شرح دعاء كميل : يا رب وأنت تعلم ضعفي عن قليل من بلاء الدنيا وعقوباتها ...
عزّ الدين بحر العلوم
منذ سنةيا رب وأنت تعلم ضعفي عن قليل من بلاء الدنيا وعقوباتها ، وما يجري فيها من المكاره على أهلها . على أن ذلك بلاء ، ومكروه قليل مكثه ، يسير بقاؤه قصير مدته فكيف احتمالي لبلاء الاۤخرة ، وجليل وقوع المكاره فيها ، وهو بلاء تطول مدته ، ويدوم مقامه ، ولا يخفف عن أهله لأنه لا يكون الا عن غضبك ، وانتقامك ، وسخطك . وهذا ما لا تقوم له السموات والأرض . يا سيدي فكيف بي وأنا عبدك الضعيف الذليل الحقير المسكين المستكين .
يتكفل الدعاء في هذا الفصل بالنظرة الأولية ببيان أن طاقات الإِنسان البدنية محدودة لأنها لا تخرج عن تشكيلة كاملة من اللحم ، والدم ، والعصب ، والعظم . وهذه المجموعة من الأعضاء ، والاجزاء لا قدرة لها على مقاومة ما يطرأ على البدن من العوارض الخارجية كالأمراض ، وما تتعقبها من آلام ، وجوع ، وعطش ، وبرودة ، وحرارة ، وما تخلفها هذه العوامل من تأثيرات على الإِنسان .
فهو إذاً ضعيف ، وعاجز عن تحمل هذه العوارض فكيف سيقف صامداً ، ويواجه ما سيلاقيه في الآخرة من العذاب المؤقت أو الدائم تبعاً لحجم الذنب الذي صدر منه .
والدعاء ـ كما قلنا ـ بنظرته الأولية يتناول هذه الجهة فيوجه الداعي الى عرض عدم المقاومة هذه على ربه ، والتماس رحمته لتشمل هذا البدن الضعيف غير القادر على تحمل بلاء الآخرة بأبعاده المختلفة عن بلاء الدنيا كماً ، وكيفاً .
أما بالنظرة التفصيلية فنرى الدعاء في هذا الفصل يتعرض الى ما يواجه الإِنسان من بلاء ، وشبهه فيقسمه الى قسمين :
دنيوي ، وأخروي .
بدأ ببيان القسم الأول بقوله : « يا رب وانت تعلم ضعفي عن قليل من بلاء الدنيا » ، وينتهي الى قوله : « قصير مدته » .
أما القسم الثاني : فيبدأ من قوله : « فكيف احتمالي لبلاء الآخرة » .
لينتهي الى قوله : « وهذا ما لا تقوم له السماوات والأرض » .
أما القسم الأول : وهو البلاء الدنيوي فقد تناوله الدعاء فقسمه الى ثلاثة اقسام :
قسم : أطلق عليه اسم ( البلاء ) .
وقسم آخر : اطلق عليه اسم ( العقوبة ) .
أما القسم الثالث : فقد عبر عنه باسم ( المكاره ) .
وتستوحي هذه الأقسام الثلاثة من عبارة الدعاء القائلة « يا رب وانت تعلم ضعفي عن قليل من بلاء الدنيا ، وعقوباتها وما يجري فيها من المكاره على أهلها » .
ثم ومن ثنايا الفقرة القائلة : « ولا يخفف عن أهله » الواردة بعد قوله : « وهو بلاء تطول مدته ، ويدوم مقامه » .
تظهر لنا الحقيقة التالية :
وهي : أن ما يكتب على الإِنسان من جزاء عقابي نتيجة إرتكابه المخالفات في دار الدنيا ، وإن كان الله قد ترك موضوع مغفرته لنفسه حسب ما نصت عليه الآية الكريمة .
من ( إِنَّ اللَّـهَ لَا يَغْفِرُ أَن يُشْرَكَ بِهِ وَيَغْفِرُ مَا دُونَ ذَٰلِكَ ) .
ولكن ذلك إنما يجري ما لم يكن يصدر عليه الحكم ، ويذهب الى الجحيم أي في دار الدنيا حيث يكون العبد في وضع قابل للتوبة ، والرجوع الى حضيرة الإِيمان .
وهكذا قبل يوم الحساب إذ ربما تكون الحسنات تتغلب على سيئاته بواسطة ما قدمه من حسنات ، أو ما يصل اليه من الغير لو كان ذلك الغير قد استغابه ، أو كان الشخص مقتولاً ، أو قد حصل أجر الشهيد نتيجة موته بغرق ، أو حرق ، وما شاكل مما هو منصوص عليه في الشريعة . أما لو انتهت عملية المحاسبة في يوم القيامة وكان ( والعياذ بالله ) ممن جزاؤه جهنم ، ونفذ عليه الحكم فإن باب المغفرة يغلق في وجهه من قبل الله تعالى .
كما سنوضح ذلك عندما نصل الى تناول هذه الفقرة على الخصوص بالبحث . والآن من الإِجمال والعرض لما يحتويه الفصل من هذه الفهرسة الى التفصيل في مطالعات الفقرات .
« يا رب وأنت تعلم ضعفي عن قليل من بلاء الدنيا » .
البلاء في اللغة : هو الغم الذي يبلي الجسم .
وبهذه الفقرة يبدأ الداعي في بيان عدم قدرته على تحمل ما يطرأ على بدنه من عوارض في هذه الدنيا أولاً من بلائها ، وهو القسم الأول فإنه اعتبار كونه إنساناً يكون عرضة لكل ما يطرأ عليه من انحرافات مزاجية ، فإن الجسم بما يشتمل عليه من الأجهزة يسير منتظماً على وفق نظام دقيق مرتب ، وطريقة خاصة ، يؤدي كل عضوٍ وظيفته الموكولة اليه فيحافظ البدن عندها على الصحة ، ويكون معافىً من كل سوء .
أما إذا عرض لبعض تلك الأجهزة مرض من الأمراض فإن عدم قيام ذلك العضو باداء وظيفة يوجب انحراف صحة ذلك الشخص ويسبب له آلاماً وانزعاجات تختلف بحسب الشدة والضعف تبعاً لنوعية المرض الطاريء او الحوادث الطارئة على الجسم من جراء الخدوش أو الكسور وغيرها .
ومهما حاول الإِنسان من المحافظة على صحته فإن الأمراض لا مفر منها وعلى الأقل ما يلازم الحالات الطارئة من المصادفات الخارجية والتي تلازمه نتيجة تقدمه في السن من ضعف وهزال وغيرهما وكل ذلك من الابتلاءات الدنيوية التي يحسن الإِنسان من جرائها بالآلام تورثه الغم ، والذي هو : البلاء وهو ـ في الوقت نفسه ـ ضعيف لا يتحمل معاناتها .
« وعقوباتها »
وهذا هو القسم الثاني من انواع الابتلائات ، والذي اطلق عليه الدعاء اسم العقوبة .
والعقوبات الدنيوية فإنها تلاحق الإِنسان نتيجة مخالفاته لقضايا نهي عنها في الشريعة ، ولكنه لم يرتدع عن ذلك فيكون الابتلاء بها من قبيل التأديب ، أو ما يطلق عليه من الآثار الوضعية الدنيوية المترتبة على إيجاد ما نهي عن القيام به حفاظاً على وحدة النظام .
ولنا على ذلك أحاديث كثيرة تصرح بهذا النوع من العقاب الدنيوي إلا أن الملاحظ على تلك الأخبار أن العقوبة التي يستحقها الفاعل على نحوين :
عقوبة : تخص مرتكب الذنب بالذات .
وعقوبة : تخص المذنب ، وتسري الى عقبه ، وعقب عقبه .
أما العقوبة من القسم الأول : فيدخل فيها كل ما جاء في الحدود الشرعية من الجلد ، والرجم ، وقطع اليد ، وغيرها من بقية الحدود التي تتعرض لها كتب الفقه في هذا المجال .
وتأتي هذه العقوبات مفروضة من قبل الشارع المقدس لتأديب أفراد المجتمع ، وحسم مادة الفساد ، ولئلا تشيع الفاحشة . وهكذا الحال في الظلم ، والتجاوز على الآخرين ، فلا يترك الله عز وجل عقابه الى الدار الآخرة ، بل يفرض له عقاباً دنيوياً للوقوف في وجه الظالم ، وإنصاف المظلوم . وبهذا الخصوص جاء عن النبي ( صلى الله عليه وآله وسلم ) مروياً عن الإِمام الباقر « عليه السلام » قوله :
« ما من أحد يظلم بمظلمة إلا أخذه الله بها في نفسه ، وماله . وأما الظلم الذي بينه وبين الله ، فإذا تاب غفر الله له » (1) .
فالظلم حسب منطوق الخبر ظلمان .
ظلم : يعود أمره بين العبد وربه ، وهذا يرجع فيه الى الله عز وجل وهو أملك به إن شاء غفره ، وإن شاء عاقب عليه .
وظلم : يكون بين البشر أنفسهم حيث يتجاوز بعضهم على البعض الآخر ، وهذا لا يتدخل الله في أمره ، بل يعود في الحقيقة الى المظلوم ، فهو الذي يبت فيه إن شاء تجاوز ، وإن شاء بقي على ضلامته ليجد من حماية الله له ما يرد حقه اليه فهو نصير المظلوم ، وخصم الظالم . وويل لإِنسان يكون الله خصمه ، ولهذا نجد الإِمام أمير المؤمنين علي بن أبي طالب « عليه السلام » يحذر من مغبة هذا النوع من المصير الوخيم فيقول مخاطباً ولده الإِمام الحسن « عليه السلام » :
« يا بني إياك ، وظلم من لا يجد عليك ناصراً الا الله » .
وهذا أمر طبيعي أن يعاقب الظالم في نفسه ، وماله في دار الدنيا نتيجة ظلمه ، وعدم إمهاله الى الحساب الأخروي يوم القيامة .
فإن هذا التأديب الوقتي المعجل لازم لتأديب الآخرين في عدم اقدامهم على مثل ذلك العمل ، وبذلك تكفل سعادة الأفراد ، وحفظ حقوقهم وبهذا يستريح أبناء المجتمع الواحد من التعدي ، ويأمن البعض من البعض الآخر .
