تفسير آية : سَأَلَ سَائِلٌ بِعَذَابٍ وَاقِعٍ
الشيخ علي الكوراني
منذ 5 سنواتتفسير آية : سَأَلَ سَائِلٌ بِعَذَابٍ وَاقِعٍ
العذاب الذي طلبته قريش
قال الله تعالى : سَأَلَ سَائِلٌ بِعَذَابٍ وَاقِعٍ * لِّلْكَافِرِينَ لَيْسَ لَهُ دَافِعٌ. [ المعارج : 1 ـ 2 ].
تبدو هاتان الآيتان سؤالاً عن عذاب موعود سيقع حتماً ، لا أكثر ، ويمكن لأحد أن يقول إنّه عذاب الآخرة الموعود ، فليس بالضرورة أن يكون عذاباً في الدنيا. لكن الآيات والأحاديث تدلك على أن هذا العذاب في الدنيا ، وقد وقع منه مفردات ، وبقيت مفردات !
وفي آيات العذاب الدنيوي تجد طلباً عجيباً من مشركي قريش ، لم تطلبه أيّ أمّة من نبيّها عبر التاريخ ! قال الله تعالى : وَإِذَا تُتْلَىٰ عَلَيْهِمْ آيَاتُنَا قَالُوا قَدْ سَمِعْنَا لَوْ نَشَاءُ لَقُلْنَا مِثْلَ هَـٰذَا إِنْ هَـٰذَا إِلَّا أَسَاطِيرُ الْأَوَّلِينَ * وَإِذْ قَالُوا اللَّـهُمَّ إِن كَانَ هَـٰذَا هُوَ الْحَقَّ مِنْ عِندِكَ فَأَمْطِرْ عَلَيْنَا حِجَارَةً مِّنَ السَّمَاءِ أَوِ ائْتِنَا بِعَذَابٍ أَلِيمٍ * وَمَا كَانَ اللَّـهُ لِيُعَذِّبَهُمْ وَأَنتَ فِيهِمْ وَمَا كَانَ اللَّـهُ مُعَذِّبَهُمْ وَهُمْ يَسْتَغْفِرُونَ * وَمَا لَهُمْ أَلَّا يُعَذِّبَهُمُ اللَّـهُ وَهُمْ يَصُدُّونَ عَنِ الْمَسْجِدِ الْحَرَامِ وَمَا كَانُوا أَوْلِيَاءَهُ إِنْ أَوْلِيَاؤُهُ إِلَّا الْمُتَّقُونَ وَلَـٰكِنَّ أَكْثَرَهُمْ لَا يَعْلَمُونَ. [ الأنفال : 31 ـ 34 ].
لقد حطَّمَ القرشيّون الرقم القياسي في العناد اليهودي البدوي ! فلم يقولوا : اللهم إن كان هذا هو الحقّ من عندك فاهدنا إليه ، بل قالوا ما لم يقله أحد قبلهم ولا بعدهم : اللَّـهُمَّ إِن كَانَ هَـٰذَا هُوَ الْحَقَّ مِنْ عِندِكَ فَأَمْطِرْ عَلَيْنَا حِجَارَةً مِّنَ السَّمَاءِ أَوِ ائْتِنَا بِعَذَابٍ أَلِيمٍ ! ومعناه أنّا لا نريد نبوّة ابن بني هاشم ، حقّاً كانت أو باطلاً ، فإن كانت حقّاً من عندك ، فأهلكنا فذلك خير لنا ! وصدق الله تعالى حيث أخبر أن أكثرهم لن يؤمنوا ، فقال : لِتُنذِرَ قَوْمًا مَّا أُنذِرَ آبَاؤُهُمْ فَهُمْ غَافِلُونَ * لَقَدْ حَقَّ الْقَوْلُ عَلَىٰ أَكْثَرِهِمْ فَهُمْ لَا يُؤْمِنُونَ. [ يس : 6 ـ 8 ].
وقد وعد الله هؤلاء الأكثر وإن أظهروا الإيمان بعذاب الدخان فقال : ( فَارْتَقِبْ يَوْمَ تَأْتِي السَّمَاءُ بِدُخَانٍ مُّبِينٍ * يَغْشَى النَّاسَ هَـٰذَا عَذَابٌ أَلِيمٌ * رَّبَّنَا اكْشِفْ عَنَّا الْعَذَابَ إِنَّا مُؤْمِنُونَ * أَنَّىٰ لَهُمُ الذِّكْرَىٰ وَقَدْ جَاءَهُمْ رَسُولٌ مُّبِينٌ * ثُمَّ تَوَلَّوْا عَنْهُ وَقَالُوا مُعَلَّمٌ مَّجْنُونٌ * إِنَّا كَاشِفُو الْعَذَابِ قَلِيلًا إِنَّكُمْ عَائِدُونَ * يَوْمَ نَبْطِشُ الْبَطْشَةَ الْكُبْرَىٰ إِنَّا مُنتَقِمُونَ ) [ الدخان : 10 ـ 15 ].
