توسل الأعرابي بالنبي نفسه
التوسل بالأنبياء والصالحين أنفسهم
منذ 13 سنةبحوث في الملل والنحل لأية الله الشيخ جعفر السبحاني ، ج 4 ، ص 249 ـ 253
________________________________________(249)
4- توسل الأعرابي بالنبي نفسه روى جمع من المحدثين أنّ أعرابياً دخل على رسول اللّه ـ صلَّى الله عليه وآله وسلم ـ وقال: لقد أتيناك وما لنا بعير يئط، ولا صبي يغط، ثم أنشأ يقول:
________________________________________
(250)
أتيناك والعذراء تدمى لبانها * وقد شغلت أُم الصبي عن الطفل
ولا شيء مما يأكل الناس عندنا * سوى الحنظل العامي والعلهز الفسل
وليس لنا إلاّ اليك فرارنا * وأين فرار الناس إلاّ إلى الرسل؟
فقام رسول اللّه ـ صلَّى الله عليه وآله وسلم ـ يجر رداءه حتّى صعد المنبر، فرفع يديه وقال: أللّهمّ اسقنا غيثاً مغيثاً... فما رد النبي يديه حتّى ألقت السماء... ثم قال: للّه در أبي طالب، لو كان حياً لقرت عيناه. من ينشدنا قوله؟ولا شيء مما يأكل الناس عندنا * سوى الحنظل العامي والعلهز الفسل
وليس لنا إلاّ اليك فرارنا * وأين فرار الناس إلاّ إلى الرسل؟
فقام علىّ بن أبي طالب ـ عليه السَّلام ـ وقال: كأنّك تريد يا رسول اللّه قوله:
وأبيض يستسقى الغمام بوجهه * ثمال اليتامى عصمة للأرامل
يطوف به الهُلاّك من آل هاشم * فهم عنده في نعمة وفواضل
فقال النبي ـ صلَّى الله عليه وآله وسلم ـ : أجل .يطوف به الهُلاّك من آل هاشم * فهم عنده في نعمة وفواضل
فأنشد علىّ ـ عليه السَّلام ـ أبياتاً من القصيدة، والرسول يستغفر لأبي طالب على المنبر، ثم قام رجل من كنانة وأنشد يقول:
لك الحمد والحمد ممن شكر * سقينا بوجه النبي المطر(1)
دلالة الحديث إنّ الإمعان في مجموع الرواية يعرب عن أنّ الأعرابي توسل بشخص النبي وطلب منه قضاء حاجته، والدليل على ذلك الأُمور التالية:
أ ـ أتيناك وما لنا بعير يئط .
ب - أتيناك والعذراء تدمى لبانها .
ج ـ وليس لنا إلاّ إليك فرارنا .
________________________________________
1. السيرة الحلبية ج 1 ص 116، لاحظ فتح الباري ج 2 ص 494 والقصيدة مذكورة في السيرة النبوية لابن هشام ج 1 ص 272 ـ 280 .
________________________________________
(251)
د ـ واين فرار الناس إلاّ إلى الرسل؟هـ ـ إنشاء علىّ بن أبي طالب شعر والده، وهو يتضمن قوله: «وأبيض يستسقي الغمام بوجهه» .
روى ابن عساكر عن أبي عرفة قال: قدمت مكة وهم في قحط، فقالت قريش: يا ابا طالب! أقحط الوادي وأجدب، فهلم واستسق، فخرج أبو طالب ومعه غلام كأنه شمس دجى، فأخذه ابو طالب فألصق ظهره بالكعبة، ولاذ بأصبعه الغلام وما في السماء قزعة، فأقبل السحاب من هيهنا وهيهنا وأغدق واغدودق، انفجر له الوادي، وأخصب البادي والنادي، وإلى تلك الحادثة يشير أبوطالب في شعره:
وأبيض يستسقى الغمام بوجهه * ثمال اليتامى عصمة للأرامل(1)
فمماثلة الحادثتين تحكم بأنّ التوسل كان بذات النبي، كما كان توسل أبي طالب بنفس النبي.و ـ قول رجل من كنانة في شعره، «سقينا بوجه النبي المطر» .
كل ذلك يعرب عن أنّ التوسل كان من الأعرابي وغيره بنفس النبي .
نعم إنّ النبي الأكرم قام بالدعاء، فلا يكون دعاء النبي قرينة على أنّ الأعرابي توسل بدعائه، إذ لا منافاة بين أن يكون توسله بشخص النبي وكرامته وفضيلته، وبين أن يقوم النبي بقضاء حاجته (استنزال المطر) بطلبه من اللّه سبحانه .
