الموت نافذة تطل على الحياة الجديدة
الشيخ جعفر السبحاني
منذ سنةالموت نافذة تطل على الحياة الجديدة
إنّ الموت حسب ما يصفه النبي صلّى الله عليه وآله وسلّم أوّل منزلٍ من منازل الآخرة وآخر منزل من منازل الدنيا ، فثمة مباحث لها صلة بالموت ، نطرحها في المقام واحداً تلو الآخر.
أ. الموت في اللغة والقرآن.
ب. هل الموت أمر عدمي ؟
ج. الموت سنّة عامة قطعية.
د. خوف الإنسان من الموت.
هـ. أقسام الموت في القرآن الكريم.
و. الموت والأجل المحتومان.
ز. التوبة والندامة قُبيل الموت أو حينه.
ح. الوصية حال الموت.
ط. سرّ جهل الناس بآجالهم.
ي. الموت والملائكة الموكّلون
فهذه مباحث عشرة نتناولها بالبحث على ضوء القرآن الكريم.
أ. الموت في اللغة والقرآن
الموت حسب ما يقوله صاحب المقاييس (1) ولسان العرب (2) عبارة عن ذهاب القوّة في الشيء. وبمناسبة هذا المعنى ، استعمل لفظ الموت في موارد كثيرة يظن انّها معاني مختلفة له ، بل الحقّ أنّ المعنىٰ واحد وهذه مصاديق لهذا الجامع ، ولو كانت هناك خصوصيات تميّز كلّ واحد عن الآخر ، فإنّما هي من لوازم تلك المصاديق لا من خصوصيات المعنى.
ولذلك يستعمله القرآن الكريم تارة في الأرض الجرداء القاحلة ويقول : ( وَآيَةٌ لَّهُمُ الْأَرْضُ الْمَيْتَةُ ). (3) وأُخرى في الأصنام الفاقدة للحركة ، ويقول : ( أَمْوَاتٌ غَيْرُ أَحْيَاءٍ ). (4) وثالثة في مراحل الخلقة التي يمرّ بها الإنسان قبل ولوج الروح ويقول : ( وَكُنتُمْ أَمْوَاتًا فَأَحْيَاكُمْ ). (5) ورابعة في الإنسان المنزوع عنه الروح ، قال سبحانه : ( ثُمَّ إِنَّكُم بَعْدَ ذَٰلِكَ لَمَيِّتُونَ ). (6) وهذه المراحل تشترك في المعنى الجامع للموت ، وهو ذهاب القوّة عن الشيء ، فيكون اللفظ مشتركاً معنوياً له مصاديق متنوعة.
ب. هل الموت أمر عدمي ؟
إذا كان المراد من الموت هي الحالة العارضة على الإنسان بعد نزع روحه وذهاب قواه فهو أمر عدمي بلا شك ، لأنّ مرجعه إلىٰ فقدان القوىٰ ، وهو أمر غير وجوديّ ، وعلى الرغم من ذلك إلّا أنّه يمكن تناول الموت من منظار آخر :
1. أخذ القوىٰ والطاقات ، فلا شكّ انّه أمر وجودي ، لأنّه فعل وحركة وإن كانت نتيجته عروض حالة عدمية على الإنسان.
2. الموت لا بما انّه نهاية الحياة الدنيوية بل بما انّه انتقال من مرحلة إلىٰ مرحلة أُخرى ، ومن حياة دانية إلىٰ حياة عالية ، فهو بهذا المعنى ليس أمراً عدميّاً ، قال علي عليه السلام : « أيّها الناس إنّا وإيّاكم خلقنا للبقاء لا للفناء ، لكنّكم من دار إلى دار تنقلون ». (7)
وقال الإمام الحسين سيّد الشهداء عليه السلام لأصحابه يوم عاشوراء عند ما رأى استعدادهم للتضحية والفداء في سبيل الحق وخاطبهم بقوله : « صبراً بني الكرام ، فما الموت إلّا قنطرة تعبر بكم عن البؤس والضرّاء إلى الجنان الواسع والنعيم الدائمة ، فأيّكم يكره أن ينتقل من سجن إلى قصر ؟ وما هو لأعدائكم إلّا كمن ينتقل من قصر إلى سجن وعذاب ، انّ أبي حدثني عن رسول الله صلّى الله عليه وآله وسلّم : انّ الدنيا سجن المؤمن وجنّة الكافر ، والموت جسر هؤلاء إلى جنانهم ، وجسر هؤلاء إلى جحيمهم ، ما كذبت ولا كُذبت ». (8)
3. ربما يضاف الموت إلى البدن وأُخرى إلى الروح ، ففي الإضافة الأُولى يكون الموت أمراً عدمياً ، لأنّ البدن يفقد الحركة والانتقال ، ولكنّه في الإضافة الثانية أمر وجودي ، وهو عبارة عن انتقاله من عالم إلى آخر ، ولا يفقد الروح شيئاً ، ولأجل ذلك نرى أنّ الموت أُضيف في القرآن إلى البدن دائماً لا إلى الروح.
إذا عرفت ذلك ، فنقول : إنّ القرآن يعدّ الموت مخلوقاً لله كالحياة ويقول : ( الَّذِي خَلَقَ الْمَوْتَ وَالْحَيَاةَ ) (9) ، والخلق والجعل لا يتعلّق بأمر عدمي وإنّما أُضيف إليه باعتبار بعض المعاني التي ذكرنا أنّ الموت فيها أمر وجودي.
