آية الرضاع
صادق العلائي
منذ 4 سنواتآية الرضاع !
أخرج مسلم في صحيحه أن عائشة قالت : كان فيما أنزل من القرآن ( عشر رضعات معلومات يحرمن ) ثم نسخن بـ ( خمس معلومات ) ، فتوفي رسول الله صلی الله عليه [ وآله ] وسلم وهن فيما يقرأ من القرآن. (1)
وأخرج عبد الرزاق الصنعاني في مصنفه بسند صحيح : أخبرنا عبد الرزاق ، قال : أخبرنا ابن جريج قال : سمعت نافعا يحدث أن سالم بن عبد الله حدثه : أن عائشة زوج النبي صلی الله عليه [ وآله ] وسلم أرسلت به إلی أختها أم كلثوم ابنة أبي بكر لترضعه عشر رضعات ليلج عليها إذا كبر فأرضعته ثلاث مرات ثم مرضت فلم يكن سالم يلج عليها. قال : زعموا أن عائشة قالت : لقد كان في كتاب الله عز وجل عشر رضعات ثم رد ذلك إلی خمس ولكن من كتاب الله ما قبض مع النبي صلی الله عليه [ وآله ] وسلم. (2)
هنا تدعي عائشة أن جملة ( خمس معلومات يحرمن ) كانت إلی ما بعد وفاة الرسول الأعظم صلی الله عليه وآله وسلم من جنس القرآن المقروء كغيرها من آيات القرآن ، وهذه الدعوی من عائشة طامة كبری ! لأنها تزعم ـ وبكل صراحة ـ أن سبب سقوط الآية المزعومة وعدم كتابتها في القرآن الكريم هو موت النبي صلی الله عليه وآله وسلم وهذا يعني أنه الوحيد الذي كان يحفظها دون المسلمين ، ولم يعلم بهذه الآية المزعومة سوی النبي صلی الله عليه وآله وسلم وعائشة التي كانت تحتفظ بنصها في صحيفة تحت سريرها ! ، وقد اختفت الصحيفة ! ولكن أين ؟!
في بطن السخلة !
وخير من يخبرنا عن أمر هذا القرآن المفقود هي عائشة نفسها ، فقد ذكرت أن الآية المزعومة كانت في صحيفة تحت سريرها فدخلت سخلة وأكلتها حين تشاغلوا بدفن الرسول صلی الله عليه وآله وسلم (3) ، وهكذا انتفت هذه الآية من الوجود بوفاة رسول الله صلی الله عليه وآله وسلم التي اختص بحفظها ولأكل الداجن المعجزة للصحيفة !
قال ابن حزم في المحلی : ثم اتفق القاسم بن محمد وعمرة كلاهما عن عائشة أم المؤمنين قال : لقد نزلت آية الرجم والرضاعة فكانتا في صحيفة تحت سريري ، فلما مات رسول الله صلی الله عليه [ وآله ] وسلم تشاغلنا بموته فدخل داجن فأكلها . قال أبو محمد ـ ابن حزم ـ : وهذا حديث صحيح (4).
وفي سنن ابن ماجة عن عائشة : لقد نزلت آية الرجم ، ورضاعة الكبير عشراً. ولقد كان في صحيفة تحت سريري ، فلما مات رسول الله صلی الله عليه [ وآله ] وسلم وتشاغلنا بموته ، دخل داجن فأكلها (5).
قال الطبراني في المعجم الأوسط : عن عبد الله بن أبي بكر ، عن عمرة عن عائشة ، وعن عبد الرحمان بن القاسم ، عن أبيه عن عائشة قالت : نزلت آية الرجم ورضاع الكبير عشرا ، فلقد كان في صحيفة تحت سريري ، فلما مات رسول الله صلی الله عليه [ وآله ] وسلم تشاغلنا بموته فدخل داجن فأكلها (6).
ورواية صحيح مسلم إما أن يقبلها أهل السنة ، فيلزم ذلك أنهم يعتقدون بتحريف القرآن ، وإما أن يكفّروا عائشة ؛ لأنها كانت تدعي تحريف القرآن ، وإما أن يرفضوا الرواية ويجزموا ببطلانها ، واعتقد أن الأسلم عند الجميع هو الطريق الثالث ، إلّا عند من يقدّس صحيح مسلم أكثر من القرآن ( وَمَا أَكْثَرُ النَّاسِ وَلَوْ حَرَصْتَ بِمُؤْمِنِينَ ) (7).
بعض علماء أهل السنة يقبل الرواية علی علاتها !
عانی كثيرٌ من علمائهم من هذه الرواية التي أخرجها مسلم في صحيحه ، فوجد هؤلاء الذين أجبروا علی قبول الرواية أنه لا مفر لهم إلا بتأويلها وتوجيهها بوجه لا يلزم منه القول بتحريف القرآن ولا رمي عائشة به ، فصاروا يتصيدون لها المخارج ويقلبون لها الوجوه ـ كالعادة ـ حتی عثروا عليه ، وهو تأويل هذا المقطع المشكل ( توفي ، وهن فيما يقرأ من القرآن ) بأن تلك الآية نسخت تلاوةً (!) في أواخر حياة النبي صلی الله عليه وآله وسلم ولم يبلغ بعض الصحابة نسخها ، فكانوا يقرأونها كقرآن إلی ما بعد رحيل الرسول الأعظم صلی الله عليه وآله وسلم إلی ربّه !!
قال النووي في شرحه علی صحيح مسلم : وقولها فتوفي رسول الله صلی الله عليه [ وآله ] وسلم وهن فيما يقرأ هو بضم الياء من يقرأ ، ومعناه أن النسخ بخمس رضعات تأخر إنزاله جدا حتی أنه صلی الله عليه [ وآله ] وسلم توفي وبعض الناس يقرأ ( خمس رضعات ) ويجعلها قرآنا متلوا لكونه لم يبلغه النسخ لقرب عهده ، فلما بلغهم النسخ بعد ذلك رجعوا عن ذلك وأجمعوا علی أن هذا لا يتلی (8) ، وقلده كثير في تأويله هذا.
نسخ أغرب من الخيال !
