معاني القضاء والقدر
الميرزا حسنعلي مرواريد
منذ 10 سنواتيطلق القضاء في اللغة على معان استشهد عليها بشواهد من القرآن : أحدها : الأمر والإيجاب والحكم مولويا ، كقوله تعالى : ( وَقَضى رَبُّكَ أَلاَّ تَعْبُدُوا إِلاَّ إِيَّاهُ ) (1) ، وقوله تعالى : ( وَاللهُ يَقْضِي بِالْحَقِ ) (2).
الثاني : الإعلام والإخبار ، كقوله تعالى : ( وَقَضَيْنا إِلى بَنِي إِسْرائِيلَ فِي الْكِتابِ ) (3).
الثالث : الفراغ من الأمر ، كقوله تعالى حكاية عن يوسف : ( قُضِيَ الْأَمْرُ الَّذِي فِيهِ تَسْتَفْتِيانِ ) (4).
وقيل : يطلق أيضا على الخلق ، ومثّل له بقوله تعالى : ( فَقَضاهُنَّ سَبْعَ سَماواتٍ ) (5).
والقدر أيضا يطلق على معان :
أحدها : وضع الأشياء في مواضعها من غير زيادة ونقصان ، وتقدير خصوصياتها تكوينا ، كقوله تعالى : ( وَقَدَّرَ فِيها أَقْواتَها ) (6). ( إِنَّا كُلَّ شَيْءٍ خَلَقْناهُ بِقَدَرٍ ) (7)
الثاني : بيان تلك الأوضاع والخصوصيات المقدرة على النحو المتحقق في الخارج ، والإخبار عنها وكتابتها في اللوح مثلا ، كقوله تعالى : ( إِلاَّ امْرَأَتَهُ قَدَّرْناها مِنَ الْغابِرِينَ ) (8)
وقيل : جاء بمعنى الخلق أيضا ، ومثّل له بقوله تعالى : ( وَقَدَّرَ فِيها أَقْواتَها ) (9).
فتأمّل.
فنقول : لا إشكال في تعلّق القضاء والقدر بجميع معانيها بغير الأفعال الاختيارية ، إنّما الإشكال في تعلّقها بتلك الأفعال ، فمن أراد أنّ الله حكم عليها وألزم بها مولويا ، بأن أمر ببعضها ونهى عن بعضها فهو معنى صحيح دلّ عليه الكتاب والسنة والعقل. وكذا إن أراد أنّه بيّن تلك الأحكام وبيّن مقاديرها ومراتبها بحسب الفرض والنفل ، وبحسب الحسن والقبح ، وكذا لو أراد أنّه أعلم وكتب وبيّن أنهم سيفعلونها.
وكذا لا بأس بتعلّق التقدير والقضاء التكوينيّ بأسبابها ومقدماتها وبالدواعي إلى وجودها أو عدمها ، وبالقدرة على فعلها وتركها ، فإنّه وإن كانت المقدمات والمقتضيات والدواعي مخلوقة لله تعالى ، وكانت القدرة المفاضة منه تعالى على العبد بقدر ـ كما عن الاحتجاج بعد ذكر الخبر المتقدم : وروي أن الرجل قال : فما القضاء والقدر الذي ذكرته يا أمير المؤمنين ؟ فقال : الأمر بالطاعة والنهي عن المعصية ، والتمكين من فعل الحسنة وترك المعصية ، والمعونة على القربة إليه ، والخذلان لمن عصاه ، والوعد والوعيد ، والترغيب والترهيب ، كل ذلك قضاء الله في أفعالنا ، وقدره لأعمالنا ، أمّا غير ذلك فلا تظنّه فإنّ الظن له محبط للأعمال. فقال : فرّجت عني يا أمير المؤمنين فرّج الله عنك (10) ـ إلّا أن تلك القدرة المفاضة عليه تجعل العمل المقدور له فعله ومنتهيا إليه ، لا إلى معطي القدرة الذي أعطاها إيّاه ليصرفها في طاعته ، وأعملها العبد بسوء اختياره في معصيته.