أما الإِبقاء ، والإِغضاء على مثل هذه التعديات فمعناه : عدم الإِنتظام ، وعرقلة المسيرة الإِجتماعية على نحوها الكامل .
وهكذا الحال في كثير من الأحاديث التي تعرض صوراً عديدة من مجازات البعض بالفقر ، والبعض بالمرض ، وغير هذين من أنواع الابتلاءات الدنيوية .
وأما العقوبة من القسم الثاني : حيث يكون الجزاء والتأديب سارياً الى من يتناسل من الجاني والمعبر عنه بعقبه ، أو عقب عقبه فقد ورد في إبن الزنا حرمانه من بعض المناصب الدينية في موارد نصت عليها كتب الفقه .
وكذلك ما يصرح به الحديث عن الإِمام الصادق « عليه السلام » من قوله : « من ظلم مظلمة أخذ بها في نفسه ، أو في ماله ، أو في ولده » (2) .
وهنا نرى الجزاء سرى من الجاني الى ولده .
وبعرضنا لمثل هذا النوع من الجزاء التأديبي الساري من الجاني الى عقبه في الطبقة الأولى ، أو في الطبقات المتعاقبة من نسله سنواجه مشكلة لا بد من التصدي لها ، ولحلها .
وتتخلص المشكلة في أن هذا النوع من التأديب الساري لا ينطبق وقاعدة العدل الإِلۤهي بالنظر الى النتائج المترتبة على هذه السراية من أخذ البريء بذنب المجرم .
ـ وعلى سبيل المثال ـ فولد الزاني ما ذنبه ليمنع من بعض الحقوق التي يتمتع بها الآخرون من الزعامة الدينية ، أو إمامة الجماعة في كثير من أقوال الفقهاء ، وهكذا مع انه مثال الورعِ التقي ؟
أو أن ولد الظالم لماذا يؤخذ بأشق الأحوال ، وهو شخص طيب متدين ؟
ونظير هذا ما جاء في مسألة الرق فإن من أحكام الشريعة الإِسلامية هي إسترقاق المسلمين للكفار بشروط تذكر في باب الجهاد من كتب الفقه . ولا ينفع إسلام الأسير بعد إسترقاقه في حال الحرب ، بل يبقى الرق ملازماً له ، ولولده ما تناسلوا . وهذا ما يفتح على الشريعة نفس الإِشكال الذي ذكرناه الآن فإن ولد المأسور ، وعقبهم ، وهكذا ما تناسلوا ما هو ذنبهم ، وأبوهم ، أو جدهم ، أو أحد أجدادهم ، ولو كان بعيداً كافراً كان أو محارباً ، وقد أسره المسلمون فكان رقاً لهم . وان هذا الولد ، أو الحفيد ، أو من تناسل يجد نفسه الآن مسلماً ، وليس هو الجاني فلِمَ يؤخذ بأشق الأحوال ؟
مشكلة لا بد لها من حل :
ولا بد لنا من حلٍ لهذه المشكلة ، لذلك نهرع الى أهل البيت « عليهم السلام » لنبحث بين الاحاديث المروية عنهم لعلنا نجد ما يلقي الضوء على الخطوط الأولية لحل هذه المشكلة .
ومن إستعراضنا لبعض الأحاديث يظهر لنا أن بعض طلاب مدرسة الإِمام الصادق « عليه السلام » تصدى لعرض المشكلة على الإِمام ليسمع منه الجواب .
يقول عبد الأعلى مولى آل سام قال أبو عبد الله « عليه السلام » :
« من ظلم سلط الله عليه من يظلمه ، أو على عقب عقبه » .
قلت : هو يظلم فيسلط الله على عقبه ، أو على عقب عقبه ؟
فقال : ان الله عز وجل يقول : ( وَلْيَخْشَ الَّذِينَ لَوْ تَرَكُوا مِنْ خَلْفِهِمْ ذُرِّيَّةً ضِعَافًا خَافُوا عَلَيْهِمْ فَلْيَتَّقُوا اللَّـهَ وَلْيَقُولُوا قَوْلًا سَدِيدًا ) (3) .
ويأتي جواب الإِمام « عليه السلام » لعبد الأعلى بإحالته على الآية الكريمة والتي وردت في أولياء اليتامى من تذكيرهم بيومٍ قد يتركوا يتامى ، فيوكل أمرهم الى أولياء أيضاً ، فإذا هم رحموا هؤلاء اليتامى قدر الله من يرحم يتاماهم ، والعكس بالعكس .
ويسمى هذا الجواب بالإِصطلاح العلمي ( جواباً نقضياً ) أي إجابة السائل بعدم الإِستبعاد ، فإن مثل ذلك قد وقع في القرآن الكريم .
والجواب النقضي في الحقيقة لا يحل الإِشكال ، ويرفع ما يعلق بنفس المعترض من إبهام ، بل ربما يقول البعض : بأن الجواب النقضي يزيد في الإِشكال لا أنه يرفعه . فيقال أيضاً في الإِشكال على نفسه الآية : بأنه ما ذنب اليتيم الجديد يقيض الله له ولياً لا يرحمه لأن أباه لم يرحم من كان من اليتامى يتولى أمره ؟
ولنترك السائل عبد الأعلى ، ومدى قناعته بهذا الجواب ، ولا نتوغل في السبب الذي دعا الإِمام أن يجيب بالجواب النقضي ولا يجيبه جواباً حلياً .
ولا ندري فلربما كان المقام يقتضي بيان هذا النوع من الجواب لمصلحة لاحظها الإِمام « عليه السلام » في عدم التوسع في الإِجابة علنياً ، وبعد ذلك أجابه بحل الإِشكال . وفي هذا الصدد نرى الشيخ المجلسي وهو من كبار علماء الطائفة الجعفرية يعلق على جواب الإِمام النقضي في الحديث المذكور فيقول : ولما كان إستبعاد السائل عن إمكان وقوع مثل هذا ـ لا عن انه ينافي العدل ـ فأجاب « عليه السلام » بوقوع مثله في قضية اليتامى . أو أنه لما لم تكن له قابلية فهم ذلك ، وأنه لا ينافي العدل أجاب بما يؤكد الوقوع . أو يقال رفع « عليه السلام » الإِستبعاد بالدليل الإِني وترك الدليل اللمي والكل متقاربة .
وأما دفع توهم الظلم في ذلك فهو : أنه يجوز أن يكون الألم بالغير لطفاً لآخرين مع تعويض أضعاف ذلك الألم بالنسبة الى من وقع عليه الألم بحيث إذا شاهد العوض رضي بذلك الألم ، كأمراض الأطفال ، فيمكن أن يكون الله تعالى أجرى العادة بأن من ظلم أحداً ، أو أكل مال يتيم ظلماً أن يبتلى أولاده بمثل ذلك فهذا لطف بالنسبة الى كل من شاهد ذلك ، أو سمع من مخبر علم صدقه ، فيرتدع عن الظلم على اليتيم ، وغيره ، ويعوض الله الأولاد بأضعاف ما وقع عليهم أو أخذ منهم في الآخرة مع أنه يمكن أن يكون ذلك لطفاً بالنسبة اليهم أيضاً ، فيصير سبباً لصلاحهم ، وإرتداعهم عن المعاصي ، فإنا نسلم أن أولاد الظلمة لو بقوا في نعمة آبائهم لطغوا وبغوا كما كان أباؤهم فصلاحهم أيضاً في ذلك ، وليس في شيء من ذلك ظلم على أحد » (4) .
وبتعبير آخر : أن المصالح الإِجتماعية ، وما تقتضيه في سبيل الحفاظ على النظام العام ، قد تفرض أحكاماً يكون الحيف وارداً على البعض . ولكن ذلك لا يضر ما دام فيه رعاية المصلحة العامة مع تدارك ما يقع على المظلوم من حيف بإضعاف ما فاته .
ـ وعلى سبيل المثال ـ فإن وقوع الظلم على يتامى الظالم حيث يتوخى من ورائه تأديب الأولياء يتسامح فيه لأجل هذه الغاية مع إمكان أن يكون الله سيجبر هؤلاء اليتامى بأنواع الحسنات بما يجبر كسرهم ، ويزيد . وهكذا أولاد الظلمة ، وأولاد الزنا ، وأولاد العبيد . كل أولئك يجبرون بما يعوض خسارتهم ، ولدى النتيجة : إذاً لا يكون في ذلك عليهم ظلم . لأن الظلم كما تقول عنه كتب اللغة :
هو : وضع الشيء في غير موضعه ، وظلمه : جار عليه ، ونقصه حقه (5) .
ومع التعويض ، وجبران الحيف لا يكون في البين ما يدعو الى تسمية ذلك ظلماً ، ومن هذا القبيل نتعرض الى مثالٍ آخر يوضح لنا المطلوب ويلقي ضوءً على عدم وجود الحيف بعد التعويض ، وهو ما تذكره الكتب الفقهية من أنه لو تترس الكفار بأسارى المسلمين بأن جعلوهم في الصفوف الأمامية لجيش المشركين . والغرض من ذلك هو ايقاف الجيش الإِسلامي حيث يتوقف المسلمون من قتل اسراهم وبهذه العملية يتقدم المشركون في زحفهم . وفي هذه الصورة يوجب الفقهاء إستمرار الزحف للجيش الإِسلامي ، ولو اقتضى ذلك قتل أولئك الأسرى الذين تترس بهم المشركون ، ووضعوهم في الصفوف الأولية من جيشهم ـ وفي الوقت نفسه ـ يحكم الفقهاء كتعويض أولي . . . دفع دية المقتولين الى ورثتهم ، ويتحمل الدية بيت مال المسلمين ، وهو الموضوع لمصالحهم .
أما التعويض الأخروي : فلهم من الله الجنة لأنهم شهداء وقعوا صرعى في معركة الحق مع الباطل .
وبهذا الجواب : من بيان فكرة التعويض تخف حدة الإِشكال المذكور . فإن المصلحة الخاصة تذوب في المصلحة العامة رعاية لحفظ وحدة المجتمع ، وحفاظاً على الإِطار العام الذي تحدده الشريعة في هذا الخصوص . وعوداً لموضوعنا من بحث أنواع الابتلاءات لدنيوية ، والتي لا يقوى الإِنسان على تحملها . نعود لنذكر :
القسم الثالث : مما جاء في فقرات الدعاء وهو ( المكاره ) حيث ورد في قوله :
« وما يجري فيها من المكاره على أهلها » .