فمن يريد أن يؤوّل هذه النصوص ويجعلها من قبيل التوسل بالدعاء، فهو إنما يحاول دعم رأيه المسبق .
نقد ما ذكره الرفاعي
إنّ الشيخ الرفاعي لكونه قد اتخذ موقفاً مسبقاً خاصاً في التوسل بالأنبياء
________________________________________
1. مر المصدر.
________________________________________
(252)
والصالحين، تجشّم عناء تأويل نصوص الأحاديث بما يتبناه، ولما كان الحديث صريحاً في التوسل بنفس النبي صار يعترض على هذه الدلالة قائلا بأنّ الأعرابي جاء إلى النبي لأن يدعوا اللّه لهم بأن يستسقيهم الغيث، وإلاّ لبقي الأعرابي في منزله، واكتفى أن يقول وهو في بيته: اللّهمّ اسقنا الغيث بجاه نبيك، أو بذات نبيك، ولما تجشّم المجيء من أهله وبيته إلى النبي في المدينة(1) .يلاحظ عليه: أنَّه لا منافاة بين الأمرين حتّى يكون أحدهما قرينة على الأُخرى، حتّى يتصرّف في النصوص بتفسيرها الخاص بالتوسل إلى الدعاء، فالأعرابي توسل بذات النبي، ولا يهمّه سوى قضاء حاجته من اي طريق كان، سواء أتحقق بدعاء النبي أم بإعجازه و كرامته، وأمّا أنه لماذا تجشم عناء المجي من أهله وبيته إلى النبي ولم يكتف بالتوسل نفسه فلأنه كان يرى للمثول أمامه فضيلة وكرامة، أو أنّ توسله بشخصه إذا انضمّ إليه دعاء النبي يوجب قضاء حاجته ولا يتحقق إلاّ بالحضور لديه، فلأجل ذلك جاء إلى النبي وتوسل بشخصه وشخصيته، فصار ذلك سبباً لقيام النبي، ولا يعني هذا أنه توسل بدعائه ـ صلَّى الله عليه وآله وسلم ـ إذ لا منافاة بين أن يتوسل الأعرابي بشخصه، وبين أن يكون هذا داعياً للنبي أن يقوم بالدعاء، فلا يكون دعاؤه قرينة على كيفية التوسل.
وأخيراً يؤاخذ الرفاعي بأنه ذكر متن الحديث بصورة مختصرة، فترك ما ذكرناه من القرائن، ولم يشر إلى المصادر الكثيرة الّتي نقلت هذا الحديث .
المناقشة في سند الحديث
جاء الرفاعي يناقش في سند هذا الحديث بأنّ في سنده (مسلم الملائي)، ونقل عن علماء الرجال أنه متروك، وقال أحمد: لا يكتب حديثه. وقال يحيى: ليس بثقة، وقال البخاري: يتكلمون فيه، وقال يحيى أيضاً: زعموا أنه اختلط، وقال النسائي وغيره: متروك، وقال الذهبي: إنّه روى
________________________________________
1. التوصل إلى حقيقة التوسل ص 291 وقد أخذه من شيخه ابن تيمية. لاحظ مجموعة الرسائل والمسائل ج 1 ص 13 .
________________________________________
(253)
حديث الطير الّذي أهدته أُم أيمن لرسول اللّه، وحديث الطائر موضوع عند أهل الحديث .أقول: إنّ ذيل العبارة يكشف عن الدافع الّذي دفع هؤلاء إلى تضعيف الرجل، وهو ليس إلاّ كونه ناقلا لفضيلة ساطعة للإمام علىّ بن أبي طالب ـ عليه السَّلام ـ .
روى أحمد بن حنبل بسنده عن سفينة مولى رسول اللّه قال: أهدت امرأة من الأنصار إلى رسول اللّه طيرين بين رغيفين، فقدمت إليه الطيرين، فقال رسول اللّه ـ صلَّى الله عليه وآله وسلم ـ : أللّهمّ ائتني بأحب خلقك إليك وإلى رسولك، فجاء علىّ ـ عليه السَّلام ـ فرفع صوته، فقال رسول اللّه ـ صلَّى الله عليه وآله وسلم ـ : من هذا؟ قلت: علىّ، قال: فافتح له، ففتحت له فأكل من الطير مع النبي حتّى فنيا(1) .
وعلى ضوء هذا لا تقام لهذا التضعيف قيمة .
________________________________________
1. فضائل الصحابة لأحمد بن حنبل ج 2 ص 560 ورواه غيره لاحظ العمدة لابن البطريق ص 242 ـ 253.
التعلیقات