أمّا مصادر السلطة فقد زعمت أنّ العذاب بهذا الدخان تحقّق عندما دعا النبي صلّى الله عليه وآله على قريش فأصابهم القحط والجوع فكان أحدهم يرى أمامه كالدخان من الجوع ! قال بخاري : 2 / 15 : « إنّ النبي (ص) لما رأى من الناس إدباراً قال : اللهم سبعاً كسبع يوسف فأخذتهم سنة حصت كلّ شيء حتّى أكلوا الجلود والميتة والجيف ، وينظر أحدهم إلى السماء فيرى الدخان من الجوع ، فأتاه أبو سفيان فقال : يا محمّد إنّك تأمر بطاعة الله وبصلة الرحم ، وإنّ قومك قد هلكوا فادع الله لهم ، قال الله تعالى : فَارْتَقِبْ يَوْمَ تَأْتِي السَّمَاءُ بِدُخَانٍ مُّبِينٍ إلى قوله عَائِدُونَ يَوْمَ نَبْطِشُ الْبَطْشَةَ الْكُبْرَىٰ ، فالبطشة يوم بدر ، وقد مضت الدخان والبطشة واللزام وآية الروم ». و : 2 / 19 ، و : 5 / 217 ، و : 6 / 41.
وفي صحيح مسلم : 8 / 130 : « عن مسروق قال : كنّا عند عبد الله جلوساً وهو مضطجع بيننا ، فأتاه رجل فقال : يا أبا عبد الرحمن إنّ قاصاً عند أبواب كندة يقصّ ويزعم أن آية الدخان تجيء فتأخذ بأنفاس الكفّار ويأخذ المؤمنين منه كهيئة الزكام ! فقال عبد الله وجلس وهو غضبان : يا أيّها الناس إتّقوا الله ، من علم منكم شيئاً فليقل بما يعلم ، ومن لم يعلم فليقل الله أعلم .. ». ثمّ أورد حديث بخاري وقال : « فالبطشة يوم بدر وقد مضت آية الدخان والبطشة واللزام وآية الروم ». انتهى.
أقول : ترى علماء السلطة يصرّون على إبعاد العذاب الدنيوي والأخروي عن هذه الأمّة وخاصّة عن قريش حتّى عن فراعنتها وأئمّة الكفر منها كأبي جهل « بخاري : 5 / 199 » ! وقصدهم بالبطشة قوله تعالى : ثُمَّ تَوَلَّوْا عَنْهُ وَقَالُوا مُعَلَّمٌ مَّجْنُونٌ * إِنَّا كَاشِفُو الْعَذَابِ قَلِيلًا إِنَّكُمْ عَائِدُونَ * يَوْمَ نَبْطِشُ الْبَطْشَةَ الْكُبْرَىٰ إِنَّا مُنتَقِمُونَ. [ الدخان : 14 ـ 16 ] ، وباللزام آخر سورة الفرقان : قُلْ مَا يَعْبَأُ بِكُمْ رَبِّي لَوْلَا دُعَاؤُكُمْ فَقَدْ كَذَّبْتُمْ فَسَوْفَ يَكُونُ لِزَامًا. فهم يفسّرون البطشة الكبرى واللزام والعذاب ببدر ! ويقولون إن أنواع العذاب الموعود قد مضت !
بل تراهم افتروا على النبي صلّى الله عليه وآله بأنّه دعا على قومه فوبخه الله تعالى ! فاقرأ ما لا تصدقه عيناك في تفسير قوله تعالى : لَيْسَ لَكَ مِنَ الْأَمْرِ شَيْءٌ ، وكيف صوّروا النبي صلّى الله عليه وآله ضيق الصدر مبغضاً لقريش عدوانيّاً عليها ! فينزل الوحي مدافعاً عن هذه القبائل المقدّسة !
قال في الميزان : 18 / 137 : « واختلف في المراد بهذا العذاب المذكور في الآية ، فقيل : المراد به المجاعة التي ابتلى بها أهل مكّة .. وقيل إن الدخان المذكور في الآية من أشراط الساعة وهو لم يأت بعد ... والقولان كما ترى ». ونحوه مجمع البيان : 9 / 105.
أقول : التأمّل في آيات العذاب يوجب القول بوجود عذاب دنيوي أيضاً وعد الله به بعض الناس ، منه ما تحقّق ومنه ما يكون على يد المهدي عليه السلام ومنه ما يكون قبله ، أو بعده في الرجعة ، أو قرب القيامة.
ومن أدلّته الواضحة قوله تعالى : ( وَلَئِن قُلْتَ إِنَّكُم مَّبْعُوثُونَ مِن بَعْدِ الْمَوْتِ لَيَقُولَنَّ الَّذِينَ كَفَرُوا إِنْ هَـٰذَا إِلَّا سِحْرٌ مُّبِينٌ * وَلَئِنْ أَخَّرْنَا عَنْهُمُ الْعَذَابَ إِلَىٰ أُمَّةٍ مَّعْدُودَةٍ لَّيَقُولُنَّ مَا يَحْبِسُهُ أَلَا يَوْمَ يَأْتِيهِمْ لَيْسَ مَصْرُوفًا عَنْهُمْ وَحَاقَ بِهِم مَّا كَانُوا بِهِ يَسْتَهْزِئُونَ ) [ هود : 7 ـ 8 ]. فهو ينصّ على عذاب موعود مؤخّر الى « الأمّة المعدودة » الذين يبعثهم الله لعذاب الظالمين ، وقد ورد أنّهم أصحاب الإمام المهدي عليه السلام. وكذا قوله تعالى لنبيّه عيسى عليه السلام : ( إِذْ قَالَ اللَّـهُ يَا عِيسَىٰ إِنِّي مُتَوَفِّيكَ وَرَافِعُكَ إِلَيَّ وَمُطَهِّرُكَ مِنَ الَّذِينَ كَفَرُوا وَجَاعِلُ الَّذِينَ اتَّبَعُوكَ فَوْقَ الَّذِينَ كَفَرُوا إِلَىٰ يَوْمِ الْقِيَامَةِ ... فَأَمَّا الَّذِينَ كَفَرُوا فَأُعَذِّبُهُمْ عَذَابًا شَدِيدًا فِي الدُّنْيَا وَالْآخِرَةِ وَمَا لَهُم مِّن نَّاصِرِينَ ). [ آل عمران : 55 ـ 56 ]. ولا يتّسع المجال لبحث الموضوع ، وغرضنا منه العذاب الموعود في قوله تعالى : سَأَلَ سَائِلٌ بِعَذَابٍ وَاقِعٍ ، وقد وردت أحاديث في أنّه يتعلّق بقريش ، وأنّه وقع بعضه يوم بدر ، وبعضه على أثر يوم الغدير. وبعضه يكون عند ظهور الإمام المهدي عليه السلام كما قال الإمام الصادق عليه السلام : « تأويلها فيما يأتي ، عذابٌ يقع في الثوية يعني ناراً حتّى تنتهي إلى الكناسة ». [ غيبة النعماني / 272 ].