وهناك وجه آخر لبيان تعلّق الجعل بالموت ، وهو أنّ الموت عبارة عن تقدير الحياة في النشأة الأُولى ، ونفس التقدير أمر وجودي ، قال سبحانه : ( نَحْنُ قَدَّرْنَا بَيْنَكُمُ الْمَوْتَ وَمَا نَحْنُ بِمَسْبُوقِينَ ). (10)
وأمّا تذييل الآية بقوله : ( وَمَا نَحْنُ بِمَسْبُوقِينَ ) لغرض بيان أنّ موت الإنسان ليس معلولاً لقدرة أُخرى حتى تسبق قدرةَ الله سبحانه ، وإنّما ذلك سنّة إلهية جارية في الأحياء ، فلم يُكتب علىٰ حيّ في هذه النشأة الخلود والدوام.
ج. الموت سنّة عامة قطعية
أثبتت العلوم الحديثة أنّ الكون يسير باتجاه موت حراري وشيخوخة يصطلح عليها في الفيزياء بالانتروبي.
يقول الدكتور « فرانك الن » : إنّ قوانين الديناميكا الحرارية تدل على أنّ مكوِّنات هذا العالم تفقد حرارتها تدريجياً ، وانّها سائرة حتماً إلى يوم تصير فيه جميع الأجسام تحت درجة من الحرارة البالغة الانخفاض هي الصفر المطلق ، ويومئذٍ تنعدم الطاقة وتستحيل الحياة ، ولا مناص من حدوث هذه الحالة من انعدام الطاقات عندما تصل درجة حرارة الأجسام إلى الصفر المطلق بمضي الوقت.
أمّا الشمس المستقرة والنجوم المتوهّجة والأرض الغنية بأنواع الحياة فكلّها دليل واضح علىٰ أنّ أصل الكون وأساسه يرتبط بزمان بدأ من لحظة معيّنة فهو أيضاً حدث من الأحداث. (11)
ويقول الدكتور « دونالد روبرت كار » : إنّ هذا الكون لا يمكن أن يكون أزليّاً ولو كان كذلك لما بقيت فيه أيّ عناصر إشعاعية. ويتفق هذا الرأي مع القانون الثاني للديناميكا الحرارية. (12)
أقول : إنّ هذا الأصل يثبت لنا أمرين :
الأوّل : حدوث المادة وكونها مسبوقة بالعدم كما أفاده الدكتور « دونالد » ، إذ لو كانت قديمة بلا أوّل لنفدت طاقاتها عبر القرون غير المتناهية ، لأنّ صرف القوىٰ المحدودة في زمان غير محدود ينتهي إلى نفاد القوى وعدم بقاء شيء منها ، فإذا رأينا بقاء المادة ونشاطها وتفجّر طاقاتها ، ننتقل إلى أنّها مسبوقة بالعدم ، وانّها وجدت في ظروف محدودة بنحو نفدت بعض طاقاتها.
الثاني : تقويض أُسس النظام السائد تحت غطاء نفاد الطاقات وتساوي الأجسام من حيث الفعل والانفعال والحرارة والبرودة ، والإنسان جزء من هذا النظام السائد فهو أيضاً مكتوب عليه الموت.
إنّ العلم الحديث وإن بادر إلىٰ مكافحة الموت وبذل الحياة للإنسان كي يعمّر طويلاً إلّا أنّ هذه المبادرة باءت بالفشل فلم يمكنه أن يهب للإنسان الحياة الخالدة لأنّه سيواجه الموت مهما عمّر ، لأنّ الموت سنّة إلهية قطعية ، وإلىٰ ذلك تشير الآيات والروايات :
1. ( أَيْنَمَا تَكُونُوا يُدْرِككُّمُ الْمَوْتُ وَلَوْ كُنتُمْ فِي بُرُوجٍ مُّشَيَّدَةٍ ). (13)
2. ( كُلُّ نَفْسٍ ذَائِقَةُ الْمَوْتِ ). (14)
3. ( وَمَا جَعَلْنَا لِبَشَرٍ مِّن قَبْلِكَ الْخُلْدَ أَفَإِن مِّتَّ فَهُمُ الْخَالِدُونَ ). (15)
وفي الأحاديث ما يدعم ذلك.
قال الإمام علي عليه السلام : « فلو انّ أحداً يجد إلى البقاء سُلّماً أو لدفع الموت سبيلاً ، لكان ذلك سليمان بن داود عليهما السلام الذي سُخّر له ملك الجن والإنس ». (16)
ويقول أيضاً في موضع آخر : « إنّ لله ملكاً ينادي في كلّ يوم : لِدُوا للموت ». (17)
د. خوف الإنسان من الموت
للإنسان حسب فطرته ، رغبة في الاستمرار في الحياة ، وهذا ممّا لا ينبغي الشكّ فيه ، لأنّ الرغبة إلى الحياة أمر جبلي ، ولعلها دليل علىٰ أنّ بعد الموت حياة أُخرى فيها تتحقق أُمنيّة الإنسان ولولاها لكانت تلك الرغبة في خلقته أمراً عبثاً سدىً.
والفلاسفة يستدلّون بوجود الرغبة في الحياة على وجود المرغوب إليه في الخارج.
بيد أنّ الناس أمام الموت على صنفين :
فصنف يتصوّر أنّ الموت نهاية الحياة ، ولذلك كلّ ما يسمع لفظة الموت يأخذه الحزن والأسىٰ ويتجسّد الموت أمامهم كأنّه غول ذو مخالب فتّاكة يريد أن يبطش بهم.
وآخر ممّن لا يستوحش من الموت ولا من سماعه ، لأنّه هو الذي وقف علىٰ حقيقة الحياة الدنيا ، وأنّ الموت ليس إلّا قنطرة إلى الحياة الأُخرىٰ ، ولذلك يستقبل الموت برحابة صدر ووجه مستبشر.
ثمّ إنّ الأسباب الكامنة من وراء الخوف من الموت أمران :
الأوّل : كون الموت خاتمة المطاف.
