المخلّدون في النار في نظر القرآن
محمّد عبد الخالق كاظم
منذ 9 سنواتالمخلّدون في النار في نظر القرآن
١. الكفّار والمشركون
عندما نطالع الآيات القرآنية التي تتحدّث عن الخلود في جهنّم ، نجد أوّل آية في القرآن توعد الكفار بالخلود في النار تتحدّث عن المكذّبين منهم ، قال تعالى : ( وَالَّذِينَ كَفَرُوا وَكَذَّبُوا بِآيَاتِنَا أُولَٰئِكَ أَصْحَابُ النَّارِ هُمْ فِيهَا خَالِدُونَ ) 1 ، وقد تكررت هذه الآية أيضاً مع اختلاف يسير في سورة التغابن 2.
فيما نرى في آية أخرى أنها تضيف إلى الكفّار المكذّبين وصف المستكبرين ، قال تعالى : ( وَالَّذِينَ كَفَرُوا وَكَذَّبُوا بِآيَاتِنَا أُولَٰئِكَ أَصْحَابُ النَّارِ هُمْ فِيهَا خَالِدُونَ ) 3 ، ويخبرنا الباري جلّ شأنه في آية أخرى أن هؤلاء المكذّبين والمستكبرين ممنوعون من دخول الجنّة إلى الأبد ، قال تعالى : ( إِنَّ الَّذِينَ كَذَّبُوا بِآيَاتِنَا وَاسْتَكْبَرُوا عَنْهَا لَا تُفَتَّحُ لَهُمْ أَبْوَابُ السَّمَاءِ وَلَا يَدْخُلُونَ الْجَنَّةَ حَتَّىٰ يَلِجَ الْجَمَلُ فِي سَمِّ الْخِيَاطِ وَكَذَٰلِكَ نَجْزِي الْمُجْرِمِينَ ) 4.
وفي آية أخرى يذكر المكذّبين بالقرآن وبالنبوّة وبما جاء به الأنبياء عليهم السلام من الدين ، قال تعالى : ( الَّذِينَ كَذَّبُوا بِالْكِتَابِ وَبِمَا أَرْسَلْنَا بِهِ رُسُلَنَا فَسَوْفَ يَعْلَمُونَ ) إلى أن قال : ( ادْخُلُوا أَبْوَابَ جَهَنَّمَ خَالِدِينَ فِيهَا فَبِئْسَ مَثْوَى الْمُتَكَبِّرِينَ ) 5.
وفي سورة النساء أوعد الكفّار المحاربين لدين الله بعدم المغفرة لهم وعدم هدايتهم إلى طريق الجنّة ، بل يهديهم إلى طريق النار الأبديّة ، قال تعالى : ( إِنَّ الَّذِينَ كَفَرُوا وَصَدُّوا عَن سَبِيلِ اللَّهِ قَدْ ضَلُّوا ضَلَالًا بَعِيدًا إِنَّ الَّذِينَ كَفَرُوا وَظَلَمُوا لَمْ يَكُنِ اللَّهُ لِيَغْفِرَ لَهُمْ وَلَا لِيَهْدِيَهُمْ طَرِيقًا إِلَّا طَرِيقَ جَهَنَّمَ خَالِدِينَ فِيهَا أَبَدًا وَكَانَ ذَٰلِكَ عَلَى اللَّهِ يَسِيرًا ) 6.
وهكذا نجد في آيات قرآنيّة عديدة عندما يهدّد سبحانه الكفّار بالعذاب أو بالخلود في النار ، يتحدّث عن نوع خاصّ من الكفّار لا مطلق الكفّار ، فيقيّدهم تارةً بالمكذّبين بالآيات الإلهيّة ، وأخرى بالمكذّبين بالكتاب ، وثالثة بالمكذّبين بالمعاد ، ورابعة بالمستهزئين بآيات الله ، وخامسةً يضيف إليهم وصف المستكبرين ونحوها من الأوصاف 7.
وهذة الآيات تدلّ على انّ هؤلاء الكفّار قد أرسل إليهم الرسل ، وأنزل عليهم الكتاب ، وتمّ تبليغهم بما في هذه الكتب من الوعد والوعيد والبعث والجزاء ، وبالنتيجة تمّت عليهم الحجّة ، ولكنّهم في مقابل ذلك جحدوا بآيات الله ودينه ، وكذّبوا برسله وبما جاؤوا به ، واستكبروا عن قبولها والايمان بها ، فوعدهم الله عزّوجلّ في مقابل كفرهم وتعنتهم بالخلود في العذاب جزاءً لكفرهم وإعراضهم عن قبول الحقّ.
وعلى ضوء ما تقدّم ثمة سؤال يطرح نفسه ومفاده : ماذا يكون مصير الذين لم يؤمنوا بالله ، ولكنّهم لم يكونوا بمكذّبين ولا بمستكبرين ؟ فهل نقول إنّهم مخلدون في النار كما يخلد فيها أمثال هؤلاء المستكبرين والمكذبين والمستهزئين بآيات الله ، فهذا ما لايقبله إنسان عاقل فضلاً عن أن يكون مقبولاً عند الله عزوجل لأنّه بمثابة الظلم ، والظلم قبيح ، والله عزّوجلّ منزه عنه.
ولهذا نرى أنّ القرآن الكريم يحلّ هذه المشكلة باطلاقه على هؤلاء مصطلح المستضعفين والمرجين لأمر الله ، وبالنسبة إلى المستضعفين فقد قال تعالى : ( إِنَّ الَّذِينَ تَوَفَّاهُمُ الْمَلَائِكَةُ ظَالِمِي أَنفُسِهِمْ قَالُوا فِيمَ كُنتُمْ قَالُوا كُنَّا مُسْتَضْعَفِينَ فِي الْأَرْضِ قَالُوا أَلَمْ تَكُنْ أَرْضُ اللَّهِ وَاسِعَةً فَتُهَاجِرُوا فِيهَا فَأُولَٰئِكَ مَأْوَاهُمْ جَهَنَّمُ وَسَاءَتْ مَصِيرًا إِلَّا الْمُسْتَضْعَفِينَ مِنَ الرِّجَالِ وَالنِّسَاءِ وَالْوِلْدَانِ لَا يَسْتَطِيعُونَ حِيلَةً وَلَا يَهْتَدُونَ سَبِيلًا فَأُولَٰئِكَ عَسَى اللَّهُ أَن يَعْفُوَ عَنْهُمْ وَكَانَ اللَّهُ عَفُوًّا غَفُورًا ) 8. فالقرآن الكريم في هذه الآية يبيّن لنا معنى الاستضعاف ، ويعيّن لنا من هم المستضعفون ، والعلّامة الطباطبائي يعقب على هذه الآية بقوله : إن الله سبحانه يعدّ الجهل بالدين وكلّ ممنوعية عن إقامة شعائر الدين ظلماً لايناله العفو الالهي ، ثم يستثني من ذلك المستضعفين ويقبل منهم معذرتهم بالاستضعاف ، ثمّ يعرفهم بما يعمّهم وغيرهم من الوصف ، وهو عدم تمكنهم مما يدفعون به المحذور عن أنفسهم ، وهذا المعنى كما يتحقّق فيمن أحيط به في أرض لا سبيل فيها إلى تلقي معارف الدين لعدم وجود عالم بها خبير بتفاصيلها ، أو لا سبيل إلى العمل بمقتضى تلك المعارف للتشديد فيه بما لايطاق من العذاب مع عدم الاستطاعة من الخروج والهجرة إلى دار الاسلام والالتحاق بالمسلمين لضعف في الفكر أو لمرض أو نقص في البدن أو لفقر مالي ونحو ذلك ، كذلك يتحقّق فيمن لم ينتقل ذهنه إلى حق ثابت في المعارف الدينية ولم يهتد فكره اليه مع كونه ممّن لا يعاند الحق ولا يستكبر عنه أصلاً ، بل لو ظهره عنده حق اتّبعه ، لكن خفي عنه الحق لشي من العوامل المختلفة الموجبة لذلك 9.