والمكاره : جمع ( الكره ) بالفتح ، وهو المشقة .
وتنشأ المكاره من عوامل : ( الفقر ، والخوف ، والضيق ، وبقية ما يكون حصوله موجباً للمشقة للإِنسان ، وقد لا يخلو الإِنسان من كثير من هذا النوع ، وغيره من المضايقات مما يضيق به ذرعاً . وقد جاء في بعض الأدعية ما عدد به الدعاء نعم الله على الداعي حيث عافاه مما ابتلى به غيره ، ومن ذلك :
« إلۤهي وكم من عبدٍ أمسى ، وأصبح ، خائفاً ، مرعوباً ، مشفقاً ، وجلاً هارباً ، طريداً ، منجحراً في مضيق ، ومخبأة من المخابيء ، وقد ضاقت عليه ضارباً برحبها لا يجد حيلة ، ولا منجىً ، ولا مأوىً ، وأنا في طمأنينةٍ ، وعافية من ذلك كله .
إلۤهي ، وسيدي ، وكم من عبدٍ أمسى ، وأصبح ، مغلولاً ، مكبلاً في الحديد بأيدي العداة لا يرحمونه فقيداً من أهله ، وولده منقطعاً عن إخوانه ، وبلده يتوقع كل ساعة بأي قتلة يقتل ، وبأي مثلة يمثل به ، وأنا في عافية من ذلك كله » .
ويأخذ الدعاء في عرض صور من حالات هؤلاء المتحيرين الذين نزلت بهم المكاره فيقول :
إلهي ، وسيدي ، وكم من عبدٍ أمسى ، وأصبح في ظلمات البحار ، وعواصف الرياح ، والأهوال ، والأمواج .
إلۤهي ، وسيدي كم من عبدٍ أمسى ، وأصبح فقيراً عائلاً ، عارياً مملقا ، مخفقاً ، جايعاً ضماناً » .
هذا نموذج من نماذج ، وصور المكاره ، والمشاق التي تحيط بالإِنسان ـ كبش ـ في هذه الدنيا ، وله الحق في ان يضج الى ربه متوسلاً في دفع ما يترتب عليه من عذاب ، وجزاء لأنه ، وهو ضعيف غير متحملٍ لهذه الطواريء . كيف يتحمل ما هو أعظم منها ؟
على أن هذه العوارض لا تعد شيئاً في قبال عذاب الله الأخروي لما يذكره الداعي من قوله الداعي في الدعاء من قوله :
« على أن ذلك بلاء ، ومكروه قليل مكثه ، يسير بقاؤه ، قصير مدته » .
وطبيعي أن يكون بلاء الدنيا ، ومكارهها موصوف بإنه :
قليل مكثه ، يسير بقاؤه ، قصير مدته ، إذا قورن بعمل الإِنسان الذي لا يتجاوز عدد الأصابع بالسنين بالنظر الى سني الآخرة والتي يعبر القرآن الكريم عن يوم القيامة بقوله عز وجل :
( تَعْرُجُ الْمَلَائِكَةُ وَالرُّوحُ إِلَيْهِ فِي يَوْمٍ كَانَ مِقْدَارُهُ خَمْسِينَ أَلْفَ سَنَةٍ فَاصْبِرْ صَبْرًا جَمِيلًا إِنَّهُمْ يَرَوْنَهُ بَعِيدًا وَنَرَاهُ قَرِيبًا ) (6) .
ولسنا في صدد بيان مقدار هذا اليوم بالتحقيق ، وقياسه على أيامنا وكيفية تصور هذا لبقية الأيام ، وكيفية إستمراره من دورات فلكية تخص ذلك الزمان ، بل المهم هو القول : بإن أيام الآخرة تختلف عن أيامنا بهذا الفارق من النسبة .
« فكيف إحتمالي لبلاء الآخرة وجليل وقوع المكاره فيها وهو بلاء تطول مدته ويدوم مقامه » .
لقد طفحت الآيات الكريمة تذكر بلاء الآخرة ، وقد قيل : أن المراد بالآخرة هو الحالة بعد الموت ، وبطبيعة الحال أن الدنيا بناءً على هذا هي الحالة ما قبل الموت ، ولذلك يبدأ البلاء من حالات الإِحتضار ، وسكرات الموت ، وما بعد الموت من دخول القبر ، وأهواله ، والبقاء الى يوم القيامة ، وأهوال القيامة وما جاء في وصف ذلك اليوم ، وشدائده ، ثم بعد ذلك ما يلاقيه الإِنسان من الحساب ، والوقوف في ساحات المحشر . واذا كان من أهل الجحيم فما يلاقيه المجرم من العذاب ، والشدائد وطول المدة . ولا يسعنا أن ننقل كثيراً من الآيات ، والاحاديث الواردة في هذه المشاهد إذ لا يسع هذا المختص ، والاحتجاج الى كثير من الوقت ولخرجنا عن صلب الموضوع .
ولكنا ، وحيث كان اللازم متابعة الدعاء في الفقرة المذكورة من قوله : « فكيف احتمالي لبلاء الآخرة » . المنزلة على الإِستفهام الحقيقي او المجازي الذي أخرج مخرج التعجب ، فعلينا أن نذكر لكل مشهد من المشاهد المذكورة شيئاً على سبيل الإِختصار لنشارك الداعي بعدها في تعجبه من كيفية إحتماله لبلاء الآخرة الحتمي ـ والقاريء الكريم ، وكل من يدعو الله بأي دعاء يتضرع اليه ـ بكنف الله ، ولطفه ليرعانا يوم لا ينفع مال ، ولا بنون .
الإِحتضار ، وسكرات الموت .
ماذا ينقل الإِنسان عن حالة المحتضر ، وما يلاقيه من آلام تلازم خروج روحه من بدنه ، ويكفينا أن نقدر الموقف ، ونوليه الإِهتمام الكثير عندما نرى النبي الأكرم « صلى الله عليه وآله وسلم » وما له من المنزلة عند الله وأنه شفيع هذه الأمة ـ مع كل هذا ـ تتفق كتب الحديث أنه كان يكرر عند إحتضاره قوله : « اللهم هون علي سكرات الموت » .
أو قوله : لجبرائيل : « حبيبي عند الشدائد لا تخذلني » .
ولندع كثيراً من الأحاديث جانباً ، والتي جاء فيها ما نقل عن النبي صلى الله عليه وآله وسلم قوله وهو يدخل على مريض :
« إني أعلم ما يلقى . ما منه عرق إلا ويألم للموت على حدته » (7) .
وما روي عن موسى بن عمران « عليه السلام » ( ان الله سأله كيف وجدت الموت . فقال : وجدت نفسي كشاة حية تسلخ بيد القصاب ) (8) .
وغير هذا ، وذاك من الأحاديث التي تحمل معها مدى الرعب من عملية الاحتضار ، وخروج الروح ، بل لنقف بين يدي قول النبي ( صلى الله عليه وآله وسلم ) المتقدم ، والذي قاله عند إحتضاره « اللهم هون علي سكرات الموت » .
أو قوله : « اللهم إنك تأخذ الروح من بين العصب ، والقصب والأنامل ، اللهم فاعني على الموت ، وهونه علي » .
أو تعبيره السابق : « عند الشدائد لا تخذلني » .
ومما لا شك فيه أن منزلة نبينا على الخصوص عند الله عظيمة جداً ويكفي دلالة على عظم منزلته ما صرح به القرآن الكريم من قوله تعالى : ( فَكَانَ قَابَ قَوْسَيْنِ أَوْ أَدْنَىٰ ) .
وقوله بعد ذلك : ( وَلَقَدْ رَآهُ نَزْلَةً أُخْرَىٰ عِندَ سِدْرَةِ الْمُنتَهَىٰ عِندَهَا جَنَّةُ الْمَأْوَىٰ ) (9) .
ولسنا في صدد ما يقوله المفسرون في هاتين الآيتين ، ومعنى الرؤية وكيفية الدنو فلذلك مجال آخر ، بل المهم هو أن مما لا شك فيه هو حصول القرب بينه ، وبين ربه تعالى على هذا النحو من التداني القريب ، وان دل هذا فإنه يدل على علو مكانته عند الله ـ وفي الوقت نفسه ـ لم يحظ بذلك من سبقه من الأنبياء .
ومع كل هذا وغيره فإنا نقف ، والهول يأخذ منا مأخذه عندما نسمعه ، ولو بعد أجيال طويلة يردد ، وهو على فراش الموت .
« اللهم هون علي سكرات الموت » .
واذا كان مثل النبي « صلى الله عليه وآله وسلم » يطلب من ربه أن يهون عليه هذه الحالة ، ويطلق عليه إسم الشدائد ، فكيف بالداعي وقد سودت وجهه الذنوب ؟
القبر وأحواله :
يقول البراء بن عازب : خرجنا مع رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم في جنازة رجلٍ من الأنصار فجلس رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم على قبره منكساً رأسه ثم قال :
« اللهم اني أعوذ بك من عذاب القبر » . قالها ثلاثاً (10) .
النبي العظيم يتعوذ من عذاب القبر فماذا سيلاقيه النبي « صلى الله عليه وآله وسلم » حتى يتعوذ من عذابه ، وهو رسول الله ، وحبيبه ؟ .
وجاء عن حذيفة قوله :
« كنا مع رسول الله « صلى الله عليه وآله وسلم » في جنازة فجلس على رأس القبر ، ثم جعل ينظر فيه ثم قال : يضغط المؤمن في هذا ضغطة ترد منه حمائله » (11) .
وعن أنس أنه قال : « توفيت زينب بنت رسول الله « صلى الله عليه وآله وسلم » وكانت إمرأة مسقامة فتبعها رسول الله « صلى الله عليه وآله وسلم » فساءنا حاله . فلما إنتهينا الى القبر ، فدخله إنتقع وجهه صفرة . فلما خرج أسفر وجهه فقلنا يا رسول الله « صلى الله عليه وآله وسلم » : رأينا منك شأناً فمم ذلك ؟
قال : ذكرت ضغطة إبنتي ، وشدة عذاب القبر ، فأتيت ، فأخبرت ان الله قد خفف عنها ، وقد ضغطت ضغطة سمع صوتها ما بين الخافقين (12) .
ولنقف عند قوله : « وقد ضغطت ضغطة سمع صوتها ما بين الخافقين » .