وقبل الخوض في مناقشة الرواية ومصداقية تأويلها بأُسطورة نسخ التلاوة علينا بيان ما قصدوه من النسخ هنا ، فنقول :
إن نسخ التلاوة المدعی في هذا المورد هو نوعٌ آخر من النسخ غير النسخ المدعی لآية الرجم ؛ لأنه نسخ للتلاوة مع الحكم خلاف نسخ آية الرجم الذي زعموا أنه للتلاوة دون الحكم ، وعليه يكون معنی قول عائشة هو أن الله عز وجل قد أنزل قرآنا في عدد الرضعات المحرِّمة ، وهي عشر رضعات ، ثم نسخ الله تلك الآية فرفع تلاوتها ورفع حكمها أيضا ، ثم مرة ثانية أنزل عز وجل آية علی غرار الآية السابقة ، آيةً تتضمن عدد الرضعات المحرِّمة ، وهي خمس رضعات فقط ، ثم جاء مرة ثالثة فرفع الله عز وجل تلاوة آية الخمس رضعات كما فعله في آية العشر السابقة !! ، وأما بالنسبة لحكمها فترددوا في نسخه ! فعلی ما ذهب له الشافعي لم ينسخ الله عز وجل في هذه المرة حكم الآية ، وإنما نسخت تلاوتها فقط ، مستندا في ذلك لرأي عائشة في عدد الرضعات المحرمة ، وفي نسبته لعائشة نظر كما سيأتي ، أما جمهور فقهائهم الذين صححوا الرواية فقد ذهبوا إلی أن الله عز وجل حينما رفع آية الخمس رضعات رفع حكمها أيضا.
وقد يكون النسخ نسخاً للحكم والتلاوة معاً مثل : كان فيما أنزل عشر رضعات معلومات يحرمن ، فنسخت هذه الآية بخمس معلومات ثم نسخت الخمس أيضاً تلاوة وحكماً عند الإمام مالك ، وتلاوة فقط عند الشافعي (9).
قول عائشة في صحيح مسلم لا يمكن قبوله لعدة جهات
هناك جهات عدة تمنع المنصف المتدبر من قبول قول عائشة ، وتقف دون احتمال اخبارها عن الواقع :
أولا : الفقه المأثور عن عائشة في مسألة الرضاع مضطرب جدا ، ولا يمكن التعويل علی هذه الرواية ؛ لأنها معارضة.
فقد روی البيهقي في سننه الكبری بسنده : حدثنا الربيع ، حدثنا الشافعي ، حدثنا مالك عن نافع إن سالم بن عبد الله أخبره أن عائشة رضي الله عنها زوج النبي صلی الله عليه [ وآله ] وسلم أرسلت به وهو يرضع إلی أختها أم كلثوم ، فأرضعته ثلاث رضعات ثم مرضت ، فلم ترضعه غير ثلاث رضعات ، فلم أكن أدخل علی عائشة رضي الله عنها من أجل أن أم كلثوم لم تكمل لي عشر رضعات (10).
أقول : وسيتضح أن عائشة لا تجيز دخوله إلا بعشر رضعات ، فلو كان ما نسبته عائشة للقرآن في رواية مسلم صحيحا لما خالفته وصارت لغيره ، ولا مجال للقول بأن رأيها في عشر رضعات كان في حياة رسول الله صلی الله عليه [ وآله ] وسلم وبعد أن نسخ في آخر حياته صلی الله عليه وآله وسلم عملت بخمس رضعات ؛ وذلك لأن الروايات تحكي رضاع سالم في ما بعد وفاة النبي صلی الله عليه وآله وسلم ؛ لأن سالما ولد في زمن تأمر عثمان علی الناس.
قال الذهبي : سالم بن عبد الله ابن أمير المؤمنين عمر بن الخطاب ... وأُمه أم ولد . مولده في خلافة عثمان (11).
فلا يحتمل حينئذ أن تأمر عائشة أختها بأن ترضعه في آخر حياة النبي صلی الله عليه وآله وسلم حتی يقال : إن ذلك قبل أن ينسخ الحكم بخمس رضعات.
وروی أيضا بسنده : حدثنا إبراهيم بن عقبة إنه سأل عروة بن الزبير عن المصة والمصتين قال : كانت عائشة رضي الله عنها لا تحرم المصة ولا المصتين ولا تحرم إلا عشرا فصاعدا (12).
وفي كتاب السنن : حدثنا سعيد قال : نا عبد العزيز بن محمد عن إبراهيم بن عقبة أنه سأل عروة بن الزبير عن الرضاع قال : كانت عائشة لا تری المصة ولا المصتين شيئا دون عشر رضعات فصاعدا (13).
وفي مصنف ابن أبي شيبة : حدثنا ابن علية عن أيوب ، عن نافع قال : كانت عائشة إذا أرادت أن يدخل عليها أحد أمرت به فأرضع ، فأمرت أم كلثوم أن ترضع سالما عشر رضعات ، فأرضعته ثلاثا فمرضت ، فكان لا يدخل عليها وأمرت فاطمة بنت عمر أن ترضع عاصم بن سعيد مولی لهم فأرضعته عشر رضعات فكان يدخل عليها (14).
وقد قال ابن حجر في فتح الباري : ثم اختلفوا : فجاء عن عائشة عشر رضعات ، أخرجه مالك في الموطأ ، وعن حفصة كذلك ، وجاء عن عائشة أيضا سبع رضعات . أخرجه ابن أبي خيثمة بإسناد صحيح عن عبد الله بن الزبير عنها ، وعبد الرزاق من طريق عروة كانت عائشة تقول : لا يحرم دون سبع رضعات أو خمس رضعات ، وجاء عن عائشة أيضا خمس رضعات فعند مسلم عنها كان فيما نزل من القرآن عشر رضعات معلومات ، ثم نسخت بخمس رضعات معلومات ، فتوفي رسول الله صلی الله عليه [ وآله ] وسلم ، وهن مما يقرأ وعند عبد الرزاق بإسناد صحيح عنها قالت : لا يحرم دون خمس رضعات معلومات (15).
ثم ذكر أن حديث صحيح مسلم لا يمكن الاحتجاج به ؛ لأنه يثبت قرآنا والقرآن يحتاج إلی التواتر ، وهذا سنذكره فيما بعد بإذنه تعالی.
وقال إمامهم ابن التركماني في الجوهر النقي معلقا علی حديث عائشة : قد ثبت أن هذا ليس من القرآن الثابت ، ولا تحل القراءة به ولا إثباته في المصحف ، ومثل هذا عند الشافعي ليس بقرآن ولا خبر ، وقد ذكرنا ذلك غير مرة فيما مضی ، وفي موطأ مالك عن نافع ، إن سالم بن عبد الله حدثه أن عائشة أرسلت به إلی أُختها أُمّ كلثوم بنت أبی بكر ، فقالت : أرضعيه عشر رضعات حتی يدخل عليَّ فأرضعتني ثلاث رضعات ثم مرضت ، فلم ترضعني غير ثلاث مرات ، فلم أكن أدخل علی عائشة من أجل أن أُمّ كلثوم لم تتم لي عشر رضعات.
