واقعة الغدير
العلامة الأميني
2024 Sep 7واقعة الغدير
أجمع رسول الله صلّى الله عليه وآله وسلّم الخروج إلى الحجّ في سنة عشْرٍ من مُهاجره ، وأذّن في الناس بذلك ، فقدم المدينة خلق كثير يأتمّون به في حِجّته تلك التي يُقال (١) عليها حجّة الوداع ، وحجّة الإسلام ، وحجّة البلاغ ، وحجّة الكمال ، وحجّة التمام (٢) ، ولم يحجّ غيرها منذُ هاجر إلىٰ أن توفّاه الله ، فخرج صلّى الله عليه وآله وسلّم من المدينة مغتسلاً متدهِّناً مترجِّلاً متجرِّداً في ثوبينِ صُحاريّين (٣) : إزارٍ ، ورداء ، وذلك يوم السبت لخمسِ ليالٍ أو ستٍّ بقينَ من ذي القِعْدة ، وأخرج معه نساءه كلّهنّ في الهوادج ، وسار معه أهل بيته وعامّة المهاجرين والأنصار ، ومن شاء الله من قبائل العرب وأفناء (٤) الناس (٥).
وعند خروجه صلّى الله عليه وآله وسلّم أصاب الناس بالمدينة جُدَريٌّ ـ بضمّ الجيم وفتح الدال وبفتحهما ـ أو حصبة منعت كثيراً من الناس من الحجّ معه صلّى الله عليه وآله وسلّم ، ومع ذلك كان معه جموعٌ لا يعلمها إلّا الله تعالىٰ ، وقد يقال : خرج معه تسعون ألفاً ، ويقال : مائة ألفٍ وأربعةَ عشرَ ألفاً ، وقيل : مائة ألفٍ وعشرونَ ألفاً ، وقيل : مائة ألفٍ وأربعة وعشرون ألفاً ، ويقال : أكثر من ذلك ، وهذه عدّةُ من خرج معه ، وأمّا الذين حجّوا معه فأكثر من ذلك ، كالمقيمين بمكّة ، والذين أتوا من اليمن مع عليٍّ أميرالمؤمنين وأبي موسىٰ (٦).
أصبح صلّى الله عليه وآله وسلّم يومَ الأحد بيَلَمْلَمَ (٧) ، ثمّ راح فتعشّىٰ بشرف السيّالة ، وصلّىٰ هناك المغرب والعشاء ، ثمّ صلّى الصبح بعِرْقِ الظُّبْية (٨) ، ثمّ نزل الروْحاء ، ثمّ سار من الروحاء فصلّى العصر بالمنصرف (٩) ، وصلّى المغرب والعشاء بالمتعشّىٰ وتعشّىٰ به ، وصلّى الصبح بالأثاية (١٠) ، وأصبح يوم الثلاثاء بالعَرْج (١١) واحتجم بلَحْيِ جَمَلٍ (١٢) ـ وهو عقبة الجُحْفة ـ ونزل السُّقْياء (١٣) يوم الأربعاء ، وأصبح بالأبواء (١٤) ، وصلّىٰ هناك ، ثمّ راح من الأبواء ونزل يوم الجمعة الجُحْفة ، ومنها إلىٰ قُدَيْد (١٥) وسَبَتَ فيه ، وكان يومَ الأحد بعُسْفان (١٦) ، ثمّ سار ، فلمّا كان بالغَميم (١٧) اعترض المشاة ، فصُفّوا صفوفاً ، فَشكَوا إليه المشي ، فقال : استعينوا بالنسَلان ـ مشيٌ سريعٌ دون العدو ـ ففعلوا فوجدوا لذلك راحة ، وكان يوم الإثنين بمَرِّ الظهْران ، فلم يبرَحْ حتّىٰ أمسىٰ ، وغرُبت له الشمس بسَرِف (١٨) فلم يصلِّ المغرب حتّىٰ دخل مكّة ، ولمّا انتهىٰ إلى الثنِيَّتين (١٩) بات بينهما ، فدخل مكّة نهار الثلاثاء (٢٠).