بعد قوله : « فأخبرت أن الله قد خفف عنها » .
فالميتة بنت رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم ، وهي كانت مسقامة ، ومعنى ذلك : أنها كانت دائمة المرض ، وفوق كل ذلك قد أخبر أبوها ان الله قد خفف عنها ، وكان من نتائج ذلك كله أنها ضغطت وسمع صوتها ما بين الخافقين .
اذاً فكيف بالداعي ، وهو يرفل بذنوبه ليتوسد قبراً خفف عن إبنة رسول الله « صلى الله عليه وآله وسلم » فيه بعد الاخبار بتخفيف الله عنها ، فضغطت ضغطة كما مر علينا ذكره . فله الحق أن يضج قائلاً :
« فكيف إحتمالي لبلاء الآخرة » وهو في القبر بعد في أول المسيرة الأخروية .
القيامة وأهوالها :
يوم القيامة : هو يوم البعث ، وخروج الناس بعد أن كانوا رمساً . وهو يوم الحساب على ما عمله الإِنسان في دار الدنيا .
ومصدرنا عن الحديث عنه ليس إلا القرآن ، والسنة النبوية ، وعندما تتعرض الآيات القرآنية لصفة ذلك اليوم نجد له صوراً مرعبة في لسان الآيات الكريمة . ولنا أن نستعرض البعض منها :
يقول عز وجل : ( إِذَا الشَّمْسُ كُوِّرَتْ وَإِذَا النُّجُومُ انكَدَرَتْ وَإِذَا الْجِبَالُ سُيِّرَتْ وَإِذَا الْعِشَارُ عُطِّلَتْ وَإِذَا الْوُحُوشُ حُشِرَتْ وَإِذَا الْبِحَارُ سُجِّرَتْ ) (13) .
وقال تعالى : ( يَوْمَ يَكُونُ النَّاسُ كَالْفَرَاشِ الْمَبْثُوثِ وَتَكُونُ الْجِبَالُ كَالْعِهْنِ الْمَنفُوشِ ) (14) .
ويقول سبحانه : ( يَا أَيُّهَا النَّاسُ اتَّقُوا رَبَّكُمْ إِنَّ زَلْزَلَةَ السَّاعَةِ شَيْءٌ عَظِيمٌ يَوْمَ تَرَوْنَهَا تَذْهَلُ كُلُّ مُرْضِعَةٍ عَمَّا أَرْضَعَتْ وَتَضَعُ كُلُّ ذَاتِ حَمْلٍ حَمْلَهَا وَتَرَى النَّاسَ سُكَارَىٰ وَمَا هُم بِسُكَارَىٰ وَلَـٰكِنَّ عَذَابَ اللَّـهِ شَدِيدٌ ) (15) .
وزلزلة الساعة اما هي : البدء بيوم القيامة حيث ينفخ في الصور ، أو انه يوم القيامة نفسه عبر عنه بهذا اللفظ ، وعلى كل حال : أنه يوم مهول ، مرعبة مناظرة ، يتغير فيه الكون عن سيره الطبيعي ، فيشمل الاجرام السماوية ، والأرضية ، وما فيها من مخلوقات من :
الشمس ، والنجوم ، والجبال ، والبحار ، والحيوان بما فيه اليف ، ووحش إنه يوم الإِنقلاب التام ، وفيه :
( يَوْمَ تُبَدَّلُ الْأَرْضُ غَيْرَ الْأَرْضِ وَالسَّمَاوَاتُ وَبَرَزُوا لِلَّـهِ الْوَاحِدِ الْقَهَّارِ ) (16) .
وهو اليوم الذي تذهل فيه الأم الرؤم عن قطعة كبدها ، وهو الرضيع يلقم ثديها فتتركه غائبة الرشد تائهة لا تعي شيئاً مما حولها وتضع كل حملٍ حملها من الرعب ، والدهشة ، انه وضع غير طبيعي .
والناس تراهم سكارى ، وما هم بسكارى ، وإنما رهبة الموقف جعلتهم حيارى ، وأخذت عليهم آفاق التفكير ، فهم سكارى من هول المشهد الهائج بشمسه ، ونجومه ، وجباله ، وبحاره ، ووحوشه ، وأنعامه وهم حيارى من شدة الفزع .
لقد نسي الإِنسان وسط هذا الجو نفسه فتراه يفر ( مِنْ أَخِيهِ وَأُمِّهِ وَأَبِيهِ وَصَاحِبَتِهِ وَبَنِيهِ لِكُلِّ امْرِئٍ مِّنْهُمْ يَوْمَئِذٍ شَأْنٌ يُغْنِيهِ ) (17) .
هذا الإِنسان الإِجتماعي يقر من هذه المجموعة التي أفنى عليها زهرة عمره فكان يجمع لهم من الحلال والحرام ما يسد به جوعهم ، ويؤذيه ما يؤذيهم ، ويفرح لفرحهم أصبح اليوم يفر منهم ليرى مصيره ، فهو مشغول بنفسه ، وليست القضية من طرف واحد فالكل هذه حالته .
رعب ، وفزع ، وذهول ، ولكلٍ منهم في ذلك اليوم شأن يغنيه . لأنه هو الذي سيحاسب ، وهو الذي سيؤدي ضريبة ما جناه ان خيراً فخير ، وان شراً فشر .
( يَوْمَ تَجِدُ كُلُّ نَفْسٍ مَّا عَمِلَتْ مِنْ خَيْرٍ مُّحْضَرًا وَمَا عَمِلَتْ مِن سُوءٍ تَوَدُّ لَوْ أَنَّ بَيْنَهَا وَبَيْنَهُ أَمَدًا بَعِيدًا ) (18) .
ويبدأ الحساب ، وتمر مشاهد الدنيا أمام عينيه ، وتتجسد الأعمال وتشهد الأيدي ، والأرجل ، وبقية الجوارح كل بحسب ما يوكل اليه .
وتصنف الجموع البشرية واذا بهم يقسمون الى قسمين :
جمعت وصفهم الآية في قوله تعالى :
( وُجُوهٌ يَوْمَئِذٍ مُّسْفِرَةٌ ضَاحِكَةٌ مُّسْتَبْشِرَةٌ وَوُجُوهٌ يَوْمَئِذٍ عَلَيْهَا غَبَرَةٌ تَرْهَقُهَا قَتَرَةٌ ) (19) .
الوجوه الضاحكة هي المؤمنة بالله ، والآخذة بتعاليمه ، والممهدة طريقها لمثل هذا اليوم ، وللوقوف في مثل هذا الموقف العصيب . لذلك فهي ضاحكة مستبشرة لانها نفوس آمنة مطمئنة رجعت الى ربها راضية مرضية .
وأما الوجوه التي عليها غبرة : فهي تلك الوجوه الكالحة التي تمر بآيات الله وبتعاليمه مروراً عابراً لم تتزود من ممرها لمثل هذا الموقف ، بل كان همها أن تنال من دنياها النصيب الأوفر .
( الَّذِينَ اتَّخَذُوا دِينَهُمْ لَهْوًا وَلَعِبًا وَغَرَّتْهُمُ الْحَيَاةُ الدُّنْيَا فَالْيَوْمَ نَنسَاهُمْ كَمَا نَسُوا لِقَاءَ يَوْمِهِمْ هَـٰذَا وَمَا كَانُوا بِآيَاتِنَا يَجْحَدُونَ ) (20) .
ولنقف بهذه المسيرة الى هذا الحد فلنا في وصف جهنم لقاء آخر عند تعرض الدعاء في فقراته الى جهنم ، وما يلاقي الإِنسان فيها من أهوال .
وعلى كل حال هذا جزء من بلاء الآخرة ، وكله مقدمة للعذاب الذي لا يطاق في جهنم لذلك نرى الداعي يتعجب من تحمله لهذا البلاء الذي هو « بلاء تطول مدته ، ويدوم مقامه » .
واذا كان يوم القيامة ( مقداره خمسين الف سنة ) كما تنص عليه الآية فماذا سيكون مقدار المكوث في النار لمن يقدر له أن يكون جزاؤه العذاب الأليم .
وقد نقل عن النبي الأكرم « صلى الله عليه وآله وسلم » أنه تلا هذه الآية ثم قال :
« كيف بكم اذا جمعكم الله كما تجمع النبل في الكنانة خمسين الف سنة لا ينظر اليكم » (21) .
« ولا يخفف عن أهله » .
والذي يظهر من هذه الفقرة ، وهكذا ما يماثلها من الفقرات في غير هذا الدعاء أن الإِنسان إذا حوسب يوم القيامة على أعماله ، وحكم عليه بما يستحقه من جزاء فإنه لا يخفف عنه بعد ذلك بالعفو ما رتب عليه من جزاء حكم عليه به .
وقد دلت على ذلك عدة آيات من الكتاب المجيد قال تعالى :
( أُولَـٰئِكَ الَّذِينَ اشْتَرَوُا الْحَيَاةَ الدُّنْيَا بِالْآخِرَةِ فَلَا يُخَفَّفُ عَنْهُمُ الْعَذَابُ وَلَا هُمْ يُنصَرُونَ ) (22) .
وقوله تعالى : ( خَالِدِينَ فِيهَا لَا يُخَفَّفُ عَنْهُمُ الْعَذَابُ وَلَا هُمْ يُنظَرُونَ ) (23) .
وقوله عز وجل : ( وَإِذَا رَأَى الَّذِينَ ظَلَمُوا الْعَذَابَ فَلَا يُخَفَّفُ عَنْهُمْ وَلَا هُمْ يُنظَرُونَ ) (24) .
وقوله تعالى : ( لَا يُقْضَىٰ عَلَيْهِمْ فَيَمُوتُوا وَلَا يُخَفَّفُ عَنْهُم مِّنْ عَذَابِهَا ) (25) .
وأصرح من ذلك ما جاء في قوله تعالى :
( وَقَالَ الَّذِينَ فِي النَّارِ لِخَزَنَةِ جَهَنَّمَ ادْعُوا رَبَّكُمْ يُخَفِّفْ عَنَّا يَوْمًا مِّنَ الْعَذَابِ ) (26) .
إنه منتهى الإِلتماس يطلبه المعذبون من خزنة جهنم ، والموكلين بها يريدون أن يكونوا شفعاء لله في تخفيف يوم واحد من العذاب عنهم ليهدئوا من حرها ، وسعيرها .