وذكره البيهقي في آخر هذا الباب ، وذكره أيضا صاحب التمهيد ثم قال : فلأجل هذا الحديث قال أصحابنا : إنها تركت حديثها ، وفعلها هذا يدل علی وهن ذلك القول ، لأنه يستحيل أن تدع الناسخ وتأخذ بالمنسوخ ، وأسند ابن حزم عن إبراهيم بن عقبة سألت عروة عن الرضاع فقال : كانت عائشة لا تری شيئاً دون عشر رضعات فصاعدا ، ثم ذكر عنها قالت : إنما تحرم من الرضاع سبع رضعات.
قال ابن حزم : الأول عنها أصح ، وهذا كله يدل علی أن مذهبها مخالف لهذا الخبر ، وأنها لا تعتبر في التحريم خمس رضعات (16).
والسؤال هو : لماذا نسبت عائشة للقرآن ما لا تعمل به ؟! هذا تجيب عنه عائشة.
وعلی أي حال فهذه الرواية معارضة لا يمكن قبولها والتسليم بمضمونها ، خاصة وأن فيها ما هو معلوم البطلان ، وهو قرآنية ما لم يتواتر فهي معلولة من الجهتين.
ثانيا : حتی لو تنزلنا عن اشتراط التواتر للنسخ ، فإن هذا النوع من النسخ مما تتوفر الدواعي لنقله متواترا ، لغرابته الشديدة ، فلا نعقل أن تنفرد عائشة بنقله ويغفل عنه الصحابة ، إذ إن نزول آية بحكم ما ، وبعد ذلك ترفع الآية مع حكمها ، ثم تنزل آية أُخری ناسخة بحكم جديد ، ثم ترفع هذه الآية ويبقی من يقرأ بها بعد وفاة الرسول صلی الله عليه وآله وسلم ، وينسخ حكمها أو يبقی ـ علی الخلاف ـ أمر غريب جدا ! ولو وقع وحصل مثله من النزول والنسخ والنزول والنسخ في حكم وأمر واحد لذاع وانتشر أمره بين أعداء دين الله قبل محبيه ، ولتناقلته الألسنة من السلف إلی الخلف ، ولكنه لم يحدث ، فلا يمكن التصديق بوقوع ما تدعيه عائشة.
ثالثا : كيف يتصور نزول آية لا يعلم نصّها أحد من الناس إلا عائشة ثم يأتي داجن ويأكلها وتفقد إلی الأبد ؟! ، كيف اختصت عائشة بالآيتين الناسخة والمنسوخة من دون الناس ؟! ، أين كان الصحابة ؟! ، ألم يكن هناك كتبة للوحي وحفظة للقرآن ؟ ، أم أن الوحي نزل هذه المرّة في مرط عائشة وأبلغ رسول الله صلی الله عليه وآله وسلم الآية لعائشة ، وبعد أن أخذتها وكتبتها في الصحيفة عاد الله ونسخها ؟!
قال في مباني المعاني : فإن قيل أليس قد روي عن عبد الله بن أبي بكر عن عمرة بنت عبد الرحمان بن سعد بن زرارة ، عن عائشة أنها قالت : كان فيما يقرأ من القرآن فسقط ، يحرّم من الرضاع عشر رضعات ، ثم نسخن إلی خمس معلومات. وقد روی في غير هذه الرواية : فكانت في جُليد فأكله الدَّاجن لاشتغالنا بموته . تعني موت النبي صلی الله عليه [ وآله ] وسلم.
وقال : لو كان من القرآن المتلوّ المكتوب في المصاحف لما بطل بأكل الداجن ، ولما سقط بالنسخ ، والله يقول : ( إِنَّا نَحْنُ نَزَّلْنَا الذِّكْرَ وَإِنَّا لَهُ لَحَافِظُونَ ) (17). وقال تعالی : ( لَّا يَأْتِيهِ الْبَاطِلُ مِن بَيْنِ يَدَيْهِ وَلَا مِنْ خَلْفِهِ تَنزِيلٌ مِّنْ حَكِيمٍ حَمِيدٍ ) (18). ولو كان من القرآن لما اجتمع النسخ والمنسوخ في آية واحدة ، بل كانت الآية الناسخة تتأخر ، كما لا يجوز أن يجتمع حكمان مختلفان في وقت واحد وحالٍ واحدة ، كيف يجوز أن يكون قرآن يتلی علی عهد الرسول صلی الله عليه [ وآله ] وسلم علی ما أخبرت به عائشة رضي الله عنها ولا يحفظه واحد من الصحابة ؟ ولا كاتب الوحي الذي جمع القرآن في زمن أبي بكر ، وعثمان وهو زيد بن ثابت رضي الله عنهم ، ولو كان من القرآن لما احتمل ما يذكرون حدوثه فيه من السهو والإغفال والتفريط حتی أكله الداجن ، أو سقط من المصحف مع شدة حرص الصحابة رضي الله عنهم علی جمعه وحفظه (19).
رابعا : من غير المعقول أن يشرّع الله عز وجل حكما ثم ينسخه من قبل أن يعلم الناس به ويقتصر العلم به علی عائشة ! ، وعلماء الأُصول يرفضون فكرة نزول حكم يُنسخ قبل أن يعمل الناس به ، فلماذا نزل إذن ؟! والكثير الكثير من الإشكالات التي تراود الذهن عند تصور هذا النسخ العجيب !
خامسا : ما ذكره أحد علمائهم ، وهو شيخ الأزهر صاحب تفسير المنار حيث قال اعتراضا علی رواية عائشة : وإذا قال السائل : إذا صح هذا فما هي حكمة نسخ العشر بالخمس عند عائشة ومن عمل بروايتها ، ونسخ النسخ أيضاً عند من قبل روايتها ، وادعی أن الخمس نسخت أيضاً بنسخ تلاوة لأنه الأصل ولم يثبت خلافه ؟ لعل أظهر ما يمكن أن يجاب به عن هذا هو أن الحكمة في هذا هي التدرج في هذا التحريم ، كما وقع في تحريم الخمر لا يخطر في البال شيء آخر يمكن أن يقولوه ، وإذا انصفوا رأوا الفرق بين تحريم الخمر وتحريم نكاح الرضاع واسعاً جداً ، فإن شارب الخمر يؤثر في العصب تأثيراً يغري الشارب بالعودة إليه حتی يشق عليه تركه فجأة ، ولا كذلك ترك نكاح المرضعة أو ابنتها مثلا (20).