أحجار من السماء للمعترضين باسم قريش !
تحرّكت قافلة النبوّة من غدير خمٍ نحو المدينة ، وسكن قلب النبي صلّى الله عليه وآله واطمأن لأنّه بلغ رسالة ربّه ، لكن قلوب قريش كانت تغلي من الغيظ ، ثمّ رأت نفسها أفاقت بعد سكرة ، فأخذت بالنشاط !
هنا استعمل الله تعالى أسلوباً آخر لعصمة نبيّه صلّى الله عليه وآله من قريش ، هو كشف مؤامرتها لقتله بعد الجحفة في عقبة هرشى ، وكانت نسخة عن مؤامرتها في عقبة تبوك.
كما استعمل الله أسلوب العذاب السماوي الذي لا تفهم قريش غيره تماماً كاليهود مع أنبيائهم عليهم السلام ! وقد روت مصادر السنّة والشيعة عدّة أسماء لأشخاص اعترضوا على إعلان النبي صلّى الله عليه وآله ولاية علي عليه السلام في غدير خم وهم : جابر بن النضر بن الحارث بن كلدة العبدري ، والحارث بن النعمان الفهري ، وعمرو بن عتبة المخزومي ، والنضر بن الحارث الفهري ، والحارث بن عمرو الفهري ، والنعمان بن الحارث اليهودي ، والنعمان بن المنذر الفهري ، وعمرو بن الحارث الفهري ، ورجل من بني تيم ، ورجل أعرابي .. ورجل أعرابي من أهل نجد من ولد جعفر بن كلاب بن ربيعة. وكلّهم قرشيّون إلّا الربيعي واليهودي ! وليس فيهم أنصاري لأنّهم لم يعترض منهم أحد على ما أعطى الله تعالى لعترة نبيّه صلّى الله عليه وآله ، وإن خذلوهم بعد وفاته !
وخلاصة الحادثة : أن أحد القرشيين الكبار ، أو أكثر من شخص ، اعترض على النبي صلّى الله عليه وآله واتّهمه بأن إعلانه علياً عليه السلام وليّاً على الأمّة ، كان عملاً من عنده وليس بأمر ربّه عزّ وجلّ ! ولم يقتنع القرشي بتأكيد النبي صلّى الله عليه وآله له أنّه ما فعل ذلك إلّا بأمر ربّه عزّ وجلّ ! وخرج من عند النبي صلّى الله عليه وآله غاضباً مغاضباً ، وهو يدعو الله بدعاء قريش أن يمطر الله عليه حجارة من السماء إن كان هذا الأمر حقّاً من عنده ، فرماه الله بحجرٍ من السماء فأهلكه ! أو أنزل عليه ناراً من السماء فأحرقته ! وهذه الحادثة تعني أن الله استعمل التخويف مع قريش أيضاً ، ليعصم رسوله صلّى الله عليه وآله من تكاليف حركة الردة التي قد تُقْدِم عليها ، ويتعزز عند زعمائها الإتّجاه القائل بفشل المواجهة الحسّية مع النبي صلّى الله عليه وآله ، وضرورة الصبر حتّى يتوفّاه الله تعالى !
وأقدم من روى هذا الحديث أبو عبيد الهروي في كتابه : غريب القرآن ، قال ابن شهراشوب في مناقب آل أبي طالب : 2 / 240 : أبو عبيد ، والثعلبي ، والنقاش ، وسفيان بن عينيه ، والرازي ، والقزويني ، والنيسابوري ، والطبرسي ، والطوسي في تفاسيرهم ، أنّه لما بَلَّغَ رسول الله (ص) بغدير خم ما بَلَّغ وشاع ذلك في البلاد ، أتى الحارث بن النعمان الفهري وفي رواية أبي عبيد : جابر بن النضر بن الحارث بن كلدة العبدري فقال : يا محمّد ! أمرتنا عن الله بشهادة أن لا إله إلّا الله وأنّ محمّداً رسول الله ، وبالصلاة والصوم والحجّ والزكاة فقبلنا منك ، ثم لم ترض بذلك حتّى رفعت بضبع ابن عمّك ففضلته علينا وقلت : من كنت مولاه فعلي مولاه ! فهذا شيء منك أم من الله ؟! فقال رسول الله صلّى الله عليه وآله : والذي لا إله إلّا هو إنّ هذا من الله. فولّى جابر يريد راحلته وهو يقول : اللهم إن كان ما يقول محمّد حقّاً فَأَمْطِرْ عَلَيْنَا حِجَارَةً مِّنَ السَّمَاءِ أَوِ ائْتِنَا بِعَذَابٍ أَلِيمٍ ! فما وصل إليها حتّى رماه الله بحجر فسقط على هامته وخرج من دبره وقتله ، وأنزل الله تعالى : سَأَلَ سَائِلٌ بِعَذَابٍ وَاقِعٍ .. الآية ». انتهى. وقد أحصى علماؤنا ، كصاحب العبقات ، وصاحب الغدير وصاحب إحقاق الحقّ ، وصاحب نفحات الأزهار ، وغيرهم عدداً من أئمّة السنيين الذين أوردوا هذا الحديث في مصنّفاتهم ، فزادت على الثلاثين .. نذكر منهم اثني عشر :
1 ـ الحافظ أبو عبيد الهروي ، في تفسيره « غريب القرآن ».
