موقف أبي ذرّ من معاوية
الشيخ محمد جواد الفقيه
منذ 10 سنواتموقف أبي ذرّ من معاوية
ففي الشام ، كان المجال لأبي ذر أوسع من أيّ بلد آخر. كما كانت نظرته الى معاوية ، تختلف عن نظرته إلى عثمان.
فهو يعرف معاوية على حقيقته ، ويعرف إسلام معاوية واسلام أبيه من قبله ، لذلك كان صريحاً في أقواله ، وخطبه ، ومواعظه ، وواضحاً في دعوته ومنهجه ..
كان صريحاً في موقفه الذي ربّما تكتم منه بعض الشيء في المدينة ، فكان يركز على الانحراف السائد آنذاك ، واستئثار الولاة بالفيء ، وعدولهم عن جادة الحقّ ، واطفائهم للسنّة ، وإحيائهم للبدعة. الى غير ذلك ، ممّا يدعو إلى إثارة الناس.
وبذلك فتح على عثمان جبهة جديدة ـ ربّما لم تخطر على باله ـ استهدفته ومعاوية معاً.
« كان يقوم في كلّ يوم ، فيعظ الناس ، ويأمرهم بالتمسّك بطاعة الله ، ويحذرهم من ارتكاب معاصيه ، ويروي عن رسول الله (ص) ما سمعه منه في فضائل أهل بيته عليه وعليهم السلام ويحضهم على التمسّك بعترته » (1).
وكان يقول : « أمّا بعد ، فانّا كنّا في جاهليّتنا ، قبل أن ينزل علينا الكتاب ، ويبعث فينا الرسول ، ونحن نوفي بالعهد ، ونصدق الحديث ، ونحسن الجوار ، ونقري الضيف ، ونواسي الفقير. فلمّا بعث الله تعالى فينا رسول الله ، وأنزل علينا كتابه ، كانت تلك الأخلاق يرضاها الله ورسوله ، وكان أحقّ بها أهل الاسلام ، وأولى ان يحفظوها ، فلبثوا بذلك ما شاء الله أن يلبثوا.
ثمّ ان الولاة ، قد أحدثوا أعمالاً قِباحاً لا نعرفها. من سنَّة تطفى ! وبدعة تحيى ! وقائل بحق مكذَّب ، وأثرة لغير تقى ، وأمين ـ مُستأثر عليه ـ من الصالحين ... »
وكان يعيد هذا الكلام ويبديه ! (2)
وكان أبو ذر ، ينكر على معاوية ، أشياء يفعلها ، فبعث إليه معاوية يوماً ثلاثمائة دينار !
فقال أبو ذر لرسوله : إن كانت من عطائي الذي حرمتمونيه عامي هذا ، أقبلها ، وان كانت صلة ، فلا حاجة لي فيها. وردّها عليه (3).
وكان أبو ذر يقول بالشام : والله لقد حدثت أعمال ما أعرفها ، والله ما هي في كتاب الله ، ولا في سنّة نبيّه (ص) والله إنّي لأرى حقّاً يطفأ ، وباطلاً يحيا .. الخ ..
ولم يكن أبو ذر ، غريباً عن الشام ـ أرض الجهاد ـ على حدّ تعبيره ، وعن معسكر المسلمين هناك ، فقد اشترك في غزوة الصائفة ـ الروم ـ كما شارك في فتح قبرص ، وكان أحد الصحابة البارزين في تلك المعارك ـ كما مرّ معنا.
فكان يحدث بأحاديثه تلك أمام العامّة والخاصّة ، كما كان يحدث بها أمام الجند ، ممّا دفع حبيب بن مسلمة الفهري ـ أحد القادة ـ الى تحذير معاوية من مغبَّة ذلك ، وهذا ما يؤكّده قول ابن بطَّال ـ المتقدّم ـ من أنّه كان كثير المنازعة لمعاوية والاعتراض عليه ، وكان في جيشه مَيل له.
ولا يغرب عن بالنا ، أنّ معاوية ـ بالاضافة الى تكريس نفسه أميراً على الشام ـ كان يمني نفسه بالخلافة مع أوّل فرصة تلوح ، وكان يمهد لذلك أيّام إمارته. لذا ، فانّه يرى أنّ وجود أبي ذر وأمثاله من المبرّزين ، ضمن دائرة سلطانه ، قد يحول دون استقامة هذا الأمر له ، فكان أحرص على إبعاده عنه ، من ابعاد عثمان إيّاه عن المدينة. فكتب الى عثمان فيه :
« انّك قد أفسدت الشام على نفسك بأبي ذر » (4).
والواقع : أنّه أفسدها على معاوية وعلى عثمان معاً ، لأنّه كان يندد بأعمال الولاة ، وانجرافهم ، واستئثارهم بالفيء ، بحجّة انّه « مال الله » ، وكأن الله سبحانه قد أوكل بهذا المال ـ المال الذي أفاءه الله على المسلمين بفضل جهادهم ـ الى عثمان ، كي يبيح لمعاوية صرفه في سبيل غاياته الشخصيّة. وكي يعطيه لمروان بن الحكم ، وللحكم ابن أبي العاص ـ طريد رسول الله ـ ، ولأبي سفيان !! ولعبد الله بن سعد ! ومن هم على شاكلتهم ممّن جرّوا الويلات على هذه الاُمّة بتحكّمهم في رقاب الناس ، وفي مقدراتهم.
ويظهر انّ عثمان ـ بعد ورود كتاب معاوية عليه ـ وجد مبرّراً للانتقام من أبي ذر ، وتأديبه كما يشتهي ، فكتب الى معاوية :
« أمّا بعد ، فاحمل جندباً اليّ على أغلظ مركب وأوعره .. » (5).
الهوامش
1. الاعيان ١٦ / ٣٥٥ ـ ٣٥٦.
2. المصدر السابق.
3. شرح النهج ٨ / ٣٥٦.
4. اليعقوبي ٢ / ١٧٢.
5. الغدير ٨ / ٢٩٣.
مقتبس من كتاب : [ أبوذر الغفاري رمز اليقظة في الضمير الإنساني ] / الصفحة : 121 ـ 123
التعلیقات