فالمستضعفون من وجهة نظر القرآن هم القاصرون وليسوا المقصرين ، لانّ قصورهم لم يكن باختيارهم ووسعهم ، بل كان إما لعارض عقلي أو جسمي أو اقتصادي قاهر ، ونحوه من العوامل التي جعلتهم بعيدين عن سبيل الهداية ، ولو كان قد عرض عليهم سبيل الهداية لم يكونوا يرفضونها ولم يكونوا يستكبرون عن قبولها ، ولكن غفلوا عن الحق للعوامل ـ التي ذكرناها ـ الخارجة عن وسعهم واختيارهم.
وهناك روايات متضافرة قد أشارت إلى معنى الاستضعاف ، وذكرت من يشملهم هذا المعنى ، ومن هذه الروايات :
١. عن زرارة قال : سألت أبا جعفر عليه السلام عن المستضعف ، فقال : « هو الذي لا يهتدي حيلة إلى الكفر فيكفر ، ولا يهتدي سبيلاً إلى الايمان ، لا يستطيع أن يؤمن ، ولا يستطيع أن يكفر ، فهم الصبيان ومن كان من الرجال والنساء على مثل عقول الصبيان مرفوع عنهم القلم » 10.
٢. عن أبي بصير قال : قال أبو عبدالله عليه السلام : « من عرف اختلاف الناس فليس بمستضعف » 11.
٣. وفي تفسير العياشي عن سليمان بن خالد ، عن أبي جعفر عليه السلام قال : سألته عن المستضعف ، فقال : « البلهاء في خدرها ، والخادم تقول لها صلّ فتصلي لا تدري إلّا ما قلت لها ، والجليب الذي لا يدري إلّا ما قلت له ، والكبير الفاني ، والصبي والصغير ، هؤلاء المستضعفون ، فأمّا رجل شديد العنق جدل خصم يتولى الشراء والبيع لا تستطيع أن تعينه في شي تقول هذا المستضعف ؟ لا ولا كرامة » 12.
المرجون لأمر الله فقد قال تعالى فيهم ( وَآخَرُونَ مُرْجَوْنَ لِأَمْرِ اللَّهِ إِمَّا يُعَذِّبُهُمْ وَإِمَّا يَتُوبُ عَلَيْهِمْ وَالله عَلِيمٌ حَكِيمٌ ) 13. هذه الآية منطبقة بحسب نفسها على المستضعفين الذين هم الحدّ الفاصل بين المحسنين والمسيئين ، وان وردت الآية في الثالثة الذي خلّفوا ثم تابوا ، والفرق بينهما أن آية المستضعفين بينت عاقبة امرهم بقوله : ( فَأُولَٰئِكَ عَسَى اللهَ أَن يَعْفُوَ عَنْهُمْ وَكَانَ الله عَفُوًّا غَفُورًا ) ففيه إشارة إلى شمول عفو الله تعالى لهم ، أما آية ( مُرْجَوْنَ لِأَمْرِ اللهِ ) فلم يبين ما يؤول اليه عاقبة أمرهم 14. وقال الشهيد المطهري : وأقصى مايستفاد من آية ( مُرْجَوْنَ لِأَمْرِ اللهِ ) أن أعمالهم يفصل فيها الله ، ولكن آية ( المستضعفين ) تشير إلى شمول عفو الله ومغفرته لهم 15.
وهناك روايات عديدة تشير إلى معنى ( المرجون لأمر الله ) ومن تشملهم هذه الآية ، ومن هذه الروايات :
١. عن زرارة ، عن أبي جعفر عليه السلام في قول الله عزّوجلّ : ( وَآخَرُونَ مُرْجَوْنَ لِأَمْرِ اللهِ ) قال : « قوم كانوا مشركين فقتلوا مثل حمزة وجعفر وأشباههما من المؤمنين ، ثم أنهم دخلوا في الاسلام ، فوحدوا الله وتركوا الشرك ، ولم يعرفوا الإيمان بقلوبهم فيكونوا من المؤمنين فتجب لهم الجنّة ، ولم يكونوا على جحودهم فيكفروا فتجب لهم النار ، فهم على تلك الحال مرجون لأمر الله إمّا يعذبهم وإمّا يتوب عليهم » 16.
٢. وفي تفسير العياشي عن حمران قال : سألت أبا عبدالله عليه السلام عن المستضعفين ، قال : « هم ليسوا بالمؤمنين ، ولا بالكفار ، وهم المرجون لامر الله » 17.
الشرك في الرؤية القرآنية
تحدث القرآن الكريم عن مصير المشركين في الآخرة ، ففي بعض آياته وعدهم بالحرمان من المغفرة الالهية فقال تعالى : ( إِنَّ الله لاَ يَغْفِرُ أَنْ يُشْرَكَ بِهِ وَيَغْفِرُ مَا دُونَ ذٰلِكَ لِمَنْ يَشَاءُ ) 18 ، ونرى في بعض آخر من آياته يوعدهم بالحرمان من دخول الجنة ، قال تعالى : ( مَنْ يُشْرِكْ بِاللهِ فَقَدْ حَرَّمَ الله عَلَيْهِ الْجَنَّةَ ) 19 ، ووعدهم أيضاً في قسم ثالث من آياته بالخلود في النار ، كما في قوله تعالى : ( مَا كَانَ لِلْمُشْرِكِينَ أَن يَعْمُرُوا مَسَاجِدَ اللهِ شَاهِدِينَ عَلَىٰ أَنفُسِهِم بِالْكُفْرِ أُولَٰئِكَ حَبِطَتْ أَعْمَالُهُمْ وَفِي النَّارِ هُمْ خَالِدُونَ ) 20 ، وقوله تعالى : ( إِنَّ الَّذِينَ كَفَرُوا مِنْ أَهْلِ الْكِتَابِ وَالْمُشْرِكِينَ فِي نَارِ جَهَنَّمَ خَالِدِينَ فِيهَا ... ) 21.
