علل تكون الفرق الإسلامية
الشيخ جعفر السبحاني
منذ 8 أشهرعلل تكون الفرق الإسلامية
إن الوقوف على تاريخ الفرق الإسلامية ، وكيفية تكونها والعلل الباعثة على نشأتها ، من الأبحاث المهمة التي تعين الباحث في تقييم المذاهب الإسلامية ومدى إخلاص أصحابها في نشرها وبثها بين الأمة وهذه النقطة الحساسة من علم الملل والنحل ، قد أهملت في كثير من كتب الفرق والنحل إلا شيئاً قليلاً لا يشبع نهمة الطالب ونحن نأتي في هذه العجالة بإجمال ما وقفنا عليه في تاريخ تكونها والبواعث الموجدة لها ، وأما الإسهاب في البحث فموكول إلى آونة أخرى.
لبى النبي الأكرم صلی الله عليه وآله دعوة ربه وانتقل إلى جواره وترك لأمته ديناً قيماً عليه سمات من أبرزها « بساطة العقيدة ويسر التكليف » وأخذ المسلمون يفتحون البلاد بقوة المنطق أولاً وحد السلاح ثانياً وأخذت قوى الكفر والشر تنسحب أمام دعاة الإسلام وجنوده البواسل ، وتنصاع لهداه البلاد إثر البلاد.
ارتحل الرسول الصادع بالحق ، وترك بين أمته كتاب الله العزيز الذي فيه تبيان كل شيء (1) ، وسنته الوضاءة المقتبسة من الوحي (2) السليم من الخطأ ، المصون من الوهن وعترته الطيبين الذين هم في لسان نبيهم قرناء الكتاب (3).
فالمسلمون الأولون في ضوء بساطة العقيدة وسهولة التشريع وفي ظل هذه الحجج والأدلة القويمة ، كانوا في غنى عن الخوض في أقوال المدارس العقلية والمناهج الكلامية التي كانت دارجة بين الأمم المتحضرة آنذاك ، فهم بدل الغور فيها ، كانوا يخوضون غمار المنايا ويرتادون ميادين الحروب في أقطار العالم وأرجاء الدنيا لنشر الدين والتوحيد ومكافحة شتى ألوان الشرك والثنوية ومحو العدوان والظلم عن المجتمع البشري.
نعم كان هذا وصفهم وحالهم إلا شذاذاً منهم من الانتهازيين ، عبدة المقام وعشاق المال ممن لم تهمّهم إلا أنفسهم وإلا علفهم وماؤهم ، وقد قلنا إن بساطة التكليف كانت إحدى العوامل التي صرفت المسلمين عن التوجه والتعرض للمناهج الفلسفية الدارجة في الحضارات القائمة آنذاك فلأجل ذلك كانوا يكتفون مثلاً في معرفة الله سبحانه بقوله عز من قائل : ( أَفِي اللَّهِ شَكٌّ فَاطِرِ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ ) (4) ، وقوله عز وجل : ( أَمْ خُلِقُوا مِنْ غَيْرِ شَيْءٍ أَمْ هُمُ الْخَالِقُونَ ) (5) ، وفي نفي الشرك والثنوية كانوا يكتفون بقوله سبحانه : ( لَوْ كَانَ فِيهِمَا آلِهَةٌ إِلَّا اللَّهُ لَفَسَدَتَا ) (6) وفي التعرف على صفاته وأفعاله بقوله سبحانه : ( هُوَ اللَّهُ الَّذِي لَا إِلَٰهَ إِلَّا هُوَ عَالِمُ الْغَيْبِ وَالشَّهَادَةِ هُوَ الرَّحْمَٰنُ الرَّحِيمُ ) (7) ، إلى آخر سورة الحشر . وفي تنزيهه عن التشبيه والتجسيم بقوله سبحانه : ( لَيْسَ كَمِثْلِهِ شَيْءٌ وَهُوَ السَّمِيعُ الْبَصِيرُ ) (8) ، وبقوله : ( لَّا تُدْرِكُهُ الْأَبْصَارُ وَهُوَ يُدْرِكُ الْأَبْصَارَ ) (9) ، وفي سعة قدرته : ( وَمَا قَدَرُوا اللَّهَ حَقَّ قَدْرِهِ ) (10) ، إلى غير ذلك من الآيات الواردة حول المبدأ والمعاد وما يرجع إليهما من الأبحاث الكلامية الغامضة ، فلكل واحدة من هذه المسائل نصوص في الكتاب والسنة وهي أغنتهم عن الرجوع إلى غيرهم.
نعم إن مفاهيم هذه الآيات على بساطتها تهدف إلى معان بعيدة الأغوار ، عالية المضامين ، فالكل يستفيد منها حسب مقدرته واستعداده فهي هادية لكل البشر ومفيدة لجميع الطبقات من ساذجها إلى متعلمها ، إلى معلمها ...
وهذه الميزة يختص بها القرآن الكريم ويتميز فيها عن غيره فهو مع كونه هدى للناس عامة ، خير دليل للمفكرين صغارهم وكبارهم.
هذا هو الكتاب وأما السنة فهي عبارة عما ينسب الى النبي من قول أو فعل أو تقرير ، نازلة منزلة التفسير والتبيين لمعاني الكتاب الحكيم ، مبينة لمجمله ، شارحة لمعانيه كما يعرب عنه قوله سبحانه : ( وَأَنزَلْنَا إِلَيْكَ الذِّكْرَ لِتُبَيِّنَ لِلنَّاسِ مَا نُزِّلَ إِلَيْهِمْ وَلَعَلَّهُمْ يَتَفَكَّرُونَ ) (11) ، أي لا لتقرأ فقط بل لتبين وتشرح ما نزل ، بقولك وفعلك وتقريرك.
وأما العترة فيكفي في عصمتهم وحجية أقوالهم ، حديث الثقلين الذي تواتر نقله ، وقام بنقله أكابر المحدثين في العصور الإسلامية كلها.
وكان اللائق بالمسلمين والواجب عليهم مع الحجج الإلهية ، التمسك بالعروة الوثقى ، ورفض الاختلاف ولكن يا للأسف تفرقوا إلى فرق وفرق لعلل نشير إليها.
إن لتكون المذاهب الإسلامية ـ أصولاً وفروعاً ـ عللاً وأسباباً ومعدات وممهدات ولا يقوم بحق بيانها الباحث إلّا بإفراد كتاب خاص في هذا الموضوع ، ولكن نشير في هذه العجالة إلى العوامل الرئيسية في تكون الفرق ونشوئها في المجتمع الإسلامي وهي أمور :
1 ـ الاتجاهات الحزبية والتعصبات القبلية.
2 ـ سوء الفهم واعوجاجه في تحديد الحقائق الدينية.
3 ـ المنع عن كتابة حديث رسول الله صلی الله عليه وآله ونقله والتحدث به كما سيجيء.
4 ـ فسح المجال للأحبار والرهبان للتحدث عن قصص الأولين والآخرين.
5 ـ الاحتكاك الثقافي واللقاء الحضاري بين المسلمين وغيرهم من الفرس والروم والهنود.
6 ـ الاجتهاد في مقابل النص.
وإليك البحث في كل واحد من هذه العوامل حسب ما يقتضيه المجال.
* * *
( وَلَوْ أَنَّهُمْ فَعَلُوا مَا يُوعَظُونَ بِهِ لَكَانَ خَيْرًا لَّهُمْ وَأَشَدَّ تَثْبِيتًا ) ( النساء الآية 66 )
العامل الأول
الاتجاهات الحزبية والتعصبات القبلية
إن أعظم خلاف بين الأمة هو الخلاف في قضية الإمامة ، إذ ما سل سيف قط في الإسلام وفي كل الأزمنة على قاعدة دينية مثل ما سل على الإمامة ، وقد كان الشقاق بين المسلمين في تلك المسألة أول شقاق نجم بينهم وجعلهم فرقاً أو فرقتين. فمن جانب نرى علياً صلوات الله عليه ورجال البيت الهاشمي ركنوا إلى النص وقالوا : إن الإمامة شأنها شأن النبوة لا تكون إلا بالنص. وإن هذا النص قد صدر عن النبي في مواطن شتى ، آخرها واقعة الغدير المشهورة بين كافة الناس حينما قام النبي صلی الله عليه وآله في محتشد عظيم وقال : « من كنت مولاه فهذا علي مولاه ... » (12).
ومن جانب آخر نرى الأنصار تجتمع في سقيفة بني ساعدة قبل تجهيز النبي صلی الله عليه وآله ومواراته ، يبحثون عن قضية الإمامة أو الخلافة ، فيرى سيدهم أن القيادة حق للأنصار رافعاً عقيرته بقوله : يا معشر الأنصار لكم سابقة في الدين وفضيلة في الإسلام ليست في العرب ، إن محمداً صلی الله عليه وآله لبث بضع عشرة سنة في قومه يدعوهم إلى عبادة الرحمن وقلع الأنداد والأوثان فما آمن به من قومه إلا رجال قليل ما كانوا يقدرون على أن يمنعوا رسول الله صلی الله عليه وآله ولا أن يعزوا دينه ولا أن يدفعوا عن أنفسهم ضيماً عموا به ، حتى إذا أراد بكم الفضيلة ساق إليكم الكرامة وخصكم بالنعمة فرزقكم الله الإيمان به ورسوله والمنع له ولأصحابه ، والإعزاز له ولدينه ، والجهاد لأعدائه ، فكنتم أشد الناس على عدوه منكم وأثقله على عدوه من غيركم حتى استقامت العرب لأمر الله طوعاً وكرهاً ـ إلى أن قال ـ : استبدوا بهذا الأمر دون الناس فأجابوه بأجمعهم : أن قد وفقت في الرأي وأصبت في القول ولن نعدو ما رأيت ، نوليك هذا الأمر فإنك فينا مقنع ولصالح المؤمنين رضى (13).
هذا منطق الأنصار ورئيس جبهتهم ترى أنه يجر النار إلى قرصه وحزبه بحجة أنهم آمنوا بمحمد صلی الله عليه وآله ونصروه وآووه ، إلى غير ذلك من الحجج التي ذكرها سعد بن عبادة ، رئيس الخزرج في جبهة الأنصار.
ومن جهة ثالثة نرى بعض المهاجرين الذين اطلعوا على اجتماع الأنصار في السقيفة ، يتركون تجهيز النبي صلی الله عليه وآله ومواراته ويسرعون إلى السقيفة ويحضرون في جمعهم ويناشدونهم ويعارضون منطقهم بقولهم : إن المهاجرين أول من عبد الله في الأرض وآمن بالله وبرسوله وهم أولياؤه وعشيرته وأحق الناس بهذا الأمر من بعده ولا ينازعهم في ذلك إلا ظالم ـ إلى أن قال ـ : من ذا ينازعهم في سلطان محمد صلی الله عليه وآله وإمارته وهم أولياؤه وعشيرته إلّا مدل بباطل أو متجانف لإثم أو متورط في هلكة (14).
وهذا منطق بعض المهاجرين لا يقصر في الصلابة أو الوهن عن منطق الأنصار والكل يدعي أن الحق له ولحزبه ، من دون أن يتفكروا في مصالح الإسلام والمسلمين ، ومن دون أن يتفكروا في اللياقة والكفاءة في القائد ، ومن دون أن يرجعوا إلى الكتاب والسنة وإحراز المعايير التي يجب وجودها في القائد ، فيشبه منطق هؤلاء منطق المرشحين من سرد الثناء على أنفسهم وحزبهم لرئاسة الجمهورية أو عضوية المجلس الوطني.
وكل يدعي وصلاً بليلى |
وليلى لا تقر لهم بذاكا |
نعم كان هذا التشاجر قائماً بينهم على قدم وساق إلى أن تغلب جناح هذا الصنف من المهاجرين على جبهة الأنصار بإعانة بعض الأنصار وهو « بشير بن سعد » وهو ابن عم « سعد بن عبادة » فبايع أبا بكر حتى يكسر على سعد بن عبادة وعلى الخزرج ما كانوا أجمعوا أمرهم ، ولما رأت الأوس ما صنع بشير بن سعد وما تدعو إليه قريش وما تطلب الخزرج من تأمير سعد بن عبادة ، قال بعضهم لبعض ـ وفيهم أسيد بن حضير وكان أحد النقباء ـ : والله لئن وليتها الخزرج عليكم مرة لا زالت لهم عليكم بذلك الفضيلة ولا جعلوا لكم معهم فيها نصيباً فقوموا فبايعوا أبا بكر فقاموا إليه وبايعوه (15).
وهناك كلمة قيمة للإمام أمير المؤمنين في تقييم احتجاج الأنصار والمهاجرين نقلها الشريف الرضي في نهج البلاغة ، قال : لمّا انتهت إلى أمير المؤمنين عليه السلام أنباء السقيفة ، بعد وفاة رسول الله صلی الله عليه وآله وسلم ، قال عليه السلام : « ما قالت الأنصار ؟ » قالوا : قالت : منّا أمير ومنكم أمير.
قال عليه السلام : « فهلا احتججتم عليهم بأن رسول الله صلی الله عليه وآله وسلم وصى بأن يحسن إلى محسنهم ، ويتجاوز عن مسيئهم » !.
قالوا : « وما في هذا من الحجة عليهم ؟ ».
فقال عليه السلام : « لو كانت الإمارة فيهم ، لم تكن الوصية بهم ».
ثم قال عليه السلام : « فماذا قالت قريش ؟ ».
قالوا : « احتجت بأنها شجرة الرسول صلی الله عليه وآله وسلم ».
فقال عليه السلام : « احتجوا بالشجرة وأضاعوا الثمرة » (16).
وفي كلمة قصيرة عن الإمام عليه السلام ، قال : « وا عجباه تكون الخلافة بالصحابة ، ولا تكون بالصحابة والقرابة ».
قال الرضي ، وقد روي له شعر قريب من هذا المعنى وهو :
فإن كنت بالشورى ملكت أمورهم |
فكيف بهذا والمشيرون غُيَّبُ |
|
وإن كنت بالقربى حججت خصيمهم |
فغيرك أولى بالنبي وأقرب (17) |
وبتلك المعايير والمبررات تمت البيعة للخليفة والكل أشبه بالمكافحات الحزبية أو القبلية التي لا تمت إلى الإسلام وأهله بصلة.
فعند ذلك أخذ هؤلاء المهاجرون بزمام الحكم واحداً بعد واحد إلى أن تربع ثالث القوم عثمان بن عفان على منصة الحكم فحدثت في زمانه حوادث مؤلمة وبدع كثيرة أدت إلى الفتك به والإجهاز عليه.
غير أن علياً صلوات الله عليه وبني هاشم وعدة من المهاجرين والبدريين وعدة من كبائر الأنصار تمسكوا بالنص النبوي وبقوا على ما فارقهم رسول الله صلی الله عليه وآله وسلم عليه ، كما أن رئيس الأنصار الخزرجيين وداعميه لم يبايعوا أبا بكر ولا علياً.
هذا تحليل تكوّن أول تفرق حدث في الإسلام فجعل الأمة فرقتين فرقة تشايع الخلفاء وفرقة تشايع علياً عليه السلام إلى اليوم الحاضر.
والذين شايعوا علياً عليه السلام وتابعوه لم يكن ذلك منهم إلا تمسكاً بالدين مذعنين بأن النبي صلی الله عليه وآله وسلم قد نص عليه من دون أن يكون هناك اندفاع حزبي أو علاقة شخصية أو قبلية بل تسليماً لقوله سبحانه : ( وَمَا كَانَ لِمُؤْمِنٍ وَلَا مُؤْمِنَةٍ إِذَا قَضَى اللَّهُ وَرَسُولُهُ أَمْرًا أَن يَكُونَ لَهُمُ الْخِيَرَةُ مِنْ أَمْرِهِمْ ) (18).
وأما غيرهم فقد عرفت المعايير التي استندوا إليها في تقديمهم على غيرهم فالكل معايير قبلية أو شخصية.
العامل الثاني
سوء الفهم واللجاج في تحديد الحقائق
إذا كانت الدعايات الحزبية أول عامل لتكون الفرق ، فهناك عامل ثان لتفريق المسلمين وتبديدهم إلى فرق متباعدة وهو سوء الفهم عن تقصير في تحديد العقائد الدينية من بعضهم ، وقلة العقل وخفّته في بعض آخر منهم ، وقد كان هذا عاملاً قويّاً لتكوّن الخوارج التي كانت من أخطر الفرق على الإسلام والمسلمين ، لولا أن الإمام علياً عليه السلام استأصلهم وبدد شملهم ومع ذلك بقيت منهم حشاشات تنجم تارة وتخفق أخرى في الأجيال والقرون وإليك شرحه :
لقد ثار أهل العراق والحجاز ومصر على عثمان نتيجة الأحداث المؤلمة التي ارتكبها عماله في هذه البلاد وانتهى الأمر إلى قتله وتنصيب علي عليه السلام مكانه لما عرفت الأمة من علمه وفضله وسابقته وجهاده المنقطع النظير ، وقام علي عليه السلام بعزل الولاة والعمال الذين نصبهم عثمان على رقاب الناس ، وقد انتهت أعمالهم الإضرارية من جانب ، وإصرار الخليفة على إبقائهم من جانب آخر ، إلى قتله.
قام علي عليه السلام بعزل الولاة آنذاك ، ونصب العمال الأتقياء الزهاد الكفاة مكانهم ، وعند ذلك طمع الزبير بن العوام وطلحة بن عبيد الله في العراقين وطلبا منه أن يولي أحدهما على الكوفة والآخر على البصرة والمألوف من طريقة علي عليه السلام في تنصيب العمال اشتراط شروط ، تخالف ما كان عليه الرجلان وقد قال في حقهما كلمة : « وإني أخاف شرهما على الأمة وهما معي ، فكيف إذا فرقتهم في البلاد » (19).
فعند ذلك ثارا على الإمام علي عليه السلام وخرجا عليه واتهماه لتبرير موقفهما بقتل عثمان أو إيواء قتلته ، وكانت نتيجة ذلك اشتعال نار الحرب بين الإمام والرجلين في نواحي البصرة « حرب الجمل » وقتل الرجلين بعد أن أريقت دماء الأبرياء.
