة ذلك الفعل سنة اليهود، أو لتضمنه الشرك الخفي. كذا قال بعض الشراح من أئمتنا ويؤيده ما جاء في رواية. يحذر مثل الّذي منعوا(3) .
و ـ إنّ المروي عن أئمة أهل البيت هو ما فهمه أولئك الشراح .
1- روى الصدوق مرسلا قال: وقال النبي: لا تتخذوا قبري قبلة ولا مسجداً، فإنّ اللّه لعن اليهود حيث اتخذوا قبور أنبيائهم مساجد(4). والمراد من قوله «مسجداً» بقرينة «قبلة» هو السجود عليه تعظيماً.
روى الشيخ الطوسي بأسناده عن معمر بن خلاد، عن الرضا ـ عليه السَّلام ـ
________________________________________
1. السنن للنسائي ج 2 ص 41 طبع الأزهر .
2. صحيح مسلم ج 22 ص 66 .
3. مرقاة المفاتيح في شرح مشكاة المصابيح ج 1 ص 456 .
4. الوسائل: الجزء الثاني الباب 65 من أبواب الدفن. الحديث 2 .
________________________________________
(216)
قال: لا بأس بالصلاة بين المقابر ما لم يتخذ القبر قبلة(1) .3- روى الصدوق في علل الشرائع بإسناده إلى زرارة عن أبي جعفر (الباقر) ـ عليه السَّلام ـ قال: قلت له: الصلاة بين القبور، قال: بين خللها، ولا تتخذ شيئاً منها قبلة، فإنّ رسول اللّه نهى عن ذلك وقال: لا تتخذوا قبري قبلة ولا مسجداً، فإنّ اللّه عزّوجلّ لعن الذين اتخذوا قبور أنبيائهم مساجد(2) .
ولو كان المراد هو اتخاذ القبر قبلة حقيقة، بأن يصلى عليه من كل جانب كالكعبة، يكون حراماً لكونه بدعة، ولو كان المراد كون القبر أمامه وحيال وجهه، فيحمل على الكراهة لجريان سيرة المسلمين على الصلاة في الصفة في مسجد النبي، والقبر بحيال المصلي .
7- روى المفسرون في تفسير قوله سبحانه: (وَقَالُوا لاَ تَذَرُنَّ آلِهَتَكُم وَلاَ تَذَرُنَّ وُدّاً وَلاَ سُواعاً وَلاَ يَغُوثَ وَيَعُوقَ وَنَسْراً)(3) .
عن ابن عباس: هؤلاء كانوا قوماً صالحين في قومهم، فلمّا ماتوا عكفوا على قبورهم، ثم صوروا تماثيلهم، فلمّا طال عليهم الأمد عبودهم .
قال القرطبي: روى الأئمة عن أبي مرصد الغنوي قال: سمعت رسول اللّه ـ صلَّى الله عليه وآله وسلم ـ يقول: لا تصلوا إلى القبور ولا تجلسوا إليها (لفظ مسلم) أي لا تتخذوها قبلة، فتصلوا عليها أو إليها كما فعل اليهود والنصارى(4) .
8- روى مسلم في صحيحه عن النبي الأكرم أنّه قال حينما قالت أُم حبيبة وأُم سلمة بأنهما رأتا تصاوير في إحدى كنائس الحبشة: إنّ أولئك إذا كان فيهم الرجل الصالح فمات بنوا على قبره مسجداً، وصوروا فيه تلك الصورة،
________________________________________
1. الوسائل الجزء الثالث، الباب 25 من أبواب مكان المصلي، الحديث 3 والباب 26 الحديث 3 .
2. نفس المصدر .
3. سورة نوح: الآية 23 .
4. تفسير القرطبي ج 10 ص 380 .
________________________________________
(217)
أولئك شرار الخلق عند اللّه يوم القيامة(1) .
إنّ الهدف من وضع صور الصالحين بجوار قبورهم إمّا لغاية اتخاذها قبلة أو عبادة ذويها، كالصنم المنصوب، ومعه لا يمكن أن يستدل به على تحريم مطلق اتخاذ القبور، مساجد .
9- إنّ أقصى ما يدل عليه الحديث لو قلنا بإطلاقه هو أن يتّخذ مدفن الأنبياء مساجد، وأمّا بناء مسجد في جنب مدافنهم بحيث يكون المسجد وراء المدفن كما هو الحال في المشاهد المشرفة لأئمة الشيعة فلا يعمه النهي أبداً .