والإنسان وإن كان لا يعمل عملا إلاّ بالداعي ، ولكن القدرة المفاضة عليه بعد وجود الداعي توجب نسبة العمل على نحو الحقيقة إليه لا إلى الداعي.
ويظهر ذلك كمال الظهور إذا كان الداعي إلى الطرفين كليهما موجودا ، وكان اختيار أحدهما أي ترجيح أحد الداعيين على الآخر بيد الفاعل ، فإنّ مقتضى قدرة القادر أن لا يحتاج في سلطنته على ترجيح أحد طرفي المقدور ، أي وجوده وعدمه ـ متساويين كانا من جهة الداعي أم لا ـ إلى مرجّح آخر سوى مشيئه التي هي فعل له ، وإلاّ لزم الخلف ، أي أن لا يكون قادرا ، والالتزام به مخالف للوجدان وضرورة الأديان.
تنبيه
قال العلاّمة الحلّيّ ـ قدسسره ـ ما حاصله : إنّ أبا الحسن الأشعري وأتباعه لمّا لزمهم القول بالجبر إنكار ما علم بالضرورة ثبوته ، وهو الفرق بين الحركات الاختيارية والحركات الجمادية وما شابه ذلك ذهب إلى إثبات الكسب للعبد ، فقال : الله تعالى موجد الفعل ، والعبد يكتسب ، واضطرب كلامهم في معنى الكسب ، فعن بعضهم أنّ للعبد اختيار الفعل أو عدمه ، والله يخلق الفعل عند اختيار العبد إيّاه. وعن بعضهم أنّ أصل الفعل من الله ، ووصف كونه طاعة أو معصية من العبد. وبعبارة أخرى : إنّ الله يخلق الفعل من غير أن يكون للعبد فيه أثر النسبة ، لكن العبد يؤثر في وصف كون الفعل طاعة أو معصية. وعن بعضهم أنّ هذا الكسب غير معقول ولا معلوم مع أنّه صادر من العبد.
وأجاب عن الأول بأنّ الاختيار فعل من الأفعال ، فإذا جاز صدوره عن العبد فليجز صدور أصل الفعل منه ، وأيّ حاجة إلى هذا التمحّل تصحيحا للقول بأنّ الظلم والجور والقبائح بأسرها من الله تعالى ؟!
وعن الثاني بأنّ الطاعة والمعصية المستندتين بإقرار القائل إلى العبد هل هو نفس الفعل أو أمر زائد عليه ؟ فإن كان نفس الفعل فهو صادر من الله ـ على قوله ـ لا من العبد ، وإن كان أمرا زائدا عليه فهو من العبد ، فإذا جاز صدوره من العبد فليجز صدور أصل الفعل منه كما قلنا في الجواب عن الأول.
على أنّ كون الفعل طاعة عبارة عن كونه موافقا لأمر الشارع ، وهو شيء يرجع إلى الفعل ، إن كان مطابقا لأمر الشارع كان طاعة ، وإلا فلا ، وحينئذ لا يكون الفعل مستندا إلى العبد ، لا في ذات الفعل على قولكم ، ولا في وصف كونه طاعة ، لأن المطابقة ليست من فعل العبد.
وعن الثالث بأنّ ما لا يعقل لا دليل عليه (11). والحمد لله.
