التّناسخ وأقسامه وبراهين بطلانه
الشيخ حسن محمّد مكّي العاملي
منذ 15 سنةالتّناسخ وأقسامه وبراهين بُطلانه
التّناسخ من النسخ بمعنى النقل (1) ، أو بمعنى إزالة بشيءٍ يتعقّبه ، كنسخ الشمس الظل ، و الشيب الشبابَ (2).
فالنسخ يعرب عن خصوصيتين : النَّقْلُ والتَّحوّل. وسيوافيك أنّ كلتيهما مأخوذتان في التناسخ المصطلح ، الذي يعرب عن حالة نقل و تحوّل خاصة.
ثم إن للإنتقال أقساماً ما نشير إليها.
أ ـ الإنتقال من النشأة الدنيويّة إلى النشأة الأُخروية الّذي نسميه بالمعاد.
ب ـ الإنتقال من القوّة إلى الفعل ، كانتقال النفس في ظل الحركة الجوهرية إلى كمالها الممكن.
ج ـ إنتقال النفس بالموت ، من البدن المادي إلى بدن مثله في هذه النشأة. وهذا النوع من الإنتقال هو التناسخ المصطلح الذي ذهب إليه بعض الفلاسفة من البراهمة والهندوس وغيرهم.
وتبيين الحق يتوقف على بيان ما يتصور للتناسخ من الأقسام حتى يعلم أيُّ قسم منها يضاد المعاد ويخالفه ، فنقول : إن للتناسخ المطروح من قِبَل أصحابه صوراً ثلاثة :
الصورة الأولى : التناسخ المطلق
وهو انتقال النفس من بدن إلى بدن آخر في هذه النشأة ، فإذا مات البدن الثاني إنتقلت إلى ثالث ، وهكذا بلا توقف أبداً ، والبدن المنتقل إليه قد يكون بدن إنسان أو حيوان أو نبات. وطريق الإنتقال غالباً ، هو التعلّق بجنين الإنسان أو الحيوان ، أو بالخليّة النباتية. وقد نسب هذا القول إلى القدماء من الحكماء.
قال شارح حكمة الإشراق (3) : « إن شرذمة قليلة من القُدماء ذهبوا إلى امتناع تجرّد شيء من النفوس بعد المفارقة لأنها جسمانية ، دائمة الإنتقال في الحيوانات وغيرها من الأجسام ، و يعرفون بالتناسخية ، وهم أقلّ الحكماء تحصيلاً » (4).
الصورة الثانية : التناسخ المحدود ( النزولي )
وهو أنْ يختص الإنتقال ببعض النفوس دون بعض آخر ، وهذا كما هو محدود من حيث الأفراد ، محدود كذلك من حيث الزَّمان. وذلك لأن الإنتقال قد ينقطع ، ولا ترجع النفس إلى النشأة الدنيوية ، بل تلتحق بعالم النور والعقول.
ووجه المحدودية من حيث الأفراد ، أنّ النفوسَ المفارِقة للأبدان بعد الموت ، على قسمين :
1 ـ نفوس كاملة في مجالي العلم والعمل ، فهذه لا حاجة لها للإنتقال إلى أبدان أخرى ، لأنها وصلت إلى كمالها الممكن ، فلا تحتاج إلى الرجوع ثانية إلى هذه النشأة.
2 ـ ونفوس ناقصة في كلا المجالين ، فلا مناص لتكاملها من إرجاعها إلى هذه النشأة حتى تكتمل فيهما إلى أن تصير غنية عن الرجوع ، فتلحق بعالم العقول.
وأما المحدودية من جانب الزمان ، فوجهه أنّ الهدف من التناسخ ورجوع النفس إلى البدن في هذه النشأة مجدداً ، هو إكمالها في مجال العلم ، وتهذيبها من الرذائل ، وتجريدها من الكدورات. فإذا صارت منزهة عنها ، فلا وجه لدوام هذا النقل والتحوّل ، بل لا مناص من لحوقها بعد الإستكمال بعالم النور.
ويسمى التناسخ المحدود من حيث الأفراد والأزمنة بـ « التناسخ النزولي ».
يقول صدر المتألهين شارحاً هذه العقيدة « إن أول منزل للنفس ، الصَّيْصِيَّة الإنسانية (5) ، ويسمونها « باب الأبواب لحياة جميع الأبدان الحيوانية والنباتية » ، وهذا هو رأي يوذاسف التناسخي ، قائلاً بأن الكاملين من السعداء تتّصل نفوسهم بعد المفارقة بالعالم العقلي والملأ الأعلى ، وتنال من السعادة ما لا عين رأت ولا أذن سمعت ولا خطر على قلب بشر. وأما غير الكاملين من السُعداء كالمتوسطين منهم والناقصين في الغاية والأشقياء على طبقاتهم ، فتنتقل نفوسهم من هذا البدن إلى تدبير بدن آخر من النوع الإنساني لا إلى غيره. وبعضهم جوّز ذلك ولكن اشترط أنْ يكون إلى بدن حيواني. وبعضهم جوّز النقل من البدن الإنساني إلى البدن النباتي أيضاً ، وبعضهم إلى الجامد أيضاً » (6).
الصورة الثالثة : التناسخ الصعودي
وهناك قسم ثالث من التناسخ يسمى بالصعودي ، يغاير التناسخ النزولي ، وحاصله أنّ الحياة إنما تفاض على المستعد فالمستعدّ ، والنبات ـ بزعمهم ـ أشدّ استعداداً وأوْلَى بقبول الفيض الجديد من الحيوان والإنسان ، كما أنّ الإنسان يستدعي نفساً أشرف ، وهي التي جاوزت الدرجات النباتية والحيوانية.
