المسيح عليه السلام وأمّه في القرآن الكريم
علي الشيخ
منذ 9 سنواتقصة المسيح عليه السلام وأمّه في القرآن الكريم
يحكي القرآن الكريم قصة المسيح عليه السلام وأمّه بشكل مختلف عمّا نقلته كتب العهد الجديد ، فالقرآن يبدء القصّة بذكر امرأة عمران ـ والدة مريم ـ فيذكر قصّة حملها بمريم ونذر ما في بطنها ليكون خادماً للمسجد فقال تعالى : ( إِذْ قَالَتِ امْرَأَتُ عِمْرَانَ رَبِّ إِنِّي نَذَرْتُ لَكَ مَا فِي بَطْنِي مُحَرَّرًا فَتَقَبَّلْ مِنِّي إِنَّكَ أَنتَ السَّمِيعُ الْعَلِيمُ * فَلَمَّا وَضَعَتْهَا قَالَتْ رَبِّ إِنِّي وَضَعْتُهَا أُنثَىٰ وَاللَّـهُ أَعْلَمُ بِمَا وَضَعَتْ وَلَيْسَ الذَّكَرُ كَالْأُنثَىٰ وَإِنِّي سَمَّيْتُهَا مَرْيَمَ وَإِنِّي أُعِيذُهَا بِكَ وَذُرِّيَّتَهَا مِنَ الشَّيْطَانِ الرَّجِيمِ ) (1) فتقبّل الله سبحانه وتعالى نذرها هذا ، وبعد ولادتها أتت بها إلى المعبد وسلّمتها للكهنة وكان بينهم زكريّا عليه السلام فاختلفوا فيما بينهم أيّهم يكفّلها ، فاتّفقوا على القرعة ، فكانت من نصيب النبي زكريّا عليه السلام فكفّلها حتّى إذا نبتت وبلغت ضرب لها من دونهم حجاباً تعبد الله سبحانه ، لا يدخل عليها المحراب إلّا زكريّا فيقول سبحانه : ( فَتَقَبَّلَهَا رَبُّهَا بِقَبُولٍ حَسَنٍ وَأَنبَتَهَا نَبَاتًا حَسَنًا وَكَفَّلَهَا زَكَرِيَّا كُلَّمَا دَخَلَ عَلَيْهَا زَكَرِيَّا الْمِحْرَابَ وَجَدَ عِندَهَا رِزْقًا قَالَ يَا مَرْيَمُ أَنَّىٰ لَكِ هَـٰذَا قَالَتْ هُوَ مِنْ عِندِ اللَّـهِ إِنَّ اللَّـهَ يَرْزُقُ مَن يَشَاءُ بِغَيْرِ حِسَابٍ ) (2).
ثمّ إنّ الله تعالى بشّرها بولادة عيسى المسيح عليه السلام حيث أرسل الملاك إليها وهي محتجّبة وقد تمثّل لها بشراً فبلغها البشارة بأنّ الله سبحانه يهب لها طفلاً مباركاً يكون رسولاً إلى بني إسرائيل وأخبرها بمنزلته العظيمة عند الله ، ثمّ نفخ فيها فحملت مريم عليها السلام بالمسيح عليه السلام حمل المرأة بولدها والقصّة كما يذكرها القرآن هي :
( وَاذْكُرْ فِي الْكِتَابِ مَرْيَمَ إِذِ انتَبَذَتْ مِنْ أَهْلِهَا مَكَانًا شَرْقِيًّا * فَاتَّخَذَتْ مِن دُونِهِمْ حِجَابًا فَأَرْسَلْنَا إِلَيْهَا رُوحَنَا فَتَمَثَّلَ لَهَا بَشَرًا سَوِيًّا * قَالَتْ إِنِّي أَعُوذُ بِالرَّحْمَـٰنِ مِنكَ إِن كُنتَ تَقِيًّا * قَالَ إِنَّمَا أَنَا رَسُولُ رَبِّكِ لِأَهَبَ لَكِ غُلَامًا زَكِيًّا * قَالَتْ أَنَّىٰ يَكُونُ لِي غُلَامٌ وَلَمْ يَمْسَسْنِي بَشَرٌ وَلَمْ أَكُ بَغِيًّا * قَالَ كَذَٰلِكِ قَالَ رَبُّكِ هُوَ عَلَيَّ هَيِّنٌ وَلِنَجْعَلَهُ آيَةً لِّلنَّاسِ وَرَحْمَةً مِّنَّا وَكَانَ أَمْرًا مَّقْضِيًّا ) (3) ثمّ حان موعد الولادة المباركة فجاءها المخاض إلى جذع النخلة وهناك وضعت عيسى عليه السلام ويذكر القرآن أوّل معاجزه عليه السلام حيث كلّم والدته في أوّل يوم ولادته حيث يذكر القرآن قصّة الولادة بقوله تعالى : ( فَحَمَلَتْهُ فَانتَبَذَتْ بِهِ مَكَانًا قَصِيًّا * أَجَاءَهَا الْمَخَاضُ إِلَىٰ جِذْعِ النَّخْلَةِ قَالَتْ يَا لَيْتَنِي مِتُّ قَبْلَ هَـٰذَا وَكُنتُ نَسْيًا مَّنسِيًّا * فَنَادَاهَا مِن تَحْتِهَا أَلَّا تَحْزَنِي قَدْ جَعَلَ رَبُّكِ تَحْتَكِ سَرِيًّا * وَهُزِّي إِلَيْكِ بِجِذْعِ النَّخْلَةِ تُسَاقِطْ عَلَيْكِ رُطَبًا جَنِيًّا * فَكُلِي وَاشْرَبِي وَقَرِّي عَيْنًا فَإِمَّا تَرَيِنَّ مِنَ الْبَشَرِ أَحَدًا فَقُولِي إِنِّي نَذَرْتُ لِلرَّحْمَـٰنِ صَوْمًا فَلَنْ أُكَلِّمَ الْيَوْمَ إِنسِيًّا ) (4).