وأمّا المشيئة والإرادة فحقيقتهما ـ كما في التقدير والقضاء ـ على ما يظهر من بعض الروايات ويصدقه الوجدان أنّها هي الأفعال الصادرة عن الفاعل القادر الملتفت ، المتقدمة على ما يصدر منه في الخارج ، إمّا تقدّما رتبيّا فقط ، كما في الأفعال الصادرة عنه متعاقبة ، مثل الكلمات المحسوسة المضبوطة المقدّرة ، الصادرة عن الخطيب العالم البليغ الماهر في التكلم ، فإنّ كلّ كلمة صدرت منه وإن كانت مسبوقة بمشيئة المتكلم وإرادته وتقديره وقضائه ، لأنّه لو لم يشأها ولم يردها لم تصدر منه ، ولو لم يقدّرها لم تتقدر بقدر معين ، ولو لم تكن بقضاء وعزم وجزم منه لم تتحقق ولم تمض في الخارج ، إلّا أنّها لسرعة نفوذها ووقوعها تتداخل ، بل تكون جميعها فانية في الفعل الخارجي الصادر منه ، ولذا لا يتميز ولا يتأخر إحداها عن الاخرى ، بل لا يتأخر متعلقها وهو الفعل الخارجي أيضا عنها زمانا ، بحيث لا يرى في الخارج إلّا المتكلم والكلام الصادر منه.
وإمّا تقدّما زمانيا أيضا ، بحيث يظهر ويتميز إحداها عن الأخرى ، وعن الفعل الصادر منه ، وذلك فيما إذا تعلقت المشيئة والإرادة بالفعل المتأخر زمانا. مثلا في الذهاب من مكان إلى مكان آخر نتصور أوّلا ونهتمّ بأصل هذا الذهاب ، ويعبّر عن هذا بالذكر الأوّل ، وبالمشيئة. فإذا ثبتنا على هذه الفكرة وهذا الذّكر يعبّر عنها بالإرادة. ثم نقدّر الذهاب بأنّه في أيّ زمان ، ومن أيّ طريق ، وبأيّ وسيلة ، ويعبّر عنه بالتقدير. ثم نعزم على العمل ، ويعبّر عن هذا العزم بالقضاء. فإذا تمّت تلك الامور نشرع في العمل ، ويعبّر عن هذا الشروع بالإمضاء أي الإجراء في الخارج.
والظاهر من الروايات ثبوت هذه الامور لله تعالى وصدورها عنه على الترتيب المذكور ، ولكن لا بنحو ثبوتها وصدورها منّا ، بل هو كتابة وثبت إجمالي ثم تفصيلي في لوح ووعاء مخصوص لا نعرف حقيقته ولا كيفية كتابته ، إلّا أنّ مقتضى الدليل العقلي والنقلي أنه كسائر أفعاله لا يوجب تغييرا في ذاته تعالى شأنه.
فعن التوحيد بسنده عن المعلّى بن محمّد ، قال : سئل العالم عليه السلام : كيف علم الله ؟ قال : علم وشاء ، وأراد وقدّر ، وقضى وأمضى ، فأمضى ما قضى ، وقضى ما قدّر ، وقدّر ما أراد ، فبعلمه كانت المشيئة ، وبمشيئته كانت الإرادة ، وبإرادته كان التقدير ، وبتقديره كان القضاء ، وبقضائه كان الإمضاء. فالعلم متقدم على المشيئة ، والمشيئة ثانية ، والإرادة ثالثة ، والتقدير واقع على القضاء بالإمضاء. فلله تبارك وتعالى البداء فيما علم متى شاء ، وفيما أراد لتقدير الأشياء. فإذا وقع القضاء بالإمضاء فلا بداء ... إلى آخر الخبر بتفصيله ، أورده العلّامة المجلسيّ قدس سره في البحار في باب القضاء والقدر (12).
ولعلّ المراد بالإمضاء هو إيجاده في الخارج ، فعليه ما لم يتحقق الشيء في الخارج يجري فيه البداء ، كما ورد في الرواية : الدعاء يردّ القضاء وقد أبرم إبراما (13).
وفي المحاسن بسنده عن يونس عن الرضا عليه السلام قال : قلت : لا يكون إلا ما شاء الله وأراد وقضى ؟ فقال : لا يكون إلا ما شاء الله وأراد وقدّر وقضى ، قال : قلت : فما معنى شاء ؟ قال : ابتداء الفعل ، قلت : فما معنى أراد ؟ قال : الثبوت عليه ، قلت : فما معنى قدّر ؟ قال : تقدير الشيء من طوله وعرضه ، قلت : فما معنى قضى ؟ قال : إذا قضى أمضاه ، فذلك الذي لا مردّ له (14).