وقد يقال : إن خلود المشركين في النار قد ثبت عند حديثكم عن الكفار ، لأنّ الشرك من نوع من الكفر فما الفائدة في بحثه هنا بعنوان مستقل ؟
وللاجابة عن هذا السؤال نطرح سؤالاً آخر ، وهو هل إن الخلود في النار عام لجميع المشركين ، وللإجابة عن هذا السوال نطرح أيضاً سؤالاً ثالثاً ، وهو أنّه هل يمكن أن يجتمع الشرك مع الايمان ؟ بحيث يكون الانسان مؤمناً ومشركاً في آن واحد.
وقد يكون الجواب في أول الأمر بالنفي ، ولكن عند التمعن في الآيات القرآنية نجد أنه ممكن ، وقد أشار إليه القرآن الكريم في قوله تعالى : ( وَمَا يُؤْمِنُ أَكْثَرُهُم بِاللَّهِ إِلَّا وَهُم مُّشْرِكُونَ ) 22 فالمقصود من الشرك في هذه الآية هو الشرك في الطاعة ، كما جاء في بعض الروايات عن المعصومين عليهم السلام والذي سوف نشير إليه ، ويمسى بالشرك الخفي ، والذي يقابل الشرك الجلي ، وهو الشرك في العبادة ، أيّ ان يتّخذ الانسان معبوداً غيره.
والعلامة الطباطبائي في تعليقه على هذه الآية قال ما ملخصه : بأن تلبّس الانسان بالايمان والشرك معاً مع كونهما معنيين متقابلين ، لايجتمعان في محل واحد نظير تلبّسه بسائر الاعتقادات المتناقضة والاخلاق المتضادة ، إنّما يكون من جهة كونها من العماني التي تقبل في نفسها القوة والضعف ، فتختلف بالنسبة والاضافة ، كالقرب والبعد ، فانّ القرب والبعد المطلقين لا يجتمان ، إلّا أنهما إذا كانا نسبيين لا يمتنعان عن الاجتماع. وبين الشرك والايمان مراتب مختلفة بالقرب من أحد الجانبين والبعد منه ، وهي التي يجتمع فيه الطرفان بنحو من الاجتماع. فالمراد بالشرك في الآية بعض مراتبه الذي يجامع بعض مراتب الايمان ، وهو المسمّى باصطلاح فنّ الأخلاق بالشرك الخفي 23.
وهناك روايات عديدة أشارت إلى هذا المعنى في تفسير الآية الآنفة الذكر ، ومن هذه الروايات :
١. في تفسير القمي مروياً عن الفضيل عن أبي جعفر عليه السلام في قول الله تبارك وتعالى : ( وَمَا يُؤْمِنُ أَكْثَرُهُم بِاللهِ إِلَّا وَهُم مُّشْرِكُونَ ) ، قال : « شرك طاعة وليس شرك عبادة ، والمعاصي التي يرتكبون فهي شرك طاعة أطاعوا فيها الشيطان فأشركوا بالله في الطاعة لغيره ، وليس باشراك عبادة » 24 وفي تفسير العياشي مروياً عن زراة مثله 25.
٢. وفي تفسير العياشي ، عن مالك بن عطية ، عن أبي عبدالله عليه السلام في قوله : ( وَمَا يُؤْمِنُ أَكْثَرُهُم بِاللهِ إِلَّا وَهُم مُّشْرِكُونَ ) قال : « هو قول الرجل : لولا فلان لهلكت ، ولولا فلان لأصبت كذا وكذا ، ولضاع عيالي ، ألا ترى أنه قد جعل لله شريكاً في ملكه يرزقه ويدفع عنه ؟ قال : قلت : فيقول : لولا أن مَنّ الله عليّ بفلان لهلكت ؟ قال : نعم لا بأس بهذا » 26.
٣. وفي تفسير العياشي أيضاً مروياً عن زرارة قال : سألت أبا جعفر عليه السلام عن قول الله : ( وَمَا يُؤْمِنُ أَكْثَرُهُم بِاللهِ إِلَّا وَهُم مُّشْرِكُونَ ) قال : « من ذلك قول الرجل : لا وحياتك » 27.
ونستنتج من كل ما مرّ بأن الشرك الخفي كما أشارت إليه الروايات السابقة من قبيل المعاصي أو الاتكال على الآخرين في دفع الضرر أو كسب المنافع مثل قول بعضهم : لولا فلان لهلكت ، أو القسم بغير الله عز وجل مثل قوله : لا وحياتك ، كل ذلك لا يوجب خروج صاحبه من الايمان ، بل يمكن أن يجتمع معه ، وبالنتيجة فلا يكون المشرك شركاً خفياً مخلداً في النار ، وذلك لبقائه على إيمانه ، على عكس المشرك بالشرك الجلي ، والمسلوب منه الايمان ، وهو السبب في خلوده الأبدي في النار.
٢. المنافقون
لعظم خطورة المنافقين وضررهم على الإسلام والمسلمين ، فقد اهتمّ القرآن الكريم بأمر المنافقين وذكرهم في العديد من سوره كسورة البقرة وآل عمران والنساء والمائدة والأنفال والتوبة والعنكبوت والأحزاب والفتح والحديد والحشر والمنافقون والتحريم والمجادلة ، فكشف عن أكاذيبهم قال تعالى : ( وَالله يَشْهَدُ إِنَّ الْمُنَافِقِينَ لَكَاذِبُونَ ) 28 ، وقال : ( أَلَمْ تَرَ إِلَى الَّذِينَ تَوَلَّوْا قَوْمًا غَضِبَ الله عَلَيْهِم مَّا هُم مِّنكُمْ وَلَا مِنْهُمْ وَيَحْلِفُونَ عَلَى الْكَذِبِ وَهُمْ يَعْلَمُونَ ) 29 ، وفضح أيضاً عن تآمرهم ضد الاسلام والمسلمين وخداعهم لهم ، حيث قال تعالى : ( وَمِنَ النَّاسِ مَن يَقُولُ آمَنَّا بِاللهِ وَبِالْيَوْمِ الْآخِرِ وَمَا هُم بِمُؤْمِنِينَ يُخَادِعُونَ الله وَالَّذِينَ آمَنُوا وَمَا يَخْدَعُونَ إِلَّا أَنفُسَهُمْ وَمَا يَشْعُرُونَ ) 30 وقال أيضاً : ( وَإِذَا قِيلَ لَهُمْ لَا تُفْسِدُوا فِي الْأَرْضِ قَالُوا إِنَّمَا نَحْنُ مُصْلِحُونَ أَلَا إِنَّهُمْ هُمُ الْمُفْسِدُونَ وَلَٰكِن لَّا يَشْعُرُونَ ) 31 ، ولاستغراقهم في النفاق والكفر وصفهم تعالى بقوله : ( صُمٌّ بُكْمٌ عُمْيٌ فَهُمْ لَا يَرْجِعُونَ ) 32 أي إن هؤلاء المنافقين لا يرجعون إلى طريق الهداية بما كسبت أيديهم وبما اختاروا لأنفسهم من الضلال ، فسلب سبحانه المغفرة منهم ، قال تعالى : ( سَوَاءٌ عَلَيْهِمْ أَسْتَغْفَرْتَ لَهُمْ أَمْ لَمْ تَسْتَغْفِرْ لَهُمْ لَنْ يَغْفِرَ الله لَهُمْ إِنَّ الله لاَ يَهْدِي الْقَوْمَ الْفَاسِقِينَ ) 33 ، وهذه الآية تشير إلى أن استغفار النبي صلّى الله عليه وآله وسلّم لهؤلاء المنافقين وعدم استغفاره لهم سواء ، فاستغفاره صلّى الله عليه وآله وسلّم كعدمه لأنّه تعالى سوف لن يغفر لهؤلاء بسبب كفرهم وعدائهم للإسلام.