2 ـ أبو بكر النقاش الموصلي البغدادي ، في تفسيره.
3 ـ أبو إسحاق الثعلبي ، في تفسيره « الكشف والبيان ».
4 ـ الحاكم أبو القإسم الحسكاني في كتاب « أداء حق الموالاة ».
5 ـ أبو بكر يحيى القرطبي ، في تفسيره.
6 ـ أبو المظفر سبط ابن الجوزي الحنفي في تذكرته.
7 ـ شيخ الإسلام الحمويني ، روى في فرائد السمطين في الباب الثالث عشر بسنده الى الثعلبي عن سفيان بن عيينه سئل عن قوله عزّ وجلّ : سَأَلَ سَائِلٌ بِعَذَابٍ وَاقِعٍ ، فيمن نزلت فقال ...
8 ـ أبو السعود العمادي ، في تفسيره : 8 / 292 ، وقال : قيل هو الحرث بن النعمان الفهري ، وذلك أنّه لما بلغه قول رسول الله صلّى الله عليه وآله في علي رضي الله عنه : من كنت مولاه فعلي مولاه ، قال ...
9 ـ شمس الدين الشربيني القاهري الشافعي ، قال : في تفسيره السراج المنير : 4 / 364 : اختلف في هذا الداعي فقال ابن عبّاس : هو النضر بن الحرث ، وقيل : هو الحرث بن النعمان ...
10 ـ الشيخ برهان الدين علي الحلبي الشافعي ، رواه في السيرة الحلبية : 3 / 302 ، قال : لما شاع قوله (ص) : من كنت مولاه فعلي مولاه في ساير الأمصار وطار في جميع الأقطار ، بلغ الحرث بن النعمان الفهري ...
11 ـ شمس الدين الحفني الشافعي ، في شرح الجامع الصغير : 2 / 387.
12 ـ أبو عبد الله الزرقاني المالكي ، في شرح المواهب اللدنية / 13.
طرق وأسانيد حديث حجر الغدير
طرق المصادر السنية :
الطريق الأوّل : حديث أبي عبيد الهروي : في كتابه : غريب القرآن ، وسنده عند أهل الجرح والتعديل سند مقبول.
الثاني : حديث الثعلبي عن سفيان بن عيينة : وله أسانيد كثيرة ، وأكثر الذين ذكرهم صاحب الغدير رحمه الله أسانيدهم عن الثعلبي أو من كتابه ، كما عدد السيد المرعشي رحمه الله جملة منهم في إحقاق الحق : 6 / 358 ، ونصّ الحديث : « عن سفيان بن عيينة رحمه الله سئل عن قوله تعالى : سَأَلَ سَائِلٌ بِعَذَابٍ وَاقِعٍ ، فيمن نزلت ؟ فقال للسائل : لقد سألتني عن مسألة لم يسألني عنها أحد قبلك ، حدّثني أبي عن جعفر بن محمّد عن آبائه رضي الله عنهم أنّ رسول الله (ص) لما كان بغدير خم نادى الناس فاجتمعوا فأخذ بيد علي رضي الله عنه وقال من كنت مولاه فعلي مولاه فشاع ذلك فطار في البلاد ، وبلغ ذلك الحارث بن النعمان الفهري ، فأتى رسول الله (ص) على ناقة له فأناخ راحلته ونزل عنها ، وقال : يا محمّد أمرتنا عن الله عزّ وجلّ أن نشهد أن لا إله إلّا الله وأنّك رسول الله فقبلنا منك ، وأمرتنا أن نصلّي خمساً فقبلنا منك ، وأمرتنا بالزكاة فقبلنا منك ، وأمرتنا أن نصوم رمضان وأمرتنا بالحجّ فقبلنا ، ثمّ لم ترض بهذا حتّى رفعت بضبعي ابن عمّك تفضله علينا فقلت : من كنت مولاه فعلي مولاه ... الخ. وشواهد التنزيل : 2 / 381 ، بسندين إلى ابن عيينة ، برقم « 1030 و 1031 ».
الثالث والرابع والخامس للقاضي الحسكاني في شواهد التنزيل : 2 / 382 ، رقم 1032 ، عن جابر الجعفي. و : 2 / 383 رقم 1033 ، عن حذيفة ، و : 2 / 385 رقم 1034 ، عن أبي هريرة.
طرق وأسانيد مصادرنا إلى سفيان بن عيينة
1. سند فرات بن إبراهيم الكوفي إلى سفيان بن عيينة / 505 ، برقم « 3 ».
2. سند محمّد بن العباس إلى سفيان في تأويل الآيات : 2 / 722.
3. سند الشريف المرتضى إلى سفيان في مدينة المعاجز : 1 / 407.
4. سند منتجب الدين الرازي إلى سفيان في الأربعين حديثاً / 82.