فلمّا قضىٰ مناسكه ، وانصرف راجعاً إلى المدينة ومعه من كان من الجموع المذكورات ، وصل إلىٰ غدير خُمّ من الجُحْفة التي تتشعّب فيها طرق المدنيِّين والمصريِّين والعراقيِّين ، وذلك يوم الخميس (٢١) الثامن عشر من ذي الحجّة نزل إليه جبرئيل الأمين عن الله بقوله : ( يَا أَيُّهَا الرَّسُولُ بَلِّغْ مَا أُنزِلَ إِلَيْكَ مِن رَّبِّكَ ) الآية. وأمره أن يقيم عليّاً عَلَماً للناس ، ويبلِّغهم ما نزل فيه من الولاية وفرض الطاعة علىٰ كلّ أحد ، وكان أوائل القوم قريباً من الجُحْفة ، فأمر رسول الله أن يردّ من تقدّم منهم ، ويحبس من تأخّر عنهم في ذلك المكان ، ونهىٰ عن سَمُراتٍ (٢٢) خمْسٍ متقاربات دَوْحاتٍ عظام أن لا يَنزل تحتهنَّ أحد ، حتّىٰ إذا أخذ القوم منازلهم ، فقُمَّ ما تحتهنَّ ، حتّىٰ إذا نودي بالصلاة ـ صلاة الظهر ـ عمد إليهنّ ، فصلّىٰ بالناس تحتهنّ ، وكان يوماً هاجراً يضع الرجل بعض ردائه علىٰ رأسه ، وبعضه تحت قدميه ، من شدّة الرمضاء ، وظُلِّل لرسول الله بثوبٍ علىٰ شجرةِ سَمُرةٍ من الشمس ، فلمّا انصرف صلّى الله عليه وآله وسلّم من صلاته ، قام خطيباً وسط القوم (٢٣) علىٰ أقتاب الإبل (٢٤) ، وأسمع الجميع ، رافعاً عقيرته ، فقال :
« ألحمد للهِ ونستعينه ونؤمن به ، ونتوكّل عليه ، ونعوذ بالله من شرور أنفسنا ، ومن سيّئات أعمالنا ، الذي لا هادي لمن أضلّ (٢٥) ، ولا مُضلّ لمن هدىٰ ، وأشهد أن لا إله إلّا الله ، وأنَّ محمداً عبده ورسوله.
أمّا بعدُ : أيُّها الناس قد نبّأني اللطيف الخبير : أنّه لم يُعمَّر نبيٌّ إلّا مثلَ نصفِ عمر الذي قبلَه. وإنّي أُوشِك أن أُدعىٰ فأُجيب ، وإنّي مسؤول ، وأنتم مسؤولون ، فماذا أنتم قائلون ؟
قالوا : نشهدُ أنّك قد بلّغتَ ونصحتَ وجهدتَ ، فجزاكَ الله خيراً.
قال : ألستم تشهدون أن لا إله إلّا الله ، وأنَّ محمداً عبدهُ ورسوله ، وأنَّ جنّته حقّ وناره حقّ ، وأنَّ الموت حقّ ، وأنَّ الساعة آتية لا ريبَ فيها وأنَّ الله يبعثُ من في
القبور ؟
قالوا : بلىٰ نشهد بذلك. قال : أللّهمّ اشهد ، ثمّ قال : أيّها الناس ألا تسمعون ؟ قالوا : نعم.
قال : فإنّي فَرَط (٢٦) على الحوض ، وأنتم واردون عليّ الحوض ، وإنَّ عُرضه ما بين صنعاءَ وبُصرىٰ (٢٧) ، فيه أقداح عدد النجوم من فضّة ، فانظروا كيف تخلِفوني في الثقَلَينِ (٢٨).
فنادىٰ منادٍ : وما الثقَلان يا رسول الله ؟
قال : الثقَل الأكبر كتاب الله طرفٌ بيد الله عزّ وجلّ وطرفٌ بأيديكم ، فتمسّكوا به لا تضلّوا ، والآخر الأصغر عترتي ، وإنَّ اللطيف الخبير نبّأني أنّهما لن يتفرّقا حتّىٰ يردا عليّ الحوض ، فسألت ذلك لهما ربّي ، فلا تَقدموهما فتهلكوا ، ولا تقصروا عنهما فتهلكوا.
ثمّ أخذ بيد عليّ فرفعها حتىٰ رُؤي بياض آباطهما وعرفه القوم أجمعون ، فقال : أيّها الناس من أولى الناس بالمؤمنين من أنفسهم ؟. قالوا : الله ورسوله أعلم.