وبما أنّ هؤلاء المنافقين غير مستحقين للمغفرة من الله عزّوجلّ ، ولن ينالوها أبداً بما قدمت أيديهم ، فهم إذاً مخلدون في النار ، وهذا ما وعدهم الله تعالى ، قال : ( وَعَدَ الله الْمُنَافِقِينَ وَالْمُنَافِقَاتِ وَالْكُفَّارَ نَارَ جَهَنَّمَ خَالِدِينَ فِيهَا هِيَ حَسْبُهُمْ وَلَعَنَهُمُ الله وَلَهُمْ عَذَابٌ مُقِيمٌ ) 34 ففي هذه الآية قدّم سبحانه ذكر المنافقين والمنافقات على الكفار ، لأنّهم أسوأ حالاً من الكفّار ، لكون خطرهم وكيدهم ومكرهم لهدم كيان الإسلام أشدّ من كيد المشركين واليهود والنصارى حتى قال تعالى عنهم : ( هُمُ الْعَدُوُّ فَاحْذَرْهُمْ ) 35.
وفي سورة التوبة أيضاً وعدهم بالخلود في النار بقوله تعالى : ( أَلَمْ يَعْلَمُوا أَنَّهُ مَن يُحَادِدِ الله وَرَسُولَهُ فَأَنَّ لَهُ نَارَ جَهَنَّمَ خَالِدًا فِيهَا ذَٰلِكَ الْخِزْيُ الْعَظِيمُ ) 36. وفي سورة المجادلة نجد أنه سبحانه بعد ذكر مساوئهم توعّدهم بقوله : ( لَّن تُغْنِيَ عَنْهُمْ أَمْوَالُهُمْ وَلَا أَوْلَادُهُم مِّنَ اللهِ شَيْئًا أُولَٰئِكَ أَصْحَابُ النَّارِ هُمْ فِيهَا خَالِدُونَ ) 37 فلا تتفع هؤلاء المنافقين أموالهم ولا أولادهم التي يفتخرون بها في الدنيا ، فهي لا تدع عنهم عذاب النار يوم القيامة ، وسوف يجمعهم الله سبحانه مع الكافرين في النار ، قال تعالى : ( ... إِنَّ الله جَامِعُ الْمُنَافِقِينَ وَالْكَافِرِينَ فِي جَهَنَّمَ جَمِيعًا ) 38 فالآية قدمت المنافقين على الكفار إشارةً وتأكيداً على كونهم أسوأ حالاً من الكفار.
٣. الغارقون في الذنوب
الذنوب والمعاصي لها آثار دنيويّة كما أن لها أثاراً أخروية من العذاب المنقطع إلى العذاب الدائم المخلّد ، ومن آثارها الدنيوية ما جاء في الروايات المتضافرة عن المعصومين عليهم السلام ، ومنها :
١. عن هشام بن سالم ، عن أبي عبد الله عليه السلام قال : « أما إنه ليس من عرق يضرب ولا نكبة ولا صداع ولا مرض إلّا بذنب ، وذلك قول الله عزّوجلّ في كتابه : ( وَمَا أَصَابَكُم مِّن مُّصِيبَةٍ فَبِمَا كَسَبَتْ أَيْدِيكُمْ وَيَعْفُو عَن كَثِيرٍ ) ، قال : ثم قال : وما يعفو الله أكثر مما يؤاخذ به » 39.
٢. عن الفضيل بن يسار ، عن أبي جعفر عليه السلام قال : « إن العبد ليذنب الذنب فيزوى عنه الرزق » 40.
٣. عن محمد بن مسلم ، عن أبي جعفر عليه السلام قال : « ان العبد يسأل الله الحاجة فيكون من شأنه قضاؤها إلى أجل قريب ، أو إلى وقت بطيء ، فيذنب العبد ذنباً فيقول الله تبارك وتعالى للملك : لا تقض حاجته وأحرمه إياها فانّه تعرّض لسخطي واستوجب الحرمان مني » 41.
ومن آثارها الاُخروية هي أن العبد إذا اقترف المعصية واستمر عليها فيؤدي به إلى سلب التوفيق للندم فلا يدع له طريقاً للنجاة ، وقد روي عن أبي بصير ، عن أبي عبد الله عليه السلام قال : سمعت أبا عبد الله عليه السلام يقول : « إذا أذنب الرجل خرج في قلبه نكتة سوداء ، فان تاب انمحت ، وإن زاد زادت حتى تغلب على قلبه ، فلا يفلح أبداً » 42.
وهذا ما أشار إليه سبحانه وتعالى بقوله : ( بَلَىٰ مَن كَسَبَ سَيِّئَةً وَأَحَاطَتْ بِهِ خَطِيئَتُهُ فَأُولَٰئِكَ أَصْحَابُ النَّارِ هُمْ فِيهَا خَالِدُونَ ) 43 ، وقريب من هذا المعنى قد ذكر في قوله تعالى : ( وَالَّذِينَ كَسَبُوا السَّيِّئَاتِ جَزَاءُ سَيِّئَةٍ بِمِثْلِهَا وَتَرْهَقُهُمْ ذِلَّةٌ مَّا لَهُم مِّنَ اللهِ مِنْ عَاصِمٍ كَأَنَّمَا أُغْشِيَتْ وُجُوهُهُمْ قِطَعًا مِّنَ اللَّيْلِ مُظْلِمًا أُولَٰئِكَ أَصْحَابُ النَّارِ هُمْ فِيهَا خَالِدُونَ ) 44 أي أن هؤلاء الذين ارتكبوا المعاصي والسيئات وصلوا إلى درجة حتى وصفهم القرآن بسواد الوجه ، وهو كناية عن خزيهم ومذلتهم ، فكسب السيئات والاصرار عليها يسوق الانسان نحو الكفر والشرك والتكذيب بآيات الله عز وجل ، قال تعالى : ( ثُمَّ كَانَ عَاقِبَةَ الَّذِينَ أَسَاءُوا السُّوأَىٰ أَن كَذَّبُوا بِآيَاتِ اللهِ وَكَانُوا بِهَا يَسْتَهْزِئُونَ ) 45 وفي النتيجة يوصله إلى العذاب الخالد ، ويعرضه إلى غضب الله عز وجل ولعنته.