10- وعلى فرض وجود الإطلاق فإذا دار الأمر بين الأخذ بالكتاب(2) والسنة الرائجة بين المسلمين من عهد التابعين إلى يومنا هذا، حيث يصلون في مسجد النبي وقبره في وسطه، وبين إطلاق هذه الرواية فالأول هو المتعين .
إذا تبين عدم صلاحية الحديث للاستدلال على التحريم، فيجب علينا عرض المسألة على سائر الأدلة، وإليك البيان.
عرض المسألة على القرآن
كان الواجب على الوهابيين الذين يدمّرون الآثار الإسلامية بهذه الأحاديث عرض المسألة على القرآن الكريم الّذي هو تبيان لكل شيء .
قال سبحانه:
(وَنَزَّلْنا عَلَيْكَ الكِتَابَ تِبْياناً لِكُلِّ شيء)(3) .
والقرآن صادق مصدّق لا يكذب ـ يذكر سبحانه ـ في قصة أصحاب الكهف أنّ القوم لما عثروا على أجسادهم المطرية في الغار اختلفوا على قولين: تذكرهما الآية التالية :
(وَكَذَلِكَ أعْثَرْنَا عَلَيْهِمْ لِيَعْلَمُوا أنَّ وَعْدَ اللّهِ حَقٌّ وَأنَّ السّاعَةَ لاَ رَيبَ)
________________________________________
1. صحيح مسلم ج 2 ص 66 كتاب المساجد .
2. سيوافيك بيان دلالة الكتاب على الجواز .
3. سورة النحل: الآية 89 .
________________________________________
فالآية صريحة في أن القوم بعد ما عثروا عليهم اختلفوا في كيفية تكريمهم وتعظيمهم على قولين:
1- البناء على قبورهم «ابنوا عليهم بنياناً».
2- بناء المسجد على قبورهم «لنتخذن عليهم مسجداً».
وكلتا الطائفتين يريدان التعظيم والتكريم على اختلاف منهجهم، والمعروف بين المفسرين أنّ القائلين بالقول الأول كانوا هم المشركين، وأنّ القائلين بالقول الثاني هم الموحدون والمسلمون، وسواء أثبت ذلك أم لا فإنّ العاثرين عليهم اختلفوا في كيفية تكريمهم وتعظيمهم، وعلى كل تقدير فالآية حجة على جواز بناء المسجد على القبور أولا، وعلى جواز بناء المسلمين عليها ثانياً، وذلك لأنّ القرآن يذكر القولين من دون رد وطعن، ولو كان كل من القولين ـ وخصوصاً القول الثاني ـ على خلاف الهداية وفي جانب الضلالة، لأشار إلى ردّه وطعنه، وليس القرآن كتاب قصة وإنما هو كتاب هداية، فلو كان يذكر شيئاً من الأُمم السالفة، فإنما هو للعبرة والاعتبار، ولأجل ذلك كثيراً ما يردّ عليهم بعد نقل كلامهم، فسكوت القرآن تجاه هذين القولين ونقلهما عن القوم بصورة كونه عملا مستحسناً، أقوى دليل على جواز العمل المذكور في الأُمة المحمدية .
قال الطبري في تفسير قوله تعالى: (فَابْعَثُوا أَحَدَكُم بِوَرِقِكُمْ هَذِه إلى المَدينةَ):
«إنّ المبعوث دخل المدينة فجعل يمشي بين سوقها فيسمع أناساً كثيراً يحلفون باسم عيسى بن مريم، فزاده فزعاً، ورأى أنّه حيران، فقام مسنداً ظهره إلى جدار من جدران المدينة ويقول في نفسه: أمّا عشية أمس فليس على الأرض إنسان يذكر عيسى بن مريم إلاّ قتل، أمّا الغداة فاسمعهم، وكل
________________________________________
1. سورة الكهف: الآية 21 .
________________________________________
وهذا يعرب عن أنّ الأكثرية الساحقة كانت موحدة مؤمنة متدينة بشريعة المسيح، رغم ما كانوا على ضده قبل ثلاثمائة سنة .
وقال في تفسير قوله تعالى: (فَقَالُوا ابْنُوا عَلَيْهِم بُنْياناً) فقال الذين أعثرناهم على أصحاب الكهف: ابنوا عليهم بنياناً ربهم أعلم بهم يقول: رب الفتية أعلم بشأنهم وقوله: «قَالَ الّذينَ غَلَبُوا عَلَى أمْرِهِم» يقول جلّ ثناؤه: قال القوم الذين غلبوا على أمر أصحاب الكهف لنتخذنّ عليهم مسجداً .