ثم إن معاوية قد عرف موقف علي عليه السلام بالنسبة إلى عمال الخليفة « عثمان » ومع هذا طلب من الإمام إبقاءه والياً على الشام فرفض الإمام ذلك لما يعرف من نفسية معاوية وانحرافه ، ونشبت من ذلك « حرب صفين » ولما ظهرت بوادر الفتح المبين لعلي وجيشه ، التجأ معاوية وحزبه إلى خديعة رفع المصاحف والدعوة إلى تحكيم القرآن بين الطرفين ، فصار ذلك نواة لحدوث الاختلاف في جبهة علي عليه السلام. فمن قائل : نستمر في الحرب وهذه خدعة ومكر ، ومن قائل : نجيبهم إلى ما دعونا إليه. وقد أمر الإمام بمواصلة الحرب وقام بتبيين الخدعة غير أن الظروف الحاكمة السائدة على جيش الإمام ألجأته إلى قبول وقف الحرب وإدلاء الأمر إلى الحكمين وإعلان الهدنة وكتب هناك كتاب حول هذا.
ومن العجيب أن الذين كانوا يصرون على إيقاف الحرب ندموا على ما فعلوا فجاؤوا إلى الإمام يصرون على نقض العهد ، والهجوم على جيش معاوية من جديد . غير أن الإمام وقف في وجههم بصمود لما يتضمن من نقض العهد ( وَكَانَ عَهْدُ اللَّهِ مَسْئُولًا ) (20).
وعند ذلك نجمت فرقة باسم الإسلام من جيش علي عليه السلام وطلع قرن الشيطان فعادت تلك الجماعة خارجة عن إطاعة إمامهم رافضة لحكومته ومبغضة إياه ، كما أبغضت عثمان وعماله وهذه الفرقة هي فرقة الخوارج وما زالوا مبدأ أحداث وعقائد في التاريخ. وكان الحافز القوي على تكوّن هذه الفرقة هو سوء الفهم واعوجاج السليقة وقد عرفهم الإمام بقوله ـ عندما شهروا سيوفهم عليه في النهروان ـ « فأنا نذيركم أن تصبحوا صرعى بأثناء هذا النهر وبأهضام هذا الغائط على غير بينة من ربكم ولا سلطان مبين معكم ، قد طوحت بكم الدار واحتبلكم المقدار وقد كنت نهيتكم عن هذه الحكومة فأبيتم علي إباء المخالفين المنابذين ، حتى صرفت رأيي إلى هواكم وأنتم معاشر أخفّاء الهام ، سفهاء الأحلام » (21).
وللإمام كلمة أخرى يشير فيها إلى السبب الذي فارقوا به عن الحق قال صلوات الله عليه : « لا تقتلوا الخوارج بعدي فليس من طلب الحق فأخطأه كمن طلب الباطل فأدركه » ( يعني معاوية وأصحابه ).
قال الإمام عبده : « والخوارج من بعده وإن كانوا قد ضلوا بسوء عقيدتهم فيه إلا أن ضلتهم لشبهة تمكنت في نفوسهم فاعتقدوا أن الخروج عن طاعة الإمام مما يوجبه الدين عليهم فقد طلبوا حقاً وأرادوا تقريره شرعاً فأخطأوا الصواب فيه » (22).
وقد زعموا أن مسألة التحكيم تخالف قوله سبحانه : ( إِنِ الْحُكْمُ إِلَّا لِلَّهِ ) (23).
وسيوافيك مفاد الآية ومقالة المحتجين بها ـ عند البحث عن عقائد تلك الفرقة ـ كي يظهر مدى اعوجاج فهم القوم.
ظهور المرجئة
قد كان لظهور الخوارج أثر بارز في حدوث الفتن وظهور الحوادث الأخر في المجتمع الإسلامي وقد نجمت المرجئة من تلك الناحية حيث إن الإرجاء بمعنى التأخير قال سبحانه : ( أَرْجِهْ وَأَخَاهُ وَأَرْسِلْ فِي الْمَدَائِنِ حَاشِرِينَ ) (24).
ولهذه الفرقة ( المرجئة ) آراء خاصة نشير إليها في محلها ، غير أن اللبنة الأولى لظهورها هي اختلافهم في أمر علي وعثمان ، فهؤلاء ( الخوارج ) كانوا يحترمون الخليفتين أبا بكر وعمر ويبغضون علياً وعثمان ، على خلاف أكثرية المسلمين ، ولكن المرجئة الأولى لما لم يوفقوا لحل هذه المشكلة التجأوا إلى القول بالإرجاء فقالوا : نحن نقدم أمر أبي بكر وعمر ، ونؤخر أمر الآخرين إلى يوم القيامة ، فصارت المرجئة فرقة نابتة من خلاف الخوارج في أمر الخليفتين ، مع فوارق بينهم وبين المرجئة التي تأتي في محلها والعامل لتكونها كأصلها ، هو سوء الفهم واعوجاج التفكير.
هذا هو أصل الإرجاء ، ولبنته الأولى ، ولكنه قد نسي في الأونة الأخيرة ، وأخذ الأصل الآخر مكانه. وهو كون العمل داخلاً في الإيمان أو لا ، وبعبارة أخرى : هل مرتكب الكبيرة مؤمن أو لا ؟.
ذهبت الخوارج إلى دخول العمل في صميم الإيمان ، فصار مرتكب الكبيرة كافراً.
واختارت المعتزلة كون مرتكب الكبيرة غير مؤمن ولكنه ليس بكافر ، بل هو في منزلة بين المنزلتين.
وذهبت المرجئة الأولى إلى خروج العمل من الإيمان ، وأن إيمان مرتكب الكبيرة ، كإيمان الملائكة والأنبياء بحجة عدم دخالة العمل في الإيمان.
فاشتهروا بالقول : « قدموا الإيمان وأخروا العمل » فصار هذا أصلاً وأساساً ثانوياً للمرجئة. فكلما أطلقت المرجئة لا يتبادر منها إلا هؤلاء.
إن الاكتفاء في تفسير الإيمان بالشهادة اللفظية أو المعرفة القلبية وأن عصاة المؤمنين لا يعذبون أصلاً وان النار للكافرين (25) واقتحام الكبائر لا يضر أبداً ، فكرة خاطئة تسير بالمجتمع وخصوصاً الشباب فيه إلى الخلاعة والانحلال الأخلاقي وترك القيم.
وعلى كل تقدير إن نظرية الإرجاء في كلا الموضعين نظرية باطلة نشأت من الاعوجاج في فهم المعارف والانحراف في تفسير الذكر الحكيم ، والحديث المأثور عن النبي الأكرم (ص).
ولما كان مذهب الإرجاء لصالح السلطة الأموية أخذت تروجه وتسانده حتى لم يلبث أن فشا في الأرجاء ، ولم تبق كورة إلا وفيها مرجئي كما سيوافيك ذلك عند البحث عن عقائد هذه الفرقة.
وليس ظهور الخوارج أو المرجئة وحدهما نتاج الإعوجاج الفكري بل هناك مذاهب أخرى نجمت من هذا المنشأ عصمنا الله جميعاً من الزلل في القول والعمل.
* * *
( ادْعُ إِلَىٰ سَبِيلِ رَبِّكَ بِالْحِكْمَةِ وَالْمَوْعِظَةِ الْحَسَنَةِ وَجَادِلْهُم بِالَّتِي هِيَ أَحْسَنُ ).
( النحل : الآية 125 )
العامل الثالث
المنع عن كتابة الحديث وتدوينه بل التحدث عنه
إن هنا عاملاً ثالثاً لتكون الفرق ونشوء الفوضى في العقائد والأصول ، وهو المنع عن كتابة الحديث وتدوينه بل التحدث عنه بعد رسول الله ( صلی الله عليه وآله وسلم ) إلى عهد المنصور العباسي.
توضيحه : الحديث عبارة عما ينسب إلى النبي ( صلی الله عليه وآله وسلم ) من قول أو فعل أو تقرير نازل منزلة التفسير لمعاني الكتاب الحكيم ، مبين لمجمله ، شارح لمعانيه كما يعرب عنه قوله سبحانه : ( وَأَنزَلْنَا إِلَيْكَ الذِّكْرَ لِتُبَيِّنَ لِلنَّاسِ مَا نُزِّلَ إِلَيْهِمْ وَلَعَلَّهُمْ يَتَفَكَّرُونَ ) (26).
أي لا لتقرأ فقط بل تبين وتشرح ما نزل ، بقولك وفعلك وتقريرك.
إذا كانت السنة هي في الدرجة الثانية من الدين بعد القرآن الكريم في الحجية والاعتبار ، حتى إنك لا تجد فيها شيئاً إلا وفي القرآن أصوله وجذوره ، ولا إسهاباً إلا وفيه مجمله وعناوينه.
وإذا كان الرسول ( صلی الله عليه وآله وسلم ) لا يصدر في قوله وكلامه إلا بإيحاء من الله سبحانه كما يصرح بذلك قوله سبحانه : ( مَا ضَلَّ صَاحِبُكُمْ وَمَا غَوَىٰ * وَمَا يَنطِقُ عَنِ الْهَوَىٰ * إِنْ هُوَ إِلَّا وَحْيٌ يُوحَىٰ ) (27).
فهل يصح للرسول أن يمنع عن تدوينه وكتابته أو مدارسته ومذاكرته ؟.
وإذا كان الرسول منع دراسة الحديث ونقله ونشره وتدوينه فما معنى قوله ( صلی الله عليه وآله وسلم ) في خطبته في منى عام حجة الوداع : « نضر الله امرأً سمع مقالتي فوعاها وحفظها وبلغها فرب حامل فقه إلى من هو أفقه منه » (28). وما معنى قوله ( صلی الله عليه وآله وسلم ) : « نضر الله امرأً سمع منا شيئاً فبلغه كما يسمع ، فرب مبلغ أوعى من سامع » (29). أو قوله ( صلی الله عليه وآله وسلم ) : « اللهم ارحم خلفائي ، اللهم ارحم خلفائي ، اللهم ارحم خلفائي ، قيل يا رسول الله ومن خلفاؤك ؟ قال : الذين يأتون من بعدي يروون حديثي وسنتي » (30). كيف تصح نسبة المنع إلى الرسول الأعظم ، مع أن المستفيض منه خلافه ، وإليك بعض ما ورد عنه ( صلی الله عليه وآله وسلم ).
أمر الرسول بكتابة حديثه
1 ـ روى البخاري عن أبي هريرة أن خزاعة قتلوا رجلاً من بني ليث عام فتح مكة بقتيل منهم قتلوه ، فأخبر بذلك النبي ( صلى الله عليه وسلم ) فركب راحلته فخطب ، فقال : « إن الله حبس عن مكة القتل أو الفيل ( شك أبو عبد الله ) وسلط عليهم رسول الله ( صلى الله عليه وسلم ) والمؤمنين. ألا وإنها لم تحل لأحد قبلي ولم تحل لأحد بعدي. ـ إلى أن قال ـ : فجاء رجل من أهل اليمن فقال : « اكتب لي يا رسول الله ؟ فقال : « اكتبوا لأبي فلان ـ إلى أن قال ـ : كتب له هذه الخطبة » (31).
2 ـ وروي أن رجلاً من الأنصار كان يجلس إلى النبي ( صلى الله عليه وسلم ) فيسمع من النبي الحديث فيعجبه ولا يحفظه ، فشكا ذلك إلى النبي ( صلى الله عليه وسلم ) فقال : « يا رسول الله إني أسمع منك الحديث فيعجبني ولا أحفظه ، فقال رسول الله ( صلى الله عليه وسلم ) : استعن بيمينك وأومأ بيده للخط » (32).
3 ـ وعن عمرو بن شعيب عن أبيه عن جده قال : قلت : « يا رسول الله أكتب كل ما أسمع منك ؟ قال : نعم. قلت : في الرضا والسخط ؟ قال : نعم فإنه لا ينبغي لي أن أقول في ذلك إلا حقاً » (33).
4 ـ وعن عبد الله بن عمرو قال : كنت أكتب كل شيء أسمعه من رسول الله ( صلى الله عليه وسلم ) أريد حفظه فنهتني قريش وقالوا : تكتب كل شيء سمعته من رسول الله ( صلى الله عليه وسلم ) ورسول الله ( صلى الله عليه وسلم ) بشر يتكلم في الغضب والرضا فأمسكت عن الكتابة فذكرت ذلك لرسول الله ( صلى الله عليه وسلم ) فأومأ بإصبعه إلى فيه وقال : « اكتب ، فوالذي نفسي بيده ما خرج منه إلا حق » (34).
5 ـ وعن عمرو بن شعيب عن أبيه ، عن جده ، قال : قلت يا رسول الله إنا نسمع منك أحاديث لا نحفظها أفلا نكتبها ؟ قال : « بلى فاكتبوها » (35).
أضف أن الذكر الحكيم يحث المسلمين على كتابة ما يتداينون بينهم. قال سبحانه : ( يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا إِذَا تَدَايَنتُم بِدَيْنٍ إِلَىٰ أَجَلٍ مُّسَمًّى فَاكْتُبُوهُ وَلْيَكْتُب بَّيْنَكُمْ كَاتِبٌ بِالْعَدْلِ وَلَا يَأْبَ كَاتِبٌ أَن يَكْتُبَ كَمَا عَلَّمَهُ اللَّهُ فَلْيَكْتُبْ وَلْيُمْلِلِ الَّذِي عَلَيْهِ الْحَقُّ ... ) ثم يعود ويؤكد على المؤمنين أن لا يسأموا من الكتابة فقال سبحانه : ( وَلَا تَسْأَمُوا أَن تَكْتُبُوهُ صَغِيرًا أَوْ كَبِيرًا إِلَىٰ أَجَلِهِ ... ) (36).
فإذا كان المال الذي هو زينة الحياة الدنيا من الأهمية بهذه المنزلة فكيف بأقوال النبي ( صلی الله عليه وآله وسلم ) وأفعاله وتقاريره التي تعتبر تالي القرآن الكريم حجية وبرهاناً ؟.
وهناك كلمة قيمة للخطيب البغدادي نأتي بها برمتها : « وقد أدب الله سبحانه عباده بمثل ذلك في الدين ، فقال عز وجل : ( وَلَا تَسْأَمُوا أَن تَكْتُبُوهُ صَغِيرًا أَوْ كَبِيرًا إِلَىٰ أَجَلِهِ ، ذَٰلِكُمْ أَقْسَطُ عِندَ اللَّهِ وَأَقْوَمُ لِلشَّهَادَةِ وَأَدْنَىٰ أَلَّا تَرْتَابُوا ) (37).
فلما أمر الله تعالى بكتابة الدين حفظاً له ، واحتياطاً عليه وإشفاقاً من دخول الريب فيه ، كان العلم الذي حفظه أصعب من حفظ الدين ، أحرى أن تباح كتابته خوفاً من دخول الريب والشك فيه . بل كتابة العلم في هذا الزمان ، مع طول الاسناد ، واختلاف أسباب الرواية ، أحج من الحفظ ، ألا ترى أن الله عز وجل جعل كتب الشهادة فيما يتعاطاه الناس من الحقوق بينهم ، عوناً عند الجحود ، وتذكرة عند النسيان وجعل في عدمها عند المموهين بها أوكد الحجج ببطلان ما ادعوه فيها ، فمن ذلك أن المشركين لما ادعوا بهتاً اتخاذ الله سبحانه بنات من الملائكة أمر الله نبينا ( صلى الله عليه وسلم ) أن يقول لهم : ( فأَتُوا بِكِتابِكُمْ إِنْ كُنْتُمْ صادِقِينَ ) (38).
ولما قالت اليهود : ( مَا أَنزَلَ اللَّهُ عَلَىٰ بَشَرٍ مِّن شَيْءٍ ) (39) وقد استفاض عنهم قبل ذلك للإيمان بالتوراة ، قال الله تعالى لنبينا ( صلى الله عليه وسلم ) : قل لهم : ( مَنْ أَنزَلَ الْكِتَابَ الَّذِي جَاءَ بِهِ مُوسَىٰ نُورًا وَهُدًى لِّلنَّاسِ تَجْعَلُونَهُ قَرَاطِيسَ تُبْدُونَهَا وَتُخْفُونَ كَثِيرًا ) (40) ، فلم يأتوا على ذلك ببرهان ، فأطلع الله على عجزهم عن ذلك بقوله : ( قُلِ اللَّهُ ثُمَّ ذَرْهُمْ فِي خَوْضِهِمْ يَلْعَبُونَ ) (41).
وقال تعالى ـ راداً على متخذي الأصنام آلهة من دونه ـ : ( أَرُونِي مَاذَا خَلَقُوا مِنَ الْأَرْضِ ، أَمْ لَهُمْ شِرْكٌ فِي السَّمَاوَاتِ ، ائْتُونِي بِكِتَابٍ مِّن قَبْلِ هَٰذَا ، أَوْ أَثَارَةٍ مِّنْ عِلْمٍ إِن كُنتُمْ صَادِقِينَ ) (42). والأثارة والأثرة ، راجعان في المعنى إلى شيء واحد ، وهو ما أثر من كتب الأولين . وكذلك سبيل من ادعى علماً أو حقاً من حقوق الأملاك ، أن يقيم دون الإقرار برهاناً ، إمّا شهادة ذوي عدل أو كتاباً غير مموه ، وإلا فلا سبيل إلى تصديقه.
والكتاب شاهد عند التنازع ... » إلى آخر ما ذكره (43).
نرى أنه سبحانه قد شرح دساتير وحيه وآي قرآنه بالأمر بالقراءة مبيناً أهمية القلم في التعليم والتعلم حيث قال عز من قائل : ( اقْرَأْ بِاسْمِ رَبِّكَ الَّذِي خَلَقَ * خَلَقَ الْإِنسَانَ مِنْ عَلَقٍ * اقْرَأْ وَرَبُّكَ الْأَكْرَمُ * الَّذِي عَلَّمَ بِالْقَلَمِ ) (44).