الثاني : الإيمان بالحشر والجزاء ، وانّ الناس مجزيّون بأعمالهم إن خيراً فخير ، وإن شراً فشر.
إنّ القرآن الكريم يصف حالة اليهود ويؤكد على أنّ خوفهم من الموت نجم من جرّاء الأمر الثاني ، ويقول : ( قُلْ إِن كَانَتْ لَكُمُ الدَّارُ الْآخِرَةُ عِندَ اللَّـهِ خَالِصَةً مِّن دُونِ النَّاسِ فَتَمَنَّوُا الْمَوْتَ إِن كُنتُمْ صَادِقِينَ * وَلَن يَتَمَنَّوْهُ أَبَدًا بِمَا قَدَّمَتْ أَيْدِيهِمْ وَاللَّـهُ عَلِيمٌ بِالظَّالِمِينَ ) (18) ، ويقول في سورة أُخرى : ( قُلْ يَا أَيُّهَا الَّذِينَ هَادُوا إِن زَعَمْتُمْ أَنَّكُمْ أَوْلِيَاءُ لِلَّـهِ مِن دُونِ النَّاسِ فَتَمَنَّوُا الْمَوْتَ إِن كُنتُمْ صَادِقِينَ * وَلَا يَتَمَنَّوْنَهُ أَبَدًا بِمَا قَدَّمَتْ أَيْدِيهِمْ وَاللَّـهُ عَلِيمٌ بِالظَّالِمِينَ ). (19)
وقد أشير في بعض الروايات إلىٰ سبب الخوف من الموت.
روى السكوني عن الإمام الصادق عليه السلام ، عن أبيه عليه السلام انّه قال : أتى النبي رجل فقال : ما لي لا أحب الموت ؟ فقال له صلّى الله عليه وآله وسلّم : « ألك مال ؟ » قال : نعم. قال : « فقدمته ؟ » ، قال : لا. فقال صلّى الله عليه وآله وسلّم : « فمن ثمّ لا تحب الموت ». (20)
وقد أشار الإمام في خطبه وكلمه إلى الأسباب الداعية إلى كراهة الموت ، يقول عليه السلام : « واعلموا أنّه ليس شيء إلّا ويكاد صاحبه يشبع منه ويملّه إلّا الحياة فانّه لا يجد في الموت راحة ». (21)
وقال عليه السلام : « ولا تكن ممّن يكره الموت لكثرة ذنوبه ». (22)
وقال رجل للحسن بن علي عليهما السلام : ما لنا نكره الموت ولا نحبّه ؟ فقال : « إنّكم أخربتم آخرتكم وعمّرتم دنياكم ، فأنتم تكرهون النقلة من العمران إلى الخراب ». (23)
قيل للإمام محمد بن علي بن موسى عليهم السلام : ما بال هؤلاء المسلمين يكرهون الموت ؟ قال : « لأنّهم جهلوه فكرهوه ، ولو عرفوه وكانوا من أولياء الله عزّوجلّ لأحبّوه ولعلموا أنّ الآخرة خير لهم من الدنيا ». (24)
والرواية تشير إلى السبب الأوّل وهو الجهل بحقيقة الموت وانّه انتقال من الحياة الدنيا إلى الحياة الأُخرى ، ولذلك نرى أنّ علياً عليه السلام يشتاق إلى الموت ويتحنّن إليه ، ويقول : « والله لابن أبي طالب آنس بالموت من الطفل بثدي أُمّه ». (25)
وفي خطبة أُخرى يقول عليه السلام : « فواللّه ما أُبالي دخلت إلى الموت أو خرج الموت إليّ ». (26)
هذه من خصائص الأولياء وميزاتهم ، حيث يستقبلون الموت بصدر رحب لأنّهم يرون الموت قنطرة من الحياة الدنيا إلى حياة طيبة ، يقول سبحانه : ( إِنَّ الَّذِينَ سَبَقَتْ لَهُم مِّنَّا الْحُسْنَىٰ أُولَـٰئِكَ عَنْهَا مُبْعَدُونَ * لَا يَسْمَعُونَ حَسِيسَهَا وَهُمْ فِي مَا اشْتَهَتْ أَنفُسُهُمْ خَالِدُونَ * لَا يَحْزُنُهُمُ الْفَزَعُ الْأَكْبَرُ وَتَتَلَقَّاهُمُ الْمَلَائِكَةُ هَـٰذَا يَوْمُكُمُ الَّذِي كُنتُمْ تُوعَدُونَ ). (27)
هـ. أقسام الموت في القرآن الكريم
إذا كان الموت انتقالاً من دار إلى دار ومن حياة ضيقة إلى حياة واسعة ،
فطبيعة الحال تقتضي أن لا يكون أمراً يسيراً بل يتزامن مع العسر والحرج ، وهذا
نظير انتقال الجنين من رحم الأُمّ الضيّق إلى الدنيا الواسعة ويتزامن هذا الانتقال
مع العسر.
نعم هذا العسر يكون مقدمة لحياة جديدة مرافقة لليسر.
وقد أشار الإمام الثامن عليهالسلام إلى المواقف التي يشهدها الإنسان مع الخوف
والوجل :
1. الولادة 2. الموت 3. البعث.
ولأجل المواقف العسيرة التي يواجهها الإنسان في هذه الأدوار الثلاثة نجد
أنّ الله سبحانه وعد يحيى عليهالسلام بالسلامة من كلّ مكروه في هذه المواقف ، قال
سبحانه : ( وَسَلَامٌ عَلَيْهِ يَوْمَ وُلِدَ وَيَوْمَ يَمُوتُ وَيَوْمَ يُبْعَثُ حَيًّا ). (1)
إذا عرفت ذلك فلنشرح أقسام الموت :
1. الموت العسير واليسير
إنّ حقيقة الموت ترجع ـ في الواقع ـ إلى نزع الروح من البدن مرفقاً بعسر
وحرج وضيق عند قاطبة الناس ويشتد خاصة عند من يواجه الموت مقترفاً
للذنوب يقول سبحانه : ( وَجَاءَتْ سَكْرَةُ الْمَوْتِ بِالْحَقِّ ذَٰلِكَ مَا كُنتَ مِنْهُ
تَحِيدُ ). (2)
_____________________
1. مريم : 15.
