مناظرة الإمام الرضا عليه السلام حول البداء
عبّاس الذهبي
منذ سنةمناظرته عليه السلام حول البداء
البداء من المسائل المعقدة التي كثر الجدل والنزاع حولها قديماً وحديثاً بين الفلاسفة والعلماء من السنة والشيعة ، ولكل من الفريقين رأي واتجاه.
فما هو البداء ؟
البَداء ـ لغةً : ظهور الشيء بعد خفائه.. وبدا له في هذا الأمر بداءً ، أي : تغير رأيه عمّا كان عليه بعد أن ظهر له فيه رأي آخر (1).
وقد اتُهم الشيعة بنسبة الجهل إلى الله تعالى استناداً إلى المعنى اللغوي المتقدم للبَداء ، والحال أن الشيعة يتبرأون من هذه التهمة الشنيعة ، وهم يكفّرون كل من ينسب الجهل إلى الله تعالىٰ ، ويرون بأنه تعالى لا تخفى عليه خافية في السماوات والأرض ، وأنه ليس محلاً للحوادث والتغيرات ، لاستلزام ذلك خروجه ـ عزّوجلّ ـ عن حضيرة الوجوب إلى الإمكان ، زد على ذلك أن الشيعة متفقون على أن الله تعالى عالم بالجزئيات كعلمه بالكليات ، وعلمه بالمعدوم كعلمه بالموجود ، وآراء الشيعة هذه مدونة في عشرات الكتب والرسائل والبحوث تحت عنوان « البَداء » (2).
والحال أن حقيقة البَداء عندهم ليس ظهور الأمر لله تعالى بعد أن كان خافياً عليه ، تعالى الله عزّ وجلّ عن ذلك علواً كبيراً بل هو ظهور أمر لنا منه تعالى لم يكن مرتقباً ، يعد مساوقاً لتغيير القضاء كما هو عند الجمهور ، وعليه فالبداء عند الشيعة الإمامية هو البداء الواقع في ( التكوينيات ) كالنسخ المتعلق بـ ( التشريعات ) ، فكما أن النسخ في التشريعات أمر جائز وسائغ ، كذلك البداء في التكوينات أمر سائغ وممكن وجائز.
ثم إن البداء يكون في القضاء الموقوف المعبّر عنه بـ ( لوح المحو والإثبات ) والالتزام بجواز البداء فيه لا يستلزم نسبة الجهل إلى الله سبحانه ، وليس في هذا الالتزام ما ينافي عظمته وجلاله (3).
وهناك آيات قرآنية كثيرة تثبت بأن الله تعالى مبسوط اليدين في مجال التكوين ، يقدم ما يشاء ويؤخر ما يشاء ، ويثبت ما يشاء ويمحو ما يشاء ، منها : قوله تعالى : ( يَمْحُو اللَّهُ مَا يَشَاءُ وَيُثْبِتُ وَعِندَهُ أُمُّ الْكِتَابِ ) (4).
وتوجد أحاديث في صحاح السنة تشير إلى حصول المحو والإثبات الإلهيين ، وإمكانية التغيير والتبديل فيما كتبه الله وقدَّره وفقاً لمشيئته وإرادته تعالى ، منها ما أخرجه البخاري عن عبد الله بن مسعود ، عن النبي صلّى الله عليه وآله وسلّم في تفسير قوله تعالىٰ : ( كُلَّ يَوْمٍ هُوَ فِي شَأْنٍ ) (5) أنَّه قال : « إنَّ الله يحدث من أمره ما يشاء ، وإنَّ مما أحدث أن لا تكلّموا في الصلاة » (6).
وبإسناد عن أنس بن مالك أن نبينا صلّى الله عليه وآله وسلّم لما صعد إلى السّماء واجتمع بالأنبياء ( عليهم الصلاة والسلام ) ، نصحه موسى عليه السلام بأن يراجع ربّه لتخفيف الصلاة عن أمته فيما فرضه الله على أمته من خمسين صلاة في كل يوم ، وبعد أن راجع الرسول صلّى الله عليه وآله وسلّم ربّه عدة مرات حسب نصيحة موسى عليه السلام خفّف الله تعالى الصلاة من خمسين إلىٰ خمس صلوات (7).
روى البخاري في صحيحه عن أبي هريرة أنه سمع رسول الله صلّى الله عليه وآله وسلّم يقول : « إن ثلاثة في بني إسرائيل : أبرص ، وأقرع ، وأعمىٰ بدا لله أن يبتليهم ... » (8) ثم ساق الخبر ( الصحيح ).