بل وعظم سبحانه القلم والكتابة تعظيماً ، حتى جعلها بمرتبة استحقاق القسم بها فهو جل وعلا يقول : ( ن ، وَالْقَلَمِ وَمَا يَسْطُرُونَ ) (45).
أفهل يعقل معه أن ينهى رسول الله ( صلی الله عليه وآله وسلم ) عن كتابة ما هو قرين القرآن وتاليه في الحجية ، أعني السنة الشريفة ؟ كلا.
أسطورة المنع عن كتابة الحديث
هذا إن دل على شيء فإنما يدل على أن ما نسب إليه ( صلی الله عليه وآله وسلم ) من النهي عن كتابة الحديث ، يخالف منطق الوحي والحديث والعقل ، وما هو إلا وليد الأوهام والسياسات التي أخذت تمنع نشر حديث الرسول ( صلی الله عليه وآله وسلم ) وتدوينه لغايات سياسية لا تخفى على ذي لب. فمثلاً روى مسلم في صحيحه وأحمد في مسنده أن رسول الله ( صلی الله عليه وآله وسلم ) قال : « لا تكتبوا عني ومن كتب عني غير القرآن فليمحه » (46) وفي رواية : « إنهم استأذنوا النبي ( صلی الله عليه وآله وسلم ) أن يكتبوا عنه فلم يأذنهم » (47).
وفي مسند أحمد أن رسول الله ( صلی الله عليه وآله وسلم ) نهى أن نكتب شيئاً من حديثه (48). وأيضاً ورد في مسند أحمد عن أبي هريرة أنه قال : « كنا قعوداً نكتب ما نسمع من النبي فخرج علينا فقال : ما هذا تكتبون ؟ فقلنا : ما نسمع منك ، فقال : أكتاب مع كتاب الله ؟ فقلنا : ما نسمع. فقال : اكتبوا كتاب الله ، امحضوا كتاب الله ، أكتاب غير كتاب الله امحضوا أو خلصوه. قال : فجعلنا ما كتبنا في صعيد واحد ثم أحرقناه بالنار » (49).
ثم إن القوم لم يكتفوا بما نسبوه إلى النبي في مجال كتابة الحديث ، بل ذكروا هناك أحاديث موقوفة على الصحابة والتابعين تنتهي إلى الشخصيات البارزة : كأبي سعيد الخدري ، وأبي موسى الأشعري ، وعبد الله بن مسعود ، وأبي هريرة ، وعبد الله بن عباس وعبد الله بن عمر ، وعمر بن عبد العزيز ، وعبيدة ، وإدريس بن أبي إدريس ، ومغيرة بن ابراهيم إلى غير ذلك (50).
وروى عروة بن الزبير أن عمر بن الخطاب أراد أن يكتب السنن فاستشار في ذلك أصحاب رسول الله ( صلی الله عليه وآله وسلم ) فأشاروا عليه أن يكتبها فطفق عمر يستخير الله فيها شهراً ، ثم أصبح يوماً وقد عزم الله له فقال : « إني كنت أردت أن أكتب السنن وإني ذكرت قوماً كانوا قبلكم كتبوا كتباً فأكبوا عليها وتركوا كتاب الله ، وإني والله لا ألبس كتاب الله بشيء أبداً » (51).
وروى ابن جرير أن الخليفة عمر بن الخطاب كان كلما أرسل حاكماً أو والياً إلى قطر أو بلد ، يوصيه في جملة ما يوصيه : « جردوا القرآن وأقلوا الرواية عن محمد وأنا شريككم » (52).
وكان عمر قد شيع قرظة بن كعب الأنصاري ومن معه إلى « صرار » على ثلاثة أميال من المدينة وأظهر لهم أن مشايعته لهم إنما كانت لأجل الوصية بهذا الأمر ، وقال لهم ذلك القول.
قال قرظة بن كعب الأنصاري : أردنا الكوفة فشيعنا عمر إلى « صرار » فتوضأ فغسل مرتين وقال : « تدرون لم شيعتكم ؟ فقلنا : نعم ، نحن أصحاب رسول الله ( صلى الله عليه وسلم ) ، فقال : إنكم تأتون أهل قرية لهم دوي بالقرآن كدوي النحل ، فلا تصدوهم بالأحاديث فتشغلوهم . جردوا القرآن ، وأقلوا الرواية عن رسول الله ، وامضوا وأنا شريككم (53) ».
وقد حفظ التاريخ أن الخليفة قال لأبي ذر ، وعبد الله بن مسعود ، وأبي الدرداء : « ما هذا الحديث الذي تفشون عن محمد ؟ ! » (54).
وذكر الخطيب في « تقييد العلم » عن القاسم بن محمد : أن عمر بن الخطاب بلغه أن في أيدي الناس كتباً ، فاستنكرها وكرهها وقال : « أيها الناس إنه قد بلغني أنه قد ظهرت في أيديكم كتب فأحبها إلى الله ، أعدلها وأقومها ، فلا يبقين أحد عنده كتاب إلا أتاني به فأرى فيه رأيي. قال فظنوا أنه يريد ينظر فيها ويقومها على أمر لا يكون فيه اختلاف فأتوه بكتبهم فأحرقها بالنار ثم قال : أمنية كأمنية أهل الكتاب » (55).
وقد صار عمل الخليفتين سنة ، فمشى عثمان مشيهما ، ولكن بصورة محدودة وقال على المنبر : « لا يحل لأحد يروي حديثاً لم يسمع به في عهد أبي بكر ولا عهد عمر » (56).
كما أن معاوية اتبع طريقة الخلفاء الثلاث فخطب وقال : « يا ناس أقلوا الرواية عن رسول الله وإن كنتم تتحدثون فتحدثوا بما كان يتحدث به في عهد عمر » (57).
حتى أن عبيد الله بن زياد عامل يزيد بن معاوية على الكوفة ، نهى زيد بن أرقم الصحابي عن التحدث بأحاديث رسول الله (58).
وبذلك أصبح ترك كتابة الحديث سنة إسلامية ، وعدت الكتابة شيئاً منكراً مخالفاً لها.
هذه هي بعض الأقاويل التي رواها أصحاب الصحاح والسنن وفي نفس الوقت نقلوا أحاديث تناقضها وتأمر بكتابة الحديث والسنة كما ستوافيك.
العقل والمنع عن كتابة الحديث
كيف يسمح العقل والمنطق أن يحكم بصحة الأحاديث الناهية عن الكتابة ، مع أن الرسول ( صلی الله عليه وآله وسلم ) أمر في أخريات حياته أن يحضروا له قلماً ودواة ليكتب لهم كتاباً لن يضلوا بعده أبداً ! وما كان المكتوب ( على فرض كتابته ) إلا حديثاً من أحاديثه فقد روى البخاري عن ابن عباس أنه قال : « لما اشتد بالنبي وجعه قال : ايتوني بكتاب أكتب لكم كتاباً لا تضلوا بعده ، قال عمر : إنّ النبيّ ( صلّی الله عليه وآله وسلّم ) غلبه الوجع وعندنا كتاب الله حسبنا. فاختلفوا وكثر اللغط قال : قوموا عني ولا ينبغي عندي التنازع فخرج ابن عباس يقول : الرزية كل الرزية ما حال بين رسول الله وبين كتابه » (59).
أفهل يجتمع هذا الأمر مع النهي عن تدوينه ؟.
ثم إننا نرى أن الرسول ( صلی الله عليه وآله وسلم ) قام يبعث كتابات إلى الملوك والساسة والأمراء والسلاطين وشيوخ القبائل ورؤسائها ناهز عددها ثلاثمائة كتاب في طريق الدعوة والتبليغ أو حول العهود والمواثيق وقد حفظ التاريخ متون هذه الرسائل التي جمع بعضها نخبة مع المحققين في كتب خاصة (60).
والتاريخ يصرح بأن الرسول صلی الله عليه وآله وسلم كان يملي والكاتب يكتب ، فلما ازدادت الحاجة وكثرت العلاقات الاجتماعية أصبحت الحاجة إلى كتاب يمارسون عملهم ، فأدى ذلك إلى كثرة الكتاب فجعل لكل عمل كاتباً ولكل كاتب راتباً معيناً. وقد كان أكثرهم كتابة ، علي بن أبي طالب صلوات الله وسلامه عليه فقد كان يكتب الوحي وغيره من العهود والمصالحات وقد أنهى المؤرخون كتّابه ( صلی الله عليه وآله وسلم ) إلى سبعة عشر كاتباً.
فهل يجوز أن يكتب الرسول الأكرم ( صلی الله عليه وآله وسلم ) هذه المكاتبات والعهود والمصالحات إلى بطون القبائل ورؤساء العشائر وهو يعلم أنهم يحتفظون بهذه المكاتبات بحجة أنها من أوثق الوثائق السياسية والدينية ، ثم ينهى عن تسطير كلامه وحديثه ؟ فما هذان إلا نقيضان لا يجتمعان.
الغايات السياسة والأهداف الدينية
ومع ذلك كله فقد غلبت الغايات السياسية على الأهداف الدينية وقامت بكل قوة أمام حديث النبي ونشره وكتابته ، حتى إنّ الخليفة أبا بكر أحرق في خلافته خمس مائة حديث كتبه عن رسول الله ( صلی الله عليه وآله وسلم ) (61). ولما قام عمر بعده بالخلافة نهى عن كتابة الحديث وكتب إلى الأفاق : أن من كتب حديثاً فليمحه (62). ثم نهى عن التحدث ، فتركت عدة من الصحابة الحديث
عن رسول الله ( صلی الله عليه وآله وسلم ) (63) فلم يكتب الحديث ولم يدون إلّا في عهد المنصور عام 143 كما سيوافيك بيانه.
وقد بلغت جسارة قريش إلى ساحة النبي الأقدس أن منعوا عبد الله بن عمرو عن الاهتمام بحديث النبي وكتابته قائلاً بأنه بشر يغضب (64). أي والله إنه بشر يرضى ويغضب ولكن لا يرضى ولا يغضب إلا من حق ولا يصدر إلا عنه.
إن الرزية الكبرى هي أن يمنع التحدث بحديث رسوله وكتابته وتدوينه ويحل محله التحدث عن العهد القديم والجديد وعن الأحاديث الإسرائيلية والمسيحية والمجوسية (65) فتمتلیء الأذهان والصدور بالقصص الخرافية التي لا تمت إلى الإسلام بصلة ولا يصدقها العقل والمنطق كما سيمر عليك شرح تلك الفاجعة العظمى التي ألمت بالإسلام والمسلمين.
فلو صح ما نقل عن أبي هريرة من جمع ما كتبه الصحابة عن النبي ( صلی الله عليه وآله وسلم ) في مكان واحد وحرقه بالنار ، لوجب على المسلمين كافة أن يجمعوا كل مصادر أحاديث الرسول ( صلی الله عليه وآله وسلم ) وعلى رأسها صحيح البخاري وصحيح مسلم وحرقها في مكان واحد وذلك اقتداء بالسلف الصالح !! ، وإذا صح فهل يبقى من الإسلام ما يرجع إليه في فهم القرآن الكريم وتمييز الحلال عن الحرام ؟.
والذي أظنه ( وظن الألمعي صواب ) أن الذي منع من تدوين الحديث ونشره ومدارسته وكتابته بعد رسول الله ( صلی الله عليه وآله وسلم ) ، هو الذي منع كتابة الصحيفة يوم الخميس عند احتضار النبي ( صلی الله عليه وآله وسلم ) فالغاية بداية ونهاية وقبل رحلته ( صلی الله عليه وآله وسلم ) وبعدها واحدة لم تتغير ، وأما حقيقة تلك الغاية فتفصيلها موكول إلى آونة أخرى ونأتي بمجملها :
كان رسول الله ( صلی الله عليه وآله ) منذ أن صدع بالدعوة ، وأجهر بها ، ينص على فضائل علي ومناقبه في مناسبات شتى ، فقد عرفه في يوم الدار الذي ضم فيه أكابر بني هاشم وشيوخهم ، بقوله : « إن هذا أخي ووصيي وخليفتي فيكم فاسمعوا له وأطيعوا ».
وفي يوم الأحزاب بقوله : « ضربة علي يوم الخندق أفضل من عبادة الثقلين ».
وفي اليوم الذي غادر فيه المدينة متوجهاً إلى تبوك ، وقد ترك علياً خليفته على المدينة ، عرّفه بقوله : « أما ترضى أن تكون مني بمنزلة هارون من موسى إلا أنه لا نبي بعدي ».
إلى أن عرفه في حجة الوداع في غدير خم بقوله : « من كنت مولاه ، فهذا علي مولاه » (66).
وغير ذلك من المناقب والفضائل المتواترة ، وقد سمعها كثير من الصحابة فوعوها.
فكتابة حديث رسول الله بمعناها الحقيقي ، لا تنفك عن ضبط ما أثر عنه ( صلی الله عليه وآله ) في حق أول المؤمنين به ، وأخلص المناصرين له في المواقف الحاسمة ، وليس هذا شيئاً يلائم شؤون الخلافة التي تصدرها المانع عن الكتابة.
وهناك وجه آخر للمنع عنها ، هو أن علياً كان أحد المهتمين بكتابة حديث رسول الله وضبطه كما كان مولعاً بضبط الوحي وكتابته . وقد كتب من أحاديث رسول الله ما أملى عليه فصار له أذناً واعية ، وهو عليه السلام ، بالنسبة إلى رسول الله كما قال هو نفسه : « إني كنت إذا سألته أنبأني وإذا سكت ابتدأني » (67). وهو أول من ألف أحاديث رسول الله وكتب ، وهذه منقبة عالية لأمير المؤمنين دون غيره ، إلا أقل القليل. فاهتم مخالفوه بإخفاء هذه الفضيلة ، باختلاق حديث منع الكتابة ، فروى مسلم وغيره عنه ( صلی الله عليه وآله ) : « لا تكتبوا عني سوى القرآن ، ومن كتب فليمحه » (68) وكانت الغاية من تلك المقالة ، الطمس على ما كتبه علي (ع) من الأحاديث.
على أنهم لم يكتفوا بذلك ، فرووا عن علي أنه قال : « ليس عندنا كتاب سوى ما في قراب السيف » (69).
وروى البخاري عن أبي جحيفة ، « قال : قلت لعلي : هل عندكم كتاب ؟ قال : لا ، إلا كتاب الله ، أو فهم أعطيه رجل مسلم أو ما في هذه الصحيفة ، قال : قلت : فما في هذه الصحيفة ؟ قال : العقل ، وفكاك الأسير ، ولا يقتل مسلم بكافر » (70).
مع أن الكتاب الذي كتبه علي بإملاء رسول الله ( صلی الله عليه وآله ) ، كتاب كبير رآه أئمة الشيعة ، وهو من مواريث النبوة وكان مشتملاً على أحاديث فقهية ، وغيرها. وقد نقل عنه مشايخنا المحدثون الأول في جوامعهم ، ولو صح وجود كتاب في قراب سيفه ، فهو لا يمت إلى هذا الكتاب بصلة.
وقد قام زميلنا العلامة الحجة الشيخ علي الأحمدي ، بجمع ما روى الأئمة عن هذا الكتاب من الأحاديث في موسوعته ، وأخرجها من الكتب الأربعة ، والجامع الأخير وسائل الشيعة (71).
إن الخسارات التي مني الإسلام والمسلمون بها من جراء مثل هذا المنع ، كائناً ما كان سببه ، كانت وما تزال عظيمة ووخيمة وسنشير إلى بعضها في محلها إن شاء الله تعالى.
أعذار مفتعلة
إذا كان المنع من كتابة السنة أمراً عجيباً ، فتبرير هذا المنع بأنه كان لصيانة اختلاط الحديث بالقرآن الكريم أعجب منه ، وذلك لأن التبرير هذا أشبه بالاعتذار الأقبح من الذنب ، لأن القرآن الكريم في أسلوبه وبلاغته يغاير أسلوب الحديث وبلاغته ، فلا يخاف عليه من الاختلاط بالقرآن مهما بلغ من الفصاحة ، فقبول هذا التبرير يلازم إبطال إعجاز القرآن الكريم وهدم أصوله من القواعد.
ومثله ، الأعذار المنحوتة الأخرى لتبرير هذا المنع ، كخوف الانكباب على دراسة غير القرآن ، الذي نسب إلى الخليفة عمر بن الخطاب على ما مر ، غير أن مرور الزمان أثبت خلاف تلك الفكرة لأن كتابة الحديث من عصر المنصور لم تؤثر في دراسة القرآن وحفظه وتعليمه وتعلمه. وهناك أعذار منحوتة أخرى لا تقصر في البطلان عن سابقيها ولم تخطر ببال المانع أو المانعين أبداً ، وإنما هي وليدة « حب الشيء الذي يعمي ويصم » بعد لأي من الدهر ، والهدف منه هو إسدال العذر على العمل السيیء ، أعاذنا الله منه.
وقد نحت الخطيب البغدادي مثل هذه الأعذار ، وقال : « قد ثبت أن كراهة من كره الكتابة من الصدر الأول ، إنما هي لئلا يضاهى بكتاب الله تعالى غيره ، أو يشتغل عن القرآن بسواه . ونهى عن الكتب القديمة أن تتخذ ، لأنه لا يعرف حقها من باطلها ، وصحيحها من فاسدها . مع أن القرآن كفى منها ، وصار مهيمناً عليها ، ونهى عن كتب العلم في صدر الإسلام وجدته ، لقلة الفقهاء في ذلك الوقت ، والمميزين بين الوحي وغيره ، لأن أكثر الأعراب لم يكونوا فقهوا في الدين ، ولا جالسوا العلماء العارفين ، فلم يؤمن أن يلحقوا ما يجدون من الصحف بالقرآن . ويعتقدوا أن ما اشتملت عليه كلام الرحمن » (72).