ثمّ يقص القرآن كيف أنّ مريم العذراء عليها السلام جاءت بالمسيح عليه السلام إلى قومها فلمّا رأوها والطفل معها ثاروا عليها بالطعن واللوم فسكتت وأشارت إليه عليه السلام أن كلّموه فتعجّبوا من ذلك إذ كيف يمكن التكلّم مع طفل ما زال في المهد فنطق الطفل المعجزة بكلام رائع إذ يحكي القرآن هذا الموقف بقوله تعالى : ( فَأَتَتْ بِهِ قَوْمَهَا تَحْمِلُهُ قَالُوا يَا مَرْيَمُ لَقَدْ جِئْتِ شَيْئًا فَرِيًّا * يَا أُخْتَ هَارُونَ مَا كَانَ أَبُوكِ امْرَأَ سَوْءٍ وَمَا كَانَتْ أُمُّكِ بَغِيًّا * فَأَشَارَتْ إِلَيْهِ قَالُوا كَيْفَ نُكَلِّمُ مَن كَانَ فِي الْمَهْدِ صَبِيًّا * قَالَ إِنِّي عَبْدُ اللَّـهِ آتَانِيَ الْكِتَابَ وَجَعَلَنِي نَبِيًّا * وَجَعَلَنِي مُبَارَكًا أَيْنَ مَا كُنتُ وَأَوْصَانِي بِالصَّلَاةِ وَالزَّكَاةِ مَا دُمْتُ حَيًّا * وَبَرًّا بِوَالِدَتِي وَلَمْ يَجْعَلْنِي جَبَّارًا شَقِيًّا * وَالسَّلَامُ عَلَيَّ يَوْمَ وُلِدتُّ وَيَوْمَ أَمُوتُ وَيَوْمَ أُبْعَثُ حَيًّا ) (5).
ثمّ نشأ عيسى عليه السلام وشب وكان وأمّه على العادة الجارية في الحياة الدنيويّة الطبيعيّة للبشر ، يأكلان ويشربان وفيهما ما في سائر الناس من عوارض الوجود إلى آخر عمرهما. ثمّ أنّ عيسى عليه السلام أرسل إلى بني إسرائيل فقام يدعوهم إلى دين التوحيد ، وكان يدعوهم إلى الشريعة الجديدة المطابقة لشريعة موسى عليه السلام إلّا أنّه نسخ بعض ما حرّم في التوراة تشديداً على اليهود ، وقد جاء ببيّنات ومعاجز كثيرة يذكرها القرآن وذلك في قوله تعالى : ( وَرَسُولًا إِلَىٰ بَنِي إِسْرَائِيلَ أَنِّي قَدْ جِئْتُكُم بِآيَةٍ مِّن رَّبِّكُمْ أَنِّي أَخْلُقُ لَكُم مِّنَ الطِّينِ كَهَيْئَةِ الطَّيْرِ فَأَنفُخُ فِيهِ فَيَكُونُ طَيْرًا بِإِذْنِ اللَّـهِ وَأُبْرِئُ الْأَكْمَهَ وَالْأَبْرَصَ وَأُحْيِي الْمَوْتَىٰ بِإِذْنِ اللَّـهِ ۖ وَأُنَبِّئُكُم بِمَا تَأْكُلُونَ وَمَا تَدَّخِرُونَ فِي بُيُوتِكُمْ إِنَّ فِي ذَٰلِكَ لَآيَةً لَّكُمْ إِن كُنتُم مُّؤْمِنِينَ * وَمُصَدِّقًا لِّمَا بَيْنَ يَدَيَّ مِنَ التَّوْرَاةِ وَلِأُحِلَّ لَكُم بَعْضَ الَّذِي حُرِّمَ عَلَيْكُمْ ۚ وَجِئْتُكُم بِآيَةٍ مِّن رَّبِّكُمْ فَاتَّقُوا اللَّـهَ وَأَطِيعُونِ * إِنَّ اللَّـهَ رَبِّي وَرَبُّكُمْ فَاعْبُدُوهُ هَـٰذَا صِرَاطٌ مُّسْتَقِيمٌ ) (6) ثمّ إنّه من خلال دعوته بشر بالنبي الخاتم الرسول الأكرم محمّد صلّى الله عليه وآله وسلّم إذ ينقل البشارة عن لسان عيسى عليه السلام بقوله تعالى : ( وَإِذْ قَالَ عِيسَى ابْنُ مَرْيَمَ يَا بَنِي إِسْرَائِيلَ إِنِّي رَسُولُ اللَّـهِ إِلَيْكُم مُّصَدِّقًا لِّمَا بَيْنَ يَدَيَّ مِنَ التَّوْرَاةِ وَمُبَشِّرًا بِرَسُولٍ يَأْتِي مِن بَعْدِي اسْمُهُ أَحْمَدُ فَلَمَّا جَاءَهُم بِالْبَيِّنَاتِ قَالُوا هَـٰذَا سِحْرٌ مُّبِينٌ ) (7).