لا معنی لتأويلها بقراءة الصحابة للمنسوخ تلاوة !
ومع هذا كله فإن البعض يرفض العقل والمنطق الذي يدافع عن قداسة القرآن ، لئلا تتعرض قداسة عائشة أو صحيح مسلم لأي خدش ! ، وهؤلاء القوم يلزمهم القول بالتحريف الصريح ؛ لأن عائشة تدعي أن آية خمس رضعات بقيت إلی ما بعد وفاة النبي صلی الله عليه وآله وسلم فيما يقرأ القرآن وهي غير موجودة في مصحفنا ، وتأويل كلامها بأن تلك الآية نسخت في اواخر حياة النبي صلی الله عليه وآله وسلم وبقي بعض الصحابة علی قراءتها إلی ما بعد وفاته صلی الله عليه وآله وسلم جهلا منهم بنسخها ، أمر فاسد لأمور :
أولا : إن هذا التأويل قائم علی نقطة واحدة وهي أن بعض الصحابة كانوا يعلمون بنصها إلی ما بعد وفاة النبي صلی الله عليه وآله وسلم ، وهذا يناقض بيان عائشة الآخر الذي أخرجه الصنعاني في المصنف بسند صحيح عن سالم بن عبد الله :
إن عائشة زوج النبي صلی الله عليه [ وآله ] وسلم أرسلت به إلی أختها أم كلثوم ابنة أبي بكر لترضعه عشر رضعات ليلج عليها إذا كبر ، فأرضعته ثلاث مرات ثم مرضت فلم يكن سالم يلج عليها. قال : زعموا أن عائشة قالت : لقد كان في كتاب الله عز وجل عشر رضعات ثم رد ذلك إلی خمس ولكن من كتاب الله ما قبض مع النبي صلی الله عليه [ وآله ] وسلم. (21)
وهذه الرواية واضحة في أن بعض القرآن ومنه هذه الآية المزعومة قد ذهب مع وفاة رسول الله صلی الله عليه وآله وسلم ، فكيف يقال أن بعض الصحابة كانوا يقرأون الآية إلی ما بعد وفاته صلی الله عليه وآله وسلم ؟!
ورواية المصنف لا يمكن تأويلها بأي تأويل غير التحريف ، كنسخ التلاوة أو المنسأ ، لأن نسخ التلاوة أو المنسأ إن وقع في هذه الآيات فيجب أن يأتي الله بخير منها أو مثلها بمفاد الآية التي احتج بها أهل السنة علی الوقوع (!) ، وهي ( مَا نَنسَخْ مِنْ آيَةٍ أَوْ نُنسِهَا نَأْتِ بِخَيْرٍ مِّنْهَا أَوْ مِثْلِهَا أَلَمْ تَعْلَمْ أَنَّ اللَّـهَ عَلَىٰ كُلِّ شَيْءٍ قَدِيرٌ ) (22) ، وهذه الرواية تقول : إن بعض القرآن قد قبض مع قبض النبي صلی الله عليه وآله وسلم ! فلا معنی لنسخ التلاوة أو المنسأ هنا لأنه لم ينزل قرآن هو خير منها أو مثلها بعد وفاة النبي صلی الله عليه وآله وسلم كما هو معلوم بالبداهة !
ثانيا : حتی لو تجاوزنا رواية المصنف ، فإن هذا التأويل لقولها ( وهن فيما يقرأ من القرآن ) خلاف ظاهر اللفظ والمتبادر منه ، لأن المتبادر منه أن تلك الآية كانت كغيرها من آيات القرآن ، لا أنها كانت من غير القرآن لكن الصحابة ألحقوها في القرآن لجهلهم !!
وواضح أن تأويل الكلام إلی خلاف ظاهره يحتاج إلی دليل يدل عليه وإلا لفسد الدين بل لفسدت كل أقوال العقلاء.
وقد قال شيخهم صاحب تفسير المنار : وإذا سأل سائل لماذا لم يثبتوها حينئذ في القرآن ؟ أجابه الجامدون علی الروايات من غير تمحيص لمعانيها بجوابين : ... ثانيهما : انهم لم يثبتوها لعلمهم بأنها نسخت ، وقول عائشة أنها كانت تُقرأ يراد به أنه كان يقرأها من لم يبلغه النسخ ، وهذا الجواب أحسن وأبعد عن مثار الطعن في القرآن برواية آحادية ، ولكنه خلاف المتبادر من الرواية. (23)
لذا فمن يؤول الكلام ويحمله علی خلاف ظاهره مطالب بالدليل وحيث لا دليل فظاهر الكلام هو المعتمد ، وهذا في حال عدم وجود دليل علی بطلان تأويلهم فكيف لو كان هناك دليل علی بطلان هذا التأويل وهي رواية المصنف ؟!
ثالثا : لو صح تأويلهم هذا من أن بعض الصحابة كان يقرأ بها بعد وفاة رسول الله صلی الله عليه وآله وسلم ، لما انفردت عائشة بنقل هذه الآيات المزعومة.
رابعا : إن كان تأويلهم صحيحا ، فلماذا لم تنقل لنا رواية واحدة تحكي قراءة فلان من الصحابة لهذه الآية ، كما نقلوا شواذ القراءات عن الكثير من الصحابة بأقل من هذا المورد ، كما سيأتي.
خامسا : لا معنی لطرح نسخ التلاوة كتأويل لما قالته عائشة ، لأن نسخ التلاوة يثبت التحريف ولا ينفيه كما بينا سابقا ، فإن ادعاءه يعني التسليم المسبق بقرآنية الآيتين ، وحيث لا تواتر علی قرآنيتهما فيعني أنهم أدخلوا في القرآن آيتين ليستا منه ، ولو حصّلوا التواتر ـ ولن يفعلوا ـ يلزمهم لإثبات نسخهما وعدم ضياعهما من المصحف تواتر آخر وهذا مفقود قطعا.
ولذا فإن من يصحح الرواية عن عائشة يلزمه علی أحسن التقادير أن يقول : إن عائشة كانت تری تحريف القرآن اشتباها وخطأ.