2. ق : 19.
وفي آية أُخرى : ( فَكَيْفَ إِذَا تَوَفَّتْهُمُ الْمَلَائِكَةُ يَضْرِبُونَ وُجُوهَهُمْ
وَأَدْبَارَهُمْ ). (1)
وفي مقابل هؤلاء المؤمنون المطيعون لأوامر ربّهم ونواهيه فهم يقابلون
بالسلام ، يقول سبحانه : ( الَّذِينَ تَتَوَفَّاهُمُ الْمَلَائِكَةُ طَيِّبِينَ يَقُولُونَ سَلَامٌ
عَلَيْكُمُ ). (2)
وفي آية ثانية يخاطب سبحانه النفس المطمئنّة ، بقوله : ( يَا أَيَّتُهَا النَّفْسُ
الْمُطْمَئِنَّةُ ارْجِعِي إِلَىٰ رَبِّكِ رَاضِيَةً مَّرْضِيَّةً ). (3)
وهذا التقسيم الذي تبنّاه الكتاب الإلهي من تقسيم الناس حين الموت إلى
من يبشر بالسوء والخير ، شائع في روايات أئمّة أهل البيت عليهمالسلام.
يقول الإمام الحسن عليهالسلام : « أعظم سرور يرد على المؤمنين إذا نقلوا عن دار
النكد إلى نعيم الأبد ». (4)
وقال الإمام علي بن الحسين عليهماالسلام : « الموت للمؤمن كنزع ثياب وسخة قملة
وفك قيود وأغلال ثقيلة ، والاستبدال بأفخر الثياب وأطيبها روائح وأوطئ المراكب
وآنس المنازل ؛ وللكافر كخلع ثياب فاخرة ، والنقل عن منازل أنيسة ، والاستبدال
بأوسخ الثياب وأخشنها ، وأوحش المنازل وأعظم العذاب ». (5)
إلى غير ذلك من الروايات.
_____________________
1. محمد : 27.
2. النحل : 32.
3. الفجر : 27 ـ 28.
4. البحار : 6 / 154.
5. البحار : 6 / 155.
2. موت البدن والقلب
قد ينسب الموت إلى البدن ، وأُخرى إلى القلب ، فإذا انقطعت علاقة الروح
بالبدن فهذا موت البدن ، ولكن إذا كانت العلاقة موجودة ولكن الإنسان بلغ من
التفكير والتعقّل درجة نازلة تلحقه بميت الأحياء ، ولذلك يعد سبحانه الفئة
المعاندة للإسلام أمواتاً ، ويقول : ( فَإِنَّكَ لَا تُسْمِعُ الْمَوْتَىٰ وَلَا تُسْمِعُ الصُّمَّ الدُّعَاءَ
إِذَا وَلَّوْا مُدْبِرِينَ ) (1) ، وقد ورد هذا المضمون في آيات أُخرى من الذكر الحكيم.
ويقول سبحانه : ( أَوَمَن كَانَ مَيْتًا فَأَحْيَيْنَاهُ وَجَعَلْنَا لَهُ نُورًا يَمْشِي بِهِ فِي
النَّاسِ كَمَن مَّثَلُهُ فِي الظُّلُمَاتِ لَيْسَ بِخَارِجٍ مِّنْهَا ). (2)
والمراد من « الميت » هو ميت القلب الغافل عن الحقائق والمعارف ، فإذا
أشرق نور الإسلام على قلبه صار حيّاً بحياة معنوية يمشي بنوره بين الناس ، فليس
هو كمن بقي في الظلمات ولا يستطيع الخروج منها.
ومن لطائف الكلام ما نلمسه في خطب الإمام أمير المؤمنين عليهالسلام حيث
يصف حياة المتخلفين عن الجهاد أمام أعدائهم موتاً ، كما يصف الشهادة في
ميادين الجهاد حياة ، ويقول عليهالسلام : « فالموت في حياتكم مقهورين والحياة في موتكم
قاهرين ». (3)
لأنّ الحياة المعنوية رهن آثار وأهمها الدفاع عن كيان الدين ودفع عادية
المعتدين ، فالطائفة الأُولى فقدوا هذه الخصيصة فكأنّهم ليسوا بأحياء بل أمواتٌ ،
بيد أنّ تلك الخصيصة متوفرة عند الطائفة الثانية فهم وإن ضُرّجوا بدمائهم في
_____________________
1. الروم : 52.
2. الأنعام : 122.
3. نهج البلاغة : الخطبة 51.
ساحات الوغىٰ ولكنّهم دافعوا عن كيان الإسلام فصانوا دينهم وديارهم
ونواميسهم.
ونظير ذلك تارك الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر ، الذي استولت الأنانية
عليه وغفل عن الآخرين فهو حيّ ظاهراً وميت حقيقةً ، إذ لا يشعر بأي مسؤولية
حيال إزالة المفاسد الاجتماعية التي تهدِّد المجتمع.
يقول الإمام أمير المؤمنين عليهالسلام : « ومنهم تارك لإنكار المنكر بلسانه وقلبه
ويده فذلك ميت الأحياء ». (1)
ويقول أيضاً فيمن يهتمُّ بحياة البدن دون القلب : « يرون أهل الدنيا
يعظمون موت أجسادهم وهم أشدّ إعظاماً لموت قلوب أحيائهم ». (2)
3. موت الإنسان والمجتمع
يصف علماء الاجتماع المجتمع تارة بالطفولة ، وأُخرى بالريعان والنضج ،
وثالثة بالانحطاط والهرم وفقاً للحالات الطارئة على الإنسان من طفولة إلى ريعان
الشباب ثمّ الشيخوخة والهرم.