٤. قاتل المؤمن
القرآن الكريم يذكرنا بان قاتل المؤمن عمداً مخلد في النار ، قال تعالى : ( وَمَن يَقْتُلْ مُؤْمِنًا مُّتَعَمِّدًا فَجَزَاؤُهُ جَهَنَّمُ خَالِدًا فِيهَا وَغَضِبَ اللَّهُ عَلَيْهِ وَلَعَنَهُ وَأَعَدَّ لَهُ عَذَابًا عَظِيمًا ) 46.
وقد أغلظ سبحانه في وعيده لقاتل المؤمن ، فذكر في الآية أربع عقوبات له وهي خلود في النار ، والتعرض لغضب الله عزّوجل ، واللعنة عليه مع العذاب العظيم.
هذه الآية واضحة من سياقها أنها نزلت في شأن المؤمنين ، أي المؤمن الذي يقتل مؤمناً آخر على سبيل العمد ، فالآية التي سبقتها قد ذكر فيها سبحانه حكم قتل الخطأ ، أي حكم المؤمن الذي يقتل آخر خطأً ، قال تعالى : ( وَمَا كَانَ لِمُؤْمِنٍ أَن يَقْتُلَ مُؤْمِنًا إِلَّا خَطَأً ) الخ ، ثمّ عرج على قتل المؤمن عمداً في هذه الآية.
ومن هنا يطرح هذا السؤال ، وهو أن المفسرين متفقون بأنّ الخلود في النار مختصّ بالكفار ، وأن المؤمن لا يخلد في النار ، فكيف ذكرت الآية خلود المؤمن القاتل في النار ؟.
وللجواب عن هذا السؤال ذكر المفسّرون في معنى الآية عدة وجوه ، وهي :
١. فريق ذهب إلى أن قاتل المؤمن عمداً لا تقبل توبته ، ويؤيده ما روي عن ابن عباس بأن قاتل العمد لا توبة له 47 ، وتبنّى هذا الرأي الزمخشي 48 ، ومحمد عبده 49 ، ويؤيده أيضاً ما روي عن أبي عبدالله عليه السلام : أنه سئل عن المؤمن يقتل المؤمن معتمّداً ، أله توبة ؟ فقال : « إن كان قتله لايمانه فلا توبة له ، وإن كان قتله لغضب أو لسبب شيء من أشياء الدنيا فانّ توبته أن يقاد منه ، وإن لم يكن علم به انطلق إلى أولياء المقتول فأقر عندهم بقتل صاحبهم ، فان عفوا عنه فلم يقتلوه أعطاهم الدية ، وأعتق نسمة ، وصام شهرين متتابعين ، وأطعم ستين مسكيناً توبةً إلى الله عز وجل » 50.
ومن الواضح أن الأخذ بظاهر قول الامام عليه السلام وقول ابن عباس مخالف لإجماع المسلمين على قبول التوبة من العاصي وإن كان مشركاً أو كافراً ، والشيخ الطبرسي في تعليقه على قوله تعالى : ( إِنَّ الله لَا يَغْفِرُ أَن يُشْرَكَ بِهِ وَيَغْفِرُ مَا دُونَ ذَٰلِكَ لِمَن يَشَاءُ ) 51 ، قال : بأن الله تعالى نفى غفران الشرك ولم ينف غفرانه على كل حال ، بل نفى أن يغفر من غير توبة ، لان الاُمة أجمعت على أنّ الله يغفر بالتوبة 52.
فالمقصود من قول الإمام عليه السلام وابن عباس هو عدم توفيق قاتل العمد للتوبة فقد روي عن هشام بن سالم ، عن أبي عبدالله عليه السلام قال : « لا يزال المؤمن في فسحة من دينه مالم يصب دماً حراماً ، وقال : لا يوفق قاتل المؤمن متعمداً للتوبة أبداً » 53. وعدم توفيقه للتوبة بمعنى أنه لا يختار التوبة ، حيث قال العلّامة الطبرسي : ومن قال من أصحابنا أن قاتل المؤمن لا يوفق للتوبة لا ينافي ما قلناه ، لأنّ هذا القول إن صح فانّما يدلّ على أنه لا يختار التوبة مع أنها لو حصلت لأزالت العقاب 54.
٢. ويرى فريق آخر بأن الآية إخبار منه تعالى بأن ذلك جزاؤه إن جازاه ، وقد يعفو عنه فلا يجازيه ، ويؤيده ما روى عن أبي عبدالله عليه السلام في قول الله عزوجل : ( وَمَن يَقْتُلْ مُؤْمِنًا مُّتَعَمِّدًا فَجَزَاؤُهُ جَهَنَّمُ ) قال : « جزاؤه جهنّم إن جازاه » 55. وفي مجمع البيان مروياً عن النبي صلّى الله عليه وآله مثله 56 ، وفي المجمع أيضاً مروياً عن ابن عباس في قوله : ( فَجَزَاؤُهُ جَهَنَّمُ ) قال : « هي جزاؤه ، فان شاء عذبه ، وإن شاء غفر له » 57. وقد نسب العلّامة الطبرسي 58 ومحمد عبده 59 هذا القول إلى أبي مجلز.
وذهب العلّامة الطباطبائي إلى هذا الرأي حيث قال : بأن قوله تعالى : ( إِنَّ الله لَا يَغْفِرُ أَن يُشْرَكَ بِهِ وَيَغْفِرُ مَا دُونَ ذَٰلِكَ لِمَن يَشَاءُ ) 60 وكذا قوله تعالى : ( إِنَّ الله يَغْفِرُ الذُّنُوبَ جَمِيعًا إِنَّهُ هُوَ الْغَفُورُ الرَّحِيمُ ) 61 تصلحان لتقييد هذه الآية ، فهذه الآية توعد بالنار الخالدة ، لكنها ليست بصريحة في الحتم ، فيمكن العفو بتوبة أو بشفاعة 62.