ولم يزل عيسى عليه السلام يدعوهم إلى التوحيد والشريعة الجديدة حتّى أيس من إيمانهم لمّا رآه من استكبار وعناد الكهنة والأحبار عن قبول الدين والرسالة التي جاء بها فانتخب من بين أتباعه الحواريين ليكونوا أنصاراً له إلى الله سبحانه فيقول تعالى في القرآن الكريم : ( يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا كُونُوا أَنصَارَ اللَّـهِ كَمَا قَالَ عِيسَى ابْنُ مَرْيَمَ لِلْحَوَارِيِّينَ مَنْ أَنصَارِي إِلَى اللَّـهِ قَالَ الْحَوَارِيُّونَ نَحْنُ أَنصَارُ اللَّـه ) (8).
وأيضاً ينقل القرآن الكريم قصّة نزول المائدة من السماء على عيسى عليه السلام وحوارييه الذين طلبوا منه هذه المعجزة لتطمئنّ قلوبهم قال تعالى : ( إِذْ قَالَ الْحَوَارِيُّونَ يَا عِيسَى ابْنَ مَرْيَمَ هَلْ يَسْتَطِيعُ رَبُّكَ أَن يُنَزِّلَ عَلَيْنَا مَائِدَةً مِّنَ السَّمَاءِ قَالَ اتَّقُوا اللَّـهَ إِن كُنتُم مُّؤْمِنِينَ * قَالُوا نُرِيدُ أَن نَّأْكُلَ مِنْهَا وَتَطْمَئِنَّ قُلُوبُنَا وَنَعْلَمَ أَن قَدْ صَدَقْتَنَا وَنَكُونَ عَلَيْهَا مِنَ الشَّاهِدِينَ * قَالَ عِيسَى ابْنُ مَرْيَمَ اللَّـهُمَّ رَبَّنَا أَنزِلْ عَلَيْنَا مَائِدَةً مِّنَ السَّمَاءِ تَكُونُ لَنَا عِيدًا لِّأَوَّلِنَا وَآخِرِنَا وَآيَةً مِّنكَ ۖ وَارْزُقْنَا وَأَنتَ خَيْرُ الرَّازِقِينَ * قَالَ اللَّـهُ إِنِّي مُنَزِّلُهَا عَلَيْكُمْ فَمَن يَكْفُرْ بَعْدُ مِنكُمْ فَإِنِّي أُعَذِّبُهُ عَذَابًا لَّا أُعَذِّبُهُ أَحَدًا مِّنَ الْعَالَمِينَ ) (9) ثمّ أنّ أحبار اليهود وعلمائهم ثاروا عليه يريدون قتله ، فتوفّاه الله سبحانه ورفعه إليه ، وشبّه لليهود أنّهم قتلوه وصلبوه فيقول تعالى : ( وَقَوْلِهِمْ إِنَّا قَتَلْنَا الْمَسِيحَ عِيسَى ابْنَ مَرْيَمَ رَسُولَ اللَّـهِ وَمَا قَتَلُوهُ وَمَا صَلَبُوهُ وَلَـٰكِن شُبِّهَ لَهُمْ وَإِنَّ الَّذِينَ اخْتَلَفُوا فِيهِ لَفِي شَكٍّ مِّنْهُ مَا لَهُم بِهِ مِنْ عِلْمٍ إِلَّا اتِّبَاعَ الظَّنِّ وَمَا قَتَلُوهُ يَقِينًا * بَل رَّفَعَهُ اللَّـهُ إِلَيْهِ وَكَانَ اللَّـهُ عَزِيزًا حَكِيمًا ) (10) فهذه مجمل ما قصّه القرآن في المسيح عليه السلام وأمّه القدّيسة مريم.
كيف وصف القرآن الكريم المسيح عليه السلام واُمّه
إنّ القارئ للقرآن الكريم يجد أنّ هذا الكتاب الإلهي ذكر صفات للمسيح عليه السلام وأمّه ، قل ما ذكرها لأحد الأنبياء والنساء ، فقد ذكر لهذا النبي المكرّم خصال رفع بها قدره ، وكذلك الحال بالنسبة لأمّه الطاهرة. وإنّي من هنا أدعو كلّ مسيحي محبّ للسيّد المسيح عليه السلام وأمّه العذراء بمطالعة هذا السفر الإلهي المحمّدي ومقارنته بما ذكره الإنجيل ـ العهد الجديد ـ من صفات وأفعال لهذا النبي العظيم ، ليرى الفارق الكبير بين الكتابين وأيّهما قد أماطا اللثام عن شخصيّة عيسى الحقيقيّة وأمّه ، القرآن أم الإنجيل ؟
وأنا هنا أكتفي بذكر بعض هذه الصفات لهذا النبي وأمّه في القرآن ، وأشير أيضاً إلى بعض ما ذكرته الأناجيل من أوصافه عليه السلام وأترك الحكم للقارئ العزيز.
ولنبدأ أوّلاً بذكر ما ورد في القرآن عن الصدّيقة مريم العذراء ، ونستطيع القول بأنّها المرأة الوحيدة التي قصّ القرآن قصّتها بالتفصيل فينقل القرآن عنها : ... إنّ الله قد اصطفاها وطهّرها واصطفاها على نساء العالمين كما في قوله تعالى : ( وَإِذْ قَالَتِ الْمَلَائِكَةُ يَا مَرْيَمُ إِنَّ اللَّـهَ اصْطَفَاكِ وَطَهَّرَكِ وَاصْطَفَاكِ عَلَىٰ نِسَاءِ الْعَالَمِينَ ) (11).