وهل وجدت الضراعة طريقاً لها تحقق آمال هؤلاء البؤساء .
ويأتي الجواب واضحاً بالسلب ، فأنى لخزنة جهنم ان يشفعوا لهم لأنهم ليسوا بتلك المنزلة التي تخولهم الشفاعة بل كانت النتيجة هي الحوار التالي : ( قَالُوا أَوَلَمْ تَكُ تَأْتِيكُمْ رُسُلُكُم بِالْبَيِّنَاتِ ) (27) .
والمراد بالبينات في سؤال الخزنة هي : الأنبياء ، والمرسلون الذين بلغوا الأحكام ، وبينوا الحقائق عن الله عز وجل فلم يدعوا شيئاً من أحكام الشرائع إلا وقد أوصلوه الى البشر فليس هؤلاء المعذبون بقاصرين بل مقصرين لذلك كان جوابهم لخزنة جهنم :
« قالوا : بلى » (28) .
وماذا بعد « بلى » ، والإِعتراف ببلى ، أو نعم ، أو ما شاكل مما لا مجال معه لكل توقف .
إن جواب الخزنة لهم بعد الإِعتراف كان يحمل بين طياته كل معاني التعجيز ، والإِزدراء ، والمهانة لذلك :
« قالوا فأدعوا » (29) .
ولكن لتعلموا أن دعاءكم لا جدوى فيه لماذا ؟
« وما دعاء الكافرين إلا في ضلال » (30) .
والملاحظ على هذه الآيات الكريمة أنها مطلقة تشمل كل مذنب صدر عليه الحكم في يوم القيامة ، ومن هنا نصطدم بمشكلة « الشفاعة » .
فإن القرآن الكريم كما صرحت آياته بعدم التخفيف عن كل مذنب بعد محاسبته كذلك نصت آياته على الاقرار بمبدأ الشفاعة ، وقبول الوساطة ـ على النحو الإِجمالي ـ في التخفيف عن بعض ما يحكم به على المذنبين .
قال تعالى : ( مَن ذَا الَّذِي يَشْفَعُ عِندَهُ إِلَّا بِإِذْنِهِ ) (31) .
وقال سبحانه : ( مَا مِن شَفِيعٍ إِلَّا مِن بَعْدِ إِذْنِهِ ) (32) .
وهكذا تتوالى الآيات الكريمة فيقول تعالى :
( لَّا يَمْلِكُونَ الشَّفَاعَةَ إِلَّا مَنِ اتَّخَذَ عِندَ الرَّحْمَـٰنِ عَهْدًا ) (33) .
( وَلَا يَشْفَعُونَ إِلَّا لِمَنِ ارْتَضَىٰ ) (34) .
( وَلَا تَنفَعُ الشَّفَاعَةُ عِندَهُ إِلَّا لِمَنْ أَذِنَ لَهُ ) (35) .
وأما الأخبار الواردة في الشفاعة ، فهي كثيرة جداً ، وقد ذخرت بها كتب الحديث من كافة المذاهب جاء منها :
« إن شفاعتي يوم القيامة لأهل الكبائر من أمتي » (36) .
وقوله : « شفاعتي لكل مسلم » (37) .
وقوله : « اني لأرجو أن أشفع يوم القيامة عدد ما على الأرض من شجرة ومدرة » (38) .
ولا يسعنا أن نتوسع في النقل لأحاديث الشفاعة وهي ـ كما قلنا ـ من الكثرة بمكان ، ولربما تجاوزت المائة ، وكلها بهذا النحو من البيان الذي عرضنا البعض منها ، ونتعرض الى عرض البعض الآخر في ثنايا البحث .
وإذاً فكيف نجمع بين هذه الآيات الكثيرة ، والأخبار العديدة من جهة ؟ ، وبين الآية في قوله تعالى : ( لَا يُخَفَّفُ عَنْهُمُ الْعَذَابُ ) .
وكذلك ما جاء في الدعاء من قوله : « ولا يخفف عن أهله » من جهة أخرى . ذلك لان الفريق الأول من الآيات ، والروايات يثبت أن للشفيع المكانة في التخفيف عن العذاب والجزاء ، بينما الفريق الثاني يغلق الباب فلا يدع مجالاً لكل تخفيف عما رتب من الجزاء .
ولا بد لنا ، ونحن في صدد الجمع بين هذه الآيات ، والروايات ، والخروج بالحلول لهذه المشكلة من إستعراض الموضوع بشكل من التفصيل فنقول :
الشفاعة تعريفها :
الشفاعة : مصدر شفع . والشفع بالسكون خلاف الوتر . وشفع لي شفاعة ، طلب لي ، وسأل .
فالشفيع : من يطلب الشفاعة ، والتي هي طلب العفو من الله عز وجل الى المذنب . وحيث ينضم الشفيع الى المذنب في الرجاء فمعناه : تقوية جانب من طلبت الشفاعة له ، وبذلك يحصل على ما لم يحصل عليه لو كان وحده (39) .
الحاجة الى الشفاعة :
والشفاعة بهذا المعنى لا مجال لإِنكارها لوجودها بين الناس من القديم بل هي أمر ملازم للسلطة ، والسلطان ، فإن المحكوم عليه مهما كان نوع الحكومة ـ دنيوية ، أو أخروية ـ يتذرع لرفع الحكم عنه ، أو لتخفيفه بمن له المنزلة عند الحاكم من غير فرقٍ بين أن يكون الحاكم هو الله أو من البشر فيكون شفيعاً له في ذلك الأمر .
وجاء الإِسلام ليقر هذا المبدأ ، ولكن بشروط خاصة تظهر لنا من ثنايا البحث .
ولا حاجة لنا للإِستدلال على موضوع الشفاعة ، وإقرارها في الأمور الدنيوية ، وفيما يكون بين البشر في كل مكان يحصل فيه حاكم ، ومحكوم وظالم ، ومظلوم ، فإن تذرع المذنب ، أو من كانت له الحاجة عند الغير الى من له المكانة عند ذلك الغير صاحب النفوذ ، والسلطة أمر لا يقبل الجدل ، والنقاش لان الضعيف حريص على تقوية جانبه والفرار عما يرتب عليه من جزاء ، أو ما شاكل من الأمور الدنيوية .
نعم : علينا أن نبحث عن الدليل للإِقرار بهذه العملية من جانب الشارع المقدس ، والذي صرحت آيات كتابه المجيد ـ كما بينا ـ بأن المجرمين « لا يخفف عنهم العذاب » ، أو قوله « خالدين في نار جهنم » وغير هذين مما جاء مصرحاً بأن المذنب لا بد له من نيل الجزاء طبقاً لقاعدة العدل والإِنصاف حيث لا يتساوى المذنب مع غيره .
الشفاعة بين الرفض والقبول :
نظراً الى الآيات ، والروايات المتكاثرة ، والتي تنص على مبدأ الشفاعة ، وصلاحية البعض للتشفع في أمر الآخرين نرى الكثير من الفرق الاسلامية تقول بهذا المبدأ ، وتؤمن بان لبعض الذوات ممن لهم المكانة السامية عند الله مثل هذه الصلاحية .
ونستعرض في ضمن البحث لما يعتمد عليه هؤلاء في دعم ما يذهبون اليه في هذا الخصوص .
وفي قبال هؤلاء من ينكر هذه الصلاحيات ، ويذهب الى أن شفيع الانسان عمله . أما التوسل بالصالحين ، ومن لهم المنزلة الكريمة عند الله ، فان ذلك من باب الخروج عن الخط المستقيم الذي ينادي به القرآن الكريم في قوله تعالى : ( إِنَّ أَكْرَمَكُمْ عِندَ اللَّـهِ أَتْقَاكُمْ ) (40) .
وهكذا ما ورد في كثير من الاحاديث الواردة عن النبي ( صلى الله عليه وآله وسلم ) من أنه : « لا فضل لعربي على أعجمي الا بالتقوى » (41) .
وغير هذا مما يشعرنا بان العمل هو المقياس في حصول الثواب والعقاب . على ان هناك إشكالات عديدة يتذرع بها القائلون برفض الشفاعة يأتي في مقدمتها :
ان تخفيف العذاب ، أو رفعه عن المذنب بعد الحساب ، والاستحقاق لا يخلو الحال فيه :
فإما أن يكون عدلاً ، أو يكون ظلماً .
فان كان التخفيف عدلاً فلا بد أن يكون الحكم عليه بالعقاب ظلماً ، وهذا لا يجوز نسبته الى الله سبحانه العادل في بريته .
وان كان ظلماً : كان سؤال الشفيع بالتخفيف طلباً للظلم من الله ، وهذا أيضاً لا تصح نسبته الى مثل الانبياء ، والمعصومين ، وهم الصفوة المنزهة من كل عيب ، وذنب . والا لما كان لهم ان يقودوا الأمة ويرشدوا أبناءها الى ما فيه الخير ، والصلاح .
ومن الاشكالات : أن فسح المجال للتشفع في أمر المذنبين مما يفسح المجال لتكرار الجريمة . فان المذنب يجد من وجود الشفيع وسيلة للعود الى ما صدر منه ، وهكذا يذنب ، والشفيع يشفع له . ويلزم من هذا التكرار إضافة لشيوع الجرائم ، وتعددها : الاستهانة بالاحكام الشرعية ، وعدم الحرمة للقوانين ، والانظمة التي يتوخى من ورائها حفظ المجتمع بحفظ أفراده من النزول الى الحضيض .
بهذا وأمثاله أشكل القائلون برفض مبدأ الشفاعة .
الرد على القائلين بالرفض :
وبالامكان الرد على هؤلاء القائلين بالرفض بان رفض الشفاعة على نحو رفض هذا المبدأ كلية ، وغلق الباب في وجه كل شفيع أمر تكذبه الآيات ، والروايات المتكاثرة والتي لا مجال للاستهانة بها .
كما أن الأخذ بهذا المبدأ من إطار فتح الباب على مصراعيه ، كما يقولون أمر لا مجال للقول به ، بل لا بد من الأخذ به ولكن على شروط خاصة لا بد من خضوع عملية الشفاعة لها . . . فان تكاملت تلك الشروط أخذت هذه العملية سيرها على مجاريها الطبيعية ، وعند عدم التكامل فالنتيجة هي القول بالرفض . ولمعرفة الشروط المطلوبة لا بد من ملاحظة الاركان التي تتقوم بها هذه القضية من جميع أطرافها ليكون البحث في كل منها على انفراد .