وقد استمر المنع من تدوين الحديث إلى عهد الخليفة الأموي عمر بن عبد العزيز ( 99 ـ 101 ) فأحس بضرورة تدوين الحديث فكتب إلى أبي بكر بن حزم في المدينة : « انظر ما كان من حديث رسول الله فاكتبه ، فإني خفت دروس العلم وذهاب العلماء ، ولا تقبل إلا أحاديث النبي ، ولتفشوا العلم ولتجلسوا حتى يعلم من لا يعلم ، فإن العلم لا يهلك حتى يكون سراً » (73).
ومع هذا الإصرار المؤكد من الخليفة ، صارت رواسب الحظر السابق المؤكد من قبل الخلفاء الماضين حائلة دون القيام بما أمر به الخليفة فلم يكتب شيء من أحاديث النبي ( صلی الله عليه وآله وسلم ) بعد صدور الأمر منه ، إلا صحائف غير منظمة ولا مرتبة ، إلى أن دالت دولة الأمويين وقامت دولة العباسيين ، وأخذ أبو جعفر المنصور بمقاليد الحكم ، فقام المحدثون في سنة مائة وثلاثة وأربعين بتدوين الحديث وفي ذلك قال الذهبي :
« وفي سنة مائة وثلاثة وأربعين شرع علماء الإسلام في هذا العصر في تدوين الحديث والفقه والتفسير فصنف ابن جريج بمكة ، ومالك الموطأ بالمدينة ، والأوزاعي بالشام ، وابن أبي عروبة ، وحماد بن سلمة وغيرهما في البصرة ، ومعمر باليمن ، وسفيان الثوري بالكوفة ، وصنف ابن اسحاق المغازي ، وصنف أبو حنيفة الفقه والرأي إلى أن قال : وقبل هذا العصر كان الأئمة يتكلمون من حفظهم أو يروون العلم من صحف صحيحة غير مرتبة » (74).
ومعنى هذا ، أن العالم الإسلامي اندفع فجأة بعد مضي 143 سنة من هجرة النبي ( صلی الله عليه وآله وسلم ) نحو هذا الأمر ، فاشتغل العلماء بجمع الأحاديث والفقه وتدوينهما ، وألفت كتب كثيرة في هذا المجال ، واستمرت تلك الحركة إلى حدود سنة 250 ، فجمعت أحاديث كثيرة ، ودونت العقائد على طبق الأحاديث المضبوطة ، فإذا كان هذا هو تاريخ الحديث وتدوينه وانتشاره ، يتبين للقاریء بسهولة أن حديثاً لم يكتب طوال قرن ونصفه كيف تكون حاله مع أعدائه الذين كانوا له بالمرصاد ، وكانوا يكذبون عليه بما يقدرون ، وينشرون كل غث وسمين باسم الدين وباسم الرسول ، كما سيوافيك بيانه ، وما قيمة العقائد التي دونت على أساس تلك الأحاديث ؟.
نحن لا ننكر أن العلماء والمحدثين قاموا بوظيفتهم وواجبهم الديني تجاه السنة النبوية ، وكابدوا وتحملوا المشاق في استخراج الصحيح من السقيم ، لكن العثور على الصحيح بعد هذه الحيلولة الطويلة ، من أشق المشاكل وأصعب الأمور.
وبسبب هذه الحيلولة كلما بعد الناس عن عصر الرسول ( صلی الله عليه وآله وسلم ) ازداد عدد الأحاديث ، حتى أخرج محمد بن إسماعيل البخاري صحيحه عن ستمائة ألف ( 600000 ) ولأجل ذلك نرى أن هرم الأحاديث يتصل بزمن النبي ( صلی الله عليه وآله وسلم ) وقاعدة ذلك الهرم تنتهي إلى القرون المتأخرة ، فكلما قربنا من زمن النبي ( صلی الله عليه وآله وسلم ) نجد الحديث قليلاً ، والعكس بالعكس. وهذا يدل على أن الأحاديث عالت حسب وضع الوضاعين وكذب الكذابين.
كلمتان قيمتان
1 ـ هناك كلمة للدكتور محمد حسين هيكل أماط الستر عن وجه الأحاديث المنسوبة إلى النبي الأكرم وقال :
« وسبب آخر يوجب تمحيص ما ورد في كتب السلف ، ونقده نقداً دقيقاً على الطريقة العلمية ، أن أقدمها ، كتب بعد وفاة النبي ( صلی الله عليه وآله وسلم ) بمائة سنة أو أكثر ، وبعد أن فشت في الدولة الإسلامية دعايات سياسية وغير سياسية. كان اختلاق الروايات والأحاديث بعض وسائلها إلى الذيوع والغلب ، فما بالك بالمتأخر مما كتب في أشد أزمان التقلقل والاضطراب ؟ وقد كانت المنازعات السياسية سبباً فيما لقيه الذين جمعوا الحديث ونفوا زيفه ودونوا ما اعتقدوه صحيحاً منه ، من جهد وعنت أدى إليهما حرص هؤلاء الجامعين على الدقة في التمحيص حرصاً لا يتطرق إليه ريب. ويكفي أن يذكر الإنسان ما كابده البخاري من مشاق وأسفار في مختلف أقطار الدولة الإسلامية لجمع الحديث وتمحيصه ، وما رواه بعد ذلك من أنه ألفى الأحاديث المتداولة تربي على ستمائة ألف حديث لم يصح منها أكثر من أربعة آلاف . وهذا معناه أنه لم يصح لديه من كل مائة وخمسين حديثاً إلا حديث واحد.
أما أبو داود فلم يصح لديه من خمسمائة ألف حديث غير أربعة آلاف وثمانمائة وكذلك كان شأن سائر الذين جمعوا الحديث. وكثير من هذه الأحاديث التي صحت عندهم كانت موضع نقد وتمحيص عند غيرهم من العلماء ، انتهى بهم إلى نفي كثير منها ، كما كان الشأن في مسألة الغرانيق. فإذا كان ذلك شأن الحديث ، وقد جهد فيه جامعوه الأولون ما جهدوا ، فما بالك بما ورد في المتأخر من كتب السيرة ؟ وكيف يستطاع الأخذ به دون التدقيق العلمي في تمحيصه.
والواقع أن المنازعات السياسية التي حدثت بعد الصدر الأول من الإسلام أدت إلى اختلاق كثير من الروايات والأحاديث تأييداً لها. فلم يكن الحديث قد دون إلى عهد متأخر من عصر الأمويين. وقد أمر عمر بن عبد العزيز بجمعه ، ثم لم يجمع إلا في عهد المأمون ، بعد أن أصبح « الحديث الصحيح في الحديث الكذب ، كالشعرة البيضاء في جلد الثور الأسود » على قول الدارقطني » (75).
2 ـ وهناك كلمة أخرى للعلامة الأميني قال : « ويعرب عن كثرة الموضوعات اختيار أئمة الحديث أخبار تأليفهم الصحاح والمسانيد من أحاديث كثيرة هائلة ، والصفح عن ذلك الهوش الهائش. قد أتى أبو داود في سننه بأربعة آلاف وثمانمائة حديث وقال : انتخبته من خمسمائة ألف حديث (76).
ويحتوي صحيح البخاري من الخالص بلا تكرار ألفي حديث وسبعمائة وواحداً وستين حديثاً اختارها من زهاء ستمائة ألف حديث (77). وفي صحيح مسلم أربعة آلاف حديث أصول ، دون المكررات صنفها من ثلاثمائة ألف (78). وذكر أحمد بن حنبل في مسنده ثلاثين ألف حديث ، وقد انتخبها من أكثر من سبعمائة وخمسين ألف حديث ، وكان يحفظ ألف ألف حديث (79). وكتب أحمد بن الفرات ( المتوفّى 258 ) ألف ألف وخمسمائة ألف حديث ، فأخذ من ذلك ثلاثمائة ألف في التفسير والأحكام والفوائد وغيرها (80).
هذا كلام إجمالي عن الحديث ، والتفصيل في تاريخ الحديث وتطوره يترك إلى الكتب المختصة بذلك ، غير أن الذي نركز القول عليه هو الآثار السلبية التي خلفها هذا المنع في المجتمع الإسلامي يوم ذاك ، حتى يقف القاریء على علل تكوّن المذاهب وتشعب الفرق ، وإن من الآثار المهمة حرمان الأمة عن السنة النبوية الصحيحة قرابة قرن ونصف ، وعول الأحاديث حسب جعل الوضاعين والكذابين ، وبالتالي تكوّن العقائد والمذاهب حسبها.
العامل الرابع
فسح المجال للأحبار والرهبان للتحدث عن العهدين
لقد خسر الإسلام والمسلمون من جراء حظر تدوين الحديث ونشره ، خسارة عظمى لا يمكن تحديدها بالأرقام والأعداد. كيف ، وقد انتشرت الفوضى في العقائد ، والأعمال ، والأخلاق ، والآداب ، وصميم الدين ، ولباب الأصول ، كنتيجة لهذا المنع ، لأن الفراغ الذي خلفه هذا العمل ، أوجد أرضية مناسبة لظهور بدع يهودية ، وسخافات مسيحية ، وأساطير مجوسية ، خاصة من ناحية كهنة اليهود ، ورهبان النصارى ، الذين افتعلوا أحاديث كثيرة ونسبوها إلى الأنبياء والمرسلين عليهم الصلاة والسلام كما افتعلوا على لسان النبي الأكرم ( صلی الله عليه وآله وسلم ) من الأساطير وقد وقف على ذلك عدة من الأجلة.
1 ـ يقول الشهرستاني : « وضع كثير من اليهود الذين اعتنقوا الإسلام ، أحاديث متعددة في مسائل التجسيم والتشبيه ، وهي كلها مستمدة من التوراة » (81).
2 ـ ويظهر من المقدسي وجود تلك العقائد في العرب الجاهليين ، يقول في « البدء والتاريخ » عند الكلام عن شرائع أهل الجاهلية : « كان فيهم من كل ملة ودين وكانت الزندقة والتعطيل في قريش والمزدكية والمجوسية في تميم واليهودية والنصرانية في غسان والشرك وعبادة الأوثان في سائرهم » (82).
3 ـ نعم كان لليهود المتظاهرين بالإسلام دور كبير في بث هذه العقائد ، يقول الكوثري : « إن عدة من أحبار اليهود ورهبان النصارى ومؤابذة المجوس أظهروا الإسلام في عهد الراشدين ثم أخذوا بعدهم في بث ما عندهم من الأساطير » (83).
4 ـ قال ابن خلدون ، عندما تكلم عن التفسير النقلي وأنه كان يشتمل على الغث والسمين والمردود : « والسبب في ذلك أن العرب لم يكونوا أهل كتاب ولا علم ، وإنما غلبت عليهم البداوة والأمية. وإذا تشوقوا إلى معرفة شيء مما تتوق إليه النفوس البشرية في أسباب المكونات وبدء الخليقة ، وأسرار الوجود ، فإنما يسألون عنه أهل الكتاب قبلهم ، ويستفيدونه منهم وهم أهل التوراة من اليهود ومن تبع دينهم من النصارى ، مثل كعب الأحبار ووهب بن منبه وعبد الله بن سلام وأمثالهم ، فامتلأت التفاسير من المنقولات عندهم وتساهل المفسرون في مثل كذلك ، وملأوا كتب التفسير بهذه المنقولات ، وأصلها كلها كما قلنا من التوراة أو مما كانوا يفترون » (84).
5 ـ قال الإمام محمد عبده : « قد وضع الزنادقة اللابسون لباس الإسلام غشاً ونفاقاً وقصدهم بذلك إفساد الدين ، وإيقاع الخلاف والافتراق في المسلمين. وقال حماد ابن زيد : وضعت الزنادقة أربعة عشر ألف حديث وهذا بحسب ما وصل إليه علمه واختباره في كشف كذبها ، وإلا فقد نقل المحدثون أن زنديقاً واحداً وضع هذا المقدار. قالوا : لما أخذ ابن أبي العوجاء ليضرب عنقه ، قال وضعت فيكم أربعة آلاف حديث أحرم فيها الحلال وأحل الحرام » (85). وابن أبي العوجاء هو ربيب حماد بن سلمة المحدث الشهير الذي ينقل الذهبي عن ابن الثلجي قال سمعت عباد بن صهيب يقول : إن حماداً كان لا يحفظ وكانوا يقولون إنها دست في كتبه. وقد قيل إن ابن أبي العوجاء كان ربيبه فكان يدس في كتبه (86).
6 ـ قال السيد المرتضى : « لما قبض محمد بن سليمان ، وهو والي الكوفة من قبل المنصور ، عبد الكريم بن أبي العوجاء وأحضره للقتل وأيقن بمفارقة الحياة قال : لئن قتلتموني فقد وضعت في أحاديثكم أربعة آلاف حديث مكذوبة » (87).
7 ـ يقول ابن الجوزي : « إن عبد الكريم كان ربيباً لحماد بن سلمة وقد دس في كتب حماد بن سلمة » (88).
نرى أن المحدثين يروون باسنادهم عن حماد ، عن قتادة ، عن عكرمة ، عن ابن عباس ، مرفوعاً : « رأيت ربي جعداً أمرد عليه حلة خضراء ». وفي رواية أخرى : « إنّ محمداً رأى ربه في صورة شاب أمرد ، دونه ستر من لؤلؤ قدميه أو رجليه في خضرة » (89).
8 ـ وقال الشيخ محمد زاهد الكوثري المصري في تقديمه على كتاب « الأسماء والصفات » للحافظ أبي بكر البيهقي : « إن مرويات حماد بن سلمة في الصفات ، تجدها تحتوي على كثير من الأخبار التافهة تتناقلها الرواة طبقة عن طبقة ، مع أنه قد تزوج نحو مائة امرأة ، من غير أن يولد له ولد منهن ، وقد فعل هذا الزواج والنكاح فعله ، بحيث أصبح في غير حديث « ثابت البناني » لا يميز بين مروياته الأصليّة وبين ما دسه في كتبه ربيبه ابن أبي العوجاء ، وربيبه الآخر زيد المدعو بـ « ابن حماد » ، فضلّ بمروياته الباطلة كثير من البسطاء. ويجد المطالع الكريم نماذج شتى من أخباره الواهية في باب التوحيد من كتب الموضوعات المبسوطة وفي كتب الرجال ، وفعلت مرويات نعيم بن حماد مثل ذلك ، بل تحمّسه البالغ أدّى به إلى التجسيم ، كما وقع ذلك لشيخ شيخه مقاتل بن سليمان ، وتجد آثار الضرر الوبيل في مروياتهما في كتب الرواة الذين كانوا يتقلدونها من غير معرفة منهم لما هناك وإليك كتاب « الاستقامة » لخشيش بن أصرم ، والكتب التي تسمى « السنة » لعبد الله ( ابن أحمد بن حنبل ) وللخلال ، و « التوحيد » لابن خزيمة وغيرهم مما تجد فيها ما ينبذه الشرع والعقل ، ولا سيما كتاب « النقض » لعثمان بن سعيد الدارمي السجزي المجسم فإنّه أوّل من اجترأ بالقول « إنّ الله لو شاء لاستقرّ على ظهر بعوضة فاستقلّت به بقدرته فكيف على عرش عظيم » هذا بعض ما لعب به أعداء الإسلام في أصول الدين (90). ولا يقصر عنها كتاب « العلو » للذهبي.
9 ـ وقال الدكتور أحمد أمين : « اتصل بعض الصحابة بوهب بن منبه ، وكعب الأحبار ، وعبد الله بن سلام ، واتصل التابعون بابن جريج ، وهؤلاء كانت لهم معلومات رووا عن التوراة والإنجيل وشروحها وحواشيها ، فلم ير المسلمون بأساً من أن يقصوها بجانب آيات القرآن ، فكانت منبعاً من منابع التضخيم » (91).
10 ـ قال أبو رية : « لما قويت شوكة الدعوة المحمدية ، واشتد ساعدها ، وتحطمت أمامها كل قوة تنازعها ، لم ير من كانوا يقفون أمامها ، ويصدون عن سبيلها ، إلا أن يكيدوا لها عن طريق الحيلة والخداع ، بعد أن عجزوا عن النيل منها بعدد القوة والنزاع. ولما كان أشد الناس عداوة للذين آمنوا اليهود ، لم يجدوا بداً من أن يستعينوا بالمكر ، ويتوسلوا بالدهاء ، لكي يصلوا إلى ما يبتغون فهداهم المكر اليهودي إلى أن يتظاهروا بالإسلام ، ويطووا نفوسهم على دينهم ، حتى يخفى كيدهم ، ويجوز على المسلمين مكرهم » (92).
أوليس ذلك الاستغلال والسيطرة على عقول المسلمين ، هو نتيجة أمور ، منها : المنع من التحدث عن الرسول ، وفسح المجال لأبناء أهل الكتاب ، حتى يتمكنوا من نشر الكلم الباطل ، ويمزقوا أصول الإسلام وفروعه ؟ والعجب أن التفاسير إلى يومنا هذا مكتظة بأقوالهم وأحاديثهم ، ولها من القيمة عند قرائها مكان.
11 ـ قال العلامة الشيخ جواد البلاغي : « الرجوع في التفسير وأسباب النزول إلى أمثال عكرمة ، ومجاهد ، وعطاء ، والضحاك ، كما ملئت كتب التفاسير بأقوالهم المرسلة ، ممّا لا يعذر فيه المسلم في أمر دينه ، لأن هؤلاء الرجال غير ثقات في أنفسهم ، ومجتمعون على موائد أهل الكتاب من الأحبار والرهبان.
قيل للأعمش : ما بال تفسير مجاهد مخالف ؟ أو شيء نحوه قال : أخذه من أهل الكتاب ويكفي في ذلك أن مجاهداً الآخذ منهم فسر قوله تعالى : ( عَسَىٰ أَن يَبْعَثَكَ رَبُّكَ مَقَامًا مَّحْمُودًا ) قال يجلسه معه على العرش.
وأما عطاء ، فقد قال أحمد : ليس في المراسيل أضعف من مراسيل الحسن وعطاء ، كانا يأخذان عن كل أحد.
وقال النسائي : وأما مقاتل بن سليمان كان يكذب ، وعن يحيى قال : حديثه ليس بشيء ، وقال ابن حبان : كان يأخذ من اليهود والنصارى من علم القرآن الذي يوافق كتبهم » (93).