5. سند الطبرسي إلى سفيان بن عيينة ، كما في تفسير الميزان : 6 / 58.
طرق وأسانيد مصادرنا من غير طريق سفيان بن عيينة
1. أسانيد الكليني : 1 / 422 ، و : 8 / 57 ، عن أبي بصير عن الإمام الصادق عليه السلام.
2. أسانيد فرات الكوفي / 503 ، عن أبي هريرة وابن عباس وسعد بن وقاص.
3. سندا محمّد بن العباس في تأويل الآيات : 2 / 722 ، عن أبي بصير ...
4. سند جامع الأخبار ، كما في بحار الأنوار : 33 / 165.
5. سند مدينة المعاجز للبحراني : 2 / 267 ، عن السيّد حيدر بن علي الآملي.
6. رواية المناقب لابن شهرآشوب ، عن عدد من المصادر ، وقد تقدّمت.
7. رواية علي بن إبراهيم في تفسيره : 2 / 385 ، بسنده عن أبي الحسن عليه السلام.
وهناك أسانيد أخرى ، يصعب استقصاؤها فراجع : شرح الأخبار للقاضي النعمان المغربي ، وكنز الحقائق للكراجكي ، والفضائل لشاذان بن جبرئيل ، وتفسير القمي والمناقب لابن شهرآشوب ، وغاية المرام للبحراني ، وغيرها.
والنتيجة الأولى التي يصل المتأمّل أن أصل الحديث مستوفٍ لشروط الصحّة ، فمهما كان الباحث بطئ التصديق ، وأجاز لنفسه اتّهام الشيعة بأنّهم وضعوها في مصادرهم ، فلا يمكنه أن يفسّر وجودها في مصادر السنّة ورواية عدد من أئمّتهم لها ، وتبني بعضهم لها.
نعم قد يعترض متعصبٌ بأن هؤلاء الأئمّة السنيين رووه عن أئمّة أهل البيت عليهم السلام. وجوابه أوّلاً ، أن طرق الحديث فيها عن حذيفة ، وأبي هريرة ، وابن وقاص وغيره. وأن مقام أهل البيت^عند السنّة لا يقل عن مقام كبار أئمّتهم ، خاصّة الإمامين الباقر والصادق عليهما السلام اللذين يروي عنهما عدد من كبار أئمّتهم كأبي عبيد والسفيانين والزهري ومالك وأحمد ، وغيرهم.
والنتيجة الثانية أن الحادثة التي روتها هذه الأحاديث لايمكن أن تكون واحدة بل متعدّدة ، بسبب تعدد الإسماء ، والتصحيف يصح في بعضها لا في جميعها ، وبسبب نوع العقوبة ، والأمكنة ، والأزمنة ، والقرائن المذكورة في روايات الحديث. فرواية أبي عبيد والثعلبي وغيرها تقول إن الإعتراض والحادثة وقع في المدينة أو قربها ، وإن العذاب كان بحجرٍ من سجيل ، ورواية أبي هريرة وغيرها تقول كان في نفس غدير خم بعد خطبة النبي صلّى الله عليه وآله ، وإن العقوبة كانت بنارٍ نزلت من السماء ، وبعضها يقول إنّها كانت بصاعقة.
نموذج من تفسير علماء الخلافة لآية : سَأَلَ سَائِلٌ بِعَذَابٍ وَاقِعٍ
قال الشوكاني في فتح القدير : 5 / 352 : « وهذا السائل هو النضر بن الحارث حين قال : اللَّـهُمَّ إِن كَانَ هَـٰذَا هُوَ الْحَقَّ مِنْ عِندِكَ فَأَمْطِرْ عَلَيْنَا حِجَارَةً مِّنَ السَّمَاءِ أَوِ ائْتِنَا بِعَذَابٍ أَلِيمٍ. وهو ممّن قتل يوم بدر صبراً. وقيل : هو أبو جهل. وقيل : هو الحارث بن النعمان الفهري. والأوّل أولى لما سيأتي ». انتهى. وقصده بما يأتي ما ذكره / 356 ، من رواياتهم التي تثبت أن السورة مكيّة وأن صاحب العذاب الواقع هو النضر ، وليس ابنه جابراً ، ولا الحارث الفهري قال : « وقد أخرج الفريابي وعبد بن حميد والنسائي وابن أبي حاتم والحاكم وصحّحه وابن مردويه عن ابن عبّاس في قوله : سأل سائل ، قال : هو النضر بن الحارث قال : اللَّـهُمَّ إِن كَانَ هَـٰذَا هُوَ الْحَقَّ مِنْ عِندِكَ فَأَمْطِرْ عَلَيْنَا حِجَارَةً مِّنَ السَّمَاءِ أَوِ ائْتِنَا بِعَذَابٍ أَلِيمٍ ». انتهى. ومع أن الشوكاني ذكر القولين لكنّه ذكر رواية أحدهما دون الآخر ، وهذا تحيز ! بل ينبغي أن يذكر رواية القولين وسبب ترجيحه لأحدهما كما فعل الشربيني القاهري في تفسير المعروف فقال كما نقل عنه صاحب عبقات الأنوار : 7 / 398 : « اختلف في هذا الداعي فقال ابن عبّاس : هو النضر بن الحارث. وقيل