والأركان الأساسية لعملية الشفاعة أربعة ، وهي :
1 ـ المشفِع . ( بالكسر ) .
2 ـ الشفيع .
3 ـ المشفع له .
4 ـ المشفع فيه .
1 ـ المشفع :
المشفِع : بالكسر ، وهو : كل من كان الآخرون محتاجين اليه سواءً في دفع عقاب ، أو نيل ثواب ، أو حاجة دنيوية ، أو أخروية .
والمشفِع : في موضوع بحثنا هو : الله عز وجل حيث يتوجه اليه المذنبون ، ويرجو فضله المقصرون ، ويطلب من فيض آلائه العابدون .
كل أولئك يتوجهون اليه ليستزيدوا من فضله ، أو ليدفعوا عنهم ما كتب عليهم من جزاء .
2 ـ الشفيع :
الشفيع : هو الواسطة بين الطرفين للشفاعة في شيء .
وفيما نحن فيه . . هو الواسطة بين العبد وربه ، بشراً كان ذلك الشفيع ، أم غيره عملاً بمنطوق الآية الكريمة :
( يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا اتَّقُوا اللَّـهَ وَابْتَغُوا إِلَيْهِ الْوَسِيلَةَ ) (42) .
والوسيلة : هي ما يتقرب به الى الغير .
والاقتصار على كون الوسيلة بشراً ، أو عملاً ، او من الملائكة . . . يتنافى ، واطلاق الآية . لان ظاهرها الأمر بطلب الوسيلة ، وهي : ـ كما قلنا ـ كل سبب يتوصل به الى الله تعالى . .
بغض النظر عن نوعية السبب .
ومن هذا المنطلق نقول : بتنوع السبب الرابط بين العبد ، وربه في الشفاعة للتخفيف من ذنوبه ، أو لاستجابة مطالبه ، ولو كانت دنيوية .
واذا لاحظنا السبب الرابط ، والذي هو ـ الشفيع ـ في مصطلحنا لامكن تقسيمه الى قسمين :
1 ـ ما يكون من أعمال الانسان ، ونواياه .
2 ـ ما يكون من مخلوقات الله من البشر ، أو الملائكة .
1 ـ الشفيع من القسم الأول :
تتعرض الآيات والأخبار الى عرض بعض الأعمال التي تكون سبباً في تخفيف الذنوب ، أو محوها عن المذنبين ومن يطلق على ذلك العمل عنوان ( الشفيع ) .
تقول الآية الكريمة :
( وَعَدَ اللَّـهُ الَّذِينَ آمَنُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحَاتِ لَهُم مَّغْفِرَةٌ وَأَجْرٌ عَظِيمٌ ) (43) .
المغفرة : على ما صدر من المذنب من مخالفات نتيجة عدم إنصياعه لأوامره ، ونواهيه .
وأما الأجر : فهو في مقابل ما قدمه ذلك الشخص في حياته من القيام بما كلف به من قبل الشارع المقدس من الاحكام الشرعية .
والمغفرة ، والأجر . . . كان السبب في حصولهما الايمان ، والعمل الصالح واذاً : فهذان العاملان يكونان عنوان « الشفيع » في هذا الوعد التي تصرح به الآية بمنطوقها .
إيمان العبد ، وعمله الصالح شفعاً له في محو ما كتب له من عقاب نتيجة قيامه بالمخالفات ، فعنصر الشفاعة برز لنا من خلال هذه الفقره ( لَهُم مَّغْفِرَةٌ وَأَجْرٌ عَظِيمٌ ) .
وفي آية أخرى نرى الوسيلة للشفاعة تأتي على شكل آخر ففي قوله تعالى : ( يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا اتَّقُوا اللَّـهَ وَآمِنُوا بِرَسُولِهِ يُؤْتِكُمْ كِفْلَيْنِ مِن رَّحْمَتِهِ وَيَجْعَل لَّكُمْ نُورًا تَمْشُونَ بِهِ وَيَغْفِرْ لَكُمْ وَاللَّـهُ غَفُورٌ رَّحِيمٌ ) (44) .
تقوى الله ، والايمان برسوله فتحاً لمن آمن بالله هذه الآفاق .
1 ـ ( يُؤْتِكُمْ كِفْلَيْنِ مِن رَّحْمَتِهِ ) .
أي يؤتكم نصيبين من رحمته ، وهو ترغيب للعبد في اطمئنانه بحصوله على الرحمة المضاعفة .
2 ـ ( وَيَجْعَل لَّكُمْ نُورًا تَمْشُونَ بِهِ ) .
وهو نور الهداية لتسيروا على ضوئه الى ما يحفظكم من الإِنزلاق في الطريق غير الموصلة الى الله ، والى الجنة .
نور يقذفه الله في قلب من يشاء من عباده فلا يحجزه عن الوصول الى الحقيقة شيء .
وبعد كل هذا تأتي منحة الله المفضلة :
3 ـ ( وَيَغْفِرْ لَكُمْ وَاللَّـهُ غَفُورٌ رَّحِيمٌ ) .
حصول المغفرة هو غاية العبد ، وهو مسبب عن تقوى الله والايمان برسوله ، والذي هو من مكملات تقوى الله . وهذان كونا عنوان ( الشفيع ) في حصول هذه المنحة منه سبحانه لعباده الذين آمنوا .
وقد يقال : ان الآية الكريمة بعد ان منحت العبد المؤمن ذلك النور الموعود ليمشي به في طرق الحق ، ويشخص على ضوئه الهدى من الضلال فما معنى « يغفر لكم » وهل بعد الكفلين من الرحمة والنور الذي ينير القلب ؟
والجواب : أن الانسان مهما علت مكانته ، وهذبت نفسه وآمن بالله فهو ليس بمعصوم كالانبياء ، والمرسلين ، والأئمة المكرمين بل هو إنسان ، وعرضة للزلل ، والخطأ ، والتقصير ، ولذلك فهو دائماً فقير الى رحمته ، وهو محتاج الى عطفه ، ولطفه نتيجة ما يصدر منه من ذنب لعدم عصمته ، ومنعته مهما كان متديناً ، ومحافظاً . وقد جاء عن أمير المؤمنين الامام علي بن أبي طالب ( عليه السلام ) قوله في إحدى خطبه « لا شفيع أنجح من التوبة » (45) .
وفي خطبة أخرى قال « صلوات الله عليه » :
« فاجعلوا طاعة الله . . . شفيعاً لدرك طلبتكم » (46) .
طاعة الله ، والانقياد الكامل : هو الشفيع لما يريده العبد من
مولاه من طلباته أعم من كونها طلبات دنيوية ، او أخروية .
والتوبة ، والعود الى ساحة الله من أضمن الشفعاء بشهادة أمير المؤمنين .
وتقول الآية الكريمة :
( وَلَوْ أَنَّهُمْ إِذ ظَّلَمُوا أَنفُسَهُمْ جَاءُوكَ فَاسْتَغْفَرُوا اللَّـهَ وَاسْتَغْفَرَ لَهُمُ الرَّسُولُ لَوَجَدُوا اللَّـهَ تَوَّابًا رَّحِيمًا ) (47) .
وتتعرض بعض الاخبار الى الاستغفار فتفرده في اعتباره الوسيلة لحصول التوبة .
وفي الحقيقة عندما نستعرض هذه الآيات ، والروايات والتي اعتبرت عمل الانسان ، أو طاعته ، أو تقواه ، او توبته او إستغفاره ، أو إيمانه هو الشفيع لما صدر منه من مخالفات . . . نراها تتضمن معنى آخر غير الشفاعة . ذلك هو أنها تدفع بالانسان أن يتكل على نفسه في مواجهة ربه ، والارتباط به لحل جميع مشاكله ، وإجابة طلباته الدنيوية ، والأخروية ومن أقرب الى العبد من ربه اذا جاءه وهو تائب ، ومتقٍ ، ومطيع ؟
إن الله وهو الرحيم بما تشتمل عليه هذه الكلمة من حنو لا يحتاج الى شفيع يكون وسيلة ورابطاً بينه وبين عبده المذنب لو وجد صدقاً في توبته واخلاصاً في إطاعته ، فهو يعلم أن عبده ليس بمعصوم من الزلل والتقصير لذلك نرى الإِمام في كلمته السابقة يقول : « لا شفيع أنجح من التوبة » .
2 ـ الشفيع من القسم الثاني :
بإجماع الأمة الإِسلامية بكافة مذاهبها أن النبي الأكرم محمدٍ ( صلى الله عليه وآله وسلم ) له صلاحية الشفاعة .
يقول تعالى : ( وَلَوْ أَنَّهُمْ إِذ ظَّلَمُوا أَنفُسَهُمْ جَاءُوكَ فَاسْتَغْفَرُوا اللَّـهَ وَاسْتَغْفَرَ لَهُمُ الرَّسُولُ لَوَجَدُوا اللَّـهَ تَوَّابًا رَّحِيمًا ) (48) .
فاستغفار الرسول ( صلى الله عليه وآله وسلم ) له حسابه في نظر الله تعالى حتى جعله مقارناً لإِستغفاره ، ولا يعني من يقول بالشفاعة باكثر من ذلك .
أما الأخبار : فإنها من الكثرة بمكان ، وقد صرحت بإنه شافع لأمته .
يقول ( صلى الله عليه وآله وسلم ) : « اذا كان يوم القيامة كنت إمام النبيين ، وخطيبهم ، وصاحب شفاعتهم غير فخر » (49) .
وقال ( صلى الله عليه وآله وسلم ) : « ان الله أعطاني مسألة فإدخرت مسألتي لشفاعة المؤمنين من أمتي يوم القيامة » (50) .
وهناك طوائف أخرى من الأخبار توسع دائرة الشفاعة الى غير النبي ( صلى الله عليه وآله وسلم ) من بقية الأنبياء ، والمرسلين ، والملائكة ، والصالحين .
قال ( صلى الله عليه وآله وسلم ) : « يشفع النبيون ، والملائكة ، والمؤمنون فيقول الجبار : بقيت شفاعتي » (51) .
ويقول ( صلى الله عليه وآله وسلم ) : « يشفع يوم القيامة الأنبياء ثم العلماء ثم الشهداء » (52) .