فالإنسان في مرحلة الطفولة تكمن فيه استعدادات وقابليات مختلفة ، فإذا
اجتاز تلك المرحلة تتفجر طاقاته الكامنة رويداً رويداً حتى يبلغ مرحلة الشباب
ثمّ يجتاز تلك المرحلة إلىٰ مرحلة الشيخوخة فتنهار قواه وتأخذ بالضعف ، وهكذا
المجتمع.
وهناك تقسيم آخر وهو :
إنّ الإنسان من حين ولادته إلىٰ أن يبلغ مرحلة شبابه تتكامل شخصيته
_____________________
1. نهج البلاغة : قسم الحكم ، برقم 374.
2. نهج البلاغة : الخطبة 230.
شيئاً فشيئاً ، فإذا اشتدّت قواه ، يبدأ باستغلالها بغية نيل الأموال والمناصب وغيرها ،
وكلّما تقدم في العمر يزداد حرصاً وطمعاً فإذا اجتاز تلك المرحلة ودخل مرحلة
الهرم فيشرع بحفظ ما جمعه وبلغت إليه يده من الأموال والثروات إلى أن يبلغ
أجله.
فالمرحلة الأُولىٰ : مرحلة التكوين ، والثانية : مرحلة الهجوم ، والثالثة : مرحلة
التدافع ؛ والرابعة : مرحلة الانقراض ، وهكذا المجتمع في مراحله الأربع.
فالحضارات الإنسانية ، مرَّت بتلك المراحل إلىٰ أن اضمحلّت واندثرت.
يقول سبحانه : ( وَلِكُلِّ أُمَّةٍ أَجَلٌ فَإِذَا جَاءَ أَجَلُهُمْ لَا يَسْتَأْخِرُونَ سَاعَةً وَلَا
يَسْتَقْدِمُونَ ) (1) فيعد للأُمة حياةً وأجلاً.
عوامل أُفول الحضارات
إنّ بزوغ نجم الحضارات وأُفولها من السنن القطعية الإلهية فلا تدوم حضارة
عبر القرون والدهور بل تتبعها حضارة أُخرى وهكذا.
نعم هذا البزوغ والأُفول رهن عوامل داخلية وخارجية وليس أمراً اعتباطياً ،
يقول سبحانه : ( وَلَوْ أَنَّ أَهْلَ الْقُرَىٰ آمَنُوا وَاتَّقَوْا لَفَتَحْنَا عَلَيْهِم بَرَكَاتٍ مِّنَ السَّمَاءِ
وَالْأَرْضِ وَلَـٰكِن كَذَّبُوا فَأَخَذْنَاهُم بِمَا كَانُوا يَكْسِبُونَ ). (2)
إنّ اضمحلال الحضارة واندثارها ناجم عن عوامل كثيرة أهمها تفشي
الظلم في المجتمعات وغياب العدالة الاجتماعية في حياتها ، وهذا بمرور الزمان
يستفحل شيئاً فشيئاً حتى يصل مرحلة لا يطيقها المجتمع فيؤول إلىٰ عصيان عام
_____________________
1. الأعراف : 34.
2. الأعراف : 96.
يؤدي إلىٰ سقوط الحضارة ، يقول سبحانه : ( وَمَا كَانَ رَبُّكَ لِيُهْلِكَ الْقُرَىٰ بِظُلْمٍ
وَأَهْلُهَا مُصْلِحُونَ ) (1) ، ويقول في آية أُخرى : ( وَإِذَا أَرَدْنَا أَن نُّهْلِكَ قَرْيَةً أَمَرْنَا
مُتْرَفِيهَا فَفَسَقُوا فِيهَا فَحَقَّ عَلَيْهَا الْقَوْلُ فَدَمَّرْنَاهَا تَدْمِيرًا وَكَمْ أَهْلَكْنَا مِنَ الْقُرُونِ
مِن بَعْدِ نُوحٍ وَكَفَىٰ بِرَبِّكَ بِذُنُوبِ عِبَادِهِ خَبِيرًا بَصِيرًا ). (2)
فقد عدّت الآية الأُولى والثانية الظلم والفسق وارتكاب الذنوب من
أسباب انهيار الحضارات وزوالها ، ووجهه واضح ، لأنّ الفسق والزنا وأكل الأموال
بالباطل والغش والسرقة ، طغيانٌ على الفطرة السليمة وخروجٌ عليها ، ومعه ينفصم
عرى الحضارة الإنسانية. فضلاً عن بثِّ العداوة والبغضاء في القلوب.
نعم هناك ذنوب تترك آثاراً سلبية في المجتمع ، وإن لم نقف على الصلة
بينها ، فقد ورد في الحديث : انّه إذا كثر الزنا ، كثر موت الفجأة. وهناك صلة بين
الأمرين وإن لم تثبته العلوم الحديثة.
وأمّا تأثير الظلم وبعض الذنوب التي تخالف الفطرة كالزنا واللواط وجمع
الأموال بالباطل فهو واضح حسب المعايير الاجتماعية كما ذكرناه.
4. الموت المشرّف
إنّ بعض أنواع الموت يعد مشرّفاً في حدّ ذاته ، وهذا كالموت في سبيل طلب
العلم وإقامة العدل وغير ذلك من الأهداف السامية ، ولذلك يعد سبحانه هؤلاء
أحياءً لا أمواتاً ويقول : ( وَلَا تَقُولُوا لِمَن يُقْتَلُ فِي سَبِيلِ الله أَمْوَاتٌ بَلْ أَحْيَاءٌ وَلَـٰكِن
لَّا تَشْعُرُونَ ). (3)
_____________________
1. هود : 117.