ومن هذه الأحاديث يظهر بوضوح دخول فكرة البداء عند أقطاب المحدثين ورواة المسلمين في دائرة المحو والاثبات المصرّح بها في القرآن الكريم ، لكن المؤسف حقاً أنّها قد استغلت من قبل خصوم الشيعة للتشنيع والتشهير.
ويقتضي التنويه بأن « مصالح العباد متوقفة على القول بالبداء ، إذ لو اعتقدوا أنَّ كل ما قُدّر في الأزل فلا بُدَّ من وقوعه حتما لما دعوا الله تعالى في شيء من مطالبهم ، وما تضرَّعوا إليه ، وما استكانوا لديه ، ولا خافوا منه ، ولا رجعوا إليه ، وإذا انتفت هذه الأمور فلا يبقى مجال للصدقة وصلة الرحم ، وبرّ الوالدين ، وغير ذلك من صالح الأعمال ..
أضف إلىٰ ذلك أن القول بالبداء هو الاعتراف الصريح بأن العالم كله تحت سلطان الله وقدرته في حدوثه وبقائه ، وان إرادة الله نافذة في الأشياء أزلاً وأبدا » (9). من هنا دافع إمامنا الرضا عليه السلام عن مسألة البداء ، وأولاها عناية خاصة وأعتبرها من المسائل الأساسية التي قامت عليها الأديان السماوية.
وجدير بالذكر هو أن أول من نفى القول بالبداء هم اليهود الذين قالوا ـ لعنهم الله ـ : إن يد الله مغلولة ! غلّت أيديهم ولُعنوا بما قالوا. بل هو سبحانه يمحو ما يشاء ويثبت وعنده أم الكتاب.
ومما يكشف عن اهتمام الإمام الرضا عليه السلام بمسألة البداء حواراته ومناظراته مع أهل الإسلام ، ومن أبرز الشواهد علىٰ ذلك مناظرته مع سليمان المروزي متكلم خُراسان الذي قدم على المأمون فأكرمه ووصله ، ثم طلب منه أن يناظر الإمام عليه السلام.
وكان عمران الصابىء الذي أسلم ببركة إمامنا الرضا عليه السلام وأصبح من تلاميذه قد التقى بالمروزي فتحاورا حول البداء وكان المروزي قد أنكره ، فقال المأمون : يا أبا الحسن ما تقول فيما تشاجرا فيه ؟
قال عليه السلام : « وما أنكرت من البداءِ يا سليمان ، والله عزَّ وجلَّ يقول : ( أَوَلَا يَذْكُرُ الْإِنسَانُ أَنَّا خَلَقْنَاهُ مِن قَبْلُ وَلَمْ يَكُ شَيْئًا ) (10) ويقول عزَّ وجلَّ : ( وَهُوَ الَّذِي يَبْدَأُ الْخَلْقَ ثُمَّ يُعِيدُهُ ) (11) ويقول : ( بَدِيعُ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ ) (12) ويقول عزَّ وجلَّ : ( يَزِيدُ فِي الْخَلْقِ مَا يَشَاءُ ) (13) ويقول : ( وَبَدَأَ خَلْقَ الْإِنسَانِ مِن طِينٍ ) (14) ويقول عزَّ وجلَّ : ( وَآخَرُونَ مُرْجَوْنَ لِأَمْرِ اللَّهِ إِمَّا يُعَذِّبُهُمْ وَإِمَّا يَتُوبُ عَلَيْهِمْ ) (15) ويقول عزَّ وجلَّ : ( وَمَا يُعَمَّرُ مِن مُّعَمَّرٍ وَلَا يُنقَصُ مِنْ عُمُرِهِ إِلَّا فِي كِتَابٍ ) (16) ؟!
قال سُليمان : هل رويتَ فيه شيئاً عن آبائكَ ؟ قال : نعم ، رويتُ عن أبي عبد الله عليه السلام أَنَّه قال : « إنَّ لله عزَّ وجلَّ علمين : علماً مخزوناً مكنوناً لا يعلمهُ إلّا هو ، ومن ذلك يكونُ البَداءُ ، وعلماً علَّمهُ ملائكتهُ ورُسُلَهُ ، فالعلماء من أهلِ بيت نبيِّه يعلمونه ».
قال سُليمان : اُحبُّ أن تَنزَعهُ لي من كتابِ الله عزَّ وجلَّ.
قال عليه السلام : « قولُ الله عزَّ وجلَّ لنبيّه صلّى الله عليه وآله وسلّم : ( فَتَوَلَّ عَنْهُمْ فَمَا أَنتَ بِمَلُومٍ ) (17) أراد هلاكهمُ ثمَّ بدا لله ـ أي : عن علم ـ فقال : ( وَذَكِّرْ فَإِنَّ الذِّكْرَىٰ تَنفَعُ الْمُؤْمِنِينَ ) (18) ».