من طعن في مضمون رواية صحيح مسلم من علماء أهل السنة
وحيث إنه لا يمكن تأويل هذه الرواية بلا دليل ، فقد ذهب بعض علماء أهل السنة إلی رفض الرواية والحكم بكذبها ؛ لأنها تطعن في صميم القرآن وقداسته ، والبعض منهم رفض مضمونها فقط دون التعرض لأصل الرواية ! مع أن رفض المضمون مع القول بصحتها هو تكذيب أو تخطئة من صح إليه الإسناد وهي عائشة ! :
قال الإمام السرخسي : والشافعي لا يظن به موافقة هؤلاء في هذا القول ، ولكنه استدل بما هو قريب من هذا في عدد الرضعات ، فإنه صحح ما يروی عن عائشة : وإن مما أُنزل في القرآن ( عشر رضعات معلومات يحرمن ). فنسخن بخمس رضعات معلومات ، وكان ذلك مما يتلی في القرآن بعد وفاة رسول الله صلی الله عليه وآله. والدليل علی بطلان هذا القول قوله تعالی ( إِنَّا نَحْنُ نَزَّلْنَا الذِّكْرَ وَإِنَّا لَهُ لَحَافِظُونَ ) (24). والمعلوم أنه ليس المراد الحفظ لديه تعالی ، فإنه تعالی من أن يوصف بالغفلة أو النسيان ، فعرفنا أن المراد الحفظ لدينا ... وقد ثبت أنه لا ناسخ لهذه الشريعة بوحي ينزل بعد وفاة رسول الله صلی الله عليه وآله ، ولو جوزنا هذا في بعض ما أُوحي إليه لوجب القول بتجويز ذلك في جميعه ، فيؤدي ذلك إلی القول بأن لا يبقی شيء مما يثبت بالوحي بين الناس في حال بقاء التكليف. وأي قول أقبح من هذا ؟! ومن فتح هذا الباب لم يأمن أن يكون بعض ما بأيدينا اليوم أو كله مخالفاً لشريعة رسول الله صلی الله عليه وآله بأن نسخ الله ذلك بعده ... وبه يتبيّن أنه لا يجوز نسخ شيء منه بعد وفاته ، وما ينقل من أخبار الآحاد شاذ لا يكاد يصح شيء منها.
وحديث عائشة لا يكاد يصح ؛ لأنه ـ الراوي ـ قال في ذلك الحديث : وكانت الصحيفة تحت السرير فاشتغلنا بدفن رسول الله صلی الله عليه وآله فدخل داجن البيت فأكله . ومعلوم أنه بهذا لا ينعدم حفظه من القلوب ولا يتعذر عليهم إثباته في صحيفة أخری ، فعرفنا أنه لا أصل لهذا الحديث (25).
وقال في المبسوط : أما حديث عائشة رضی الله تعالی عنها فضعيف جدا لأنه إذا كان متلوا بعد رسول الله صلی الله عيله وآله وسلم ونسخ التلاوة بعد رسول الله صلی الله عليه وآله وسلم لا يجوز ، فلماذا لا يتلی الآن ، وذكر في الحديث : فدخل داجن البيت فأكله (26).
وقال القرطبي : واعتبر الشافعي في الإرضاع شرطين : أحدهما : خمس رضعات ؛ لحديث عائشة قالت : كان فيما أنزل الله عشر رضعات معلومات يحرمن ، ثم نسخن بخمس معلومات ، وتوفي رسول الله صلی الله عليه وآله وسلم وهن مما يقرأ من القرآن.
موضوع الدليل منه أنها أثبتت أن العشر نسخن بخمس ، فلو تعلق التحريم بما دون الخمس لكان ذلك نسخا للخمس ، ولا يقبل علی هذا خبر واحد ولا قياس ؛ لأنه لا ينسخ بهما (27).
وقال ابن حجر العسقلاني : فقول عائشة عشر رضعات معلومات ثم نسخن بخمس معلومات فمات النبي صلی الله عليه [ وآله ] وسلم ، وهن مما يقرأ لا ينتهض للاحتجاج علی الأصح من قولي الأُصوليين ؛ لأن القرآن لا يثبت إلا بالتواتر ، والراوي روی هذا علی أنه قرآن لا خبر ، فلم يثبت كونه قرآنا ، ولا ذكر الراوي أنه خبر ليقبل قوله فيه (28).
وقال ابن عبد البر : قال أبو عمر : أما حديث عائشة في الخمس رضعات فرده أصحابنا وغيرهم ممن ذهب في هذه المسألة مذهبنا ، ودفعوه بأنه لم يثبت قرآنا ، وهي قد أضافته إلی القرآن ، وقد اختلف عنها في العمل به فليس بسنة ولا قرآن (29).
وقال ابن التركماني : قد ثبت أن هذا ليس من القرآن الثابت ، ولا تحل القراءة به ولا إثباته في المصحف ، ومثل هذا عند الشافعي ليس بقرآن ولا خبر (30).
قال الكاشاني الحنفي : أما حديث عائشة رضي الله عنها فقد قيل : إنه لم يثبت عنها وهو الظاهر ، فإنه روي أنها قالت : توفي النبي صلی الله عليه [ وآله ] وسلم وهو مما يتلی في القرآن ، فما إلی نسخه سبيل ، ولا نسخ بعد وفاة النبي صلی الله عليه وآله وسلم. ولا يحتمل أن يقال : ضاع شيء من القرآن ولهذا ذكر الطحاوي في اختلاف العلماء أن هذا حديث منكر ، وإنه من صيارفة الحديث ... (31).
قال أبو المحاسن الحنفي : فإن قيل : فقد روي عن عائشة أن الخمس رضعات توفي رسول الله صلی الله عليه [ وآله ] وسلم وهن مما يقرأ من القرآن فالجواب ... مع أنه محال لأنه يلزم أن يكون بقي من القرآن ما لم يجمعه الراشدون المهديون ، ولو جاز ذلك لاحتمل أن يكون ما أثبتوه فيه منسوخا وما قصروا عنه ناسخا فيرتفع فرض العمل به ، ونعوذ بالله من هذا القول وقائليه (32).
قال في مباني المعاني : فإنه كيف يتوهم أن يكون الناسخ والمنسوخ قد نزلا معاً حتی كتبا جميعاً في جُليدٍ فأكلتهما الداجن ؟ فإن قول القائل إنهما كتبا في رقعة واحدة منفردة عن غيرهما يشير إلی نزولهما معاً حتی اتفق كتابتهما معاً في موضع واحد دون سائر المواضع ، ولئن كان الذي أكله الداجن أحدهما دون الآخر ، وبقي الآخر ، فما بال المسلمين ما سمعوا شيئا من ذلك من رسول الله صلی الله عليه [ وآله ] وسلم حتی تفردت عائشة بسماعه وتغافلت عنه إلی أن أكله الداجن. هذا والله البعيد الذي لا يتوهم. ثم إن كثيراً من الأخبار قد نقلها قوم يحبّون نقل الغريب والشهرة له ، والافتخار بما يؤخذ عنهم دون غيرهم من غير أن يصح أصله أو يعتمد علی نقله ، وما كان بهذه المنزلة ، فلا معترض به علی كتاب الله عز وجل (33).