قال : إنَّ الله مولاي ، وأنا مولى المؤمنين ، وأنا أولىٰ بهم من أنفسهم فمن كنت مولاه فعليّ مولاه ، يقولها ثلاثَ مرّات ـ وفي لفظ أحمد إمام الحنابلة : أربع مرّات ـ ثمّ قال : أللّهمّ والِ من والاه ، وعادِ من عاداه ، وأحِبَّ من أحبّه ، وأبغِضْ من أبغضه وانصُرْ من نصره ، واخذُلْ من خذله ، وأَدرِ الحقَّ معه حيث دار ، ألا فليبلّغ الشاهدُ الغائب. ثمّ لم يتفرّقوا حتىٰ نزل أمين وحي الله بقوله : ( الْيَوْمَ أَكْمَلْتُ لَكُمْ دِينَكُمْ وَأَتْمَمْتُ عَلَيْكُمْ نِعْمَتِي ) الآية. فقال رسول الله صلّى الله عليه وآله وسلّم : الله أكبر علىٰ إكمال الدين ، وإتمام النعمة ، ورضا الربّ برسالتي ، والولاية لعليٍّ من بعدي ».
ثمّ طَفِق القوم يهنِّئون أمير المؤمنين ـ صلوات الله عليه ـ وممّن هنّأه ـ في مُقدّم الصحابة ـ الشيخان : أبو بكر وعمر كلٌّ يقول : بَخٍ بخٍ لك يا ابن أبي طالب أصبحتَ وأمسيتَ مولايَ ومولىٰ كلّ مؤمن ومؤمنة. وقال ابن عبّاس : وجبت ـ واللهِ ـ في أعناق القوم.
فقال حسّان : ائذنْ لي يا رسول الله أن أقول في عليٍّ أبياتاً تسمعهُنّ. فقال : « قُلْ على بركة الله ».
فقام حسّان ، فقال : يا معشر مشيخة قريش أتبعها قولي بشهادةٍ من رسول الله في الولاية ماضية ، ثمّ قال :
يُناديهِمُ يومَ الغديرِ نبيُّهمْ |
بخُمٍّ فأسمِعْ بالرسولِ مُناديا (٢٩) |
هذا مجمل القول في واقعة الغدير ، وسيُوافيك تفصيل ألفاظها ، وقد أصفقت الأمّة علىٰ هذا ، وليست في العالم كلّه ـ وعلىٰ مستوى البسيط (٣٠) ـ واقعة إسلاميّة غديريّة غيرها ، ولو أُطلق يومه فلا ينصرف إلّا إليه ، وإن قيل محلّه فهو هذا المحلّ المعروف علىٰ أَمَمٍ (٣١) من الجُحْفة ، ولم يعرف أحد من البحّاثة والمنقِّبين سواه. نعم ، شذّ عنهم الدكتور ملحم إبراهيم الأسود في تعليقه علىٰ ديوان أبي تمام ، فإنّه قال : هي واقعة حرب معروفة ! ولنا حول ذلك بحثٌ ضافٍ تجده في ترجمة أبي تمام من الجزء الثاني إن شاء الله.
الهوامش
١. الظاهر أنّه قدّس سرّه ضمّن « قال » معنىٰ « يطلق » فعدّاه بـ « علىٰ ».
٢. الذي نظنّه ـ وظنّ الألمعيّ يقين ـ أنَّ الوجه في تسمية حِجّة الوداع بالبلاغ هو نزول قوله تعالى : ( يَا أَيُّهَا الرَّسُولُ بَلِّغْ مَا أُنزِلَ إِلَيْكَ مِن رَّبِّكَ ) الآية ، كما أنَّ الوجه في تسميتها بالتمام والكمال هو نزول قوله سبحانه : ( الْيَوْمَ أَكْمَلْتُ لَكُمْ دِينَكُمْ وَأَتْمَمْتُ عَلَيْكُمْ نِعْمَتِي ) الآية. (المؤلف)
٣. صُحار : مدينة عمان أو قصبة عمان ممّا يلي الجبل ، وتوأم قصبتها ممّا يلي الساحل. معجم البلدان : ٣ / ٣٩٣.
٤. أفناء : واحدهُ فنو أي أخلاط ، ورجل من أفناء القبائل أي لا يدرىٰ من أيّ قبيلة هو.
٥. الطبقات لابن سعد : ٣ / ٢٢٥ [ ٢ / ١٧٣ ] ، إمتاع المقريزي : ص ٥١٠ ، إرشاد الساري : ٦ / ٤٢٩ [ ٩ / ٤٢٦ ]. (المؤلف)
٦. السيرة الحلبيّة ٣ / ٢٨٣ [ ٣ / ٢٥٧ ] ، سيرة أحمد زيني دَحْلان ٣ / ٣ [ ٢ / ١٤٣ ] ، تاريخ الخلفاء لابن الجوزي في الجزء الرابع ، تذكرة خواصّ الأمّة : ص ١٨ [ ص ٣٠ ] ، دائرة المعارف لفريد وجدي ٣ / ٥٤٢. (المؤلف)
٧. يَلَمْلَم : هو ميقات أهل اليمن للإحرام بالحجّ ، وهو جبل من جبال تهامة جنوب مكة. معجم البلدان : ٥ / ٤٤١.