2. الإسراء : 16 ـ 17.
3. البقرة : 154.
كما أنّه سبحانه يعد من مات في سبيل العلم مجاهداً مأجوراً عند الله ، يقول
سبحانه : ( وَمَن يَخْرُجْ مِن بَيْتِهِ مُهَاجِرًا إِلَى اللَّـهِ وَرَسُولِهِ ثُمَّ يُدْرِكْهُ الْمَوْتُ فَقَدْ وَقَعَ
أَجْرُهُ عَلَى اللَّـهِ ). (1)
و. الموت والأجل المحتوم
القرآن الكريم يقسّم الأجل إلى أجل مطلق وأجل مسمّىٰ ، ويقول : ( هُوَ
الَّذِي خَلَقَكُم مِّن طِينٍ ثُمَّ قَضَىٰ أَجَلًا وَأَجَلٌ مُّسَمًّى عِندَهُ ). (2)
كما أنّه يصرّح بأنّ للشمس والقمر أجلاً مسمّىٰ ، يقول : ( وَسَخَّرَ الشَّمْسَ
وَالْقَمَرَ كُلٌّ يَجْرِي لِأَجَلٍ مُّسَمًّى ) (3). إلى غير ذلك من الآيات الناصة على الأجل
المطلق والمسمّى.
وقد بسط المفسرون الكلام في تفسير الأجلين ، ولكن الذي نفهمه من
الآيات هو أنّه سبحانه جعل لكلّ شيء أجلاً طبيعياً بمعنىٰ قابليته لأن ينتهي
إليه ، ولكن ربّما تعوق المعوِّقات عن بلوغ ذلك الأمد ، وهذا كالإنسان فله استعداد
أن يحيىٰ 120 سنة ولكن الظروف البيئية ربما تحول دون ذلك ، فالمقدّر لكلّ شيء
حسب طبيعته هو الأجل المطلق وأمّا ما ينتهي إليه مصير الشيء ، فهو يختلف ،
فتارة ينقص عن الأجل المطلق لأجل عوائق تحول بينه وبين الأجل المطلق ،
وأُخرىٰ يجتازه ويعمر أكثر من العمر الطبيعي لأجل توفّر عوامل بيئية ونفسية
مناسبة.
وهذا التقسيم أيضاً جار في الصنائع ، فلكلّ مصنوع عمر محدد مفيد ، ولكنّه
_____________________
1. النساء : 100.
2. الأنعام : 2.
3. فاطر : 13.
ربّما يواجه ظروفاً وعوامل خاصّة تنقص من ذلك العمر المفيد ، كما أنّه ربما يجتازه
لأجل رعاية الأساليب الفنية في استخدام ذلك المصنوع.
ز. التوبة والندامة قبيل الموت أو حينه
الموت يلازم رفع الحجب المادية عن البصر ، فيرى الإنسان المحتضر مصيره
بأُمِّ عينيه ، فالصالحون يرون روحاً وريحاناً وحياة فيستقبلون الموت بوجوه مشرقة
وصدور رحبة ، وأمّا الظالمون المستكبرون فيلمسون حياة مريرة تعانق الآلام
والنيران فيحاولون جهد إمكانهم أن يدّاركوا ما اقترفوه من الآثام بالتوبة والندامة
ليتخلّصوا بذلك من العذاب الأليم ، ولات حين مناص ، فلا تنفع الندامة لأنّ
الهدف من التوبة هو طهارة الروح من أدران المعصية والآثام وهذه الأمنية رهن
صدور التوبة عن اختياره ورغبته إلى الطهارة ، وهذا غير متحقق في حال
الاحتضار ، لأنّه يتوب ويندم بلا اختيار.
وبعبارة أُخرى : التائب إنّما تقبل توبته إذا كان أمامه طريقان فينتخب
الطريق الحقّ باختياره ، وهذا إنّما يتيسر له ذلك في ثنايا حياته لا في حال
الاحتضار الذي يسلب عنه اختياره ، ولذلك يقول سبحانه : ( وَلَيْسَتِ التَّوْبَةُ
لِلَّذِينَ يَعْمَلُونَ السَّيِّئَاتِ حَتَّىٰ إِذَا حَضَرَ أَحَدَهُمُ الْمَوْتُ قَالَ إِنِّي تُبْتُ الْآنَ ) (1) وفي
آية أُخرى : ( حَتَّىٰ إِذَا جَاءَ أَحَدَهُمُ الْمَوْتُ قَالَ رَبِّ ارْجِعُونِ لَعَلِّي أَعْمَلُ صَالِحًا
فِيمَا تَرَكْتُ كَلَّا إِنَّهَا كَلِمَةٌ هُوَ قَائِلُهَا وَمِن وَرَائِهِم بَرْزَخٌ إِلَىٰ يَوْمِ يُبْعَثُونَ ). (2)
إنّ فرعون مصر لما كاد أن يغرق ، ورأى مصيره المرير حاول أن يتوب ويظهر
إيمانه بربّ موسى ولكنّه جُوبه بالرفض والاستنكار ، قال سبحانه : ( حَتَّىٰ إِذَا أَدْرَكَهُ
_____________________
1. النساء : 18.
2. المؤمنون : 99 ـ 100.
