كيف يكون إماماً وهو غائب ؟ وما فائدته ؟
الشيخ حسن محمّد مكّي العاملي
منذ 5 سنواتكيف يكون إماماً وهو غائب ؟ وما فائدته ؟
إنّ القيادة والهداية والقيام بوظائف الإمامة ، هو الغاية من تنصيب الإمام ، أو اختياره ، وهو يتوقف على كونه ظاهراً بين أبناء الأُمّة ، مشاهداً لهم ، فكيف يكون إماماً قائداً ، وهو غائب عنهم ؟!
والجواب : على وجهين نقضاً وحلاً .
أمّا النقض ، فإنّ التركيز على هذا السؤال يعرب عن عدم التعرّف على أولياء الله ، وأنّهم بين ظاهرٍ قائم بالأُمور ومُخْتَف قائم بها من دون أن يعرفه الناس .
إنّ كتاب الله العزيز يعرّفنا على وجود نوعين من الأئمة والأولياء والقادة للأُمّة ، وليّ غائب مستور ، لا يعرفه حتى نبي زمانه ، كما يخبر سبحانه عن مصاحب موسى عليه السلام بقوله : ( فَوَجَدَا عَبْدًا مِّنْ عِبَادِنَا آتَيْنَاهُ رَحْمَةً مِّنْ عِندِنَا وَعَلَّمْنَاهُ مِن لَّدُنَّا عِلْمًا * قَالَ لَهُ مُوسَىٰ هَلْ أَتَّبِعُكَ عَلَىٰ أَن تُعَلِّمَنِ مِمَّا عُلِّمْتَ رُشْدًا ) الآيات (1) .
وولي ظاهر باسط اليد ، تعرفه الأُمّة وتقتدي به .
فالقرآن إذن يدلّ على أنّ الولي ربما يكون غائباً ، ولكنه مع ذلك لا يعيش في غفلة عن أُمّته ، بل يتصرف في مصالحها ويرعى شؤونها ، من دون أن يعرفه أبناء الأُمّة .
فعلى ضوء الكتاب الكريم ، يصحّ لنا أن نقول بأنّ الولي إما ولي حاضر مشاهد ، أوْ غائب محجوب .
وإلى ذلك يشير الإمام علي بن أبي طالب في كلامه لكميل بن زياد النخعيّ ، يقول كميل : « أَخَذَ بيدي أميرُ المؤمنين علي بن أبي طالب عليه السلام ، فأخرجني إلى الجَبّان ، فلما أصحر ، تَنَفَّس الصعداء ، وكان مما قاله : « اللّهُم بلى ، لا تخلو الأرضُ من قائمٍ لله بحُجَّةٍ ، إمّا ظاهراً مشهوراً ، أوخائفاً مغموراً لِئلّا تَبْطُلَ حُجَجُ الله وبَيِّناتُه » (2) .
وليست غَيْبة الإمام المهدي ، بِدْعا في تاريخ الأولياء ، فهذا موسى بن عمران ، قد غاب عن قومه قرابة أربعين يوماً ، وكان نبيّاً وليّاً ، يقول سبحانه : ( وَوَاعَدْنَا مُوسَىٰ ثَلَاثِينَ لَيْلَةً وَأَتْمَمْنَاهَا بِعَشْرٍ فَتَمَّ مِيقَاتُ رَبِّهِ أَرْبَعِينَ لَيْلَةً وَقَالَ مُوسَىٰ لِأَخِيهِ هَارُونَ اخْلُفْنِي فِي قَوْمِي وَأَصْلِحْ وَلَا تَتَّبِعْ سَبِيلَ الْمُفْسِدِينَ ) (3) .
وهذا يونس كان من أنبياء الله سبحانه ، ومع ذلك فقد غاب في الظلمات كما يقول سبحانه : ( وَذَا النُّونِ إِذ ذَّهَبَ مُغَاضِبًا فَظَنَّ أَن لَّن نَّقْدِرَ عَلَيْهِ فَنَادَىٰ فِي الظُّلُمَاتِ أَن لَّا إِلَـٰهَ إِلَّا أَنتَ سُبْحَانَكَ إِنِّي كُنتُ مِنَ الظَّالِمِينَ * فَاسْتَجَبْنَا لَهُ وَنَجَّيْنَاهُ مِنَ الْغَمِّ وَكَذَٰلِكَ نُنجِي الْمُؤْمِنِينَ ) (4) .
أو لم يكن موسى ، ويونس نبيَّينْ من أنبياء الله سبحانه ؟ وما فائدة نبي يغيب عن الأبصار ، ويعيش بعيداً عن قومه ؟ .
فالجواب في هذا المقام ، هو الجواب في الإمام المهدي عليه السلام ، وسيوافيك ما يفيدك ، من الإنتفاع بوجود الإمام الغائب في زمان غيبته في جواب السؤال التالي .
أمّا الحلّ فمن وجوه :
الأوّل : إنّ عدم علمنا بفائدة وجوده في زمان غيبته ، لا يدلّ على عدم كونه مفيداً في زمن غَيْبَته ، فالسائلُ جَعَلَ عدم العلم ، طريقاً إلى العلم بالعدم !! وكم لهذا السؤال من نظائر في التشريع الإسلامي ، فيقيم البسطاء عدم العلم بالفائدة ، مقام العلم بعدمها ، وهذا من أعظم الجهل في تحليل المسائل العلمية ، ولا شك أنّ عقول البشر لا تصل إلى كثير من الأُمور المهمّة في عالم التكوين والتشريع ، بل لا يفهم مصلحة كثير من سننه ، وإن كان فعله سبحانه منزّهاً عن العبث ، بعيداً عن اللغو .