وأما الخرافات والأساطير في تفسير الكون وبدء الخليقة وأحوال الأمم الماضية فحدث عنها ولا حرج ، فقد ملأوا الصدور والطوامير وتأثرت بهم طبقات من المسلمين ، ممن كتبوا حول المواضيع السالفة.
يقول الدكتور علي سامي النشار : « إن الحديث كان معتركاً متلاحماً وبحراً خضماً لا يعرف السالك فيه موطن الأمان ولذلك قام أهل الحديث بمجهود رائع في محض الأحاديث وتوضيح الصادق والكاذب منها عن طريق الرواية وفيها السند ، وعن طريق الدراية وفيها النقد الباطني للنصوص ، ولذلك أنشأوا علم مصطلح الحديث » (94).
يلاحظ عليه : أنّ جهود أهل الحديث غير منكرة ، ولكنها لم تكن على وجه تقلع الموضوعات عن كتب الحديث وموسوعاتهم لأن القائمين بهذا الأمر كانوا متأثرين بها ، ولأجل ذلك تجد أحاديث التشبيه والتجسيم والجبر والرؤية وعصيان الأنبياء مبثوثة في الصحاح والمسانيد وسيمر عليك بعضها في هذا الجزء.
ولعل القاریء الكريم يحسب أن هذه الكلمات الصادرة من أساتذة الفن ، ورجال التحقيق في الملل والنحل ، صدرت من غير تحقيق وتدقيق ، إلّا أن المراجع للكتب الرجالية ، يقف على صدق المقال ، ويكتشف أنه كان هناك رجال يتظاهرون بالإسلام ـ وفي الوقت نفسه ـ يبثون ما لديهم من الإسرائيليات والمسيحيات والمجوسيات ، تحت غطاء هذا التظاهر ، وإليك نزراً من تاريخ بعض هؤلاء الرجال :
1 ـ كعب الأحبار
هو كعب بن ماتع الحميري ، قالوا : « هو من أوعية العلم ومن كبار علماء أهل الكتاب ، أسلم في زمن أبي بكر ، وقدم من اليمن في خلافة عمر ، فأخذ عنه الصحابة وغيرهم ، وأخذ هو من الكتاب والسنة عن الصحابة ، وتوفي في خلافة عثمان ، وروى عنه جماعة من التابعين ، وله شيء في صحيح البخاري وغيره.
قال الذهبي : « العلامة الحبر الذي كان يهودياً فأسلم بعد وفاة النبي (ص) وقدم المدينة من اليمن في أيام عمر رضي الله عنه ، فجالس أصحاب محمد فكان يحدثهم عن الكتب الإسرائيلية ويحفظ عجائب.
إلى أن قال : حدث عنه أبو هريرة ومعاوية وابن عباس وذلك من قبيل رواية الصحابي عن التابعي وهو نادر عزيز ، وحدث عنه أيضاً أسلم مولى عمر وتبيع الحميري ابن امرأة كعب.
وروى عنه عدة من التابعين كعطاء بن يسار وغيره مرسلاً.
وقع له رواية في سنن أبي داود والترمذي والنسائي » (95).
ترى الذهبي أيضاً في كتابه : « تذكرة الحفاظ » أنّه يعرفه بأنه : من أوعية العلم (96).
ومعنى ذلك أن الصحابة كانوا يعتقدون أنه من محال العلم والفضل ، ولهذا السبب أخذ عنه الصحابة وغيرهم. وعندئذٍ يسأل : إذا أخذ عنه الصحابة وغيرهم على أنه من أوعية العلم ، فما هو ذاك الذي أخذوه عنه ؟ هل أخذوا عنه سوى الإسرائيليات المحرفة والكاذبة ؟ فإنه لم يكن عنده ـ على فرض كونه صادقاً ـ سوى تلك الأساطير والقصص الموهومة. فهل تسعد أمة أخذت معالم دينها عن المحدث اليهودي ، المعتمد على الكتب المحرفة بنص القرآن الكريم ؟ ولكن كما قلنا ، هذا الفرض مبني على كونه صادقاً ، أما إذا كان كاذباً فالخطب أفدح وأجل ، ولا يقارن بشيء.
والمطالع الكريم في مروياته يقف على أنه يركز على القول بأمرين :
التجسيم والرؤية ، وقد اتخذهما أهل الحديث والحنابلة من الآثار الصحيحة ، فبنوا عليهما العقائد الإسلامية وكفروا المخالف وإليك كلا الأمرين :
الأول ـ تركيزه على التجسيم
إن الأحاديث المنقولة عن ذلك الحبر اليهودي ، تعرب بوضوح عن أنه نشر بين الأمة الإسلامية فكرة التجسيم ، التي هي من عقائد اليهود. قال : « إن الله تعالى نظر إلى الأرض فقال إني واطیء على بعضك ، فاستعلت إليه الجبال وتضعضعت له الصخرة ، فشكر لها ذلك فوضع عليها قدمه فقال هذا مقامي ، ومحشر خلقي ، وهذه جنتي وهذه ناري ، وهذا موضع ميزاني ، وأنا ديان الدين » (97).
ففي هذه الكلمة من هذا الحبر ، تصريح بتجسيمه سبحانه أولاً وقد شاعت هذه النظرية بين أبناء الحديث والحشوية منهم ، وثانياً : التركيز على الصخرة التي هي مركز بيت المقدس ، وثالثاً : أن الجنة والنار والميزان ستكون على هذه الأرض ، ومركز سلطانها سيكون على الصخرة ، وهذا من صميم الدين اليهودي المحرف.
الثاني ـ تركيزه على رؤية الله
ومن كلامه أيضاً : « إنّ الله تعالى قسم كلامه ورؤيته بين موسى ومحمد » ( صلی الله عليه وآله وسلم ) (98) ، وقد صار هذا النصّ وأمثاله مصدراً لتجويز فكرة رؤية الله سبحانه وتعالى في الدنيا والآخرة ، وبالأخص في الآخرة ، وقد صارت هذه العقيدة اليهودية المحضة ، إحدى الأصول التي بني عليها مذهب أهل الحديث والأشاعرة.
ومن أعظم الدواهي ، أن الرجل خدع عقول المسلمين وخلفائهم فاتخذوه واعظاً ومعلماً ومفتياً يفتيهم. وهنالك شواهد على ذلك :
منها ـ التزلف إلى الخليفة الثاني
قال ابن كثير : « أسلم كعب في الدولة العمرية وجعل يحدث عمر عن كتبه قديماً ، فربما استمع له عمر ، فترخص الناس في استماع ما عنده ، ونقلوا ما عنده عنه غثها وسمينها . وليس لهذه الأمة ـ والله أعلم ـ حاجة إلى حرف واحد مما عنده » (99).
إن لهذا الرجل أساليب عجيبة في اللعب بعقول المسلمين وخلفائهم وإليك نماذج منها :
أ . قال كعب ، لعمر بن الخطاب : « إنا نجدك شهيداً وإنا نجدك إماماً عادلاً ، ونجدك لا تخاف في الله لومة لائم. قال : هذا لا أخاف في الله لومة لائم فأنى لي بالشهادة » (100).
ترى أنه كيف يتزلف إلى الخليفة ، ويتنبأ بشهادته وقتله في سبيل الله.
ب. نقل أبو نعيم أيضاً : أنّ كعباً مر بعمر ، وهو يضرب رجلاً بالدرة.
فقال كعب : على رسلك يا عمر ، فوالذي نفسي بيده إنه لمكتوب في التوراة ، ويل لسلطان الأرض من سلطان السماء ، ويل لحاكم الأرض من حاكم السماء ، فقال عمر : إلا من حاسب نفسه ، فقال كعب : والذي نفسي بيده إنها لفي كتاب الله المنزل ، ما بينهما حرف : إلا من حاسب نفسه (101).
وهذه الجملة تعرب عن أن كعباً كان يتزلف إلى عمر ، حتى إنه يقرأ عليه نص التوراة المحرف لتصديق كلامه.
ج. وروي أيضاً : أن عمر جلد رجلاً يوماً وعنده كعب ، فقال الرجل حين وقع به السوط : سبحان الله ، فقال عمر للجلاد : دعه فضحك كعب ، فقال له : وما يضحكك ، فقال : والذي نفسي بيده إن « سبحان الله » تخفيف من العذاب (102).
والكلمة هذه محاولة من الحبر اليهودي ، لتوجيه عمل عمر ، عندما أمر الجلاد بترك المجلود.
وهذه الأمور صارت سبباً لجلب عطف الخليفة ، ففسح له التحدث في عاصمة الوحي ، وأوساط المسلمين.
ومنها : تزلفه إلى عثمان
ومن الخطب الفادح ، أنه صار بأفانين مكره ، موضع ثقة لعثمان ومفتياً له في الأحكام ، يصدر الخليفة عن فتياه ، ويعمل بقوله. وإليك ما يلي :
أ. ذكر المسعودي أنه حضر أبو ذر ، مجلس عثمان ذات يوم فقال عثمان : أرأيت من زكى ماله هل فيه حق لغيره ؟ فقال كعب : لا يا أمير المؤمنين ، فدفع أبو ذر في صدر كعب ثم قال له : كذبت يا ابن اليهودي ، ثم تلا : ( لَّيْسَ الْبِرَّ أَن تُوَلُّوا وُجُوهَكُمْ قِبَلَ الْمَشْرِقِ وَالْمَغْرِبِ وَلَٰكِنَّ الْبِرَّ مَنْ آمَنَ بِاللَّهِ وَالْيَوْمِ الْآخِرِ وَالْمَلَائِكَةِ وَالْكِتَابِ وَالنَّبِيِّينَ وَآتَى الْمَالَ عَلَىٰ حُبِّهِ ذَوِي الْقُرْبَىٰ وَالْيَتَامَىٰ وَالْمَسَاكِينَ وَابْنَ السَّبِيلِ وَالسَّائِلِينَ وَفِي الرِّقَابِ وَأَقَامَ الصَّلَاةَ وَآتَى الزَّكَاةَ وَالْمُوفُونَ بِعَهْدِهِمْ إِذَا عَاهَدُوا ) (103).
فقال عثمان : أترون بأساً أن نأخذ مالاً من بيت مال المسلمين فننفقه في ما ينوبنا من أمورنا ونعطيكموه ؟ فقال كعب : لا بأس بذلك ، فرفع أبو ذر العصا فدفع بها في صدر كعب وقال : يا بن اليهودي ما أجرأك على القول في ديننا ، فقال له عثمان : ما أكثر أذاك لي غيب وجهك عني فقد آذيتني (104).
ب. ونقل أيضاً : أتى عثمان بتركة عبد الرحمن بن عوف الزهري من المال ، فَنُضِدَ البدر ، حتى حالت بين عثمان وبين الرجل القائل ، فقال عثمان : إني لأرجو لعبد الرحمن خيراً ، لأنه كان يتصدق ، ويقري الضيف ، وترك ما ترون ، فقال كعب الأحبار : صدقت يا أمير المؤمنين ، فشال أبو ذر العصا ، فضرب بها رأس كعب ، ولم يشغله ما كان فيه من الألم ، وقال : يا بن اليهودي تقول لرجل مات وترك هذا المال إن الله أعطاه خير الدنيا وخير الآخرة ، وتقطع على الله بذلك ، وأنا سمعت رسول الله ( صلی الله عليه وآله وسلم ) يقول : « ما يسرني أن أموت وأدع ما يزن قيراطاً » فقال له عثمان : وار عنّي وجهك (105).
ومنها ـ تزلفه إلى معاوية
نرى أن كعباً يتنبأ بمولد النبي ( صلی الله عليه وآله وسلم ) وهجرته وملكه ، فيقول : مولده بمكة ، وهجرته بطيبة ، وملكه بالشام (106).
فماذا يريد كعب بقوله : وملكه بالشام ؟ هل هو إلا تزلف إلى معاوية ، وأنه يريد أن يقول : إن ملك النبي لن يستقر إلا فيها ؟ وقد كان معاوية يمهد وسائل الملك لنفسه بالشام.
وقال أيضاً : إن أول هذه الأمة نبوة ورحمة ، ثم خلافة ورحمة ، ثم سلطان ورحمة ، ثم ملك وجبرية ، فإذا كان ذلك ، فإن بطن الأرض يومئذٍ خير من ظهرها (107).
فترى أنه يتنبأ بالسلطنة ويعدّها رحمة ، وهذا المضمون انتشر في الصحاح والمسانيد بكثرة ، وقد روى الترمذي ، قال : « قال رسول الله ( صلی الله عليه وسلم ) : الخلافة في أمتي ثلاثون سنة ثم ملك بعد ذلك » (108).
وروى أبو داود قال : « قال رسول الله ( صلی الله عليه وآله وسلم ) : خلافة النبوة ثلاثون سنة ثم يؤتي الله الملك من يشاء » (109).
وسيوافيك أنه أخذ منه أبو هريرة ، ولأجل ذلك نرى تلك الفكرة ـ فكرة الملك ـ جاءت في روايات أبي هريرة ، قال : الخلافة بالمدينة والملك بالشام (110).
وقد أخذ عن ذلك الحبر الماكر عدة من الصحابة كابن عباس وأبي هريرة ، ومعاوية وغيرهم (111).
قال الذهبي : توفي في خلافة عثمان (112). وقال أبو نعيم في حلية الأولياء إنه توفي كعب قبل مقتل عثمان بسنة (113). وعلى ذلك توفي عام 34.
وقال ابن الأثير في حوادث سنة 34 : ففي هذه السنة توفي كعب الأحبار (114).
نعم توفي في ذاك العام ، لكن بعدما ملأ المجتمع الإسلامي بأساطير ، وقصص ، وعقائد إسرائيلية ، حسبها السذج من المحدثين أنها حقائق راهنة ، فنقلوها ناسبين لها إلى كعب تارة ، وإلى النبي الأعظم أخرى ، وعليها بنيت العقائد وانتظمت الأصول ، ومن تفحص في كتب الحديث والتفسير والتاريخ ، يقف بوضوح على أن كثيراً من المحدثين والمفسرين والمؤرخين ، اعتمدوا على أقواله ومروياته من دون أي غمز وطعن أو تردد وشك ، وهذا من عجائب الأمور وغرائبها.
هذا غيض من فيض ، وقليل من كثير من روايات ذلك الرجل وتسويلاته. فمن أراد الوقوف على أحواله وأقواله وما بث بين المسلمين من أساطير وقصص إسرائيلية ، فليرجع إلى المصادر التالية (115).
هذا وإن صاحب الثقافة المنحرفة يبث فكرته بين المجتمع في ظل دعامتين مؤثرتين :
الأولى : يحاول الاتسام بالعلم ، ويعرف نفسه للمجتمع بأنه عالم كبير ، ومفكر اجتماعي بلا منازع ، حتى يتخذ لنفسه من هذا الطريق مكاناً في القلوب تنعطف إليه النفوس وترتاح به.
الثانية : يحاول الاتصال بأصحاب السلطة ، حتى يتخذهم سناداً وعماداً في مقابل العواصف القارعة التي تبعثها عليهم صلحاء الأمة ومفكروها الواقعيون.
فإذا تهيأت لأصحاب الفكرة المنحرفة هاتان الدعامتان ، سهل لهم النفوذ في عقول بسطاء الأمة ، وتمكنوا من نفث أفكارهم المسمومة في نفوسها ، ولا تمر الأيام حتى تصبح أفكارهم حقيقة راهنة لا يمكن تجاوزها ، ولا الدعوة على خلافها ، بل تصير المخالفة لها ارتداداً عن الدين ، وتشبثاً بالباطل.
ومن عجائب الأمور أن الأحبار والرهبان عندما تظاهروا بالإيمان ولما يدخل الإيمان في قلوبهم ، هيمنوا على عقول المسلمين من خلال الأمرين المذكورين.
فمن جانب عرفوا بأنهم من أوعية العلم ، وأن عندهم علوم الأولين والآخرين بتفصيلاتها ، وأنهم حفظة التوراة والإنجيل والزبور وغيرها من الكتب السماوية.
ومن جانب آخر استعانوا بالحكم السائد ، بحيث صاروا موضع ثقة عنده ، يسمع لكلامهم ويصدر عن رأيهم.
عند ذلك أخذت الإسرائيليات والمسيحيات ، مكان السنة النبوية وصار نقلتها مصادر الحكم والفتيا ، فأصبحت آراؤهم وأقوالهم مدارك الفقه وسناد التاريخ ، ومعياراً للحق والباطل في العقائد ، فيا لها من رزية عظمت ، ويا لها من مصيبة كبرت.
هذا هو كعب الأحبار فقد استعان في بث ثقافته ( الثقافة اليهودية ) عن هاتين الدعامتين فهلم معي ندرس حياة بعض زملائه وسوف تقف على أن الخط الذي مشى عليه كعب ، قد مشى عليه زملاؤه وإليك البيان :
2 ـ وهب بن منبه اليماني
وقد ابتلي المسلمون بعد كعب الأحبار بكتابي آخر قد بلغ الغاية في بث الإسرائيليات بين المسلمين حول تاريخ الأنبياء والأمم السالفة وهو وهب بن منبه. قال الذهبي : « ولد في آخر خلافة عثمان ، كثير النقل عن كتب الإسرائيليات ، توفي سنة 114 وقد ضعفه الفلاس » (116).
وقال في تذكرة الحفاظ : « عالم أهل اليمن ، ولد سنة أربع وثلاثين وعنده من علم أهل الكتاب شيء كثير ، فإنه صرف عنايته إلى ذلك وبالغ ، وحديثه في الصحيحين عن أخيه همام » (117).
وترجمه أبو نعيم في حلية الأولياء ترجمة مفصلة استغرقت قرابة ستين صفحة وبسط الكلام في نقل أقواله وكلماته القصار (118).
وقد خدع عقول الصحابة بأفانين المكر ، حيث صار يعرف نفسه بأنه علم ممن قبله ومن عاصره بقوله لبعض حضار مجلسه : « يقولون عبد الله بن سلام أعلم أهل زمانه ، وكعب أعلم أهل زمانه ، أفرأيت من جمع علمهما ؟ » يعني نفسه (119).