قال أبو جعفر النحاس : وأما قول من قال : إنّ هذا كان يقرأ بعد وفاة رسول الله صلی الله عليه وآله فعظيم ؛ لأنه لو كان ممّا يقرأ لكانت عائشة قد نبّهت عليه ، ولكان قد نقل إلينا في المصاحف التي نقلها جماعة لا يجوز عليهم الغلط ، وقد قال الله تعالی ( إِنَّا نَحْنُ نَزَّلْنَا الذِّكْرَ وَإِنَّا لَهُ لَحَافِظُونَ ) (34). وقال ( إِنَّ عَلَيْنَا جَمْعَهُ وَقُرْآنَهُ ) (35). ولو كان بقي منه شيء لم ينقل إلينا ، لجاز أن يكون ممّا ينقل ناسخاً لما نقل فيبطل العمل بما نقل ، ونعوذ بالله من هذا فإنه كفر (36).
قال الطحاوي : وهذا مما لا نعلم أحد رواه ـ كما ذكرنا ـ غير عبد الله ابن أبي بكر ، وهو عندنا وهمٌ منه ، أعني ما فيه مما حكاه عن عائشة أن رسول الله صلی الله عليه وآله وسلم توفي وهن مما يقرأ من القرآن ؛ لأن ذلك لو كان لذلك لكان كسائر القرآن ، ولجاز أن يقرأ به في الصلوات ، وحاشا لله أن يكون كذلك أو يكون قد بقي من القرآن ما ليس في المصاحف التي قامت بها الحجة علينا ، وكان من كفر بحرف مما فيها كان كافرا ، ولكان لو بقي من القرآن غير ما فيها لجاز أن يكون ما فيها منسوخاً لا يجب العمل به ، وما ليس فيها ناسخ يجب به ، وفي ذلك ارتفاع وجوب العمل بما في أيدينا مما هو القرآن عندنا ، ونعوذ بالله من هذا القول ممن يقوله. (37)
وقال في موضع آخر : ومما يدل علی فساد ما قد زاده عبد الله بن أبي بكر والقاسم بن محمد ويحيی بن سعيد في هذا الحديث ، أنا لا نعلم أحدا من أئمة أهل العلم روی هذا الحديث عن عبد الله بن أبي بكر ، غير مالك بن أنس ، ثم تركه مالك فلم يقل به ، وقل بعده إلی أن قليل الرضاع وكثيره يحرم ولو كان ما في هذا الحديث صحيحاً أن ذلك في كتاب الله لكان مما لا يخالفه ولا يقول بغيره. (38)
وقال النيسابوري : وأما ما حكي أن تلك الزيادة كانت في صحيفة في بيت عائشة فأكلتها الداجن فمن تأليفات المبتدعة (39) ، الرواية في صحيح مسلم ، والنيسابوري يقول : من تأليفات المبتدعة !!
وقال العلامة الزرقاني : وقال ابن عبد البر : وبه تمسك الشافعي ؛ لقوله لا يقع التحريم إلا بخمس رضعات تصل إلی الجوف ، وأجيب بأنه لم يثبت قرآنا ، وهي قد أضافته إلی القرآن ، واختلف عنها في العمل به فليس بسنة ولا قرآن ، وقال المازري لا حجة فيه ؛ لأنه لم يثبت إلا من طريقها ، والقرآن لا يثبت بالآحاد ، فإن قيل : إذا لم يثبت أنه قرآن بقي الاحتجاج به في عدد الرضعات لأن المسائل العملية يصح التمسك فيها بالآحاد ، قيل : هذا وإن قاله بعض الأُصوليين فقد أنكره حذاقهم ؛ لأنها لم ترفعه ، فليس بقرآن ولا حديث وأيضا لم تذكره علی أنه حديث (40).
وقال الشيخ الجزيري : ليس في حديث عائشة ما يدل علی نسخ خمس رضعات ، فلماذا لا تكون قد سقطت كما يقول أعداء الدين ؟ ومع التسليم أن فيه ما يدل ، فما فائدة نسخ اللفظ مع بقاء الحكم ؟ ومع التسليم أن له فائدة ، فما الدليل الذي يدل علی أن اللفظ قد نسخ وبقي حكمه ؟ (41).
وقال الأستاذ محمد رشيد رضا : الحق لا يظهر لهذا النسخ حكمة ولا يتفق مع ما ذكر من العلة ، وإن رد هذه الرواية عن عائشة لأهون من قبولها مع عدم عمل جمهور من السلف والخلف بها كما عملت ، فإن لم نعتمد روايتها فلنا أُسوة بمثل البخاري (42) ، وبمن قال باضطرابها خلافاً للنووي ، وإن لم نعتمد معناها فلنا أُسوة بمن ذكرنا من الصحابة والتابعين ومن تبعهم في ذلك كالحنفية ، وهي عند مسلم من رواية عمرة عن عائشة ، أو ليس رد رواية عمرة وعدم الثقة بها أولی من القول بنزول شيء من القرآن لا تظهر له حكمة ولا فائدة ، ثم نسخه وسقوطه أو ضياعه ، فإن عمرة زعمت أن عائشة كانت تری أن الخمس لم تنسخ ، وإذا لم نعتد بروايتها وإذا كان الأمر كذلك فالمختار التحريم بقليل الرضاع وكثيره ، إلا المصة والمصتين ، إذ لا تسمی رضعة ولا تؤثر في الغذاء (43).
قال الشيخ العريض : وقال الأُستاذ السايس : ما رواه مالك وغيره عن عائشة إنها قالت : كان فيما أنزل الله في القرآن عشر رضعات ... الخ ، حديث لا يصح الاستدلال به ؛ لاتفاق الجميع علی أنه لا يجوز نسخ تلاوة شيء من القرآن بعد وفاته صلی الله عليه [ وآله ] وسلم ، وهذا هو الخطأ الصراح (44)
ثم علّق عليه : وهذا هو الصواب الذي نعتقده ، وندين الله عليه ، حتی نقفل الباب علی الطاعنين في كتاب الله تعالی من الملاحدة والكافرين ، الذين وجدوا من هذا الباب نقرة يلجون منها إلی الطعن في القرآن الكريم ، حتی ننزه كتاب الله تعالی عن شبهة الحذف والزيادة بأخبار الآحاد ، فما لم يتواتر في شأن القرآن اثباتاً وحذفاً لا اعتداد به ، ومن هذا الباب نسخ القرآن بالسنة الآحادية ، بل حتی المتواترة عند بعضهم ، ونرفض كل ما ورد من الروايات في هذا الباب ، وما أكثرها ، كما ورد في بعض الأقوال عن سورة الأحزاب وبراءة وغيرها (45).