كانت عليها السلام مقبولة عند الله وقد تكفّل الله سبحانه تربيتها وإنباتها كما في قوله تعالى : ( فَتَقَبَّلَهَا رَبُّهَا بِقَبُولٍ حَسَنٍ وَأَنبَتَهَا نَبَاتًا حَسَنًا ... ) (12).
كانت محدّثة حدّثتها الملائكة « وهي الوحيدة من النساء اللاتي ذكر القرآن أن الملائكة قد حدّثتها » كما في قوله تعالى ( إذْ قَالَتِ الْمَلَائِكَةُ يَا مَرْيَمُ إِنَّ اللَّـهَ يُبَشِّرُكِ بِكَلِمَةٍ مِّنْهُ اسْمُهُ الْمَسِيحُ عِيسَى ابْنُ مَرْيَمَ ... ) (13).
كانت من آيات الله للعالمين كما في قوله تعالى : ( وَالَّتِي أَحْصَنَتْ فَرْجَهَا فَنَفَخْنَا فِيهَا مِن رُّوحِنَا وَجَعَلْنَاهَا وَابْنَهَا آيَةً لِّلْعَالَمِينَ ) (14).
وغيرها من الأوصاف الأخرى التي ذكرها القرآن الكريم لهذه الصدّيقة الطاهرة.
وأما ما جاء في القرآن الكريم عن السيّد المسيح عليه السلام فيمكن القول بأنّها من المقامات الرفيعة التي خصّ بها هذا النبي المقرّب ونلخصها بما يلي :
كان عليه السلام عبداً لله وكان نبيّاً كما في قوله تعالى : ( قَالَ إِنِّي عَبْدُ اللَّـهِ آتَانِيَ الْكِتَابَ وَجَعَلَنِي نَبِيًّا ) (15).
وكان رسولاً إلى بني إسرائيل كما في قوله تعالى ( وَرَسُولًا إِلَىٰ بَنِي إِسْرَائِيلَ أَنِّي قَدْ جِئْتُكُم بِآيَةٍ مِّن رَّبِّكُمْ ۖ أَنِّي أَخْلُقُ لَكُم مِّنَ الطِّينِ كَهَيْئَةِ الطَّيْرِ فَأَنفُخُ فِيهِ فَيَكُونُ طَيْرًا بِإِذْنِ اللَّـهِ ... ) (16).
وكان واحداً من الخمسة أولي العزم صاحب شرع وكتاب وهو الإنجيل كما في قوله تعالى ( شَرَعَ لَكُم مِّنَ الدِّينِ مَا وَصَّىٰ بِهِ نُوحًا وَالَّذِي أَوْحَيْنَا إِلَيْكَ وَمَا وَصَّيْنَا بِهِ إِبْرَاهِيمَ وَمُوسَىٰ وَعِيسَىٰ ... ) (17) وأيضاً في قوله تعالى ( وَقَفَّيْنَا عَلَىٰ آثَارِهِم بِعِيسَى ابْنِ مَرْيَمَ مُصَدِّقًا لِّمَا بَيْنَ يَدَيْهِ مِنَ التَّوْرَاةِ ۖ وَآتَيْنَاهُ الْإِنجِيلَ فِيهِ هُدًى وَنُورٌ ... ) (18).
وكان عليه السلام قد سمّاه الله سبحانه بالمسيح عيسى وكان وجيهاً في الدنيا والآخرة ومن المقرّبين كما في قوله تعالى : ( إِذْ قَالَتِ الْمَلَائِكَةُ يَا مَرْيَمُ إِنَّ اللَّـهَ يُبَشِّرُكِ بِكَلِمَةٍ مِّنْهُ اسْمُهُ الْمَسِيحُ عِيسَى ابْنُ مَرْيَمَ وَجِيهًا فِي الدُّنْيَا وَالْآخِرَةِ وَمِنَ الْمُقَرَّبِينَ ) (19).
وكان عليه السلام كلمة لله وروحاً منه كما في قوله تعالى : ( يَا أَهْلَ الْكِتَابِ لَا تَغْلُوا فِي دِينِكُمْ وَلَا تَقُولُوا عَلَى اللَّـهِ إِلَّا الْحَقَّ ۚ إِنَّمَا الْمَسِيحُ عِيسَى ابْنُ مَرْيَمَ رَسُولُ اللَّـهِ وَكَلِمَتُهُ أَلْقَاهَا إِلَىٰ مَرْيَمَ وَرُوحٌ مِّنْهُ ... ) (20).
وكان من الصالحين والمجتبين كما في قوله تعالى : ( وَزَكَرِيَّا وَيَحْيَىٰ وَعِيسَىٰ وَإِلْيَاسَ كُلٌّ مِّنَ الصَّالِحِينَ ) (21).
وكان عليه السلام مباركاً أينما كان وكان زكيّا باراً بوالدته كما في قوله تعالى ( وَجَعَلَنِي مُبَارَكًا أَيْنَ مَا كُنتُ وَأَوْصَانِي بِالصَّلَاةِ وَالزَّكَاةِ مَا دُمْتُ حَيًّا * وَبَرًّا بِوَالِدَتِي وَلَمْ يَجْعَلْنِي جَبَّارًا شَقِيًّا ) (22).
وكان عليه السلام مسلماً على نفسه كما في قوله تعالى : ( وَالسَّلَامُ عَلَيَّ يَوْمَ وُلِدتُّ وَيَوْمَ أَمُوتُ وَيَوْمَ أُبْعَثُ حَيًّا ) (23).