وقد نقل عن عبداللّه بن عبيد بن عمير: فقال المشركون نبني عليهم بنياناً، فإنهم آباؤنا، ونعبد اللّه فيها. وقال المسلمون: نحن أحق بهم، هم منّاً، نبني عليهم مسجداً ونعبد اللّه فيه(2) .
وبذلك يعلم أنّ ما ذكره الألباني في الرد على الاستدلال بالآية، من أنّ المراد من الغالبين هم أهل السلطة ولا دليل على حجية فعلهم، رجم بالغيب، فإنّ ما ذكره الطبري يدل على أنّ المراد هو الغلبة في مجال الدين، وتدهور الوثنية وازدهار التوحيد .
وهذا يدلّ على أنّ سيرة العقلاء في العالم تكريم موتاهم، وأنّ سيرة المؤمنين الموحدين اتخاذ مقابر الصالحين مساجد ليتبركوا بوجودهم وأجسادهم الذين كرسوا حياتهم في إشادة قوائم التوحيد ورفعوا صرحه، وكيف يتصور ممن قام بتكريم إمام الموحدين وسيدهم، أن ينحرف عن خطه الأصيل (التوحيد) ويعبد غيره سبحانه ويكون مشركاً، إلاّ إذا كان منحرفاً وأشرب في قلبه العجل ـ أعادنا اللّه من وساوسهم .
1. تفسير الطبري ج 15 ص 219 طبع مصطفى الحلبي بمصر، سورة الكهف الآية 19 .
2. تفسير الطبري ج 15 ص 225، ولاحظ تفسير القرطبي والكشاف للزمخشري وغرائب القرآن للنيسابوري في ذيل هذه الآية .
إنّ الهدف من وضع صور الصالحين بجوار قبورهم إمّا لغاية اتخاذها قبلة أو عبادة ذويها، كالصنم المنصوب، ومعه لا يمكن أن يستدل به على تحريم مطلق اتخاذ القبور، مساجد .
9- إنّ أقصى ما يدل عليه الحديث لو قلنا بإطلاقه هو أن يتّخذ مدفن الأنبياء مساجد، وأمّا بناء مسجد في جنب مدافنهم بحيث يكون المسجد وراء المدفن كما هو الحال في المشاهد المشرفة لأئمة الشيعة فلا يعمه النهي أبداً .
10- وعلى فرض وجود الإطلاق فإذا دار الأمر بين الأخذ بالكتاب(2) والسنة الرائجة بين المسلمين من عهد التابعين إلى يومنا هذا، حيث يصلون في مسجد النبي وقبره في وسطه، وبين إطلاق هذه الرواية فالأول هو المتعين .
إذا تبين عدم صلاحية الحديث للاستدلال على التحريم، فيجب علينا عرض المسألة على سائر الأدلة، وإليك البيان.
عرض المسألة على القرآن
كان الواجب على الوهابيين الذين يدمّرون الآثار الإسلامية بهذه الأحاديث عرض المسألة على القرآن الكريم الّذي هو تبيان لكل شيء .
قال سبحانه:
(وَنَزَّلْنا عَلَيْكَ الكِتَابَ تِبْياناً لِكُلِّ شيء)(3) .
والقرآن صادق مصدّق لا يكذب ـ يذكر سبحانه ـ في قصة أصحاب الكهف أنّ القوم لما عثروا على أجسادهم المطرية في الغار اختلفوا على قولين: تذكرهما الآية التالية :
(وَكَذَلِكَ أعْثَرْنَا عَلَيْهِمْ لِيَعْلَمُوا أنَّ وَعْدَ اللّهِ حَقٌّ وَأنَّ السّاعَةَ لاَ رَيبَ)
________________________________________
1. صحيح مسلم ج 2 ص 66 كتاب المساجد .
2. سيوافيك بيان دلالة الكتاب على الجواز .
3. سورة النحل: الآية 89 .
________________________________________
(218)
فيها إذْ يَتنازَعُونَ بَيْنَهُم أمْرَهُم فَقَالُوا ابْنُوا عَلَيْهِم بُنْيَاناً رَبُّهُم أعْلَمُ بِهِم قَالَ الّذينَ غَلَبُوا عَلَى أمْرِهِم لَنَتَّخِذَنّ عَلَيْهِم مَسْجداً))(1) .فالآية صريحة في أن القوم بعد ما عثروا عليهم اختلفوا في كيفية تكريمهم وتعظيمهم على قولين:
1- البناء على قبورهم «ابنوا عليهم بنياناً».
2- بناء المسجد على قبورهم «لنتخذن عليهم مسجداً».