قال المجلسيّ رحمه الله : ابتداء الفعل ، أي أوّل الكتابة في اللوح ، أو أوّل ما يحصل من جانب الفاعل ويصدر عنه مما يؤدّي إلى وجود المعلول.
أقول : لعلّ المراد بقوله إذا قضى أمضاه : القضاء المقارن للإمضاء ، أي الإيجاد. أو المراد مسبوقية الإمضاء بالقضاء.
وفي المحاسن بسنده عن محمّد بن إسحاق ، قال : قال أبو الحسن عليه السلام ليونس مولى علي بن يقطين : يا يونس ! لا تتكلّم بالقدر ، قال : إنّي لا أتكلّم بالقدر ، ولكن أقول لا يكون إلّا ما أراد الله وشاء وقضى وقدّر ، فقال : ليس هكذا أقول ولكن أقول : لا يكون إلّا ما شاء الله وأراد ، وقدّر ، وقضى ، ثم قال : أتدري ما المشيئة ؟ فقال : لا ، فقال : همّه بالشيء ، أو تدري ما أراد ؟ قال : لا ، قال : إتمامه على المشيئة ، فقال : أو تدري ما قدّر ؟ قال : لا ، قال : هو الهندسة من الطول والعرض والبقاء. ثم قال : إنّ الله إذا شاء شيئا أراده ، وإذا أراده قدّره ، وإذا قدّره قضاه ، وإذا قضاه أمضاه ... إلى آخر الخبر (15).
وعن تفسير علي بن إبراهيم ، بسنده عن يونس ، عن الرضا صلوات الله عليه ما يقرب منه ، وفيه : إنّ المشيئة الذكر الأوّل ، والإرادة العزيمة على ما شاء ، والتقدير وضع الحدود من الآجال والأرزاق والبقاء والفناء ، والقضاء إقامة العين (16).
وعن الدرّة الباهرة : قال الرضا صلوات الله عليه : المشيئة الاهتمام بالشيء ، والإرادة إتمام ذلك الشيء (17).
وفي المحاسن بسنده عن هشام بن سالم ، قال : قال أبو عبد الله عليه السلام : إن الله إذا أراد شيئا قدّره ، فإذا قدّره قضاه ، فإذا قضاه أمضاه (18).
وفيه أيضا مسندا عن حريز بن عبد الله ، وعبد الله بن مسكان ، قالا : قال أبو جعفر عليه السلام : لا يكون شيء في الأرض ولا في السماء إلاّ بهذه الخصال السبع : بمشيئة ، وإرادة ، وقدر ، وقضاء ، وإذن ، وكتاب ، وأجل ، فمن زعم أنّه يقدر على نقص واحدة منهن فقد كفر (19).
1. الإسراء ٢٣.
2. المؤمن ٢٠.
3. الإسراء : ٤.
4. يوسف ٤١.
5. فصلت ١٢.
6. فصلت ١٠.
7. القمر ٤٩.
8. النمل ٥٧.
9. فصلت ١٠.
10. البحار ٥ : ٩٦.
11. نهج الحقّ للعلّامة الحلّيّ : ١٢٥.
12. البحار ٥ : ١٠٢.
13. البحار ٦٢ : ٢٢٨.
14. المحاسن ٢٤٤ ، وعنه البحار ٥ : ١٢٢ ، وعبارة صدر الحديث متفاوتة فيهما ، والمتن موافق للمحاسن.
15. المحاسن ٢٤٤ ، وعنه البحار ٥ : ١٢٢.
16. البحار ٥ : ١١٦.
17. البحار ٥ : ١٢٦.
18. المحاسن ٢٤٤ ، وعنه البحار ٥ : ١٢١.
19. المحاسن ٢٤٤ ، وعنه البحار ٥ : ١٢١.
مقتبس من كتاب تنبيهات حول المبدأ والمعاد
التعلیقات