كما وأن أهل النبي ( صلى الله عليه وآله وسلم ) يشفعون أيضاً فقد قال ( صلى الله عليه وآله وسلم ) :
« الشفعاء خمسة : القرآن ، والرحم ، والامانة ، ونبيكم ، وأهل بيت نبيكم » (53) .
ويقول الإِمام علي بن أبي طالب : « لنا شفاعة ولأهل مودتنا شفاعة » (54) .
الشروط المطلوبة في الشفيع :
فهل كل نبي ، أو مؤمن ، أو ملك له صلاحية الشفاعة للآخرين ، أم لا بد من شروط في البين لا بد أن يخضع الشفيع لها ليكون شافعاً ؟
تقول الآية الكريمة :
( يَوْمَئِذٍ لَّا تَنفَعُ الشَّفَاعَةُ إِلَّا مَنْ أَذِنَ لَهُ الرَّحْمَـٰنُ وَرَضِيَ لَهُ قَوْلًا ) (55) .
من هذا الإِطار تتحدد شخصية الشفيع كل أحدٍ بإمكانه ان يمثل هذا الدور الخطير ، بل من أذن له الرحمن ، ورضي قوله . . . له أن يقوم بهذه المهمة ، من غير فرق بين أن يكون ذلك الشفيع نبياً ، أو غير نبي من الصالحين كان أو من الصديقين ، أو الشهداء ، وغيرهم ممن كانت له مكانة عظيمة عند الله عز وجل .
وقد تكرر هذا المعنى في آيات آخرى ففي آية الكرسي جاء قوله تعالى : ( مَن ذَا الَّذِي يَشْفَعُ عِندَهُ إِلَّا بِإِذْنِهِ ) (56) .
وهكذا الحال في سورة يونس جاءت الآية تقول :
( ثُمَّ اسْتَوَىٰ عَلَى الْعَرْشِ يُدَبِّرُ الْأَمْرَ مَا مِن شَفِيعٍ إِلَّا مِن بَعْدِ إِذْنِهِ ) (57) .
وقوله تعالى : ( وَلَا تَنفَعُ الشَّفَاعَةُ عِندَهُ إِلَّا لِمَنْ أَذِنَ لَهُ ) (58) .
وقال عز وجل : ( وَكَم مِّن مَّلَكٍ فِي السَّمَاوَاتِ لَا تُغْنِي شَفَاعَتُهُمْ شَيْئًا إِلَّا مِن بَعْدِ أَن يَأْذَنَ اللَّـهُ لِمَن يَشَاءُ وَيَرْضَىٰ ) (59) .
فالشفاعة : مشروطة أن تكون بإذن الله لا أنها ترجع الى كل شفيع فيما يريد أن يشفع فيه .
وحينئذٍ فلا يوجد أي تنافٍ بين هذه الآيات حيث تثبت الشفاعة لغير الله بإذنه ، ورضاه ، وبين الآية الكريمة والتي تقول :
( قُل لِّلَّـهِ الشَّفَاعَةُ جَمِيعًا ) (60) .
أو قوله عز وجل : ( لَيْسَ لَهُم مِّن دُونِهِ وَلِيٌّ وَلَا شَفِيعٌ ) (61) .
فإن الشفيع اذا كان يشفع بإذن الله ، ورضاه مقيداً بما يمليه الله في قبول شفاعة من يمكن ان يقبله الله ، فإن مثل هذه الشفاعة ستكون لله ، وليست خارجة عن حيازته .
وإذاً فعلى الشفيع أن يتقيد فيمن يشفع له ، وفيما يشفع فيه والا ففي صورة العكس ، فإنه لا ينال رضى الله ، وعندها تكون شفاعة مثل هذا الشخص في مثل أولئك نصيبها الفشل .
3 ـ المشفع له :
ويراد بهذا العنوان من تكون الشفاعة لصالحه .
وهل تكون الشفاعة لكل أحد ، ومهما كان نوع ذنبه ، والجرم الذي صدر منه أم لا بد من تحديد ذلك ؟
من خلال الآية الكريمة يتضح لنا من هو المشفع له ؟
يقول تعالى : ( إِنَّ اللَّـهَ لَا يَغْفِرُ أَن يُشْرَكَ بِهِ وَيَغْفِرُ مَا دُونَ ذَٰلِكَ لِمَن يَشَاءُ ) (62) .
ومن هذا الإِطار القرآني تبلورت لنا شخصية من يصح أن يشفع له . ذلك لأن الآية قسمت المذنب الى قسمين : مشرك ، وغير مشرك .
أما المشرك : فإن الله أخذ على نفسه عهداً أن لا يغفر له ، وإطلاق الآية يقتضي عدم المغفرة له في الدارين : الدنيا ، والآخرة ما لم تحصل منه التوبة في الدنيا .
أما غير المشرك : فهل كل من كان غير مشرك تشمله المغفرة ، أم هناك تفصيل بين هؤلاء من هذا القسم ؟
ويظهر لنا الجواب من الخبر التالي :
عن محمد بن أبي عمير قال : « سمعت موسى بن جعفر « عليه السلام » .
يقول : لا يخلد الله في النار إلا أهل الكبر ، والجحود ، وأهل الضلال والشرك . ومن إجتنب الكبائر من المؤمنين لم يسأل عن الصغائر قال تبارك وتعالى : ( إِن تَجْتَنِبُوا كَبَائِرَ مَا تُنْهَوْنَ عَنْهُ نُكَفِّرْ عَنكُمْ سَيِّئَاتِكُمْ وَنُدْخِلْكُم مُّدْخَلًا كَرِيمًا ) . قال : فقلت له : يا ابن رسول الله ( صلى الله عليه وآله وسلم ) فالشفاعة لمن تجب من المذنبين ؟ قال : حدثني أبي عن آبائه عن علي « عليه السلام » قال : سمعت رسول الله ( صلى الله عليه وآله وسلم ) يقول : إنما شفاعتي لأهل الكبائر من أمتي ، فأما المحسنون منهم فما عليهم من سبيل .
قال ابن أبي عمير : فقلت له : يا ابن رسول الله ( صلى الله عليه وآله وسلم ) فكيف تكون الشفاعة لأهل الكبائر ؟ والله تعالى ذكره يقول :
( وَلَا يَشْفَعُونَ إِلَّا لِمَنِ ارْتَضَىٰ وَهُم مِّنْ خَشْيَتِهِ مُشْفِقُونَ ) (63) .
ومن يرتكب الكبائر لا يكون مرتضى فقال : يا أبا أحمد ، ما من مؤمن يرتكب ذنباً إلا ساءه ذلك ، وندم عليه ، وقد قال النبي ( صلى الله عليه وآله وسلم ) كفى بالندم توبة ، وقال « عليه السلام » : من سرته حسنته ، وساءته سيئته فهو مؤمن ، فمن لم يندم على ذنب يرتكبه ، فليس بمؤمن ، ولم تجب له الشفاعة وكان ظالماً ، والله تعالى ذكره يقول :
( مَا لِلظَّالِمِينَ مِنْ حَمِيمٍ وَلَا شَفِيعٍ يُطَاعُ ) .
فقلت له : يا ابن رسول الله ( صلى الله عليه وآله وسلم ) وكيف لا يكون مؤمناً من لم يندم على ذنب يرتكبه ؟
فقال : يا أبا أحمد ، ما من أحد يرتكب كبيرة من المعاصي ، وهو يعلم أنه سيعاقب عليها إلا ندم على ما ارتكب ، ومتى ندم كان تائباً مستحقاً للشفاعة ، ومن لم يندم عليها كان مصراً ، والمصر لا يغفر له لانه غير مؤمن بعقوبة ما ارتكب ، ولو كان مؤمناً بالعقوبة لندم ، وقد قال النبي ( صلى الله عليه وآله وسلم ) لا كبيرة مع الإِستغفار ، ولا صغيرة مع الإِصرار ، وأما قول الله عز وجل :
( وَلَا يَشْفَعُونَ إِلَّا لِمَنِ ارْتَضَىٰ ) .
فإنهم لا يشفعون الا لمن ارتضى الله دينه ، والدين الاقرار بالجزاء على الحسنات ، والسيئات . فمن إرتضى الله دينه ندم على ما ارتكبه من الذنوب لمعرفته بعاقبته في القيامة » (64) .
وقد نقلنا الحديث بطوله لإِشتماله على تحديد أبعاد من تكون الشفاعة لصالحه من المذنبين بشكل واضح حيث تبين لنا أن من يسمح في الشفاعة لهم هم : أهل الكبائر من أمة محمد ( صلى الله عليه وآله وسلم ) .
وفي مقام تعريف الكبائر يقال : أن الذنوب التي يطلق عليها إسم الكبيرة هي : ما أوعد عليها النار من : شرب الخمر ، والزنا والربا ، وعقوق الوالدين ، والفرار من الزحف ، وغير ذلك كما جاء في الخبر عن الإِمام الصادق « عليه السلام » وقيل غير ذلك حيث يشمل ما نهى الله عنه (65) .
4 ـ المشفع فيه :
من الواضح أن حدود الشفاعة لا تتعدى ما يعود الى العباد في مخالفاتهم لله عز وجل ، وتخفيف الذنوب عنهم بالنسبة لما يترتب عليها من جزاء . وهكذا فيما يعود لأمور المعاش ، والأرزاق ، وما شاكل .
أما في غير ذلك من الأمور التي تتعدى حدود البشر كالتدخل في الأمور الكونية ، فإن ذلك لا معنى لإِعطاء المجال الشفاعة فيه فإن أمر ذلك يعود الى الله تعالى ، وهو الذي يتصرف فيه كيف يشاء .
على أن التدخل في تلك الأمور خارج عن الحدود المرسومة للبشر وللأنبياء ، والمرسلين لخضوع كل ذلك الى أسباب جعلها الله وفق نظم دقيقة تأخذ مجراها الطبيعي لإِدارة هذا الكون بسماواته وأرضيته .
نعم : قد يكون من باب إظهار المعجزة لأحد الأنبياء ، أو المرسلين أن يطلب ذلك النبي شيئاً خارق العادة لإِثبات نبوته ، وصحة دعواه ، ولكن ذلك لا يتعلق بموضوع الشفاعة ، والوساطة بمفهومها الذي هو موضوع بحثنا ، وفيما نحن فيه .