الْغَرَقُ قَالَ آمَنتُ أَنَّهُ لَا إِلَـٰهَ إِلَّا الَّذِي آمَنَتْ بِهِ بَنُو إِسْرَائِيلَ وَأَنَا مِنَ الْمُسْلِمِينَ
آلْآنَ وَقَدْ عَصَيْتَ قَبْلُ وَكُنتَ مِنَ الْمُفْسِدِينَ ). (1)
وليست هذه خصيصة فرعون فحسب ، بل الأُمم الغابرة الغارقة في الفساد
حاولوا ردّ العذاب بالتوبة بعد ما نالوا من الأنبياء والمصلحين وسخروا منهم فلم
تغن عنهم توبتهم في شيء قال سبحانه : ( فَلَمَّا رَأَوْا بَأْسَنَا قَالُوا آمَنَّا بِاللَّـهِ وَحْدَهُ
وَكَفَرْنَا بِمَا كُنَّا بِهِ مُشْرِكِينَ فَلَمْ يَكُ يَنفَعُهُمْ إِيمَانُهُمْ لَمَّا رَأَوْا بَأْسَنَا سُنَّتَ اللَّـهِ الَّتِي
قَدْ خَلَتْ فِي عِبَادِهِ وَخَسِرَ هُنَالِكَ الْكَافِرُونَ ). (2)
والإمام أمير المؤمنين عليهالسلام يصف بعض الظالمين الذين يواجهون أنواع
العذاب حين الموت ويقول : « فهو يعضُّ يده ندامة علىٰ ما أضمر له عند الموت
من أمره ». (3)
وقد علم من كلّ ذلك أنّ رفض توبة الإنسان في تلك الحالة لا يدل على
عدم سعة رحمته ، لما عرفت من أنّ قبول التوبة فرع سموِّ الإنسان عن اقتراف
الذنوب الذي يلازم الاختيار ، وهذا غير متحقّق حين الموت.
ح. الوصية في حال الموت
يُستحب للإنسان في جميع الأحوال أن يوصي بما عليه من الديون والحقوق
لا سيما إذا حضره الموت ، يقول سبحانه : ( كُتِبَ عَلَيْكُمْ إِذَا حَضَرَ أَحَدَكُمُ الْمَوْتُ
إِن تَرَكَ خَيْرًا الْوَصِيَّةُ لِلْوَالِدَيْنِ وَالْأَقْرَبِينَ بِالْمَعْرُوفِ حَقًّا عَلَى الْمُتَّقِينَ ). (4)
_____________________
1. يونس : 90 ـ 91.
2. غافر : 84 ـ 85.
3. نهج البلاغة : الخطبة 109.
4. البقرة : 180.
ومن الواضح أنّ هذه اللحظة هي آخر ما يتمكن الإنسان من الوصية
والأَولىٰ أن يقدّمها على الاحتضار سواء أكان شاباً أم هرماً ، قال علي عليهالسلام : « ما
ينبغي لامرئ أن يبيت ليلة إلّا ووصيته تحت رأسه ». (1)
ويستحب أن يشهد على الوصية عدلان ، قال سبحانه : ( يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا
شَهَادَةُ بَيْنِكُمْ إِذَا حَضَرَ أَحَدَكُمُ الْمَوْتُ حِينَ الْوَصِيَّةِ اثْنَانِ ذَوَا عَدْلٍ مِّنكُمْ أَوْ آخَرَانِ
مِنْ غَيْرِكُمْ إِنْ أَنتُمْ ضَرَبْتُمْ فِي الْأَرْضِ فَأَصَابَتْكُم مُّصِيبَةُ الْمَوْتِ ). (2)
فالآية ترغِّب إلى شهادة عدلين من المسلمين إذا أمكن ، وإلّا فليشهد من
غير المسلمين من أهل الكتاب كما إذا كان الموصي ضارباً في الأرض ولم يجد من
نحلته من يُشهده علىٰ وصيته فعليه أن يُشهد من غيرهم ، وما هذا إلّا لأجل أن
يوصد باب الأعذار على ورثة الميت ويقطع دابر الحيل التي ربما تحول دون تنفيذ
الوصية.
ط. جهل الإنسان بموته
إنّ حبّ البقاء من الأُمور التي جبل الإنسان عليها ، ولو سلب عنه ذلك
الحب لأُطفئت جذوة حياته ، فحبّ البقاء مصباح منير لحياته ، كما أنّ اليأس من
الحياة ظلام دامس لها ؛ روي عن النبي صلىاللهعليهوآلهوسلم ، انّه قال : « الأمل رحمة لأُمّتي ولولا الأمل
ما رضعت والدة ولدها ، ولا غرس غارس شجرة ». (3)
ولو كان الإنسان مطلعاً على زمان موته ومكانه لاستولىٰ عليه الحزن واليأس
قبل أن يموت بسنين ، وربما يموت قبل أجله المقرر ، ولذلك يعد الجهل بزمان موته
_____________________
1. وسائل الشيعة : 13 ، كتاب الوصايا ، باب 1 ، حديث 7.
2. المائدة : 106.
3. سفينة البحار : مادة أمل.
من علل بقاء حياته ونشاطه ، ولذلك ستر سبحانه علم هذا الموضوع عن الناس
إلّا في موارد خاصة لملاكات كذلك.
على أنّ لهذا الجهل أثراً تربوياً ، فانّ الرجوع إلى الله سبحانه والتوبة من
المعاصي مع الرجاء بالبقاء أفضل من التوبة والرجوع إليه عند اقتراب أجله وقبل
إطفاء مصباح حياته.
نعم ربما يكون الجهل بالموت سبباً للغرور والاغترار حيث إنّ المغتر يزعم انّه
سيعيش عمراً طويلاً ، ولكنّه يرى موته أمراً بعيداً ، فيقترف المعاصي في شبابه علىٰ
أمل أن يتوب منها في هرمه ، ولكنّه في الوقت نفسه عامل تربوي للحد من الغرور
لأنّه يحتمل أن يكون قد اقترب أجله ويكون هو على مقربة من الموت.