وكلتا الطائفتين يريدان التعظيم والتكريم على اختلاف منهجهم، والمعروف بين المفسرين أنّ القائلين بالقول الأول كانوا هم المشركين، وأنّ القائلين بالقول الثاني هم الموحدون والمسلمون، وسواء أثبت ذلك أم لا فإنّ العاثرين عليهم اختلفوا في كيفية تكريمهم وتعظيمهم، وعلى كل تقدير فالآية حجة على جواز بناء المسجد على القبور أولا، وعلى جواز بناء المسلمين عليها ثانياً، وذلك لأنّ القرآن يذكر القولين من دون رد وطعن، ولو كان كل من القولين ـ وخصوصاً القول الثاني ـ على خلاف الهداية وفي جانب الضلالة، لأشار إلى ردّه وطعنه، وليس القرآن كتاب قصة وإنما هو كتاب هداية، فلو كان يذكر شيئاً من الأُمم السالفة، فإنما هو للعبرة والاعتبار، ولأجل ذلك كثيراً ما يردّ عليهم بعد نقل كلامهم، فسكوت القرآن تجاه هذين القولين ونقلهما عن القوم بصورة كونه عملا مستحسناً، أقوى دليل على جواز العمل المذكور في الأُمة المحمدية .
قال الطبري في تفسير قوله تعالى: (فَابْعَثُوا أَحَدَكُم بِوَرِقِكُمْ هَذِه إلى المَدينةَ):
«إنّ المبعوث دخل المدينة فجعل يمشي بين سوقها فيسمع أناساً كثيراً يحلفون باسم عيسى بن مريم، فزاده فزعاً، ورأى أنّه حيران، فقام مسنداً ظهره إلى جدار من جدران المدينة ويقول في نفسه: أمّا عشية أمس فليس على الأرض إنسان يذكر عيسى بن مريم إلاّ قتل، أمّا الغداة فاسمعهم، وكل
________________________________________
1. سورة الكهف: الآية 21 .
________________________________________
(219)
إنسان يذكر أمر عيسى لا يخاف، ثم قال في نفسه: لعل هذه ليست بالمدينة الّتي أعرف...»(1) .وهذا يعرب عن أنّ الأكثرية الساحقة كانت موحدة مؤمنة متدينة بشريعة المسيح، رغم ما كانوا على ضده قبل ثلاثمائة سنة .
وقال في تفسير قوله تعالى: (فَقَالُوا ابْنُوا عَلَيْهِم بُنْياناً) فقال الذين أعثرناهم على أصحاب الكهف: ابنوا عليهم بنياناً ربهم أعلم بهم يقول: رب الفتية أعلم بشأنهم وقوله: «قَالَ الّذينَ غَلَبُوا عَلَى أمْرِهِم» يقول جلّ ثناؤه: قال القوم الذين غلبوا على أمر أصحاب الكهف لنتخذنّ عليهم مسجداً .
وقد نقل عن عبداللّه بن عبيد بن عمير: فقال المشركون نبني عليهم بنياناً، فإنهم آباؤنا، ونعبد اللّه فيها. وقال المسلمون: نحن أحق بهم، هم منّاً، نبني عليهم مسجداً ونعبد اللّه فيه(2) .
وبذلك يعلم أنّ ما ذكره الألباني في الرد على الاستدلال بالآية، من أنّ المراد من الغالبين هم أهل السلطة ولا دليل على حجية فعلهم، رجم بالغيب، فإنّ ما ذكره الطبري يدل على أنّ المراد هو الغلبة في مجال الدين، وتدهور الوثنية وازدهار التوحيد .
وهذا يدلّ على أنّ سيرة العقلاء في العالم تكريم موتاهم، وأنّ سيرة المؤمنين الموحدين اتخاذ مقابر الصالحين مساجد ليتبركوا بوجودهم وأجسادهم الذين كرسوا حياتهم في إشادة قوائم التوحيد ورفعوا صرحه، وكيف يتصور ممن قام بتكريم إمام الموحدين وسيدهم، أن ينحرف عن خطه الأصيل (التوحيد) ويعبد غيره سبحانه ويكون مشركاً، إلاّ إذا كان منحرفاً وأشرب في قلبه العجل ـ أعادنا اللّه من وساوسهم .
* * *
________________________________________1. تفسير الطبري ج 15 ص 219 طبع مصطفى الحلبي بمصر، سورة الكهف الآية 19 .
2. تفسير الطبري ج 15 ص 225، ولاحظ تفسير القرطبي والكشاف للزمخشري وغرائب القرآن للنيسابوري في ذيل هذه الآية .
التعلیقات
١