وقد تسنم الرجل ، منبر التحدث عن الأنبياء والأمم السالفة يوم كان نقل الحديث عن النبي ( صلی الله عليه وآله وسلم ) ممنوعاً وأخذ بمجامع القلوب فأخذ عنه من أخذ ، وكانت نتيجة ذلك التحدث ، انتشار الإسرائيليات حول حياة الأنبياء في العواصم الإسلامية وقد دوّن ما ألقاه في مجلد واحد ، أسماه في كشف الظنون « قصص الأبرار وقصص الأخيار » (120).
وهب بن منبه والتركيز على القدر
وليته اكتفى بهذا المقدار ولم يلعب بعقيدة المسلمين ولم ينشر نظرية الجبر التي لو ثبتت لما بقيت للشرائع دعامة ، ويظهر من تاريخ حياته أنه أحد المصادر لانتشار نظرية نفي الاختيار والمشيئة عن الإنسان ، حتّى المشيئة الظلية التي لولاها لبطل التكليف ولغت الشريعة.
روى حماد بن سلمة عن أبي سنان قال : « سمعنا وهب بن منبه قال : كنت أقول بالقدر حتى قرأت بضعة وسبعين كتاباً من كتب الأنبياء في كلها : من جعل لنفسه شيئاً من المشيئة فقد كفر ، فتركت قولي » (121).
والمراد من القدر في قوله « كنت أقول بالقدر » ليس القول بتقدير الله سبحانه وقضائه ، بل المراد هو القول بالاختيار والمشيئة للعبد كما يظهر من ذيل كلامه.
وهذا النقل يعطي أن القول بنفي القدر والمشيئة للإنسان ، قد تسرب إلى الأوساط الإسلامية ، عن طريق هذه الجماعة وعن الكتب الإسرائيلية.
أفيصح بعد هذا أن نعدّ القول بنفي المشيئة عقيدة جاء بها القرآن والسنة النبوية ، ونكفر من قال بالمشيئة للإنسان ولو مشيئة ظلية تابعة لمشيئته سبحانه ، ونقاتل في سبيل هذه العقيدة ؟.
3 ـ تميم بن أوس الداري من رواة الأساطير
الإسرائيليات المبثوثة في كتب التفسير والحديث والتاريخ ترجع أصولها إلى رجال الكنائس والبيع وقد تعرفت على اثنين منهم وهما كعب الأحبار ووهب بن منبه ، وثالثهم هو تميم الداري وله دور كبير في بثها حيث إنه أول من تولى نشر هذه الأساطير ، وقد حدث عنه علماء الرجال والتراجم وأطبقوا على أنه كان نصرانياً قدم المدينة فأسلم في سنة 9 هجرية. وله من الأوليات أمران :
1 ـ كان أول من أسرج في المسجد.
2 ـ أول من قص بين المسلمين واستأذن عمر أن يقص على الناس قائماً فأذن له (122). وكان يسكن المدينة ثم انتقل إلى الشام بعد قتل عثمان (123).
هذا ما اتفقت عليه الكتب الرجالية ، ويستنتج منها ما يلي :
إنّ الرجل كان قصاصاً في المدينة يوم لم يكن هناك من يعارضه ويكافئه ، وبما أن الرجل كان قد قضى شطراً من عمره بين الأحبار والرهبان ، فمن الطبيعي أن يقوم بقص كل ما تعلمه من أساتذته من الإسرائيليات والأساطير المسيحية وبثها بين المسلمين وهم يأخذونها منه زاعماً أنها حقائق راهنة.
ومن المؤسف أن السياسة الحاكمة سمحت لهذا الكتابي الذي أسلم في أخريات حياة الرسول بأن يتحدث عن الأمم السالفة والأنبياء السابقين . وفي الوقت نفسه منعت عن التحدث عن رسول الله ونشر كلامه وتدوينه ، بحجة واهية قد تعرفت عليها.
أو ليس النبي ( صلی الله عليه وآله وسلم ) قال : « لا تصدقوا أهل الكتاب ولا تكذبوهم » على ما رواه أبو هريرة حيث أنه قال : كان أهل الكتاب يقرأون التوراة بالعبرية ويفسرونها بالعربية لأهل الإسلام ، فقال رسول الله ( صلی الله عليه وسلم ) : « لا تصدقوا أهل الكتاب ولا تكذبوهم وقولوا آمنا بالله وما أنزل إليكم » (124).
وإذا كان النبي ( صلی الله عليه وآله وسلم ) أمرنا بعدم تصديق هؤلاء القصاصين من أهل الكتاب ، فما فائدة نقل هذه القصص وبثها بين المسلمين وإتلاف عمر الشباب والكهول بالاستماع إليها ؟.
ولكن ابن عباس يقول أشد مما نقله أبو هريرة : « كيف تسألون أهل الكتاب عن شيء ؟ وكتابكم الذي أنزل على رسول الله أحدث الكتب تقرأونه محضاً لم يشب وقد حدثكم أن أهل الكتاب بدلوا كتاب الله وغيروه وكتبوا بأيديهم الكتاب وقالوا هو من عند الله ليشتروا به ثمناً قليلاً. ألا ينهاكم ما جاءكم من العلم عن مساءلتهم ؟ لا والله ما رأينا منهم رجلاً يسألكم عن الذي أنزل إليكم » (125).
إن ابن عباس الذي هو وليد البيت النبوي أعرف بسنة النبي ( صلی الله عليه وآله وسلم ) من أبي هريرة ، فهو ينهى عن السؤال والاستماع إلى كلماتهم بالمرة.
وبذلك يعلم أن ما أسند إلى النبي في المسانيد من القول « حدثوا عن بني إسرائيل ولا حرج » (126). إما موضوع ، أو مؤول محمول على ما علم من صدق الكلام.
طعن الشيطان لكل بني آدم إلا عيسى
إذا كان كعب الأحبار وزميله وهب بن منبه والمتقدم عليهما تميم الداري ، هم القصاصون في المجتمع الإسلامي والمتحدثون عن التوراة والإنجيل ، وكانت الصحابة ممنوعة عن التحدث عن النبي فمن الطبيعي أن ينتشر في العواصم الإسلامية الأساطير الخرافية حتى ما يمس بكرامة الأنبياء وكرامة النبي الأكرم . وهذا البخاري ينقل في صحيحه عن أبي هريرة ، قال : قال النبي : « كل بني آدم يطعن الشيطان في جنبيه باصبعه حين يولد غير عيسى بن مريم ذهب يطعن فطعن في الحجاب » (127).
وقد نقله أحمد في مسنده باختلاف يسير. ومعنى هذا الحديث الذي ينقله عن ذلك الصحابي عن الرسول : أن الشيطان يطعن كل ابن آدم إلا واحداً منه وهو عيسى بن مريم ، وأما الأنبياء كموسى ونوح وابراهيم وحتى خاتمهم ، لم يسلموا من طعن الشيطان. أو ليس ذلك الحديث يخالف كتاب الله حيث يقول : ( إِنَّ عِبَادِي لَيْسَ لَكَ عَلَيْهِمْ سُلْطَانٌ إِلَّا مَنِ اتَّبَعَكَ مِنَ الْغَاوِينَ ) (128).
فإذن ، كيف يمكن أن يقول النبي ذلك وقد أوحي إليه أنه ليس للشيطان سلطان على عباد الله المخلصين (129) وخيرهم الأنبياء والمرسلون وفي مقدمهم نبي العظمة. ومن المحتمل جداً أن هذا الخبر وصل إلى أبي هريرة من رواة عصره ، نظراء كعب الأحبار أو زميله تميم الداري وأضرابهما وقد نسبوه إلى النبي ( صلی الله عليه وآله وسلم ). إنّ هذا الحديث ونظائره أوجد مشاكل في الدين وأعطى حججاً بأيدي المخالفين حتى يهاجموا الرسول الأكرم والأنبياء ، ويزعموا بأنهم سقطوا في الخطيئة واقترفوا الآثام ، إلا عيسى بن مريم فإنه أرفع من طبقة البشر وإنه وحده قد استحق العصمة والصون من الآثام.
فهؤلاء المحدثون لو فرض أنهم صادقون في نياتهم لكنهم كالصديق الجاهل أضروا بالإسلام بنقل هذه القصص والأساطير وأيدوا العدو بها وأتعبوا المسلمين من بعدهم.
تميم الداري وقصة الجساسة
إن لتميم الداري حديثاً معروفاً باسم حديث الجساسة ، نقله مسلم في الجزء الثامن من صحيحة ص 203 تجد فيها من الغرائب ما تندهش منها العقول.
روي عن فاطمة بنت قيس أخت الضحاك بن قيس وكانت من المهاجرات الأول ـ : سمعت نداء المنادي ( منادي رسول الله ) ينادي : الصلاة جامعة ، فخرجت إلى المسجد فصليت مع رسول الله فكنت في صف النساء التي تلي ظهور القوم فلما قضى رسول الله صلاته جلس على المنبر وهو يضحك فقال : ليلزم كل إنسان مصلاه ، ثم قال : أتدرون لم جمعتكم ؟ قالوا : الله ورسوله أعلم ، قال : إني والله ما جمعتكم لرغبة ولا لرهبة ولكن جمعتكم لأن تميماً الداري كان رجلاً نصرانياً فجاء فبايع وأسلم وحدثني حديثاً وافق الذي كنت أحدثكم عن مسيح الدجال ، حدثني أنه ركب في سفينة بحرية مع ثلاثين رجلاً من لخم وجذام فلعب بهم الموج شهراً في البحر ثم أرفئوا إلى جزيرة في البحر حتى مغرب الشمس فجلسوا في أقرب السفينة فدخلوا الجزيرة فلقيتهم دابة أهلب كثير الشعر لا يدرون ما قبله من دبره من كثرة الشعر ، فقالوا : ويلك ما أنت ؟ فقالت : أنا الجساسة . قالوا : وما الجساسة ؟ قالت : أيها القوم انطلقوا إلى هذا الرجل في الدير فإنه إلى خبركم بالأشواق. قال : لما سمت لنا رجلاً فزعنا منها أن تكون شيطانة. قال : فانطلقنا سراعاً حتى دخلنا الدير فإذا فيه أعظم إنسان رأيناه قط خلقاً وأشده وثاقاً ، مجموعة يداه إلى عنقه ما بين ركبتيه إلى كعبيه بالحديد ، قلنا : ويلك ما أنت ؟ قال : قد قدرتم على خبري فأخبروني ما أنتم ؟ قالوا : نحن أناس من العرب ركبنا في سفينة بحرية فصادفنا البحر حين اغتلم ، فلعب بنا الموج شهراً ثم أرفأنا إلى جزيرتك هذه فجلسنا في أقربها ، ( فدخلنا الجزيرة فلقيتنا دابة أهلب كثير الشعر لا يدرى ما قبله من دبره من كثرة الشعر. فقلنا : ويلك ما أنت ؟ قالت : أنا الجساسة. قلنا : وما الجساسة ؟ قالت : اعمدوا إلى هذا الرجل في الدير فإنه إلى خبركم بالأشواق ، فأقبلنا إليك سراعاً وفزعنا منها ولم نأمن أن تكون شيطانة. فقال أخبروني عن نخل بيسان . قلنا : عن أي شأنها تستخبر ؟ قال : أسألكم عن نخلها هل يثمر ؟ قلنا له : نعم. قال : أما إنه يوشك أن لا يثمر. قال : أخبروني عن بحيرة الطبرية. قلنا : عن أي شأنها تستخبر ؟ قال : هل فيها ماء ؟ قالوا : هي كثيرة الماء. قال : أما إن ماءها يوشك أن يذهب ؟ قال : أخبروني عن عين زغر. قالوا : عن أي شأنها تستخبر ؟ قال : هل في العين ماء وهل يزرع أهلها بماء العين ؟ قلنا له : نعم هي كثيرة الماء وأهلها يزرعون من مائها. قال : أخبروني عن نبي الأميين ما فعل ؟ قالوا : قد خرج من مكة ونزل يثرب. قال : أقاتله العرب ؟ قلنا : نعم. قال : كيف صنع بهم ؟ فأخبرناه أنه قد ظهر على من يليه من العرب وأطاعوه. قال لهم : قد كان ذلك ؟ قلنا : نعم. أما إن ذاك خير لهم أن يطيعوه وإني مخبركم عني إني أنا المسيح وإني أوشك أن يؤذن لي في الخروج فأخرج فأسير في الأرض فلا أدع قرية إلّا هبطتها في أربعين ليلة غير مكة وطيبة فهما محرمتان علي كلتاهما ، كلما أردت أن أدخل واحدة أو واحداً منهما استقبلني ملك بيده السيف صلتاً يصدني عنها وإن على كل نقب منها ملائكة يحرسونها. قالت : قال رسول الله ( صلى الله عليه وسلم ) : وطعن بمخصرته في المنبر هذه طيبة ، هذه طيبة ، هذه طيبة يعني المدينة ألا هل كنت حدّثتكم ذلك ؟ فقال الناس : نعم فإنه أعجبني حديث تميم إنه وافق الذي كنت أحدثكم عنه وعن المدينة ومكة ألا إنّه في بحر الشام أو بحر اليمن لا بل من قبل المشرق ما هو من قبل المشرق ما هو من قبل المشرق ، ما هو. وأومأ بيده إلى المشرق. قالت : فحفظت هذا من رسول الله ( صلى الله عليه وسلم ) (130).
وقد علق المحقق المصري أبو رية على هذا الحديث وقال : « لعل علماء الجغرافية يبحثون عن هذه الجزيرة ويعرفون أين مكانها من الأرض ، ثم يخبروننا حتى نرى ما فيها من الغرائب التي حدثنا بها سيدنا تميم الداري » (131).
وأعجب منه أن يحدث نبي العظمة الذي يقول سبحانه في حقه : ( وَعَلَّمَكَ مَا لَمْ تَكُن تَعْلَمُ وَكَانَ فَضْلُ اللَّهِ عَلَيْكَ عَظِيمًا ) (132).
عن تميمم الداري ويستشهد بكلام نصراني دخل في الإسلام حديثاً ونعم ما قال شاعر المعرة :
* فيا موت زر إن الحياة ذميمة *
4 ـ ابن جريج الرومي ورواية الموضوعات
« عبد الملك بن عبد العزيز بن جريج الرومي ، ولاؤه لآل خالد بن أسيد الأموي ولد سنة 80 وتوفي عام 150 قال أحمد بن حنبل : كان من أوعية العلم وهو وابن أبي عروبة أول من صنف الكتب ، وقال عبد الرزاق : كان ابن جريج ثبتاً لكنه يدس » (133).
ونقل الذهبي أيضاً عن عبد الله بن حنبل قال : « إن بعض هذه الأحاديث الذي يرسلها ابن جريج أحاديث موضوعة كان ابن جريج لا يبالي من أين يأخذها » (134).
نعم ، روى الكليني بسنده عن الفضل الهاشمي ، قال : سألت أبا عبد الله ( عليه السلام ) عن المتعة فقال : الق عبد الملك ابن جريج ، فسله عنها ، فإن عنده منها علماً فلقيته فأملى علي شيئاً كثيراً في استحلالها وكان فيما روى لي فيها ابن جريج أنه ليس فيها وقت ولا عدد ، وإنما هي بمنزلة الإماء ، يتزوج منهن كم شاء ، وصاحب الأربع نسوة يتزوج منهن ما شاء ، بغير ولي ولا شهود ، فإذا انقضى الأجل ، بانت منه بغير طلاق ، ويعطيها الشيء اليسير ، وعدتها حيضتان ، وإن كانت لا تحيض فخمسة وأربعون يوماً. قال : فأتيت بالكتاب أبا عبد الله ( عليه السلام ) ، فقال : صدق. وأقر به (135).
ولعل إرجاع الإمام ( عليه السلام ) سائله إليه ، لأجل اعترافه بالحق في تلك المسألة ، وليس هذا دليلاً على وثاقته مطلقاً.
حصيلة البحث
إن هذه العصابة التي أتينا بأسمائهم وذكرنا عنهم شيئاً ، كانوا هم الأسس في تسرب القصص الديني اليهودي والمسيحي إلى متون كتب المسلمين وصارت نواة لكثير من القصاصين والوضاعين الذين نسجوا على منوالهم ونقلوا كل ما سمعوه من غث وسمين باسم الدين ، ولأجل ذلك نجد كثيراً من كتب التفسير والتاريخ والحديث حتى ما يسمى بالصحاح والمسانيد ، مملوءة بالإسرائيليات والمسيحيات بل والمجوسيات.
يقول « جولد تسيهر » في هذا المضمار في كتابه « العقيدة والشريعة » : « هناك جمل أخذت من العهد القديم والعهد الجديد وأقوال للربانيين ، أو مأخوذة من الأناجيل الموضوعة وتعاليم من الفلسفة اليونانية ، وأقوال من حكم الفرس والهنود ، كل ذلك أخذ مكانه في الإسلام عن طريق الحديث ـ إلى أن قال ـ : ومن هذا الطريق تسرب كنز كبير من القصص الدينية حتى إذا ما نظرنا إلى الرواة المعدودة من الحديث ونظرنا إلى الأدب الديني اليهودي ، فإننا نستطيع أن نعثر على قسم كبير دخل الأدب الديني الإسلامي من هذه المصادر اليهودية » (136).
نحن لا نصدق هذا المستشرق الحاقد على الإسلام في كل ما يقول ويقضي ، إلا أننا نوافقه في أن ما يؤثر عن أمثال كعب الأحبار ، ووهب بن منبه ، وتميم الداري ، وعبد الملك بن جريج وغيرهم ، من الإسرائيليات ، ليس من صلب الإسلام وحديثه. والعجب أن هذه الجماعة لم تتمكن من إخفاء نواياها السيئة ، فترى أن اليهودي منهم ينقل فضائل موسى ويرفعه فوق جميع الأنبياء ، كما أن النصراني منهم أخذ يرفع مقام المسيح ( عليه السلام ) على جميعهم ويصفه بالعصمة وحده دون غيرهم.