وكان عليه السلام ممّن علّمه الله الكتاب والحكمة كما في قوله تعالى : ( وَيُعَلِّمُهُ الْكِتَابَ وَالْحِكْمَةَ وَالتَّوْرَاةَ وَالْإِنجِيلَ ) (24).
وكان مبشّراً برسول الله صلّى الله عليه وآله وسلّم كما في قوله تعالى : ( وَإِذْ قَالَ عِيسَى ابْنُ مَرْيَمَ يَا بَنِي إِسْرَائِيلَ إِنِّي رَسُولُ اللَّـهِ إِلَيْكُم مُّصَدِّقًا لِّمَا بَيْنَ يَدَيَّ مِنَ التَّوْرَاةِ وَمُبَشِّرًا بِرَسُولٍ يَأْتِي مِن بَعْدِي اسْمُهُ أَحْمَدُ ... ) (25) ، وأوصاف وخصال أخرى كثيرة نكتفي بما ذكرناه.
ولكن أودّ الإشارة هنا إلى المحاورة التي ينقلها الله سبحانه بينه وبين نبيّه عيسى ابن مريم ، لنرى الأدب الرائع والعبوديّة التامّة لهذا النبي أمام ربّ العزّة ، وكيف ينفي ما نسب إليه من ألوهيّة وأنّه بريء من هذه العقائد الباطلة ، فيقول سبحانه وتعالى :
( وَإِذْ قَالَ اللَّـهُ يَا عِيسَى ابْنَ مَرْيَمَ أَأَنتَ قُلْتَ لِلنَّاسِ اتَّخِذُونِي وَأُمِّيَ إِلَـٰهَيْنِ مِن دُونِ اللَّـهِ قَالَ سُبْحَانَكَ مَا يَكُونُ لِي أَنْ أَقُولَ مَا لَيْسَ لِي بِحَقٍّ إِن كُنتُ قُلْتُهُ فَقَدْ عَلِمْتَهُ تَعْلَمُ مَا فِي نَفْسِي وَلَا أَعْلَمُ مَا فِي نَفْسِكَ إِنَّكَ أَنتَ عَلَّامُ الْغُيُوبِ * مَا قُلْتُ لَهُمْ إِلَّا مَا أَمَرْتَنِي بِهِ أَنِ اعْبُدُوا اللَّـهَ رَبِّي وَرَبَّكُمْ وَكُنتُ عَلَيْهِمْ شَهِيدًا مَّا دُمْتُ فِيهِمْ فَلَمَّا تَوَفَّيْتَنِي كُنتَ أَنتَ الرَّقِيبَ عَلَيْهِمْ وَأَنتَ عَلَىٰ كُلِّ شَيْءٍ شَهِيدٌ * إِن تُعَذِّبْهُمْ فَإِنَّهُمْ عِبَادُكَ وَإِن تَغْفِرْ لَهُمْ فَإِنَّكَ أَنتَ الْعَزِيزُ الْحَكِيمُ * قَالَ اللَّـهُ هَـٰذَا يَوْمُ يَنفَعُ الصَّادِقِينَ صِدْقُهُمْ ۚ لَهُمْ جَنَّاتٌ تَجْرِي مِن تَحْتِهَا الْأَنْهَارُ خَالِدِينَ فِيهَا أَبَدًا رَّضِيَ اللَّـهُ عَنْهُمْ وَرَضُوا عَنْهُ ۚ ذَٰلِكَ الْفَوْزُ الْعَظِيمُ ) (26).
فالمسيح عليه السلام ينفي بشدّة ما ينسبه المسيحيّون إليه من مقام الألوهيّة.
يقول العلّامة الطباطبائي في تفسيره القيّم « الميزان » عن هذه المحاورة وهذا الكلام العجيب الذي يشتمل من العبوديّة على عصارتها ، ويتضمّن من بارع الأدب على مجامعه يفصح عمّا كان يراه عيسى المسيح عليه السلام من موقفه تلقاء ربوبيّة ربّه ، وتجاه الناس وأعمالهم فذكر أنّه كان يرى نفسه بالنسبة إلى ربّه عبداً لا شأن له إلّا الإمتثال لا يرد إلّا عن أمر ، ولم يؤمر إلّا بالدعوة إلى عبادة الله وحده ولم يقل لهم إلّا ما أمر به ربّه : أن اعبدوا الله ربي وربكم.
ولم يكن له من الناس إلّا تحمل الشهادة على أعمالهم فحسب ، وأمّا ما يفعله الله فيهم وبهم يوم يرجعون إليه فلا شأن له في ذلك : غفر أو عذب (27).
والمسيح عليه السلام بهذا البيان أيضاً ينفي كونه فادياً ومتحملاً للخطيئة عوضاً عن الناس كما يزعم المسيحيّون.
هذا بإختصار ما أورده القرآن حول شخصيّة هذا العبد الصالح والرسول المبارك عيسى ابن مريم وأمّه العذراء.
ولنطالع الإنجيل ـ العهد الجديد ـ ونرى بماذا وصف هذا النبي من أوصاف يأباها العقل والذوق السليم وسنكتفي اختصاراً بذكر بعضها ومن شاء المزيد فليراجع العهد الجديد ويرى العجب.