قال سُليمان : زدني جُعلتُ فداك ، قال الرضا عليه السلام : « لقد أخبرني أبي عن آبائه أنَّ رسول الله صلّى الله عليه وآله وسلّم قال : إنَّ الله عزَّ وجلَّ أوحى إلىٰ نبيٍ من أنبيائه :
أن أخبر فلان الملك أني متوفّيه إلىٰ كذا وكذا ، فقال : يا ربِّ أجِّلني حتىٰ يشبَّ طفلي وأقضي أمري ، فأوحى الله عزَّ وجلَّ إلىٰ ذلك النَّبيِ أن ائت فُلانَ الملك فأعلمهُ أنِّي قد أنسيتُ في أجلهِ وزدتُ في عُمره خمس عشرةَ سنةً ، ثمّ أوحى الله عزَّ وجلَّ إليه : إنَّما أنتَ عبد مأمور فأبلغهُ ذلك ، والله لا يسألُ عمّا يفعلُ » (19).
واستمر الإمام عليه السلام في إيراد الأدلة على جواز البداء حتى أذعن سُليمان المروزي للمأمون ، قائلاً : يا أمير المؤمنين لا اُنكرُ بعد يومي هذا البَداء ولا اُكذِّب به إن شاء الله (20).
ثم تطرّقا في المناظرة إلىٰ مواضيع أخرىٰ منها ما كان حول الإرادة ، وهل هي اسم أم صفة ، وهل يعلم الله تعالىٰ جميع ما في الجنة والنار ، وما إلىٰ ذلك إلىٰ أن انقطع سليمان عن الإجابة ، وعندها قال المأمون : « يا سليمان هذا أعلم هاشميٍ ».
وهكذا نجد أن إمامنا عليه السلام قد استطاع الصمود وسط العواصف الفكرية التي أثارها المأمون من حوله بما امتلكه من عمق علمي وبصيرة ثاقبة.
وهو في الوقت نفسه كان يدافع ـ بقوة ـ عن العقيدة الإسلامية ، يذبّ عنها حملات المشكّكين والمنكرين ، ويصحّح رؤىٰ بعض علماء المسلمين ، وعموماً فقد أحدث هزة عنيفة في قناعات العديد من الشخصيات التي ناظرها ، وقد لاحظنا كيف أن البعض منهم قد اعترف بقصوره وخطأ تصوراته ، بينما اكتفى من لم يمتلك الشجاعة الكافية ومن لم يبصر نور الحقيقة بالسكوت.
الهوامش
1. لسان العرب / ابن منظور 14 : 65 ، مفردات الراغب : 40 ، مادة ( بدا ).
2. اُنظر : الذريعة إلى تصانيف الشيعة / الطهراني 3 : 51 ـ 57 و 131 ـ 151.
3. اُنظر : دفاع عن الكافي / السيد ثامر العميدي 2 : 33 وما بعدها.
4. سورة الرعد : 13 / 39.
5. سورة الرحمن : 55 / 29.
6. صحيح البخاري 9 : 187 ـ باب : قول الله تعالىٰ : ( كُلَّ يَوْمٍ هُوَ فِي شَأْنٍ ).
7. اُنظر : صحيح البخاري 1 : 98 ، كتاب الصلاة ، وأيضا 96 : 182 ، باب قوله تعالىٰ : ( وَكَلَّمَ اللَّهُ مُوسَىٰ تَكْلِيمًا ).
8. صحيح البخاري 4 : 208 ـ 209 ، كتاب الأنبياء ، باب ما ذكر عن بني إسرائيل.
9. دفاع عن الكافي / السيد ثامر العميدي 2 : 160 وما بعدها.
10. سورة مريم : 19 / 67.
11. سورة الروم : 30 / 27.
12. سورة البقرة : 2 / 117 ، وسورة الأنعام : 6 / 101.
13. سورة فاطر : 35 / 1.
14. سورة السجدة : 32 / 7.
15. سورة التوبة : 9 / 106.
16. سورة فاطر : 35 / 11.
17. سورة الذاريات : 51 / 54.
18. سورة الذاريات : 51 / 55.
19. التوحيد / الصّدوق : 441 ، باب (66).
20. التوحيد / الصّدوق : 441 ، باب (66).
مقتبس من كتاب : الإمام الرضا عليه السلام سيرة وتاريخ / الصفحة : 114 ـ 119
التعلیقات