نعم ليس كل ما ورد في الشريعة الإسلامية ووافق التعاليم اليهودية والنصرانية ، مأخوذاً من كتبهم لأن الشرائع السماوية واحدة في جوهرها متحدة في أصولها ، وبينها مشتركات كثيرة والاختلاف إنما هو في الشرعة والمنهاج لا في الجوهر واللباب ، قال سبحانه : ( لِكُلٍّ جَعَلْنَا مِنكُمْ شِرْعَةً وَمِنْهَاجًا ) (137).
فالاختلاف إنما هو في الطرق الموصلة إلى ماء الحياة أعني الأصول والتعاليم السماوية النازلة من مصدر الوحي. فلو كان هناك اختلاف فإنما هو في القشور والأثواب ، لا في الجوهر واللباب. وقد فصلنا الكلام في ذلك في « مفاهيم القرآن » (138).
خاتمة المطاف
وأخيراً نقول : إن المتظاهرين بالإسلام من الأحبار والرهبان الذين كان لهم دور كبير في بث الإسرائيليات وتكوين المذاهب ، ليسوا منحصرين في من ذكرناهم ، بل هناك جماعة منهم لعبوا دوراً في هذا المضمار يجد المتتبع أسماءهم ويقف على أقوالهم في كتب الرجال والتراجم والروايات والأحاديث كعبد الله بن سلام الذي أسلم في حياة النبي ، وطاوس بن كيسان الخولاني ، الحمداني بالولاء من التابعين ، ولد عام 33 وتوفي عام 106 وغيرهم ممن تركنا البحث عنهم اختصاراً.
ولإتمام البحث نأتي بنص بعض المحققين في ذاك المجال وهي كلمة للدكتور « رمزي نعناعة » حول الإسرائيليات ، قال : « تسرب كثير من الإسرائيليات عن طريق نفر من المسلمين أنفسهم أمثال : عبد الله بن عمرو بن العاص فقد روي أنه أصاب زاملتين من كتب أهل الكتاب يوم اليرموك فكان يحدث الناس ببعض ما فيها اعتماداً على حديث مروي (139).
وعن هؤلاء المفسرين الذين لا يتورعون عن تفسير القرآن بمثل هذه الخيالات والأوهام يقول النظام « لا تسترسلوا إلى كثير من المفسرين وإن نصبوا أنفسهم للعامة وأجابوا في كل مسألة فإن كثيراً منهم يقول بغير رواية من أساس وليكن عندكم عكرمة والكلبي والسدي والضحاك ومقاتل بن سليمان وأبو بكر الأصم في سبيل واحدة فكيف أثق بتفسيرهم وأسكن إلى صوابهم » (140).
وقال أيضاً حول قصة آدم وحواء : « ونقرأ تفسير الطبري وتفسير مقاتل بن سليمان في هذه القصة فيتجلى لنا بوضوح انهما أخذا ما جاء في التوراة وشروحها من تفصيل لهذه القصة ، ووضعوه تفسيراً لآيات القرآن الكريم وهم يروون ذلك عن وهب بن منبه تارة ، وعن إسرائيل عن أسباط عن السدي تارة أخرى (141). ومثلاً نجد القرآن الكريم قد اشتمل على موضوعات وردت في الإنجيل كقصة ولادة عيسى بن مريم ومعجزاته ، فجاء المفسرون ينقلون عن مسلمة اليهود والنصارى شروحاً لهذه الآيات » (142).
وقال أيضاً : « ولم يقتصر تأثير الإسرائيليات على كتب التفسير بل تعداها إلى العلوم الإسلامية الأخرى ، فقد عني بعض المسلمين بنقل تاريخ بني إسرائيل وأنبيائهم كما فعل أبو إسحاق والطبري في تاريخيهما وكما فعل ابن قتيبة في كتاب المعارف ... كذلك كان لليهود أثر غير قليل في بعض المذاهب الكلامية ، فابن الأثير يروي عند الكلام على « أحمد بن أبي دؤاد » أنه كان داعية إلى القول بخلق القرآن ، وأخذ ذلك عن بشر المريس وأخذ بشر من الجهم بن صفوان ، وأخذ الجهم من الجعد بن أدهم ، وأخذه الجعد عن أبان بن سمعان ، وأخذه أبان عن طالوت ابن أخت لبيد الأعصم وختنه ، وأخذه طالوت من لبيد بن الأعصم اليهودي وكان لبيد يقول : خلق التوراة ، وأول من صنف في ذلك طالوت وكان زنديقاً فأفشى الزندقة » (143).
وسيوافيك أن القول بقدم القرآن وكونه غير مخلوق ، أيضاً تسربت من اليهود حينما قالوا بقدم التوراة ، أو من النصرانية حينما قالوا بقدم « الكلمة » التي هي المسيح . فللأحبار والرهبان دور راسخ في خلق هذه العقائد وطرح قدم القرآن خاصة على بساط البحث مع أنه لم يرد في ذلك نص عن النبي والصحابة.
قال « زهدي حسن » ـ عند البحث عن تأثير الديانات ـ في تكون العقائد : « فمن أهل تلك الأديان من تركوا أديانهم ودخلوا في الإسلام. لكنهم لم يستطيعوا أن يتخلصوا من عقائدهم القديمة ولم يتسن لهم أن يتجردوا من سلطانها ، لأن للمعتقدات الدينية على نفوس الناس قوة نافذة وهيمنة عظيمة فلا تزول بسهولة ولا تنسى بسرعة ، ولهذا فإنهم نقلوا إلى الإسلام ـ عن غير تعمد أو سوء قصد ـ بعض تلك المعتقدات ونشروها بين أهله.
ومنهم ـ وهذا يصح عن الفرس كما سنرى ـ من اعتنق الإسلام لا عن إيمان به أو تحمس له وإنما لغايات في نفوسهم فعل بعضهم ذلك طمعاً في مال يجنيه أو جاه يناله ، وأقدم البعض الآخر عليه بدافع الحقد على المسلمين الذين هزموا دينهم وهدموا ملكهم ، فأظهروا الإسلام وأبطنوا عداوته ودأبوا على محاربته والكيد له ، فكانوا خطراً عليه كبيراً ، وشراً مستطيراً ، لأنهم ما انفكوا ينفثون فيه ما في صدورهم من الغل والغيظ ، ويروجون بين أبنائه من الأفكار والآراء ما لا تقره العقيدة الإسلامية حباً في تشويه تلك العقيدة ورغبة في إفسادها.
وكثيرون من غير المسلمين تمسكوا بأديانهم الأصلية ، لأن الإسلام منحهم حرية العبادة ، ولم يتدخل في شؤونهم الخاصة ما داموا يدفعون الجزية ، ولما توطدت أركان الدولة الإسلامية وتوسعت أعمالها في عهد بني أمية ، ولما لم تكن للعرب الخبرة الكافية في أمور الإدارة ، فإنهم اضطروا إلى أن يعتمدوا في تصريف شؤون البلاد على أهل الأمصار المتعلمين الذين اقتبسوا مدنية الفرس وحضارة البيزنطيين ، فأسندوا إليهم أعمال الدواوين. وهكذا كانوا يحيون بين ظهراني المسلمين ، ويحتكون دوماً بهم ... والاحتكاك يؤدي إلى تبادل الرأي ، والآراء سريعة الانتقال شديدة العدوى.
وقال أيضاً : إن الأمويين قربوهم ( المسيحيين ) إليهم ، واستعانوا بهم ، وأسندوا إليهم بعض المناصب العالية ، فقد جعل معاوية بن أبي سفيان « سرجون بن منصور » الرومي المسيحي كاتبه وصاحب أمره (144) وبعد أن قضى معاوية بقيت لسرجون مكانته فكان يزيد يستشيره في الملمات ويسأله الرأي (145).
ثم ورث تلك المكانة ولده يحيى الدمشقي (146) الذي خدم الأمويين زمناً ثم اعتزل العمل سنة ( 112 هـ ، 730 م ) والتحق بأحد الأديرة القريبة من القدس حيث قضى بقية حياته يشتغل في الأبحاث الدينية ويصنف الكتب اللاهوتية ، وليس من يجهل الأخطل الشاعر المسيحي الذي قدمه الأمويون وأغدقوا عليه العطايا وجعلوه شاعر بلاطهم . وكيف كان يزيد بن معاوية يعتمد عليه في الرد على أعداء بني أمية وهجومهم (147).
إن احتكاك المسلمين بأولئك المسيحيين لا يمكن أن يكون قد مضى دون أن يترك فيهم أثراً ، ولا سيما برجل ممتاز كيحيى الدمشقي الذي كان آخر علماء اللاهوت الكبار في الكنيسة الشرقية وأعظم علماء الكلام في الشرق المسيحي » (148).
* * *
وقال أحمد أمين عند البحث عن مصادر القصص في العصر الأول : « ولا بد أن نشير هنا إلى منبعين كبيرين لهؤلاء القصص وأمثالهم (149) ، تجد ذكرهما كثيراً في رواية القصص وفي التاريخ وفي الحديث وفي التفسير ، هما : وهب بن منبه ، وكعب الأحبار » .
فأما وهب بن منبه فيمني من أصل فارسي ، وكان من أهل الكتاب الذين أسلموا وله أخبار كثيرة وقصص تتعلق بأخبار الأول ومبدأ العالم وقصص الأنبياء ، وكان يقول : « قرأت من كتب الله اثنين وسبعين كتاباً » وقد توفي حول سنة ( 110 هـ ) بصنعاء. وأما كعب الأحبار أو كعب بن ماتع فيهودي من اليمن كذلك ، ومن أكبر من تسربت منهم أخبار اليهود إلى المسلمين . أسلم في خلافة أبي بكر وعمر ـ على خلاف في ذلك ـ وانتقل بعد إسلامه إلى المدينة ثم إلى الشام ، وقد أخذ عنه اثنان ، هما أكبر من نشر علمه : ابن عباس ـ وهذا يعلل ما في تفسيره من إسرائيليات ـ وأبو هريرة ولم يؤثر عنه أنه ألف كما أثر عن وهب بن منبه ، ولكن كل تعاليمه ـ على ما وصل إلينا ـ كانت شفوية ، وما نقل عنه يدل على علمه الواسع بالثقافة اليهودية وأساطيرها.
جاء في « الطبقات الكبرى » حكاية عن رجل دخل المسجد فإذا عامر بن عبد الله بن القيس جالس إلى كتب وبينها سفر من أسفار التوراة وكعب يقرأ (150). وقد لاحظ بعض الباحثين أن بعض الثقات كابن قتيبة والنووي لا يروي عنه أبداً. وابن جرير الطبري يروي عنه قليلاً ، ولكن غيرهم كالثعلبي والكسائي ينقل عنه كثيراً من قصص الأنبياء كقصة يوسف والوليد بن الريان وأشباه ذلك. ويروي « ابن جرير » أنه جاء إلى عمر بن الخطاب قبل مقتله بثلاثة أيام وقال له : « اعهد ، فإنك ميت في ثلاثة أيام. قال : وما يدريك ؟ قال : أجده في كتاب الله عز وجل في التوراة. قال عمر : إنك لتجد عمر بن الخطاب في التوراة ؟ قال : اللهم لا ، ولكن أجد صفتك وحليتك وأنه قد فني أجلك ».
وهذه القصة إن صحت ، دلت على وقوف كعب على مكيدة قتل عمر ، ثم وضعها هو في هذه الصبغة الإسرائيلية ، كما تدلنا على مقدار اختلاقه فيما ينقل.
وعلى الجملة : فقد دخل على المسلمين من هؤلاء وأمثالهم في عقيدتهم وعلمهم كثير كان له فيهم أثر غير صالح » (151).
( وَدَّت طَّائِفَةٌ مِّنْ أَهْلِ الْكِتَابِ لَوْ يُضِلُّونَكُمْ وَمَا يُضِلُّونَ إِلَّا أَنفُسَهُمْ وَمَا يَشْعُرُونَ ).
( آل عمران : 69 )
العامل الخامس
الاحتكاك الثقافي واللقاء الحضاري
مضى النبي الأكرم إلى جوار ربه وقام المسلمون بعده بفتح البلاد ومكافحة الأمم المخالفة للإسلام والسيطرة على أقطارها ، وكانت تلك الأمم ذات حضارة وثقافة في المعارف والعلوم والآداب ، وكان بين المسلمين رجال ذوو دراية ورغبة في كسب العلوم وتعلم ما في تلك الحضارات من آداب وفنون فأدت هذه الرغبة إلى المذاكرة والمحاورة أولاً ، ونقل كتبهم إلى اللغة العربية ثانياً.
يقول بعض المؤرخين في هذا الصدد : « ولم تلبث كتب أرسطو ، وطاليس ، وأنبذقليس ، وهرقليوس ، وسقراط ، وأبيقور ، وجميع أساتذة مدرسة الإسكندرية من الفلاسفة ، أن ترجمت إلى اللغة العربية وكان هناك ما جعل أمر تلك الترجمة سهلاً ، فقد كانت معارف اليونان والرومان منتشرة في بلاد الفرس وسوريا منذ أن وجد العرب في بلاد فارس وسوريا فلما استولى المسلمون على ما فيها من خزائن العلوم اليونانية قاموا بنقل ما هو باللغة السريانية إلى اللغة العربية ».
وأعان على أمر الترجمة أنه نقل عدة من الأسرى إلى العواصم الإسلامية فصار ذلك سبباً لانتقال كثير من آراء الرومان والفرس إلى المجتمع الإسلامي وانتشارها بينهم ولا شك أن بين تلك المعارف ما كان يضاد مبادیء الإسلام وأسسه وكان بين المسلمين من لم يتدرع في مقابلها ومنهم من لم يتورع في أخذ الفاسد منها.
فأصبحوا مغمورين في هذه التيارات نظراء ابن أبي العوجاء وحماد بن عجرد ، ويحيى بن زياد ، ومطيع بن أياس ، وعبد الله بن المقفع ، فهؤلاء وأمثالهم بين غير متدرع وغير متورع ، اهتموا بنشر الإلحاد بين المسلمين وترجمة كتب الملاحدة والثنوية من الروم والفرس إلى أن عاد بعض المتفكرين غير مسلمين للإسلام إلا بالقواعد الأساسية كالتوحيد والنبوة والمعاد وكانوا ينشرون آراءهم علناً ويهاجمون بها عقائد المؤمنين.
نحن نرى في التراث اليوناني بفضل التراجم التي وصلت إلينا أبحاثاً حول علمه سبحانه وإرادته وقدرته وأفعاله حتى مسألة الجبر والاختيار ، وقد كان لتلك الآراء تأثير عميق على عقول المسلمين وهم بين متدرع بالحضارة الإسلامية يكافح الشبه ويميز الصحيح من الفاسد ، وبين ضعيف في التعقل والتفكر ليس له من الشأن إلا الأخذ ، فصارت تلك الآراء من مبادیء تكوّن الفرق واختلاق النحل.
دور أهل البيت في عصر الترجمة
وفي هذا الجو المشحون بالآراء والعقائد الصحيحة وغير الصحيحة ، قام أهل البيت بتربية جموع غفيرة من ذوي الاستعداد على المبادیء الأصيلة والمفاهيم الإسلامية وتعريفهم بالأصول الدينية المستقاة من الكتاب والسنة والعقل ، وصاروا يناظرون كل فرقة ونحلة بما فيهم الملاحدة والثنوية بأمتن البراهين وأسلمها.
وقد حفظ التاريخ أسماء طائفة منهم ، كهشام بن الحكم ، وأبي جعفر مؤمن الطاق ، وجابر بن يزيد ، وأبان بن تغلب البكري ، ويونس بن عبد الرحمن ، وفضال بن الحسن بن فضال ، ومحمد بن خليل السكاك ، وأبي مالك الضحاك ، وآل نوبخت جميعاً ، إلى غير ذلك ممن برع في علم الكلام ، وناظر الفرق ، بين من تتلمذ على الأئمة ، أو من تتلمذ على خريجي مذهبهم ، وتواصلت حلقات مناظراتهم حتى القرون المتأخرة وألفت كتب في العقائد والكلام والملل والنحل ، يقف القاریء على تاريخهم في كتب الرجال والتراجم وقد حفظ الكثير من نصوص هذه المناظرات والاحتجاجات لحد الآن.
كما قامت المعتزلة بمقاومة هذه التيارات الإلحادية والثنوية ، وبإزالة الشبه بفضل الأصول القرآنية والعقلية ، وقد نجحوا في ذلك نجاحاً باهراً وإن لم يكونوا ناجحين في كل ما هو الحق من الأصول والفروع الإسلامية.
وبما أن أهل الحديث لا يحسنون طريقة المعتزلة في الاحتجاج والبرهنة ، لذا كانوا يعادونهم ، كما أن الملاحدة والثنوية كانوا يعادونهم أيضاً ، لما يجدون فيهم من قوة التفكير والقدرة على الاحتجاج والمناظرة . وعلى ذلك فقد وقعت المعتزلة بين عدوين : أحدهما من الداخل ، وهم أهل الحديث ، والآخر من الخارج ، وهم الملاحدة والثنوية.
نعم كان بين المسلمين من يأبى الخوض في المسائل العقلية ويكتفي بما وصل إليه من الصحابة ، ويقتصر على ما حصل عليه من الدين بالضرورة وهم الحشوية من أهل الحديث وأكثر الحنابلة ولما التحق الشيخ أبو الحسن الأشعري بالحنابلة لم يجد محيصاً في الدفاع عن عقائدهم عن الخوض في المسائل الكلامية فألف رسالة أسماها « في استحسان الخوض في الكلام ».
العامل السادس
الاجتهاد في مقابل النص
إذا كانت العوامل الخمسة الماضية من عوامل تكون المذاهب الكلامية فالاجتهاد في مقابل النص مما يتكون به المذاهب الكلامية والفقهية.
روى الفريقان أن النبي (ص) كان مسجى على فراش الموت والحجرة غاصة بأصحابه فقال : « يا أيها الناس يوشك أن أقبض سريعاً فينطلق بي وقد قدمت إليكم القول معذرة إليكم ألا أنّي مخلف فيكم كتاب الله عز وجل وعترتي أهل بيتي » (152).