ولهذه الوجوه ستر سبحانه علمه عن الناس وقال : ( وَمَا تَدْرِي نَفْسٌ بِأَيِّ
أَرْضٍ تَمُوتُ ). (1)
ويدل على ذلك ما دلّ من الآيات على أنّ الأجل المسمّى عنده ، وهو يلازم
جهل الإنسان بموته لانحصار علمه بالله سبحانه
ي. الموت والملائكة الموكّلون
إنّ من مراتب التوحيد حصر التدبير في الله سبحانه ، وانّه لا مدبّر إلّا هو
ولو كانت الشمس مشرقة والقمر منيراً وغيرهما من العوامل الطبيعية ذات الآثار
الخاصة فإنّما هو بأمره سبحانه ، كما يقول : ( أَلَا لَهُ الْخَلْقُ وَالْأَمْرُ تَبَارَكَ اللَّـهُ رَبُّ
الْعَالَمِينَ ). (2)
_____________________
1. لقمان : 34.
2. الأعراف : 54.
ولكن الإيمان بحصر التدبير في الله لا ينافي وجود عوامل أُخرى مؤثرة تدبر
الكون ، بأمر من الله سبحانه ، فانّ هذا التدبير الظلي التبعي في طول تدبير الله
سبحانه ، ولأجل ذلك ينسب الله تعالى توفّي الأنفس إليه ويقول : ( اللَّـهُ يَتَوَفَّى
الْأَنفُسَ حِينَ مَوْتِهَا ) (1) ، ولكنّه في الوقت نفسه ينسبه إلى الملائكة تارة وملك
الموت أُخرى ، ويقول : ( الَّذِينَ تَتَوَفَّاهُمُ الْمَلَائِكَةُ ) (2) ويقول سبحانه : ( قُلْ
يَتَوَفَّاكُم مَّلَكُ الْمَوْتِ الَّذِي وُكِّلَ بِكُمْ ثُمَّ إِلَىٰ رَبِّكُمْ تُرْجَعُونَ ). (3)
فهناك فعل واحد نسب إلى فواعل ثلاثة ، تارة إلى الله ، وأُخرى إلى الملائكة ،
وثالثة إلى ملك الموت ، فالفعل واحد والفواعل متعددة ، لأنّ فعل الجميع هو فعل
الله سبحانه بالتسبيب.
وترى نظير ذلك في قوله سبحانه : ( وَاللَّـهُ يَكْتُبُ مَا يُبَيِّتُونَ ) (4) حيث ينسب
الكتابة إلى الله ، وفي آية أُخرى ينسبها إلى الرسل ، ويقول : ( أَمْ يَحْسَبُونَ أَنَّا لَا
نَسْمَعُ سِرَّهُمْ وَنَجْوَاهُم بَلَىٰ وَرُسُلُنَا لَدَيْهِمْ يَكْتُبُونَ ). (5)
وتتجلّى تلك الحقيقة في الآيات التالية الواردة في الموت والحياة ، يقول
سبحانه : ( إِنَّ اللَّـهَ لَهُ مُلْكُ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ يُحْيِي وَيُمِيتُ وَمَا لَكُم مِّن دُونِ اللَّـهِ
مِن وَلِيٍّ وَلَا نَصِيرٍ ) (6) ، ويقول : ( وَأَنَّهُ هُوَ أَمَاتَ وَأَحْيَا ) (7).
ويقول أيضاً : ( نَحْنُ قَدَّرْنَا بَيْنَكُمُ الْمَوْتَ وَمَا نَحْنُ بِمَسْبُوقِينَ ) (8).
_____________________
1. الزمر : 42.
2. النحل : 28.
3. السجدة : 11.
4. النساء : 81.
5. الزخرف : 80.
6. التوبة : 116.
7. النجم : 44.
8. الواقعة : 60.
إلى غير ذلك من الآيات التي تعد الإماتة والإحياء فعلاً لله سبحانه ، وفي
الوقت نفسه تعدّهما فعلاً لغيره ، ويقول : ( حَتَّىٰ إِذَا جَاءَ أَحَدَكُمُ الْمَوْتُ تَوَفَّتْهُ
رُسُلُنَا وَهُمْ لَا يُفَرِّطُونَ ). (1)
نعم تجعل بعض الآيات زمام الموت والحياة بيد الملائكة الموكّلين ، وما هذا
إلّا لأنّ عملهم عمله سبحانه.
نعم الذي لا يمكن أن ينكر انّ الذكر الحكيم يركّز على أنّ ما في الكون أثر
فعله سبحانه تكريساً للتوحيد في الربوبية.
_____________________
1. الأنعام : 61.
الهوامش
1. مقاييس اللغة : 5 / 283.
2. لسان العرب : 2 / 90.
3. يس : 33.
4. النحل : 21.
5. البقرة : 28.
6. المؤمنون : 15.
7. الإرشاد للمفيد : 127.
8. البحار : 6 / 154.
9. الملك : 2.
10. الواقعة : 60.
11. الله يتجلىٰ في عصر العلم : 27 و 85.
12. الله يتجلىٰ في عصر العلم : 27 و 85.
13. النساء : 78.
14. آل عمران : 185.
15. الأنبياء : 34.
16. نهج البلاغة : الخطبة 182.
17. نهج البلاغة : من كلماته القصار ، برقم 132.
18. البقرة : 94 ـ 95.
19. الجمعة : 6 ـ 7.
20. البحار : 6 / 127.
21. نهج البلاغة : الخطبة 129 ، ط عبده.
22. نهج البلاغة : قسم الحكم برقم 150.
23. البحار : 6 / 129.
24. معاني الأخبار : 209.
25. نهج البلاغة : الخطبة 5.
26. نهج البلاغة : الخطبة 55.
27. الأنبياء : 101 ـ 103.
مقتبس من كتاب : مفاهيم القرآن / المجلّد : 8 / الصفحة : 157 ـ 177
التعلیقات