المسيح عليه السلام صانع الخمر « الجيدة »
من المؤسف حقّاً أن ينسب هكذا فعل إلى النبي المكرم المسيح عليه السلام والأعجب أن يكون بأمر من أمّه الصدّيقة مريم عليه السلام ، فنحن نعلم أنّ الخمر قد حرّم في الشريعة الموسويّة ولا سيّما المسكر منه ، ولكن نجد في العهد الجديد أنّ المسيح عليه السلام لم يكتفي بأنّه لم يحرّمه بل هو الذي يصنع الخمر « الجيدة » المسكرة ليذهب بعقول الناس ، وأنا أذكر أنّه عندما كنت مسيحيّاً وللإعتقاد الراسخ في نفوسنا بحرمة الخمر كنت أسأل والدي عن أسباب حرمة الخمر فكان يحدّثني عن مضرّات الخمر ، وكلّما كانت تذكر هذه « المعجزة » كان بعض المتديّنين يحاولون تفسير هذه المعجزة بشكل أو بآخر ، ويجيبون بأنّ هذه الخمر الذي صنعها المسيح عليه السلام لم تكن مسكرة ، ولكن الإنجيل يرى خلاف ذلك ، وهذه المعجزة لم تذكر إلّا في إنجيل يوحنا في الأصحاح الثاني فيذكرها أوّل معجزة صدرت من النبي عيسى المسيح عليه السلام فيقول :
« وفي اليوم الثالث كان عرس في قانا الجليل وكانت أم يسوع هناك ، ودعي أيضاً يسوع وتلاميذه إلى العرس ، ولما فرغت الخمر قالت أمّ يسوع له ليس لهم خمر ، قال لها يسوع مالي ولك يا امرأة ، لم تأت ساعتي بعد ، قالت أمّه للخدّام مهما قال لكم فافعلوه ، وكانت ستّة أجران من حجارة موضوعة هناك حسب تطهير اليهود يسع كلّ واحد مطرين أو ثلاثة ، قال لهم يسوع املأوا الأجران ماء ، فملأوها إلى فوق ، ثمّ قال لهم استقوا الآن وقدموا إلى رئيس المتكأ فقدموا ، فلمّا ذاق رئيس المتكأ الماء المتحوّل خمراً ولم يكن يعلم من أين هي ، لكنّ الخدّام الذين كانوا قد استقوا الماء علموا ، دعا رئيس المتّكأ العرّيس وقال له : كلّ إنسان إنّما يضع الخمر الجيدة أولا ومتى سكروا فحينئذ الدون ، أمّا أنت فقد أبقيت الخمر الجيدة إلى الآن ، هذه بداية الآيات فعلها يسوع في قانا الجليل وأظهر مجده » ، [ أنظر يوحنا ٢ : ١٢ ]. فالظاهر من حديث رئيس المتّكأ أنّ الخمر التي صنعها المسيح عليه السلام كانت من الخمر الجيدة والتي تعطى عادة في الأعراس أوّلا حتّى يسكر الناس فتذهب عقولهم ثمّ يأتون بالخمر الدون ـ الرديئة ـ بعد ذلك فلا يميّز الناس بينها وبين الخمر الجيدة لسكرهم. فلا أدري هل جاء السيّد المسيح عليه السلام لتنوير العقول وإرشادها إلى الحقّ ، أم لتخديرها وإتلافها ؟!
المسيح عليه السلام ـ والعياذ بالله ـ عاقّ لأمّه
وأيضاً تنسب الأناجيل إلى المسيح عليه السلام أنّه ظاهراً لم يكن بارّاً بوالدته ، بل إنّه كان ينهرها بشكل غير لائق ، فخلال قصّة الخمر الآنفة الذكر مثلاً تطلب منه أمّه أن يصنع لهم خمراً ، ولكنّه ينهرها بحدّة كما تنقل القصّة قال لها يسوع : « مالي ولك يا امرأة » ، بل إنّه لا يعتبرها ضمن المؤمنين ويحطّ من منزلتها أمام تلاميذه ، كما ينقل لنا إنجيل متي ذلك في الأصحاح الثاني عشر ، [ أنظر ١٢ ـ ٤٦ ـ ٥٠ ]. وفيما هو يلكم الجموع إذا أمّه وإخوته قد وقفوا خارجاً طالبين أن يكلّموه ، قال له واحد ، هو ذا أمّك وإخوتك واقفون خارجاً طالبين أن يكلّموك ، فأجاب وقال للقائل له : من هي أمّي ومن هم أخوتي ، ثمّ مدّ يده نحو تلاميذه وقال ها أمّي وإخوتي ، لأنّ من يصنع مشيئة أبي الذي في السموات هو أخي وأختي وأمّي ». ولا أدري كيف يمكن توجيه هذا التعامل القاسي مع أمّه الصديقة ، مع إنّنا نرى أنّه عليه السلام كان يوصي ويؤكّد على إكرام الوالدين كما ينقل ذلك إنجيل متي نفسه [ أنظر ١٥ ـ ٤ ] : « فإنّ الله أوصى قائلاً أكرم أباك وأمّك ومن يشتم أباً أو أمّاً فليمت موتاً ».