الخلاصة :
وإذاً وبعد هذه الجولة عرفنا أن أصل الشفاعة ، والأخذ بها كمبدأ معترفٍ به من قبل الشريعة الإِسلامية أمر مفروغ من البحث فيه ، ولكن الخلاف في الإِطار الذي تؤطر به الشفاعة من حيث الشفيع ، والموضوع الذي يشفع فيه . مضافاً الى انفراد الشفيع بما
يقدم عليه ، أو معرفته برضا الله على ذلك الإِقدام .
ولكل مذهب رأيه في هذه المواضيع ينبع من النصوص التي يستند عليها عندما يقول بشيء من الرأي في جانب من الجوانب المذكورة ـ فمثلاً ـ نرى المعتزلة والخوارج يخالفون بقية الفرق الإِسلامية في قبول الشفاعة بمعناها الواسع الذي يقول به الباقون .
فهم يقصرون الشفاعة بحق المطيعين أما غيرهم فلا يستحقون الشفاعة وينشأ هذا القول من رأيهم في من يرتكب الكبيرة ، فإن مرتكبي الكبائر لا يرونهم مرحومين ويعفى عنهم بل هم مخلدون في النار . لذلك لا تنفع الشفاعة لمن كان مرتكب الكبيرة عند هؤلاء والآن : وبعد كل هذا تبين لنا أنه لا منافاة بين ما بينه الدعاء .
في الفقرة موضوعة البحث « ولا يخفف عن أهله » ، وبين الإِعتراف بوجود الشفاعة من قبل من كانت له المنزلة السامية عند الله فلا يخفف عن أهله اذا كانوا ممن لا يرضى الله بالتدخل في التشفع لهم ، ويشفع لهم اذا كانت ذنوبهم ليست بتلك الدرجة من الشدة التي تغلق باب الشفاعة في وجوههم .
فالداعي عندما يتخوف من ذنوبه يخشى أن يرد الله شفعاءه لو تشفعوا له لتهوله من ذلك الموقف الرهيب ، وله الحق فيما يتصوره من عدم التخفيف بعد صدور الحكم عليه ، فكيف يتحمل كل ذلك وهو محروم من الشفاعة لعظم جرمه ، أو لتخيله بعظم ما أقدم عليه من المخالفة ، وهو يعلم أن عدم التخفيف عن المذنبين مسبب عما يلي :
« لانه لا يكون إلا عن غضبك وانتقامك وسخطك » .
الغضب : ضد الرضا : قال إبن عرفة : الغضب : من المخلوقين شيء يداخل قلوبهم ، وأما غضب الله ، فهو إنكاره على من عصاه فيعاقبه .
والانتقام : هو العقاب .
والسخط : هو ضد الرضا ، وقيل : هو لا يكون إلا من الكبراء ، والعظماء دون الاكفاء ، والنظراء (66) .
وبالإِمكان القول : هو تقارب هذه الألفاظ من حيث المعنى ، والمقصود هو أن عدم التخفيف لا يكون إلا من عدم رضا الله عز وجل على عبده لمخالفته لما أمر به ، وإقدامه على ما نهاه عنه .
« وهذا ما لا تقوم له السموات ، والأرض فكيف بي ، وأنا عبدك الضعيف الذليل ، الحقير ، المسكين ، المستكين » .
أي رب : وان ما كان منشأه غضبك ، وإنتقامك ، وسخطك لا تقوى على حمله ، ومواجهة السماوات بطبقاتها ، والأرض ومن فيها ، وما فيها . فكيف يقوى إذاً على مواجهته هذا الجسم البالي المكون من هذه الأجزاء الضعيفة لحم ، ودم ، وعصب ، وعظم ؟
يا رب : وأنا عبدك الضعيف ، والضعيف بكل ما تحمله هذه العبارة من معنى : ضعيف في الجسم ، والبنية ، والإِدارة يستحوذ علي الشيطان ، فينسيني ذكر الله العظيم .
أي رب : وأنا عبدك الموسوم بكل صفات الذلة ، والعبودية لك الذليل ، الحقير ، المسكين ، المستكين .
أما الذليل : فهو ضد العزيز ، والمهان بالنسبة اليه تعالى .
والحقير : هو من هان قدره فلا يعبأ به .
أما المسكين : فهو من لا شيء له من المال ، واختلف بينه وبين الفقير ، أيهما أسوأ حالاً ، فقيل المسكين أسوأ حالاً ، وقيل : الفقير ، ولهم في ذلك وجوه .
ولكن المراد به في هذه الفقرة ليس هو المسكين المالي ، بل المسكين وكما جاء في اللغة بمعنى آخر حيث أطلق على الذليل المقهور ، وهو المراد به هنا .
وأما المستكين : فهو الخاضع الذليل .
واذا كانت نية الداعي صادقة ، وهو يخاطب الله ، ويسم نفسه بهذه السمات التي ان دلت فإنها تدل على منتهى الخضوع والخشوع والعودة الى ظلال رأفة الله ، والإِنقياد لسلطانه ، وعظمته . وحاشا لله أن يرد مثل هذا الداعي بذله ، ومسكنته ، ويخيب رجاءه ، وهو على هذه الحالة من الذل ، والإِنكسار .
لا : بل هو كما بشر الله عباده في كتابه الكريم بقوله :
( نَبِّئْ عِبَادِي أَنِّي أَنَا الْغَفُورُ الرَّحِيمُ ) (67) .
« نبيء » وهو أمر منه تعالى لنبيه في الإِخبار بهذا الفيض الإِلۤهي الكريم .
« عبادي » وفي إضافة العباد اليه نوع من القرب اليه ، والإِختصاص به ، وفيه بعث الطاقة في الإِنسان عندما يشعر بها المذنب وهو يتلمس اليد الحانية تربت على كتفه لتحمل اليه الأمل الأخضر يشرق من خلال قوله : ( أَنِّي أَنَا الْغَفُورُ الرَّحِيمُ ) .
غفور : بما تحمله هذه الكلمة من شدة التأكيد في المغفرة ، والتجاوز .
ورحيم : بما ينطوي عليه هذا التعبير من رنة هادئة تمثل الدعة ، والقبول ، والعطف ، والحنو .
الهوامش
1. اصول الكافي : باب الظلم من كتاب الكفر ، والإِيمان / حديث (12) .
2. المصدر السابق ، والموضع نفسه : حديث (9) .
3. اصول الكافي : باب / الظلم من كتاب الكفر ، والايمان / حديث (13) .
4. مرآة العقول في شرح أخبار آل الرسول : 10 / 303 / منشورات المطبعة الحيدرية / طهران .
5. لسان العرب : مادة ( ظلم ) .
6. سورة المعارج : آية (4 ـ 7) .
7. لاحظ لهذه الاحاديث ، وما بعدها إحياء العلوم للغزالي : 4 / 574 ـ 575 .
8. لاحظ لهذه الاحاديث ، وما بعدها احياء العلوم للغزالي 4 / 574 .
9. سورة النجم : الآيات : (13 ـ 15) .
10. احياء العلوم للغزالي : 4 / (619 ، 625) .
11. احياء العلوم للغزالي : 4 / (619 ، 625) .
12. المصدر السابق والموضع نفسه : ص (625) .
13. التكوير : آية (1 ـ 6) .
14. القارعة : آية (4 ـ 5) .
15. الحج : آية (1 ـ 2) .
16. سورة إبراهيم : آية (48) .
17. سورة عبس : آية (34 ـ 37) .
18. سورة آل عمران : آية (30) .
19. سورة عبس : آية (38 ـ 41) .
20. سورة الأعراف : آية (51) .
21. نقل ذلك الغزالي في إحياء العلوم : 4 / 639 . عن الطبراني في الكبير .
22. سورة البقرة : آية (86) .
23. بهذا النص جاءت آيتان الأولى في سورة البقرة : آية (162) والثانية في سورة آل عمران : آية (88) .
24. سورة النحل : آية (85) .
25. سورة فاطر : آية (36) .
26. سورة المؤمن : آية (49) .
27. سورة المؤمن : آية (50) .
28. من تمام الآية السابقة (49) من سورة المؤمن .
29. من تمام الآية السابقة (49) من سورة المؤمن .
30. من تمام الآية السابقة (49) من سورة المؤمن .
31. سورة البقرة : آية (255) .
32. يونس : آية (3) .
33. سورة مريم : آية (87) .
34. سورة الأنبياء : آية (28) .
35. سورة سبأ : آية (23) .
36. لاحظ سنن ابن ماجة : 2 / (1441 و 1444) ، ومسند أحمد / 5 / 347 .
37. لاحظ سنن ابن ماجة : 2 / (1441 و 1444) ، ومسند أحمد / 5 / 347 .
38. لاحظ سنن ابن ماجة : 2 / (1441 و 1444) ، ومسند أحمد / 5 / 347 .
39. لسان العرب : مادة / شفع .
40. الحجرات : آية / 13 .
41. مسند أحمد بن حنبل : 5 / 411 .
42. سورة المائدة : آية (35) .
43. سورة المائدة : آية (9) .
44. سورة الحديد : آية (28) .
45. نهج البلاغة : 3 / 242 .
46. نهج البلاغة 2 / 199 .
47. سورة النساء : آية (64) .
48. سورة النساء : آية (64) .
49. سنن الترمذي : 5 (247) .
50. امالي الشيخ الطوسي : ص 36 .
51. صحيح البخاري : 9 / 160 .
52. سنن ابن ماجة : 2 / 1443 ، ومثله في خصال الصدوق / ص (156) .
53. المناقب : 2 / 14 .
54. خصال الصدوق : ص / 624 .
55. سورة طه : آية (109) .
56. سورة البقرة : آية (255) .
57. سورة يونس : آية (3) .
58. سورة سبأ : آية (23) .
59. سورة النجم : آية (26) .
60. سورة الزمر : آية (44) .
61. سورة الأنعام : آية (51) .
62. سورة النساء : آية (116) .
63. سورة الأنبياء : آية (28) .
64. التوحيد للصدوق : 407 ـ 408 .
65. وسائل الشيعة : 18 / 286 / الطبعة الحديثة .
66. لاحظ لسان العرب : مادة ( غضب ، ونقم ، وسخط ) .
67. سورة الحجر : آية (49) .
مقتبس من كتاب : أضواء على دعاء كميل / الصفحة : 296 ـ 342
التعلیقات