هو الحارث بن النعمان ، وذلك أنّه لما بلغه قول النبي صلّى الله عليه وآله من كنت مولاه فعلي مولاه ركب ناقته فجاء حتّى أناخ راحلته في الأبطح ثمّ قال : يا محمّد أمرتنا عن الله أن نشهد أن لا إله إلّا الله وأنّك رسول الله فقبلناه منك ... إلخ. ». انتهى. وقال القرطبي في تفسيره : 18 / 278 : « وهو النضر بن الحارث حيث قال : اللَّـهُمَّ إِن كَانَ هَـٰذَا هُوَ الْحَقَّ مِنْ عِندِكَ فَأَمْطِرْ عَلَيْنَا حِجَارَةً مِّنَ السَّمَاءِ أَوِ ائْتِنَا بِعَذَابٍ أَلِيمٍ ، فنزل سؤاله وقتل يوم بدر صبراً هو وعقبة بن أبي معيط ، لم يقتل صبراً غيرهما ، قاله ابن عبّاس ومجاهد. وقيل : إنّ السائل هنا هو الحارث بن النعمان الفهري ، وذلك أنّه لما بلغه قول النبي (ص) في علي رضي الله عنه : من كنت مولاه فعلي مولاه ، ركب ناقته فجاء حتّى أناخ راحلته بالأبطح .. بنحو رواية أبي عبيد. ثمّ قال : وقيل : إنّ السائل هنا أبو جهل وهو القائل لذلك ، قاله الربيع. وقيل إنّه قول جماعةٍ من كفّار قريش. وقيل : هو نوح عليه السلام سأل العذاب على الكافرين. وقيل: هو رسول الله (ص) أيّ دعا بالعقاب ، وطلب أن يوقعه الله بالكفّار وهو واقع بهم لا محالة ، وامتدّ الكلام إلى قوله تعالى : فَاصْبِرْ صَبْرًا جَمِيلًا ، أيّ لا تستعجل فإنّه قريب ». انتهى.
أقول : رجح المفسّرون السنيّون كما رأيت تفسير الآية بنزول العذاب على النضر بن الحارث العبدري بقتله في بدر ، لكن اعترافهم برواية العذاب عقوبة للمعترض على ولاية علي عليه السلام في الغدير ، يدلّ على وجود إعلان نبوي رسمي بحقّ علي عليه السلام ووجود اعتراضٍ قرشي عليه !
أمّا الفخر الرازي فاختار في تفسيره : 30 / 122 ، أنّ العذاب المذكور في مطلع السورة هو العذاب الأخروي ، وأنّ الدنيوي مخصوص بالنضر بن الحارث ، قال : « لأنّ العذاب نازل للكافرين في الآخرة لا يدفعه عنهم أحد ، وقد وقع بالنضر لأنّه قتل يوم بدر » ، ثمّ وصف هذا الرأي بأنّه سديد .. وهو بذلك يتابع المفسّرين السنيّين الذين قالوا بانتهاء العذاب الدنيوي الموعود ، مع أنّ السورة لا تشير إلى انتهاء أيّ نوع منه.
ويرد على تفسيرهم عدّة إشكالات :
أوّلها : أن القول الذي رجحوه قول صحابي أو تابعي وهما ابن عبّاس ومجاهد ، وليس حديثاً نبويّاً ، بينما تفسيرها بعذاب المعترض على ولاية علي عليه السلام حديث نبوي صحيح السند.
وثانيها : أن سؤال النضر بالعذاب الواقع كان قبل بدر ، وعذابه في بدر ، لكن آية مطر الحجارة نزلت في الأنفال بعد بدر وبعد قتل النضر ، فكيف يكون جواب قوله في سورة مكيّة ، وقوله في سورة مدنيّة بعد هلاكه ؟!
وثالثها : أنّ العذاب بحجر من السماء أكثر تناسباً وانطباقاً على قوله تعالى : اللَّـهُمَّ إِن كَانَ هَـٰذَا هُوَ الْحَقَّ مِنْ عِندِكَ فَأَمْطِرْ عَلَيْنَا حِجَارَةً مِّنَ السَّمَاءِ أَوِ ائْتِنَا بِعَذَابٍ أَلِيمٍ ، من قولهم أن العذاب كان بالقتل.
ورابعها : أنّه لا تعارض بين التفسيرين ، فيكون العذاب وقع على النضر بن الحارث في بدر ، ثمّ وقع على ولده جابر بن النضر ، كما في رواية أبي عبيد ، ثمّ وقع ويقع على آخرين من مستحقّيه ! بل هو المتعيّن الذي يقتضيه إطلاق النصّ ، فقد تحدوا النبي صلّى الله عليه وآله وتساءلوا عن العذاب الموعود وطلبوه ، فأجابهم الله تعالى بأنه واقعٌ بالكفّار لا محالة في الدنيا وفي الآخرة ، وقد وقع على قريش في بدر والخندق ، كما عذّبهم بالجوع والقحط ، وفتح مكّة. ومنه عذاب المعترضين منهم على النبي صلّى الله عليه وآله لإعلانه ولاية عترته عليهم السلام ! بل يبقى العذاب الواقع مفتوحاً الى آخر الدنيا !
محاولات النواصب رد تفسير آية العذاب !