المسيح عليه السلام ـ والعياذ بالله ـ صار ملعوناً
واقعاً أنّ الإنسان ليقف متحيّراً من هذا القول في شخص هذا النبي المبارك ، فبولس يصف المسيح عليه السلام بأنّه ملعون ـ والعياذ بالله ـ فهو يذكر في رسالته إلى أهل غلاطية يقول : « المسيح افتدانا من لعنة الناموس إذ صار لعنة لأجلنا لأنّه مكتوب ملعون كلّ من علق على خشبة » ، [ غلاطية : ٣ : ١٣ ]. فهل يوصف باللعنة إلّا الأثيم المرتكب للخطايا ؟ وهل اللعنة غير الطرد والإبعاد عن رحمة الله سبحانه ؟
المسيح عليه السلام تقبل قدميه « الخاطئات »
وأيضاً ينقل لنا العهد الجديد قصّة تقبيل قدمي المسيح عليه السلام من قبل امرأة « خاطئة » ، والقصّة كما ينقلها إنجيل لوقا هي [ أنظر لوقا : ٧ : ٣٦ ] : « وإذا امرأة في المدينة كانت خاطئة ، إذ علمت أنّه متّكئ في بيت الفريسي جائت بقارورة طيب ووقفت عند قدميه من وراءه باكية وابتدأت تبل قدميه بالدموع وكانت تمسحهما بشعر رأسها وتقبل قدميه وتدهنهما بالطيب ، فلما رأى الفريسي الذي دعاه ذلك ، تلكم في نفسه قائلاً لو كان هذا نبيّا لعلم من هذه الإمرأة التي تلمسه وما هي ، أنّها خاطئة ... ، فقد أنكر الفريسي هذا الفعل من المسيح عليه السلام إذ كيف يقبل نبي أن تلامسه وتقبل قدميه امرأة أجنبيّة خاطئة ».
بل أنّ القصّة كما يذكرها إنجيل يوحنا : « يعترض هناك يهوذا على فعل المسيح عليه السلام من جهة أنّ هذا الطيب الذي مسحت هذه المرأة قدمي المسيح عليه السلام به كان يقدر قيمته بثلاثمائة ديناراً فلماذا لم يبع ويعط للفقراء الموجودين ، والقصّة كما ينقلها يوحنا في إنجيله هي فأخذت مريم منا من طيب نار دين خالص كثير الثمن ودهنت قدمي يسوع ومسحت قدميه بشعرها ، فامتلأ البيت من رائحة الطيب فقال واحد من تلاميذه وهو يهوذا سمعان الإسخريوطي المزمع أن يسلمه ، لماذا لم يبع هذا الطيب بثلاثمائة ديناراً ويعط للفقراء ... ، فقال يسوع أتركوها إنّها ليوم تكفيني قد حفظته لأنّ الفقراء معكم في كلّ حين وأمّا أنا فلست معكم في كل حين » ، [ أنظر : يوحنا : ١٢ : ٣ ـ ٨ ].
المسيح عليه السلام مفرق للرحم والأقارب
أنّ الإعتقاد السائد عند المسيحيين أن يسوع المسيح عليه السلام هو الداعي إلى المحبّة والسلام بين الناس جميعاً ، ولكنّنا نجد خلاف هذا الإعتقاد في كتب العهد الجديد ، فهذا إنجيل متي ينقل عن المسيح عليه السلام قوله : « لا تظنّوا أنّي جئت لألقي سلاماً على الأرض ، ما جئت لألقي سلاماً بل سيفاً ، فأنّي جئت لا فرق الإنسان ضدّ أبيه والابنة ضد أمّها والكنة ضد حماتها وأعداء الإنسان أهل بيته » ، [ أنظر متى : ١٠ : ٣٤ ـ ٣٦ ]. بل لم يكتفي بذلك حتّى أضرمها ناراً كما ينقل لوقا في إنجيله [ أنظر لوقا : ١٢ : ٤٩ ـ ٥٣ ] : « جئت لألقي ناراً على الأرض فماذا أريد لو اضطرمت أتظنّون أنّي جئت لأعطي سلاماً على الأرض ، كلّا أقول لكم بل انقساماً ... ».
ولكن بالرغم من هذا فنحن نجد أنّ المسيحيين يصفون المسيح عليه السلام بأنّه نبيّ الرأفة والمحبّة والسلام ويعتقدون أنّ النبي محمّد صلّى الله عليه وآله وسلّم جاء بالقوّة والسيف ، ويعتبرون الإسلام دين السيف !
المسيح عليه السلام يجزع من الموت ويعاتب الله سبحانه
إذ تنقل كتب العهد الجديد أنّ المسيح عليه السلام وعند اقتراب ساعة موته قد جزع حتّى الموت وتوسّل بالله سبحانه أن تعبر عنه هذه الكأس ، ولما لم يستجب له الله سبحانه عاتبه وهو معلّق على الخشبة لماذا تركه ، والقصّة كما يذكرها إنجيل متى هي : « ثمّ أخذ معه بطرس وابني زبدي وابتدأ يحزن ويكتئب ، فقال لهم : نفسي حزينة جدّاً حتّى الموت ، أمكثوا هنا واسهروا معي ، ثمّ تقدّم قليلاً وخرّ على وجهه ، وكان يصلّي قائلاً : يا أبتاه إن أمكن فلتعبر عنّي هذه الكأس » ، [ أنظر متى ٢٦ : ٣٧ ـ ٤٠ ]. وفي تلك الليلة صلّى ثلاث مرّات قائلاً ومكرّراً لذلك الكلام بعينه. وبعد أن ألقوا القبض عليه وصلبوه وأرادوا قتله ، صرخ بصوت معاتباً ربّه لماذا تركه ، كما ينقل لنا ذلك متى في إنجيله أيضاً [ أنظر متي : ٢٧ ـ ٤٦ ] ، ونحو الساعة التاسعة صرخ يسوع بصوت عظيم قائلاً : « إيلي إيلي لما شبقتني أي إلهي إلهي لماذا تركتني ». فلا أدري كيف يمكن تفسير هذه الحادثة ، فهل الموت بالنسبة للإنسان المؤمن إلّا انتقال من عالم إلى عالم آخر خير منه ، وهذا ما يؤكّد عليه الإسلام ، فهذا وصي رسول الله صلّى الله عليه وآله وسلّم ، عليّ ابن أبي طالب ينقل عنه كلمته المشهورة : « لابن أبي طالب أنس بالموت من الطفل بثدي اُمّه » ، ويقول الله سبحانه في القرآن الكريم : ( يَا أَيُّهَا الَّذِينَ هَادُوا إِن زَعَمْتُمْ أَنَّكُمْ أَوْلِيَاءُ لِلَّـهِ مِن دُونِ النَّاسِ فَتَمَنَّوُا الْمَوْتَ إِن كُنتُمْ صَادِقِينَ ) (28). فإنّ المؤمن يلتذّ بالموت ولا سيّما إذا كان قتلا في سبيل الله ، ولكنّنا نرى المسيح عليه السلام ـ ابن الله ـ يجزع منه حتّى الموت.