وقد أشكل الفخر الرازي على هذا الرأي بقوله : بأنّ هذا الجواب ضعيف ، لأنّه ثبت بهذه الآية أن جزاء قتل العمد هو ما ذكر ، وثبت بسائر الآيات أنه تعالى يوصل الجزاء إلى المستحقّين ، قال تعالى : ( مَن يَعْمَلْ سُوءًا يُجْزَ بِهِ ) وقال : ( الْيَوْمَ تُجْزَىٰ كُلُّ نَفْسٍ بِمَا كَسَبَتْ ) وقال : ( فَمَن يَعْمَلْ مِثْقَالَ ذَرَّةٍ خَيْرًا يَرَهُ وَمَن يَعْمَلْ مِثْقَالَ ذَرَّةٍ شَرًّا يَرَهُ ) بل إنه تعالى ذكر في هذه الآية ما يدل على أنّه يوصل إليهم هذا الجزاء ، وهو قوله : ( وَأَعَدَّ لَهُ عَذَابًا عَظِيمًا ) فان بيان أن هذا جزاؤه حصل بقوله : ( فَجَزَاؤُهُ جَهَنَّمُ خَالِدًا فِيهَا ) فلو كان قوله : ( وَأَعَدَّ لَهُ عَذَابًا عَظِيمًا ) إخباراً عن الاستحقاق كان تكراراً ، فلو حملناه على الاخبار بأنه سيفعل لم يلزم التكرار ، فكان ذلك أولى 63.
وأشكل عليه الشيخ محمّد عبده أيضاً بقوله : وفيه أنّ الأصل في كل جزاء أن يقع لاستحالة كذب الوعيد كالوعد ، وإنّ العفو والتجوز قد يقع عن بعض الأفراد لأسباب يعلمها الله ، فليس هذا تفص من خلود بعض القاتلين في النار ، والظاهر أنّهم يكونون الأكثرين ، لأنّ الاستثناء إنما يكون في الغالب للأقلين 64.
٣. ويرى فريق ثالث من المفسرين بأن المراد بالخلود في هذه الآية المكث الطويل لا الدوام 65 لأن الخلود الأبدي في النار مختص بالكفار. وقد ذكره البيضاوي والآلوسي 66 كوجه ثانٍ في تفسير هذه الآية. وهذا الوجه في تفسير الآية مردود لما بيناه فيما سبق من أن الخلود بمعنى الدوام ، بل حتى القائلين بكونها موضوعة لغة للمكث الطويل قالوا بأنّه أستعمل في القرآن بمعنى الدوام.
٤. ويرى فريق رابع بأنّ العقاب المذكور في الآية للقاتل المستحل ، أي من باب انكار التحريم ، وهو موجب للكفر والخلود في العذاب ، وقد اعتبره البيضاوي 67 أول الوجهين في تفسير الآية ، ونسب هذا القول إلى عكرمة وابن جريج ، 68 ومال إلى هذا الرأي الشيخ الطوسي والعلّامة الطبرسي ، ففي ردّهم على المعتزلة في استدلالهم بهذه الآية على خلود مرتكب الكبيرة في النار قالوا : فإنّا نقول له ما أنكرت أن يكون المراد به من لا ثواب له أصلاً بأن يكون كافراً ، أو أن يكون قتله مستحلاً لقتله ، أو قتله لايمانه ، فانه لا خلاف أن هذه صفة من يخلد في النار 69.
ويؤيده ما روي عن سماعة قال : قلت له : قول الله تبارك وتعالى : ( وَمَن يَقْتُلْ مُؤْمِنًا مُّتَعَمِّدًا فَجَزَاؤُهُ جَهَنَّمُ خَالِدًا فِيهَا وَغَضِبَ اللَّهُ عَلَيْهِ وَلَعَنَهُ وَأَعَدَّ لَهُ عَذَابًا عَظِيمًا ) قال : « المعتمد الذي يقتله على دينه فذاك التعمد الذي ذكر الله. قال : قلت : فرجل جاء إلى رجل فضربه بسيفه حتّى قتله لغضب ، لا لعيب على دينه ، قتله وهو يقول بقوله ؟ قال : ليس هذا الذي ذكر في الكتاب ، ولكن يقاد به والدية إن قبلت. قلت : فله توبة ؟ قال : نعم ، يعتق رقبة ، ويصوم شهرين متتابعين ، ويطعم ستين مسكيناً ، ويتوب ويتضرع ، فأرجو أن يتاب عليه » 70.
ويؤيده أيضاً ما روي في سبب نزوله حيث أنها نزلت في مقيس بن صبابة الكناني ، وجد أخاه هشاماً قتيلاً في بني النجار ، فذكر ذلك لرسول الله صلّى الله عليه وآله وسلّم فأرسل معه قيس بن هلال الفهري ، وقال له : قل لبني النجار إن علمتم قاتل هشام فادفعوه إلى أخيه ليقتص منه ، وان لم تعلموا فادفعوا إليه ديته. فبلغ الفهري الرسالة ، فأعطوه الدية ، فلمّا انصرف ومعه الفهري وسوس إليه الشيطان ، فقال : ما صنعت شيئاً ، أخذت دية أخيك فيكون سبّة عليك ، أقتل الذي معك لتكون نفس بنفس ، والدية فضل فرماه بصخرة فقتله ، وركب بعيراً ورجع إلى مكة كافراً ، وأنشد يقول :
قتلت به فهــــراً وحمّلـــت عقلـه * سـراة بنـــي النجــــار أرباب فارع
فأدركت ثأري واضطجعت موسّداً * وكنت إلــــــــــى الأوثان أول راجع
فقال النبي صلّى الله عليه وآله وسلّم لا أؤمنه في حلّ ولا حرم ، فقتل يوم الفتح رواه الضحاك وجماعة من المفسرين 71.
ويؤيده كذلك ما روي عن ابن عباس في معنى قوله ( معتمداً ) فقال : أي مستحلاً لقتله 72.
النتيجة : والصحيح هو حمل تفسير الآية على الوجه ، الرابع وهو كون القاتل مستحلاً في قتله ، ويمكن الاستدلال عليه بالنقاط التالية :
١. الآية التي سبقت آية قتل العمد ، أي آية قتل الخطأ ، وهو قوله تعالى : ( وَمَا كَانَ لِمُؤْمِنٍ أَن يَقْتُلَ مُؤْمِنًا إِلَّا خَطَأً ) فإن معناه على أحد وجوه التفسير هو : لم يكن لمؤمن أن يقتل مؤمناً متعمداً ، ومتى قتله متعمداً لم يكن مؤمناً ، فان ذلك يخرجه من الايمان ، ثم قال : ( إِلَّا خَطَأً ) أي فان قتله خطأ لا يخرجه من الايمان 73 ، وهذا يثبت ما ذهبنا إليه.
٢. هناك روايات وأحاديث عديدة تشدد في وعيد قاتل العمد ، وتهدده بالاياس من دخول الجنة وحرمتها عليهم ، ومن هذه الأحاديث ماروي عن النبي صلّى الله عليه وآله وسلّم قال : « لو أن الثقلين اجتمعوا على قتل مؤمن لأكبهم الله على مناخرهم في النار ، وإن الله حرّم الجنة على القاتل الآمر » 74. ومن المعلوم أن الجنة ليست محرمة إلّا على الكفار والمشركين ، فنفهم من الحديث الشريف كون القاتل مستحلاً.