٨. عِرق الظُّبية : موضع علىٰ ثلاثة أميال من الروحاء به مسجد رسول الله صلّى الله عليه وآله وسلّم. معجم البلدان : ٣ / ٥٨.
٩. المُنْصرف : موضع بين مكة وبدر بينهما أربعة بُرُد. معجم البلدان : ٥ / ٢١١.
١٠. هو موضع في طريق الجُحفة بينه وبين المدينة خمسة وعشرون فرسخاً. معجم البلدان : ١ / ٩٠
١١. العَرْج : قرية في وادٍ من نواحي الطائف ، بينها وبين المدينة ثمانية وسبعون ميلاً. معجم البلدان : ٤ / ٩٨.
١٢. لَحْي جمل : هي عقبة الجُحفة علىٰ سبعة أميال من السقياء. معجم البلدان : ٥ / ١٥.
١٣. السُّقياء : قرية جامعة من عمل الفُرع ، بينهما ممّا يلي الجحفة تسعة عشر ميلاً. معجم البلدان : ٣ / ٢٢٨.
١٤. الأبْوَاء : قرية من أعمال الفُرع من المدينة ، بينها وبين الجحفة ممّا يلي المدينة ثلاثة وعشرون ميلاً. معجم البلدان : ١ / ٧٩.
١٥. قُدَيْد : اسم موضع قرب مكّة. معجم البلدان : ٤ / ٣١٣.
١٦. عُسفان : قال السكري : عُسفان علىٰ مرحلتين من مكّة علىٰ طريق المدينة والجحفة علىٰ ثلاث مراحل. معجم البلدان : ٤ / ١٢٢.
١٧. الغميم : قال نصر : الغميم موضع قرب المدينة بين رابغ والجحفة. معجم البلدان : ٤ / ٢١٤.
١٨. سَرِف : موضع من مكّة علىٰ عشرة أميال ، وقيل : أقل وأكثر. معجم البلدان : ٣ / ٢١٢.
١٩. الثنيّتان : مثنى الثنيّة ، وهي طريق العقبة ، أو العقبة ، والثنيّة : الطريقة في الجبل كالنقب.
٢٠. الإمتاع للمقريزي : ص ٥١٣ ـ ٥١٧. (المؤلف)
٢١. هو المنصوص عليه في لفظ البراء بن عازب وبعض آخر من رواة حديث الغدير ، وسيوافيك كلامنا فيه : ص ٤٢ [ من هذا الجزء ]. (المؤلف)
٢٢. سَمُرات جمع سمرة : شجرة الطلح.
٢٣. جاء في لفظ الحافظ الهيثمي في مجمع الزوائد : ٩ / ١٠٦ وغيره. (المؤلف)
٢٤. ثمار القلوب : ص ٥١١ [ ص ٦٣٦ رقم ١٠٦٨ ] ، ومصادر أُخر ، كما مرّ ص ٨. (المؤلف)
٢٥. في الأصل « ضلّ » والصحيح ما أثبتناه ، وقد أشار المصنّف في هامش ص ٨٨ إلىٰ هذا الخطأ الموجود في النسخ.
٢٦. الفَرَط : المتقدم قومه إلى الماء ، ويستوي فيه الواحد والجمع.
٢٧. صنعاء : عاصمة اليمن اليوم ، وبُصْرىٰ : قَصَبة كورة حوران من أعمال دمشق. (المؤلف)
٢٨. الثقَل ـ بفتح المثلّثة والمثنّاة ـ : كلّ شيء خطير نفيس. (المؤلف)
٢٩. إلىٰ آخر الأبيات الآتية في ترجمة حسّان في شعراء القرن الأوّل في الجزء الثاني. (المؤلف)
٣٠. البسيط والبسيطة : الأرض العريضة والمكان الواسع.
٣١. الأَمَم : القُرب.
مقتبس من كتاب : [ الغدير في الكتاب والسنّة والأدب ] / المجلّد : ١ / الصفحة : ٣١ ـ ٣٦
التعلیقات