لم أعثر على أحد من النواصب المبغضين لأهل بيت النبي عليهم السلام ، ردّ هذا الحديث وكذبه قبل ابن تيميّة ، فقد هاجمه بعنف وتخبط في ردّه ! وتبعه على ذلك محمّد رشيد رضا في تفسير المنار ، وهو ناصبي مقلّد لابن تيميّة وتلميذه ابن القيم في كثير من أفكارهما ، وقد أدخلها في تفسيره ، واستفاد لنشرها من إسم أستاذه الشيخ محمّد عبده رحمه الله فخلط أفكاره بأفكار أستاذه ! ويلمس القارئ الفرق بين الجزءين الأوّلين من تفسير المنار اللذين كتبهما في حياة الشيخ محمّد عبده وما سجّله من دروسه ، ففيهما من عقلانيّة الشيخ محمّد عبده رحمه الله واعتقاده بولاية أهل البيت عليهم السلام ، وبين الأجزاء التي كتبها رشيد رضا بعد وفاة أستاذه أو أعاد طباعتها ووضع فيها أفكاره الناصبة لأهل البيت عليهم السلام. وقد نقل رشيد رضا في المنار : 6 / 464 ، الحديث من تفسير الثعلبي ، ثمّ قال : « وهذه الرواية موضوعة ، وسورة المعارج هذه مكيّة ، وما حكاه الله من قول بعض كفّار قريش : اللَّـهُمَّ إِن كَانَ هَـٰذَا هُوَ الْحَقَّ مِنْ عِندِكَ .. كان تذكيراً بقول قالوه قبل الهجرة ، وهذا التذكير في سورة الأنفال وقد نزلت بعد غزوة بدر قبل نزول المائدة ببضع سنين ، وظاهر الرواية أنّ الحارث بن النعمان هذا كان مسلماً فارتدّ ، ولم يعرف في الصحابة ، والأبطح بمكّة والنبي صلّى الله عليه وآله لم يرجع من غدير خم إلى مكّة ، بل نزل فيه منصرفه من حجّة الوداع إلى المدينة ». انتهى. ولم يزد رشيد رضا على ما ذكره ابن تيميّة ! وعمدة إشكالهما :
1 ـ أن مكان الأبطح في مكّة والنبي صلّى الله عليه وآله لم يرجع بعد الغدير إلى مكّة. وجوابه : أن الأبطح كل مسيل ماء فيه حصى [ العين : 3 / 173 ] ، وأبطح المدينة مشهور ، لكن ابن تيميّة لا يعرفه أو تعمد الكذب ! وقد ردّه صاحب الغدير رحمه الله : 1 / 239 ، بما رواه بخاري : 1 / 181 « أنّ رسول الله (ص) أناخ بالبطحاء بذي الحليفة فصلّى بها ». وذو الحليفة بالمدينة لا في مكّة.
2 ـ وإشكاله الثاني أنّ سورة المعارج مكيّة نزلت قبل المائدة ، والحديث يقول إنّ آيتها نزلت وسط آيات سورة المائدة !
وجوابه : أنّ سورة المعارج مختلف فيها ، ويبدو أن فيها آيات مدنيّة ولو سلّمنا أنّها كلّها مكيّة فتكون آية ( سَأَلَ سَائِلٌ ) نزلت مرّة ثانية ، لأنّه جاء تأويلها عندما طلب المعترض نزول العذاب عليه ونزل. وتوجد آيات عديدة نزلت أكثر من مرّة وكان نزولها الثاني لتحقّق تأويلها أو لتأكيدها ، وقد نصّت رواية بحار : 37 / 167 ، على أن جبرئيل هبط بعد هلاك المعترض على النبي صلّى الله عليه وآله وهو يقول : « إقرأ يا محمّد : سَأَلَ سَائِلٌ بِعَذَابٍ وَاقِعٍ * لِّلْكَافِرِينَ لَيْسَ لَهُ دَافِعٌ ». وهذا نصّ في أن جبرئيل عليه السلام نزل بتطبيق الآية أو تأويلها ، بل يظهر من أحاديثنا أن ما حلّ بالعبدري والفهري ما هو إلّا جزءٌ صغيرٌ من « العذاب الواقع » الموعود ، وأن أكثره سينزل في المستقبل تمهيداً لظهور المهدي عليه السلام أو نصرةً له .. وقد روى المحدّثون والمفسّرون أن آية : وَلَسَوْفَ يُعْطِيكَ رَبُّكَ فَتَرْضَىٰ ، نزلت في سورة الضحى عندما أبطأ جبرئيل على رسول الله صلّى الله عليه وآله [ الطبراني الكبير : 2 / 173 ] ، ونزلت عندما عيَّر المشركون المسلمين بالفقر [ لباب النقول / 213 ] ، ونزلت عندما عُرض على رسول الله صلّى الله عليه وآله ما هو مفتوح على أمّته من بعده [ الطبراني الكبير : 10 / 277 ] ، ونزلت عندما رأى النبي صلّى الله عليه وآله على فاطمة عليها السلام كساء من وبر الإبل وهي تطحن فبكى وقال : يا فاطمة إصبري على مرارة الدنيا لنعيم الآخرة غداً ، فنزلت : وَلَسَوْفَ يُعْطِيكَ رَبُّكَ فَتَرْضَىٰ. [ كنز العمال : 12 / 422 ]. فلا الأبطح عرفوه ، ولا تكرار النزول فهموه ، وتشبثوا بالباطل لينكروا ولاية علي عليه السلام التي صدع بها رسول الله صلّى الله عليه وآله.
هذا ، وقد ردّ علماؤنا كلام الناصبي ابن تيميّة في منهاجه : 4 / 13 ، بنقد علمي مفصّل كما ترى في الغدير : 1 / 239 ، وعبقات الأنوار : مجلّد 7 و 8.