ويؤيده ما ذكره صدر الدين الشيرازي ، فهو بعد أن أشار إلى أن تكرر المعاصي يؤدي إلى ظلمة مرآة القلب ، ويمنع عن قبول الرحمة الالهيّة ، أو نور الشفاعة النبويّة ، ويخلد صاحب هذه الكبيرة في النار ، قال : وكذا صدور بعض المعاصي ـ ولو مرةً ـ كقتل المؤمن متعمداً ، كاشف عن كون مرتكبه غير معتن بشأن الدين ، ولامعتقد بأمر الآخرة 75.
ويمكن الجمع بين هذا الوجه ـ أي الوجه الرابع ـ وبين الوجه الأول ، وهو قولهم بعدم قبول توبة قاتل المؤمن متعمداً ، وذلك بأن نقول : إن قاتل المؤمن لدينه ، والذي هو أبرز مصاديق الاستحلال ، سوف لا يوفق للتوبة ، بمعنى أنه لا يختار التوبة ، فيكون مخلداً في النار.
٥. آكل الربا
القرآن الكريم يشدد في الوعيد على أكل الربا ، كما في قتل العمد ، فيهدد المتعاملين بالربا والمصرين عليه بالعذاب المخلد ، قال تعالى : ( الَّذِينَ يَأْكُلُونَ الرِّبَا لَا يَقُومُونَ إِلَّا كَمَا يَقُومُ الَّذِي يَتَخَبَّطُهُ الشَّيْطَانُ مِنَ الْمَسِّ ذَٰلِكَ بِأَنَّهُمْ قَالُوا إِنَّمَا الْبَيْعُ مِثْلُ الرِّبَا وَأَحَلَّ الله الْبَيْعَ وَحَرَّمَ الرِّبَا فَمَن جَاءَهُ مَوْعِظَةٌ مِّن رَّبِّهِ فَانتَهَىٰ فَلَهُ مَا سَلَفَ وَأَمْرُهُ إِلَى اللهِ وَمَنْ عَادَ فَأُولَٰئِكَ أَصْحَابُ النَّارِ هُمْ فِيهَا خَالِدُونَ ) 76.
الوعيد في هذه الآية عام يشمل الكفار والمؤمنين معاً ، ومن هنا يطرح نفس السؤال السابق ، وهو كيف يوجب ارتكاب الكبيرة من قبيل أكل الربا الخلود في النار بالنسبة للمؤمن ، مع أنّ المؤمن ليس مخلداً في النار بالاتفاق ؟
والجواب : هو أن الخلود في النار ليس معلولاً لمطلق أكل الربا ، بل هو مقيد بالعود وعدم الانتهاء بعد التحريم وهو قوله : ( وَمَنْ عَادَ فَأُولَٰئِكَ أَصْحَابُ النَّارِ هُمْ فِيهَا خَالِدُونَ ) ، قال العلّامة الطباطبائي : وقوع العود في هذه الجملة في مقابل الانتهاء الواقع في الجملة السابقة ، يدلّ على أنّ المراد به العود الذي يجامع عدم الانتهاء ، ويلازم ذلك الاصرار على الذنب وعدم القبول للحكم ، وهذا هو الكفر أو الردة باطناً ، ولو لم يتلفظ في لسانه بما يدلّ على ذلك فانّ من عاد إلى ذنب ولم ينته عنه ولو بالندم ، فهو غير مسلم للحكم تحقيقاً ولا يفلح أبداً 77.
وعموم جمهور المفسرين حملوا هذه الآية على الآكل المستحل له وهذا لا يكون إلّا كافراً 78.
الخلاصة
عند الامعان في الآيات القرآنية التي أوعدت العاصين بالخلود في النار أو بالعذاب المقيم أو بغيره من الألفاظ التي تعطي معنى الخلود في النار ، نجد أنها تشير إلى مصاديق عديدة من المخلدين ، وبعناوين مختلفة ، مثل الكفار والمشركين والمنافقين وقاتل المؤمن وآكل الربا وغيره من العناوين.
فعندما يتحدث القرآن الكريم عن خلود الكفّار نرى أنه يركز على نوع خاص من الكفّار ، ويقرنهم بأوصاف معيّنة ، فيصفهم تارة بالمكذبين ، وتارة اُخرى بالمستهزئين ، وتارة ثالثة بالمستكبرين وهكذا ، ومن هنا نجد أن القرآن الكريم لم يخلد مطلق الكفّار في النار ، بل يستثني بعضاً من الكفّار ، فيسميهم تارة بالمستضعفين ، وتارة اُخرى بالمرجون لأمر الله ، واعتبرهم من الناجين من الخلود الأبدي في النار ، والمشمولين بالعفو الالهي.
وأما بخصوص المشركين فالقرآن الكريم لم يخلد أيضاً مطلق المشركين في النار ، بل المخلدون في نظر القرآن هم المشركون شرك عبادة ، أو ما يسمي بالشرك الجليّ ، فاستثنى منهم المشركين بشرك خفي ، واعتبرهم في عداد الناجين من الخلود في النار.
وبالنسبة للمنافقين فقد ذكرهم القرآن الكريم في العشرات من سوره ، وفضح عن كيدهم وتآمرهم ضد الاسلام ، وكذبهم وخداعهم للمسلمين بإظهار الايمان ، ووصفهم بأقبح الأوصاف ، ولاستغراقهم في الكفر والضلالة فقد سلب سبحانه مغفرته عنهم ، كما صرّحت به الآيات القرآنية ، وفي النتيجة فقد هددهم ووعدهم بالخلود في النار ، وقدمهم على الكفّار في الوعيد بالخلود في أكثر من آية ، وذلك لكون خطرهم على الإسلام والمسلمين أشدّ من الكفّار.
وهناك جماعة من المذنبين قد هددهم القرآن الكريم بالخلود في النار ، وهؤلاء يمكن تسميتهم بالغارقين في الذنوب ، لأنّ الذنوب لوحدها لا توجب الخلود في النار إلّا إذا تكررت بحيث تؤدي إلى إحاطة السيئة بالانسان ، كما صرحت به آيات القرآن الكريم ، أو إلى سواد قلب كما جاء في الروايات عن المعصومين ، وإحاطة الخطيئة بالانسان وسواد قلبه يسوق الانسان إلى الكفر والشرك والتكذيب بآيات الله ، فعند ذلك تكون عاقبته الخلود في النار.
والقسم الآخر من الموعدين بالخلود في النار هو المؤمن الذي يقتل مؤمناً آخر على سبيل العمد والوعيد بالخلود في النار ، يتعارض مع ما اتفق عليه المسلمون من اختصاص الخلود في جهنّم بالكفّار ، ولحل هذه المعضلة حمل بعضهم الخلود على المكث الطويل ، وبعضهم قال بعدم قبول توبته ، والبعض الآخر حمل قتل العمد على الاستحلال ، وبعد التحقيق في هذه الأقوال ثبت صحّة الوجه الثالث ، ويؤيّده ما روي من أن معنى قتل العمد هو أن يقتله لدينه الذي هو عين الاستحلال لا لسبب آخر ، فيكون القاتل في هذه الحالة كافراً ، فيستحقّ الخلود في النار.