فجعل العترة أعدال كتاب الله وقرناءه كما أنه (ص) جعلهم أمان الأمة من الاختلاف وسفينتها من الهلاك ، إلى غير ذلك من الأحاديث التي ستمر عليك عند البحث عن الشيعة.
ومع ذلك استأثر القوم بالأمر يوم السقيفة وأولوا نصوصه لا يلوون على شيء وقد قضوا أمرهم بينهم دون أن يؤذنوا به أحداً من بني هاشم وأهل بيت النبوة وكأنه عناهم الشاعر في المثل السائر حيث قال :
ويقضى الأمر حين تغيب تيم |
ولا يستأذنون وهم شهود |
نرى أن الأمة بعد رسول الله (ص) رجعوا إلى كل صحابي وتابعي وإلى من أدرك صحبة النبي شهراً أو أقل ومع ذلك أعرضوا عن أهل بيته وعترته وهم أهل بيت النبوة وموضع الرسالة ومختلف الملائكة ومهبط الوحي والتنزيل وما هذا إلا اجتهاد في مقابل النص.
وأما المذاهب الفقهية التي أسست في ظل هذا العامل فحدث عنها ولا حرج ويكفي في ذلك المراجعة إلى الكتب الفقهية في المسائل التالية :
1 ـ إسقاط سهم المؤلفة قلوبهم من الزكاة مع النص عليه في محكم الذكر.
2 ـ إسقاط سهم ذوي القربى من الخمس بوفاة رسول الله مع النص عليه في محكمات الفرقان وصحاح السنن.
3 ـ الحكم بعدم توريث الأنبياء مع ما في الذكر الحكيم من النصوص الصريحة في توريثهم.
4 ـ النهي عن متعة الحج مع النص الوارد عليها في الآية ( 196 ) من سورة البقرة.
5 ـ النهي عن متعة النساء مع النص عليه في محكم الذكر وصحاح الروايات.
6 ـ إسقاط « حي على خير العمل » من الأذان والإقامة مع كونه جزءاً من كل منهما.
إلى غير ذلك من الموارد التي جمعها العلامة الأكبر السيد شرف الدين العاملي ( م 1377 ) في كتابه « النص والاجتهاد » وهو من الكتب الممتعة في ذلك الموضوع وفي آخر الكتاب فصل جمع فيه نصوص الإمامة المتوالية من مبدأ أمر الرسول إلى انتهاء عمره الشريف.
* * *
( ثُمَّ أَوْرَثْنَا الْكِتَابَ الَّذِينَ اصْطَفَيْنَا مِنْ عِبَادِنَا فَمِنْهُمْ ظَالِمٌ لِّنَفْسِهِ وَمِنْهُم مُّقْتَصِدٌ وَمِنْهُمْ سَابِقٌ بِالْخَيْرَاتِ بِإِذْنِ اللَّهِ ذَٰلِكَ هُوَ الْفَضْلُ الْكَبِيرُ ).
( فاطر : 32 )
الهوامش
1. ( وَنَزَّلْنَا عَلَيْكَ الْكِتَابَ تِبْيَانًا لِّكُلِّ شَيْءٍ ) ( سورة النحل الآية 89 ).
2. ( إِنْ هُوَ إِلَّا وَحْيٌ يُوحَىٰ ) ( سورة النجم الآية 4 ).
3. لقوله صلی الله عليه وآله وسلم : إني تارك فيكم الثقلين كتاب الله وعترتي ما إن تمسكتم بهما لن تضلوا بعدي أبداً وإنهما لن يفترقا حتى يردا علي الحوض. والتثليث في كلامنا لا يعارض التثنية في كلام الرسول صلی الله عليه وآله وسلم لأن مرجع كلام العترة إلى سنة الرسول التي أودعها في قلوبهم بإذن الله عز وجل.
4. سورة إبراهيم : الآية 10.
5. سورة الطور : الآية 35.
6. سورة الأنبياء : الآية 22.
7. سورة الحشر : الآية 22.
8. سورة الشورى : الآية 11.
9. سورة الأنعام : الآية 103.
10. سورة الأنعام : الآية 91.
11. سورة النحل : الآية 44.
12. راجع في تواتره وكثرة رواته في جميع العصور الإسلامية من عصر الصحابة إلى عصرنا هذا ، ودلالته على الولاية الكبرى للإمام أمير المؤمنين ، كتاب الغدير : الجزء الأول ، ولأجل ذلك طوينا الكلام عن نقل مصادره.
13. تاريخ الطبري : ج 2 ، حوادث سنة 11 ص 456.
14. تاريخ الطبري : ج 2 ، حوادث سنة 11 ص 457.
15. تاريخ الطبري : ج 2 حوادث سنة 11 ص 458.
16. نهج البلاغة : الخطبة 64.
17. نهج البلاغة ، طبعة عبده ، قسم الحكم ، الرقم 190 ، وفي المطبوع تحريف ، والصحيح ما أثبتناه في المتن.
18. سورة الأحزاب : الآية 36.
19. شرح نهج البلاغة لابن أبي الحديد : ج 11 ص 16.
20. سورة الأحزاب : الآية 15.
21. نهج البلاغة شرح محمد عبده : ج 1 ص 82 الخطبة : 35.
22. نهج البلاغة ط مصر ، بشرح محمد عبده : ج 1 ص 103 خطبة 58.
23. سورة يوسف : الآية 40.
24. سورة الأعراف : الآية 111.
25. شرح المقاصد للتفتازاني : ج 2 ص 229 ولاحظ أيضاً ص 238.
26. سورة النحل : الآية 44.
27. سورة النجم : الآيات 2 ـ 4.
28. سنن الترمذي : ج 5 ص 34 ح 2657 ، 2658.
29. سنن الترمذي : ج 5 ص 34 ح 2658.
30. كنز العمال ج 10 ص 221 ، رقم الحديث 29167 ، وبحار الأنوار : ج 2 ص 145 ح 7.
31. صحيح البخاري باب كتابة العلم ، الحديث 2 ص 29 ـ 30.
32. سنن الترمذي : ج 5 ص 39 ، كتاب العلم ، باب ما جاء في الرخصة فيه ح 2666.
33. مسند أحمد : ج 2 ص 207.
34. سنن الدارمي : ج 1 ص 125 باب من رخص في كتابة العلم ، وسنن أبي داود : ج 2 ص 318 ، باب في كتابة العلم ، ومسند أحمد : ج 3 ص 162.
35. مسند أحمد : ج 2 ص 215.
36. سورة البقرة : الآية 282.
37. سورة البقرة : الآية 282.
38. سورة الصافات : الآية 157.
39. سورة الأنعام : الآية 91.
40. سورة الأنعام : الآية 91.
41. سورة الأنعام : الآية 91.
42. سورة الأحقاف : الآية 4.
43. تقييد العلم : ص 70 ـ 71.
44. سورة العلق : الآية 1 ـ 4.
45. سورة القلم : الآية 1.
46. سنن الدارمي : ج 1 ص 119 ، مسند أحمد ج 3 ص 12.
47. سنن الدارمي : ج 1 ص 119.
48. مسند أحمد : ج 5 ص 182.
49. مسند أحمد : ج 3 ص 12.
50. جمع الخطيب في « تقييد العلم » : ص 29 ـ 28 ، الروايات المنسوبة إلى النبي والموقوفة على الصحابة والتابعين.
51. تقييد العلم : ص 49.
52. تاريخ الطبري : ج 3 ص 273 ، طبعة الأعلمي بالأفست.
53. طبقات ابن سعد : ج 6 ص 7 ، والمستدرك للحاكم ج 1 ص 102.
54. كنز العمال : ج 10 ص 293 ح 29479.
55. تقييد العلم : ص 52.
56. كنز العمال ، ج 10 ص 295 ، ح 29490.
57. كنز العمال ، ج 10 ، ص 291 ، ح 29473.
58. فرقة السلفية ص 14 ، نقلاً عن مسند الإمام أحمد.
59. البخاري ، كتاب العلم ، باب كتابة العلم : ج 1 ص 30.
60. « كالوثائق السياسية » لمحمد حميد الله ، و « مكاتيب الرسول » للعلامة الأحمدي.
61. كنز العمال : ج 10 ص 237 و 239.
62. مسند أحمد : ج 3 ص 12 و 14.
63. مستدرك الحاكم : ج 1 ص 102 و 104.
64. المصدر نفسه.
65. وقد أذن عمر بن الخطاب لتميم الداري النصراني الذي استسلم عام 9 من الهجرة أن يقص كما في كنز العمال ج 1 ص 281 فالتحدث بحديث رسول الله يكون ممنوعاً و « الداري » وأمثاله يكونون أحراراً في بث الأساطير والقصص المحرفة ؟ !.
66. سيوافيك مصادر هذه الأحاديث عند البحث عن عقيدة الشيعة ومن أراد الوقوف فليرجع إلى كتب المناقب للإمام علی عليه السلام.
67. تاريخ الخلفاء : ص 115.
68. سنن الدارمي : ج 1 ص 119.
69. مسند أحمد : ج 1 ص 119.
70. صحيح البخاري ، باب كتابة العلم ، الحديث الأول ، ص 29.
71. لاحظ مكاتيب الرسول : ج 1 ص 72 ـ 89.
72. تقييد العلم ، للخطيب ، ص 57.
73. صحيح البخاري : ج 1 ص 27.
74. تاريخ الخلفاء للسيوطي : ص 261.
75. « حياة محمد » تأليف محمد حسين هيكل ص 49 ـ 50 من الطبعة الثالثة عشر.
76. طبقات الحفاظ للذهبي ، ج 2 ص 154 ، تاريخ بغداد ج 2 ص 57 المنتظم لابن الجوزي ج 5 ص 97.
77. إرشاد الساري ج 1 ص 28 وصفة الصفوة ج 4 ص 143.
78. المنتظم لابن جوزي ج 5 ص 32 وطبقات الحفاظ للذهبي ج 2 ص 151 ـ 157 ، شرح صحيح مسلم للنووي ج 21 ص 36.
79. ترجمة أحمد المنقولة من طبقات ابن السبكي المطبوعة في آخر الجزء الأول من مسنده . طبقات الذهبي ج 2 ص 17.
80. خلاصة التهذيب ص 9 ، ولاحظ الغدير ج 5 ص 292 ـ 293.
81. الملل والنحل : ج 1 ص 117.
82. البدء والتاريخ : ج 4 ص 31.
83. مقدمة تبيين المفتري : ص 30.
84. مقدمة ابن خلدون ، ص 439.
85. المنار : ج 3 ص 545 ، ونقله في الأضواء : ص 115 ولعل في قوله « هذا المقدار » تصحيفاً.
86. ميزان الاعتدال : ج 1 ص 593 ، ومات حماد عام 167.
87. أمالي المرتضي : ج 1 ص 127 ـ 128.
88. الموضوعات : ص 37 طبع المدينة ، ولاحظ تهذيب التهذيب : ج 3 ص 11 ـ 16.
89. ميزان الاعتدال : ج 1 ص 593 ـ 594 ، وهذه الأساطير المزخرفة من مفتعلات الزنادقة نظراء : ابن أبي العوجاء دسوها في كتب المحدثين الإسلاميين ، تعالى عما يقول الظالمون.
90. نظرة في كتاب « الأسماء والصفات » للبيهقي مقدمة الشيخ محمد زاهد الكوثري : ص 5 ، وقال بمقالة السجزي ابن تيمية في كتابه « غوث العباد » المطبوع بمصر مطبعة الحلبي عام 1351.
91. ضحى الإسلام : ج 2 ص 139.
92. أضواء على السنة المحمدية : ص 137.
93. آلاء الرحمن : ج 1 ص 46 نقلاً عن الذهبي.
94. نشأة الفكر الفلسفي في الإسلام : ج 1 ص 286 ، الطبعة السابعة.
95. سير أعلام النبلاء : ج 3 ص 489 ولاحظ تفسير ابن كثير سورة النمل ج 3 ص 339 حيث قال :
ـ بعد ما أورد طائفة من الأخبار في قصة ملكة سبأ مع سليمان ـ : والأقرب في مثل هذه السياقات أنها متلقاة عن أهل الكتاب ، مما وجد في صحفهم كروايات كعب ووهب ، سامحهما الله تعالى في ما نقلاه إلى هذه الأمة ، من أخبار بني إسرائيل من الأوابد والغرائب والعجائب مما كان وما لم يكن ، ومما حرف وبدل ونسخ ، وقد أغنانا الله سبحانه عن ذلك بما هو أصح منه وأنفع وأوضح وأبلغ.
96. تذكرة الحفاظ للذهبي : ج 1 ص 52.
97. حلية الأولياء : ج 6 ص 20.
98. الشرح الحديدي : ج 3 ص 237.
99. تفسير ابن كثير : ج 4 ص 17 طبع الأفست.
100. حلية الأولياء : ج 5 ص 388 ـ 389.
101. المصدر السابق.
102. حلية الأولياء : ج 5 ص 389 ـ 390.
103. سورة البقرة : الآية 177.
104. مروج الذهب : ج 2 ص 339 ـ 340.
105. مروج الذهب : ج 2 ص 340.
106. سنن الدارمي : ج 1 ص 5.
107. حلية الأولياء : ج 6 ص 25.
108. سنن الترمذي : ج 4 كتاب الفتن باب ما جاء في الخلافة ص 503 رقم 2226.
109. سنن أبي داوود : ج 4 ص 211.
110. كنز العمال : ج 6 ص 88.
111. سير أعلام النبلاء : ج 3 ص 490.
112. تذكرة الحفاظ للذهبي : ج 1 ص 52.
113. حلية الأولياء : ج 6 ص 45.
114. الكامل في التاريخ : ج 3 ص 77.
115. الأعلام للزركلي : ج 5 ص 228 ، تذكرة الحفاظ : ج 1 ص 52 ، سير أعلام النبلاء : ج 3 ص 489 ـ 494 ، حلية الأولياء : ج 5 ص 364 ، وج 6 ص 1 ـ 48 ، الإصابة ج 1 ص 186 ، النجوم الزاهرة : ج 1 ص 9 ، الكامل : ج 3 ص 177 ، شرح ابن أبي الحديد في أجزائه المختلفة : ج 3 ص 54 ، و : ج 4 ص 77 ـ 147 ، و : ج 8 ص 265 ، و : ج 10 ص 22 ، و : ج 12 ص 81 و 191 ، و : ج 18 ص 36.
116. ميزان الاعتدال : ج 4 ص 352 ـ 353.
117. تذكرة الحفاظ : ج 1 ص 100 ـ 101.
118. حلية الأولياء : ج 1 ص 23 ـ 81.
119. تذكرة الحفاظ : ج 1 ص 101.
120. كشف الظنون : ج 2 ص 223 ، مادة قصص.
121. ميزان الاعتدال : ج 4 ص 353.
122. كنز العمال : ج 1 ص 281 الرقم 29448.
123. الإصابة : ج 1 ص 189 ، والاستيعاب في هامش الإصابة واُسد الغابة : ج 1 ص 215 وغيرها من المصادر.
124. صحيح البخاري ، الجزء التاسع ، كتاب الاعتصام بالكتاب والسنة : ص 111.
125. أضواء على السنة المحمدية : ص 154 ـ 155 ، نقلاً عن البخاري من حديث الزهري.
126. مسند أحمد : ج 3 ص 46.
127. صحيح البخاري : ج 4 باب صفة إبليس وجنوده ص 125 ، وج 4 كتاب بدء الخلق ص 164.
128. سورة الحجر : الآية 42.
129. سورة النحل : الآية 99 ، والحجر : الآية 42.
130. صحيح مسلم : ج 8 باب في الدجال ص 203 ـ 205.
131. الأضواء : ص 171.
132. سورة النساء : الآية 113.
133. تذكرة الحفاظ : ج 1 ص 169 ـ 171.
134. ميزان الاعتدال : ج 2 ص 659.
135. الوسائل ج 14 ، كتاب النكاح ، الباب 4 ، من أبواب المتعة ، الحديث 8.
136. العقيدة والشريعة في الإسلام تأليف المستشرق « جولد تسيهر » ترجمة الأساتذة الثلاثة.
137. سورة المائدة : الآية 48.
138. مفاهيم القرآن : ج 3 ص 119 ـ 124.
139. وهو قوله صلی الله عليه وآله : حدثوا عني ..... ، وحدثوا عن بني إسرائيل ولا حرج. مسند أحمد : ج 3 ص 46.
140. الحيوان للجاحظ : ج 1 ص 343 ـ 346.
141. تفسير مقاتل : ج 1 ص 18 ، وتفسير الطبري : ج 1 ص 186 وما بعده.
142. تفسير الطبري : ج 3 ص 190 وص 112.
143. الكامل لابن الأثير : ج 5 ص 294 حوادث سنة 240 ، ولاحظ الإسرائيليات وأثرها في كتب التفسير للدكتور رمزي نعناعة : ص 110 ـ 111.
144. تاريخ الطبري : ج 6 ص 183 ، وابن الأثير : ج 4 ص 7.
145. الطبري : ج 6 ص 194 ـ 199 وابن الأثير : ج 4 ص 17.
146. هو القديس يحيى الدمشقي ( 81 ـ 137 هـ = 700 ـ 754 م ) واسمه العربي منصور . كان يحيى الدمشقي عالماً كبير القدر من علماء الدين وقديساً محترماً في الكنيستين : الشرقية والغربي.
147. الأغاني : ج 14 ص 117.
148. لاحظ كتاب « المعتزلة » ص 23 ـ 24 تأليف زهدي حسن جار الله ، طبع القاهرة سنة 1366.
149. كذا في المصدر.
150. طبقات ابن سعد ، ج 7 ص 79.
151. فجر الإسلام : طبع دار الكتاب العربي ص 160 ـ 161.
152. لاحظ ص 32 من كتابنا هذا.
مقتبس من كتاب : بحوث في الملل والنحل / المجلّد : 1 / الصفحة : 47 ـ 109
التعلیقات