بنو عبد الدار « أبطال » العذاب الواقع
اختلفت الروايات في إسم الشخص الذي نزل عليه حجر السجيل ، ولكن ذلك لا يضرّ في صحّة الحديث ، خاصّة أنّ المرجح تعدّد الحادثة في غدير خم وفي المدينة ، وطبيعي أن يخفي القرشيّون اسم الذي اتّهم النبي صلّى الله عليه وآله فنزل عليه العذاب ، لأن إسمه صار سوأةً على أقاربه وعشيرته ! وأقوى الروايات في اسمه : جابر بن النضر بن الحارث بن كلدة العبدري ، بدليل أن الحافظ أبا عبيد الهروي المتوفّى سنة 223 ، ضبطه في كتابه بهذا الإسم ، والعلماء يحترمون خبرة أبي عبيد بالحديث ، وجابر بن النضر شخصيةٌ قرشية معروفة ، فوالده زعيم بني عبد الدار حامل لواء قريش الذي قتل يوم بدر ، فهو بنظره صاحب ثأر مع النبي صلّى الله عليه وآله وعلي عليه السلام الذي قتل أباه !
كما أنّه في الكفر كأبيه الذي كان من أشدّ فراعنة قريش على النبي صلّى الله عليه وآله ! وقد ردد جابركلمة أبيه : اللَّـهُمَّ إِن كَانَ هَـٰذَا هُوَ الْحَقَّ مِنْ عِندِكَ فَأَمْطِرْ عَلَيْنَا حِجَارَةً مِّنَ السَّمَاءِ أَوِ ائْتِنَا بِعَذَابٍ أَلِيمٍ !
قال ابن هشام في سيرته : 1 / 195 : « وكان النضر بن الحارث من شياطين قريش ، وممّن كان يؤذي رسول الله (ص) وينصب له العدواة ، وكان قدم الحيرة وتعلم بها أحاديث ملوك الفرس وأحاديث رستم واسفنديار ، فكان إذا جلس رسول الله (ص) مجلساً فذكر فيه بالله ، وحذر قومه ما أصاب من قبلهم من الأمم من نقمة الله ، خلفه في مجلسه إذا قام ، ثمّ قال : أنا والله يا معشر قريش أحسن حديثاً منه ، فهلم إليّ فأنا أحدّثكم أحسن من حديثه ثمّ يحدّثهم عن ملوك فارس ورستم واسبنديار ، ثمّ يقول : بماذا محمّد أحسن حديثاً منّي ؟! قال ابن هشام : وهو الذي قال فيما بلغني : سأنزل مثل ما أنزل الله. قال ابن إسحاق : وكان ابن عبّاس رضي الله عنهما يقول فيما بلغني : نزل فيه ثمان آيات من القرآن ، قول الله عزّ وجلّ : إِذَا تُتْلَىٰ عَلَيْهِ آيَاتُنَا قَالَ أَسَاطِيرُ الْأَوَّلِينَ. وكلّ ما ذكر فيه الأساطير من القرآن ». وقال السيوطي في الدر المنثور : 3 / 181 : « وأخرج ابن جرير عن عطاء قال : نزلت في النضر : وَإِذْ قَالُوا اللَّـهُمَّ إِن كَانَ هَـٰذَا هُوَ الْحَقَّ مِنْ عِندِكَ فَأَمْطِرْ عَلَيْنَا حِجَارَةً مِّنَ السَّمَاءِ أَوِ ائْتِنَا بِعَذَابٍ أَلِيمٍ .. وَقَالُوا رَبَّنَا عَجِّل لَّنَا قِطَّنَا قَبْلَ يَوْمِ الْحِسَابِ .. وَلَقَدْ جِئْتُمُونَا فُرَادَىٰ كَمَا خَلَقْنَاكُمْ أَوَّلَ مَرَّةٍ .. سَأَلَ سَائِلٌ بِعَذَابٍ وَاقِعٍ ! قال عطاء : لقد نزل فيه بضع عشرة آية من كتاب الله ». ونحوه في : 5 / 297 ، عن عبد بن حميد.
وأرسلته قريش إلى اليهود ليعينوهم على النبي صلّى الله عليه وآله « بعثوه وبعثوا معه عقبة بن أبي معيط إلى أحبار يهود بالمدينة وقالوا لهما : سلاهم عن محمّد وصفا لهم صفته وأخبراهم بقوله فإنّهم أهل الكتاب الأوّل وعندهم علم ليس عندنا من علم الأنبياء ... فقالت لهما أحبار يهود : سلوه عن ثلاث نأمركم بهن فإن أخبركم بهن فهو نبي مرسل ، وإن لم يفعل فالرجل متقول فَرَوْا فيه رأيكم. سلوه عن فتية ذهبوا في الدهر الأوّل ما كان أمرهم فإنّه قد كان لهم حديث عجيب ؟ وسلوه عن رجل طواف قد بلغ مشارق الأرض ومغاربها ما كان نبأه ؟ وسلوه عن الروح ما هي ». [ ابن هشام : 1 / 195 ].
وهوكاتب الصحيفة الملعونة الأولى ضدّ بني هاشم. [ ابن هشام : 1 / 234 ].
وختاماً ، نلاحظ أن كثيراً من الرواة خلطوا بين جابر بن النضر الذي نزل عليه العذاب بحجر من السماء ، وبين أبيه النضر الذي قتل قبله بعشر سنين في بدر ! وذلك لتشابه شخصيّتهما وعدائهما لله ولرسوله ، ولا يبعد أن يكون الرواة أرادو إخفاء الابن المقتول لاعتراضه على ولاية علي عليه السلام ، وفأدغموه في أبيه ، وجعلوا أخبارهما واحدة !
مقتبس من كتاب : [ تفسير آيات الغدير الثلاث ] / الصفحة : 76 ـ 95
التعلیقات