وقال الأُستاذ محمد مصطفی شلبي : والثاني طريقه مضطرب أيضاً ؛ لأنه جاء في بعض رواياته : كان فيما نزل من القرآن عشر رضعات يحرمن ، ثم نسخن بخمس رضعات يحرمن ، وتوفي رسول الله وهن فيما يقرأ من القرآن فقبول ذلك يؤدي إلی الطعن في القرآن بأنه ضاع منه شيء ، ويرد هذا كفالة الله بحفظه ، وإجماع الأُمة علی أن القرآن الذي توفي رسول الله صلی الله عليه [ وآله ] وسلم عنه لم يضع منه حرف واحد (46).
وقال الدكتور مصطفی زيد : وفي الروايات التي تذكر أنه قال : قد نسخ لفظ التحريم بخمس رضعات وبقي حكمها معمولاً به ـ وهي مروية عن عائشة رضي الله عنها ـ كثير من الاضطراب ، يحملنا علی رفضها من حيث متنها . ومن ثم يبقی منسوخ التلاوة باقي الحكم مجرد فرض ، لم يتحقق في واقعة واحدة ، ولهذا نرفضه ، ونری أنه غير معقول ولا مقبول (47).
ولا أدري كيف تصدر منهم هذه الكلمات مع أنهم يرون صحة كل ما كتبه مسلم ؟! أم أن الرواية صحيحة إلی عائشة ، وهي تقول بتحريف القرآن في نظرهم ؟!
وبعد أن نقلنا بعضا من كلمات علمائهم الذين رفضوا مضمون الرواية ، نقول :
حتی لو لم تقل عائشة ( وهن فيما يقرأ من القرآن ) ، فإن الرواية تبقی صريحة في أن عائشة تدّعي أن هناك آيتين من القرآن غير موجودتين في المصحف ، فلو أخذوا بادعاء عائشة أن تلك الجملتين من القرآن ، فقد ثبت تحريفهم للقرآن بالزيادة ؛ لأنهم ألحقوا بالقرآن آيتين لم يتواتر نقلهما كقرآن وما لم يتواتر فليس من القرآن قطعا.
ثم لنفرض أنهم أثبتوا تواتر قرآنيتهما ـ ولن يثبتوا ـ فحينئذ يثبت تحريفهم للقرآن بالنقص منه ؛ لأن المصحف لا يحتوي تلك الآيتين ! فإن قيل نسخت تلاوة ، فنقول : سلمنا ، ولكن أين تواتر نسخها ؟! وحيث لا تواتر فقد أثبت أهل السنة قرآنا غير موجود في المصحف ولم ينسخ ، وما هو إلا التحريف الصريح.
شيء من تسترهم علی طامة عائشة !
قال ابن حجر العسقلاني في الدراية في تخريج أحاديث الهداية : وفي الباب عن عائشة ، قالت : أنزل في القرآن عشر رضعات معلومات ، فنسخ من ذلك خمس وصار إلی خمس رضعات ، فتوفي رسول الله صلی الله عليه [ وآله ] وسلم والأمر علی ذلك ، أخرجه مسلم (48).
قال الزيلعي الحنفي في نصب الراية : ومن أحاديث الخصوم أيضا ما أخرجه مسلم أيضا عن عائشة ، قالت : أنزل في القرآن عشر رضعات معلومات ، فنسخ من ذلك خمس وصار الی خمس رضعات ، فتوفي رسول الله صلی الله عليه [ وآله ] وسلم والأمر علی ذلك . انتهی (49).
قال ابن قدامة الحنبلي في المغني : وجه الأُولی ما روی عن عائشة أنها قالت : أنزل في القرآن عشر رضعات معلومات يحرمن ، فنسخ من ذلك خمس وصار إلی خمس رضعات معلومات يحرمن ، فتوفي رسول الله صلی الله عليه [ وآله ] وسلم والأمر علی ذلك ، رواه مسلم (50).
فهل ما أخرجه مسلم في صحيحه هو ( والأمر علی ذلك ) أم ( وهن فيما يقرأ من القرآن ) ؟! ، ولولا أنهم محرجون من قول عائشة لما تستروا عليه.
الشيعة المساكين !
أحد علمائهم ضجر من قول عائشة ، فقام مشمرا عن ساعده ليلقي رواية عائشة بعنق الشيعة ، حيث اتهمهم مع الملاحدة بوضعها وتأليفها ! قال القرطبي المؤدب : وأما ما يحكی من أن تلك الزيادة كانت في صحيفة في بيت عائشة فأكلتها الداجن فمن تأليف الملاحدة والروافض. (51)
أقول : يا ليت القرطبي هذا يترك عادته من رمي الكلام علی عواهنه حينما يتكلم عن الشيعة ، فأين داجن عائشة في كتب الشيعة ؟! أم قصد أن ابن ماجة والطبراني وابن حزم الذين أخرجوا أكل الداجن للصحيفة كانوا من الروافض ؟! ، نعم لعلهم من الملاحدة في نظر القرطبي !
النتيجة :
إن وجود رواية كهذه في أصح المتون عندهم يلزمهم بأحد الأُمور التالية ، إما الحكم بكون الرواية فاسدة متنا وأن صحيح مسلم يحوي غير الصحيح كهذه الرواية وهو ما ذهب له بعض أهل السنة ، أو أن عائشة زادت للقرآن ما ليس منه وهذا كفر عندهم فيلزمهم تكفيرها ، أو أن القرآن محرّف كما ادعته عائشة.
الهوامش
1. صحيح مسلم 4 : 167 ، وسنن الدارمي 2 : 157 ، والمصنف للصنعاني 7 : 467 ، 470 ، وسنن الترمذي 3 : 456 ، والسنن الكبری للبيهقي 7 : 454 ، ح 15397 ، ومشكل الآثار للطحاوي 3 : 6 ، والنسائي 6 : 100 ، وسعيد بن منصور : 976 ، والمحلی لابن حزم 11 : 191 ، وموطأ مالك 2 : 117 ، ومسند الشافعي 1 : 220 وغيرها.
2. مصنف عبد الرزاق 7 : 469 ، ح 13928.