أما المتعاملون بالربا فقد وعدهم القرآن الكريم أيضاً بالخلود في النار ، وواضح بأن الوعيد بالخلود في آية الربا مطلق بحيث يشمل الكفّار والمؤمنون معاً ، وعلى هذا فيترتب عليه نفس إشكال قتل العمد في كيفية شمول وعيد الخلود في النار للمؤمنين ، وأجيب بأن هذا الوعيد ليس لمطلق أكل الربا ، بل الأكل المقترن بالعود وعدم الانتهاء بعد التحريم الذي هو بمعنى الاستحلال الملازم للكفر ، ولهذا حمل جمهور المفسرين الآية على الآكل المستحل.
الهوامش
١. البقرة ، ٣٩.
٢. راجع : التغابن ، ١٠.
٣. الأعراف ، ٣٦.
٤. الاعراف ، ٤٠.
5. غافر ، ٧٠ ـ ٧٦.
6. النساء ، ١٦٧ ـ ١٦٩.
7. راجع : الجاثية ، ٣٥ ؛ طه ، ١٠٠ ، ١٠١ ؛ فاطر ، ٣٦ ، ٣٧.
8. النساء ، ٩٧ ـ ٩٩.
9. تفسير الميزان ، ج ٥ ، ص ٥١.
10. اصول الكافي ، ج ٢ ، ص ٤٠٤.
11. المصدر السابق ، ص ٤٠٥.
12. محمد بن مسعود العياشي ، تفسير العياشي ، ج ١ ، ص ٤٣٥.
13. التوبة ، ١٠٦.
14. راجع : تفسير الميزان ، ج ٩ ، ص ٣٨١.
15. مرتضى المطهري ، العدل الالهي ، ص ٣٧١.
16. اصول الكافي ، ج ٢ ، ص ٤٠٧.
17. تفسير العياشي ، ج ٢ ، ص ٢٦١.
18. المائدة ، ٧٢.
19. النساء ، ١١٦.
20. التوبة ، ١٧.
21. البينة ، ٦.
22. يوسف ، ١٠٦.
23. تفسير الميزان ، ج ١١ ، ص ٢٧٦.
24. علي بن ابراهيم القمي ، تفسير القمي ، ج ١ ، ص ٣٥٨.
25. تفسير العياشي ، ج ٢ ، ص ٣٧٣.
26. المصدر السابق ، ص ٣٧٤.
27. المصدر السابق ، ص ٣٧٢.
28. المنافقين ، ١.
29. المجادلة ، ١٤.
30. البقرة ، ٨ ، ٩.
31. البقرة ، ١١ ، ١٢.
32. البقرة ، ١٨.
33. المنافقون ، ٦.
34. التوبة ، ٦٨.
35. المنافقون ، ٤.
36. التوبة ، ٦٣.
37. المجادلة ، ١٧.
38. النساء ، ١٤٠.
39. اصول الكافي ، ج ٢ ، ص ٢٦٩.
40. المصدر السابق ، ص ٢٧٠.
41. المصدر السابق ، ص ٢٧١.
42. المصدر السابق.
43. البقرة ، ٨١.
44. يونس ، ٢٧.
45. الروم ، ١٠.
46. النساء ، ٩٣.
47. راجع : الدر المنثور ، ج ٢ ، ص ٦٣٠.
48. تفسير الكشاف ، ج ١ ، ص ٥٤٨ ، ٥٤٩.
49. تفسير المنار ، ج ٥ ، ص ٣٣٩ ، ٣٤٠.
50. تفسير العياشي ، ج ١ ، ص ٤٣١ ؛ وراجع : الشيخ الطوسي ، تهذيب الاحكام ، ج ١٠ ، ص ١٦٣.
51. النساء ، ٤٨.
52. مجمع البيان ، ج ٣ ، ص ٥٧.
53. تهذيب الاحكام ، ج ١٠ ، ص ١٦٥.
54. مجمع البيان ، ج ٣ ، ص ٩٣.
55. تهذيب الاحكام ، ج ١٠ ، ص ١٦٥.
56. مجمع البيان ، ج ٣ ، ص ٩٣.
57. المصدر السابق.
58. المصدر السابق.
59. تفسير المنار ، ج ٥ ، ص ٣٤١.
60. النساء ، ٤٨.
61. الزمر ، ٥٣.
62. راجع : تفسير الميزان ، ج ٥ ، ص ٤١.
63. راجع : تفسير الكبير ، ج ١٠ ، ص ٢٣٩.
64. تفسير المنار ، ج ٥ ، ص ٣٤١.
65. تفسير المراغي ، ج ٥ ، ص ١٢٤.
66. راجع : تفسير البيضاوي ، ج ٢ ، ص ٢٣٧ ؛ روح المعاني ، ج ٥ ، ص ١١٥.
67. راجع : تفسير البيضاوي ، ج ٢ ، ص ٢٣٦.
68. راجع : تفسير المراغي ، ج ٥ ، ١٢٥ ؛ تفسير البيضاوي ، ج ٢ ، ص ٢٣٦.
69. مجمع البيان ، ج ٣ ، ص ٩٣ ؛ وراجع : تفسير البيان ، ج ٣ ، ص ٢٩٤.
70. تفسير العياشي ، ج ١ ، ص ٤٣٠ ؛ وراجع : تهذيب الاحكام ، ج ١٠ ، ص ١٦٤.
71. مجمع البيان ، ج ٣ ، ص ٩٢ ؛ وراجع : تفسير البيضاوي ، ج ٢ ، ص ٢٣٦.
72. راجع : المحرر الوجيز في تفسير الكتاب العزيز ، ج ٢ ، ص ٩٥ ؛ تفسير القرآن الكريم ، ج ٤ ، ص ٣٤٤ ، ٣٤٥.
73. مجمع البيان ، ج ٣ ، ص ٩٠.
74. الدر المنثور ، ج ٢ ، ص ٦٣١.
75. راجع : تفسير القرآن الكريم ، ج ٤ ، ص ٣٥٧.
76. البقرة ، ٢٧٥.
77. تفسير الميزان ، ج ٢ ، ص ٤١٨.
78. راجع : تهذيب الاحكام ، ج ٢ ص ٣٦٢ ؛ مجمع البيان ، ج ٢ ، ص ٣٩٠ ؛ التفسير الكبير ، ج ٧ ، ص ١٠١ ؛ تفسير المنار ، ج ٣ ، ص ٩٨ ؛ روح المعاني ، ج ٣ ، ص ٥١ ؛ تفسير المبيضاوي ، ج ١ ، ص ٥٧٥.
مقتبس من كتاب الخلود في جهنّم
التعلیقات