وعلى ذلك فيجب علينا التسليم أمام التشريع إذا وصل إلينا بصورة صحيحة ، كما عرفت من تواتر الروايات على غَيْبته .
الثاني : إنّ الغَيْبَة لا تلازم عدم التصرف في الأُمور ، وعدم الإستفادة من وجوده ، فهذا مصاحب موسى كان ولياً ، لجأ إليه ، أكبر أنبياء الله في عصره ، فقد خرق السفينة التي يمتلكها المستضعفون ، ليصونها عن غصب الملك ، ولم يَعْلَم أصحاب السفينة بتصرفه ، وإلّا لَصَدُّوه عن الخرق ، جهلاً منهم بغاية عمله . كما أنّه بنى الجدار ، ليصون كنز اليتيمَيْن ، فأي مانع ، حينئذٍ من أن يكون للإمام الغائب في كل يوم وليلة تصرّفاً من هذا النمط من التصرفات . و يؤيد ذلك ما دلّت عليه الروايات من أنّه يَحْضرُ الموسمَ في أشهر الحج ، ويَحُجُّ ويصاحِبُ الناسَ ، ويحضُرُ المجالس ، كما دلّت على أنّه يغيث المضطرين ، ويعود المرضى ، وربما يتكفل ـ بنفسه الشريفة ـ قضاء حوائجهم، وإن كان الناس لا يعرفونه .
الثالث : المُسَلّم هو عدم إمكان وصول عموم الناس إليه في غيبته ، وأمّا عدم وصول الخواص إليه ، فليس بأمر مسلّم ، بل الذي دلّت عليه الروايات خلافه ، فالصلحاء من الأُمّة ، الذين يُسْتَدَرُّ بهم الغمام ، لهم التشرف بلقائه ، والإستفادة من نور وجوده ، وبالتالي ، تستفيد الأُمّة بواسطتهم .
الرابع : لا يجب على الإمام أن يتولّى التصرّف في الأُمور الظاهرية بنفسه ، بل له تولِيَةُ غيرِهِ على التصرف في الأُمور كما فعل الإمام المهدي ، أرواحنا له الفداء ، في غَيْبَته . ففي الغَيْبَة الصغري ، كان له وكلاء أربعة ، يقومون بحوائج الناس ، وكانت الصلة بينه وبين الناس مستمرّة بهم . وفي الغَيْبَة الكبرى نصب الفقهاء والعلماء العدول العالمين بالأحكام ، للقضاء وإجراء السياسات ، وإقامة الحدود ، وجَعَلَهم حجةً على الناس ، فهم يقومون في عصر الغَيْبَة بصيانة الشرع عن التحريف ، وبيان الأحكام ، ودفع الشبهات ، وبكل ما يتوقف عليه نَظْمُ أُمور الناس (5).
وإلى هذه الأجوبة أشار الإمام المهدي عليه السلام في آخر توقيع له إلى بعض نوّابه ، بقوله : « وأمّا وجهُ الإنتفاع بي في غَيْبَتِي ، فكالإنتفاع بالشَّمْسِ إِذَا غَيّبَها عن الأَبْصارِ ، السحابُ » (6) .
الهوامش
1. سورة الكهف : الآيتان 65 و 66 .
2. نهج البلاغة بتعليقات عبده ، ج 4 ، ص 37 ، قصار الحكم ، الرقم 147 .
3. سورة الأعراف ، الآية 142 .
4. سورة الأنبياء : الآيتان 87 ـ 88 .
5. المراد من الغيبة الصغرى ، غيبته صلوات الله عليه ، منذ وفاة والده عام 260 إلى عام 329 ، وقد كانت الصلة بينه وبين الناس مستمرة بواسطة وكلائِه الأربعة : الشيخ أبي عمرو عثمان بن سعيد العمري ، وولده الشيخ أبي جعفر محمد بن عثمان ، والشيخ أبي القاسم الحسين بن روح من بني نَوْبخت ، والشيخ أبي الحسن علي بن محمد السَّمُري .
و المراد من الغيبة الكبرى ، غيبته من تلك السنة إلى زماننا هذا ، انقطعت فيها النيابة الخاصة عن طريق أشخاص معينين ، وحلّ محلّها النيابة العامة بواسطة الفقهاء والعلماء العدول ، كما جاء في توقيعه الشريف : « وأمّا الحوادث الواقعة ، فارجعوا فيها إلى رواة حديثنا ، فإنّهم حجّتي عليكم ، وأنا حجة الله عليهم » . ( كمال الدين ، الباب 45 ، ص 484 ) .
6. كمال الدين ، للصدوق ، الباب 45 ، الحديث 4 ، ص 485 . وقد ذكر العلامة المجلسي في وجه تشبيهه بالشمس إذا سترها السحاب ، وجوهاً ، راجعها في بحار الأنوار ، ج 52 ، الباب 20 ، ص 93 ـ 94 .
مقتبس من كتاب : [ الإلهيّات على هدى الكتاب والسنّة والعقل ] / المجلّد : 4 / الصفحة : 142 ـ 145
التعلیقات