وما هذا إلّا غيض من فيض ومن شاء التعرّف أكثر على شخصيّة المسيح عليه السلام في الأناجيل ، فليطالع العهد الجديد ليرى ما وصفت به المسيح عليه السلام من تناقضات في شخصيّته ، وفي الواقع فإنّ القرآن الكريم هو الذي أجلى الحقيقة عن شخصيّة هذا النبي العظيم.
فالقرآن نزّه ساحة عيسى المسيح عليه السلام عن كلّ شائبة ونقص ، فقد صوّر لنا المسيح عليه السلام نبيّاً ورسولاً مباركاً وديعاً بارّاً ، لا جبّاراً ولا شقيّاً ، وعبداً موحّداً خاضعاً لله ، وغير مدع لشيء غير معقول من الوهيّة أو اتّحاد أو حلول ، ثمّ نجده في القرآن عزيزاً محترماً مرفوعاً إلى السماء مصاناً بالعزّة الإلهيّة ، وأنّه روح الله وكلمته وصنيعه ، ومستودع أسراره وحكمته.
وعلى العكس من ذلك نرى المسيح عليه السلام في العهد الجديد ، رجلاً صانع للخمر وشريب لها (29) عاقاً لأمّه قاطعاً ومفرقاً للرحم ، مسرف يستأنس بمسح الامرأة الأجنبيّة ـ الخاطئة ـ لقدميه وتقبيلها وتدهينها بالطيب الغالي الثمن ، وأيضاً أنّه ملعون لأنّه مصلوب على خشبة ، ويلصقون به الألوهيّة عنوة ، فهو الله وابن الله ، وغيرها من الأوصاف الكثيرة التي يرفضها العقل ويأباها.
فلا يبقى شكّ ولا ريب في أنّ « بارقليطا » الذي أشار إليه المسيح عليه السلام في الإنجيل والذي سيشهد له بالحقّ ، كما ذكر ذلك إنجيل يوحنا قائلاً : ومتى جاء المعزي الذي سأرسله أنا إليكم من الأب روح الحقّ الذي من عند الأب ينبثق فهو يشهد لي [ أنظر : يوحنا : ١٥ : ٢٦ ـ ٢٧ ] هو النبي الخاتم محمّد صلى الله عليه وآله وسلم الذي شهد له بالحقّ ، ورفع قدره ، ونزّه ساحته المقدّسة عن كلّ سوء ، وذلك من خلال الكتاب الإلهي الموحى إليه من قبل السماء ، أيّ « القرآن الكريم ».
الهوامش
1. سورة آل عمران آية ٣٦ ومريم معناها « الخادمة ».
2. آل عمران آية ٣٧.
3. سورة مريم آية ١٦ ـ ٢١.
4. سورة مريم آية ٢٢ ـ ٢٦.
5. سورة مريم آية ٢٧ ـ ٣٣.
6. سورة آل عمران آية ٤٩ ـ ٥١.
7. سورة الصف آية ٦.
8. سورة الصف آية ١٤.
9. سورة المائدة آية ١١٢ ـ ١١٤.
10. سورة النساء آية ١٥٧ ـ ١٥٨.
11. سورة آل عمران آية ٤٢.
12. سورة آل عمران آية ٣٧.
13. سورة آل عمران آية ٤٥.
14. سورة الأنبياء آية ٩١.
15. سورة مريم آية ٣٠.
16. سورة آل عمران آية ٤٩.
17. سورة الشورى آية ١٣.
18. سورة المائدة آية ٤٦.
19. سورة آل عمران آية ٤٥.
20. سورة النساء آية ١٧١.
21. سورة الأنعام آية ٨٥ ـ ٨٧.
22. سورة مريم آية ٣١ ـ ٣٢.
23. سورة مريم آية ٣٣.
24. سورة آل عمران آية ٤٨.
25. سورة الصف آية ٦.
26. سورة المائدة آية ١١٦ ـ ١١٩.
27. الميزان في تفسير القرآن ج٣ ص ٢٨٢.
28. سورة الجمعة الآية ٦.
29. أنظر : إنجيل متي : ١١ : ١٨ ـ ٢٠ لأنّه جاء يوحنا لا يأكل ولا يشرب فيقولون فيه شيطان. وجاء ابن الإنسان يأكل ويشرب فيقولون هو ذا إنسان أكول وشريب خمر ، محبّ للعشارين والخطاة.
مقتبس من كتاب هبة السماء
التعلیقات