3. من أين يأتيها التشاغل ، وما شاركت بتغسيله ولا بتكفينه صلی الله عليه وآله وسلم ؟! ، ولا حتی أبوها الذي أخذته الدنيا وزبرج الملك والإمارة ورسول الله صلی الله عليه وآله وسلم لا يزال في المغتسل لم يوار بعد !
4. المحلی بالآثار لابن حزم الأندلسي 11 : 235 ـ 236 رجم المحصن.
5. سنن ابن ماجة 1 : 625 ـ 626 ، ح 1944.
6. المعجم الأوسط 8 : 12 ، ح 7805 ، ومسند أبي يعلی 8 : 64 ، ح 4588 ، وسنن الدارقطني 4 : 179 ، ح 22.
7. يوسف : 103.
8. شرح النووي علی صحيح مسلم 10 : 29.
9. اختلاف الفقهاء والقضايا المتعلقة به في الفقه الإسلامي المقارن : 34 ، د . أحمد محمد الحصري.
10. السنن الكبری للبيهقي 7 : 457.
11. سير أعلام النبلاء 4 : 458 ، ت 176.
12. السنن الكبری للبيهقي 7 : 458 ـ 459.
13. كتاب السنن 1 : 276 ، ح 968.
14. مصنف ابن أبي شيبة 3 : 548 ، ح 17031.
15. فتح الباري بشرح صحيح البخاري 9 : 146 ـ 147.
16. الجواهر النقي لابن التركماني 7 : 454 ، ط. دار الفكر.
17. الحجر : 9.
18. فصلت : 42.
19. مقدمتان في علوم القرآن : 87 ـ 88.
20. تفسير المنار 4 : 473 للأستاذ محمد رشيد رضا ، ط . دار المنار 1365 هـ . أقول : وفيما ذكره نظر ؛ لأنه يمكن الجواب عنه بأن مناطات الأحكام لا يمكن الوقوف عليها ، وليس لنا معرفة علل الأحكام وسبب نزولها ، فلو كان الحكم دائرا مدار العلم بالعلة لفسد الكثير من أحكام الشريعة غير المعلومة المدرك.
21. مصنف عبد الرزاق 7 : 469 ، ح 13928.
22. البقرة : 106.
23. تفسير المنار 4 : 473 للأستاذ محمد رشيد رضا ط . دار المنار 1365 هـ.
24. الحجر : 9.
25. أُصول السرخسي 2 : 78 ـ 80.
26. المبسوط للسرخسي 5 : 134.
27. تفسير القرطبي 15 : 109.
28. فتح الباري بشرح صحيح البخاري 9 : 147.
29. التمهيد لابن عبد البر 8 : 268 ـ 269.
30. الجوهر النقي لابن التركماني 7 : 454 ، ط . دار الفكر.
31. بدائع الصنائع 4 : 7.
32. معتصر المختصر 1 : 321.
33. مقدمتان في علوم القرآن : 89 ـ 90.
34. الحجر : 9.
35. القيامة : 17.
36. الناسخ والمنسوخ لأبي جعفر النحاس : 11.
37. مشكل الآثار للطحاوي 3 : 6 ، ط . دار صادر.
38. نفس المصدر 3 : 8.
أقول : لم يأخذ إمام المالكية بهذه الرواية ، ولا اعتمد عليها في فقهه ، وهذه رواية الموطأ 2 : 608 ح 1270 : عبد الله بن أبي بكر بن حزم عن عمرة بنت عبد الرحمان ، عن عائشة زوج النبي صلی الله عليه [ وآله ] وسلم أنها قالت : كان فيما أنزل من القرآن « عشر رضعات معلومات يحرمن » ثم نسخن بخمس معلومات ، فتوفي رسول الله صلی الله عليه [ وآله ] وسلم ، وهو فيما يقرأ من القرآن . قال يحيی : قال مالك : وليس علی هذا العمل. وذيل الكلام صريح في أن مالك بن أنس لم يعتمد الرواية ، وقد جاء في فقه مالك في كتاب المدوّنة الكبری 2 : 405 ما يؤكد عدم التزامه بما أخرجه في موطئه من رواية عائشة : ( قلت لعبد الله بن القاسم : أتحرّم المصة والمصّتان في قول مالك قال : نعم ) ، مع أن مسلم بن الحجاج قد روی رواية عائشة في صحيحه عن مالك بن أنس نفسه !
39. غرائب القرآن ورغائب الفرقان للعلامة نظام الدين النيسابوري ، بهامش تفسير الطبري 21 : 81 ، ط . دار المعرفة.
40. شرح الزرقاني 3 : 321.
41. الفقه علی المذاهب الأربعة لعبد الرحمان الجزيري 4 : 257 ، ط. مكتبة الإستقامة السادسة في مصر.
42. لاحظ أُسلوبه في امتصاص غضب القارئ واستشفاعه برأي البخاري ، كي يتحرز من مغبة إبطاله لحديث صحيح مسلم !
43. تفسير المنار 4 : 473 للأُستاذ محمد رشيد رضا ، ط . دار المنار 1365 هـ.
44. فتح المنان : 216 ـ 217.
45. فتح المنان : 219.
46. أُصول الفقه الإسلامي : 554 ـ 555 . للأُستاذ محمد مصطفی شلبي ، أُستاذ ورئيس قسم الشريعة بالجامعة العربية.
47. النسخ في القرآن الكريم للدكتور مصطفی زيد ـ دراسة تشريعية تاريخية نقدية 1 : 283 ـ 284 مسألة رقم 388 و 389 و 392.
أقول : عدد من رفض رواية مسلم قليل بالنسبة لبقية علماء أهل السنة ، فإنّ المناقشة في صحة أي حديث أخرجه البخاري ومسلم في كتابيهما يعتبر من اتباع غير سبيل المؤمنين ! حتی وإن كان الحديث يطعن في كتاب الله عز وجل ! نعوذ بالله من الخذلان.
48. الدراية في تخريج أحاديث الهداية 2 : 68.
49. نصب الراية 3 : 218.
50. المغني 8 : 138.
51. تفسير القرطبي 14 : 113 ، أقول : قد قصد القرطبي من الزيادة آية الرجم ، وقد نقلنا ما يدل من رواياتهم أن آية الرضاع ، وآية الرجم كانتا في صحيفة واحدة ، والأشهر هو أكل الداجن لآية الرضاع لذلك ذكرت قوله هنا لا في آية الرجم.
مقتبس من كتاب : [ إعلام الخلف ] / المجلّد : 2 / الصفحة : 374 ـ 404
التعلیقات
١