وفي ضوء هذا ، فالحياة تفاض على النبات أولاً ، ثم تنتقل منه إلى الحيوان ، ثم إلى الإنسان ، وهذا النوع من التناسخ أشبه بالقول بالحركة الجوهرية ، وأنّ الأشياء في ظلّها تخرج من القوة إلى الفعل ، ومن النقص إلى الكمال ، وأنّ الموجود النباتي يتحول إلى الحيوان ، ثم الإنسان ، لكن الفرق بين القول بالتناسخ الصعودي والحركة الجوهرية ، هو أنّ التكامل في القول بالتناسخ على وجه الإنفصال دون الإتصال ، فالنفس النباتية تنتقل من النبات إلى البدن الحيواني ، ثم منه إلى البدن الإنساني ، ولكن التحول في الحركة الجوهرية ، على وجه الإتصال ، وأنّ النطفة الإنسانية تتحول وتتكامل من مرتبة ناقصة إلى مرتبة كاملة حتى يصدق عليها قوله سبحانه : ( ثُمَّ أَنشَأْنَاهُ خَلْقًا آخَرَ فَتَبَارَكَ اللَّـهُ أَحْسَنُ الْخَالِقِينَ ) (7).
فظهر أنّ في التناسخ أقوالاً ثلاثة :
1 ـ التناسخ المطلق : وهو ما لا ينتهي النقل فيه ولا يتوقف ويعم الجميع.
2 ـ التناسخ النزولي : وهو ما لا يعم الجميع أولاً ، ويتوقّف النقل فيه بعد التصفية وبلوغ مراتب الكمال ، ثانياً.
3 ـ التناسخ الصعودي : وهو ما يحصل فيه انتقال النفس في جهة الصعود ، من النبات إلى الحيوان فالإنسان. إذا تعرفت على المراد من هذه الأقسام ، فإليك تحليلها ، و بيان بطلانها :
* العناية الإلهية والتناسخ المطلق
إنّ التناسخ المطلق يعاند المعاد معاندة تامّة ، والقائل به ليس له التفوه بعود الأرواح إلى الأبدان في النشأة الأخرى ، لأنّ المفروض أنّ الروح تنتقل إلى الأبَد من بدنٍ إلى بدن ، بلا توقف ، فلا مجال للنفس لكي تبعث في النشأة الاخرى. ولعل أصحاب هذه النظرية ـ لقلّة تدبّرهم ـ حسبوا هذا النوع من الإنتقال للنفس معاداً لها ، فالمعاد عندهم هو انتقال النفس من بدن إلى بدن في هذه النشأة دون أن تكون هناك نشأة أخرى.
ويردُّها أنّ النفس عند هؤلاء لا تخلو من إحدى حالتين : إما أنْ تكون منطبعة في البدن ، إنطباع الأعراض في الجواهر ، والصور الجوهرية في المادة ، فهي ممتنعة الإنتقال ، إذ الانطباع ينافي الإنتقال ، والجمع بينهما جمع بين النقيضين ، فإنه يستلزم أن تكون النفس في حال الإنفصال موجودة بلا موضوع ، ومتحققة بلا محل.
أو تكون مجرّدة تجرداً تاماً ، ومع ذلك تكون دائمة الإنتقال في الأجسام من غير لحوق بعالم النور وهو باطل أيضاً إذ العناية الإلهية ، تقتضي إيصال كل ذي كمال إلى كماله ، وكمال النفس العلمي يتحقق بصيرورتها عقلاً مُستفاداً (8) ، فيه صور جميع الموجودات ، وكمال العقل العملي يتحقق بالتخلية عن رذائل الأخلاق ، والتحلية بمكارمها. فلو كانت دائمة الإنتقال ، كانت ممنوعة عن كمالها ، أزلاً وأبداً ، والعناية الأزلية تأبى ذلك (9).
وبعبارة أخرى : إنّ النفس الإنسانية مستعدة لإفاضة الكمالات عليها ، فحبسها في الصياصي البدنية في هذه النشأة ، وإيقافها عن الصعود إلى النشأة الأُخرى ، يخالف الحكمة الإلهية المتعلقة بإبلاغ كل ممكن إلى غايته الممكنة.
* * *
* الحركة الرجعية والتناسخ النزولي
والذي يُبطل هذا النوع الثاني من التناسخ ، إستلزامه الحركة الرجعية للنفس من الأشد إلى الأنقص ، ومن الأقوى إلى الأضعف بحسب الذات ، وهو أمر محال. وتوضيحه :
إنّ حقيقة التناسخ النزولي تتحقق بتعلق روح الإنسان بعد مفارقة البدن بالموت ، بجنين إنسان أو حيوان أو خلية نباتية ، والكل دونها في الكمال. فأصحاب هذا القول يتصورون أن النفوس المتوسطة تنتقل بعد فناء أبدانها إلى أجنة الإنسان أو الحيوان ، وتعود إلى الدنيا لمتابعة مسيرة الاستكمال ، والإرتقاء إلى درجة النفوس الكاملة.
ولكنه خيال باطل ، لأن تعلق تلك النفوس بأجنة الإنسان أو الحيوان لا يخلو من صورتين :
الأولى : أنْ تتعلق النفس بالجنين الإنساني أو الحيواني بما لها من الكمال المناسب لمقامه. وهذا غير ممكن عقلاً ، لأن النفس ما دامت في البدن تزداد في فعليتها شيئاً فشيئاً حتى تصير أقوى وجوداً وأشد تحصُّلاً. ومثل هذا لا يمكنه أن يتعلق بالموجود الأدنى منه ، الذي لا يتحمل ذلك الكمال وتلك الفعليّة ، لعدم تحقق التعاضد والإنسجام بينهما.
وبعبارة أخرى : إنّ واقعية النفس التي عاشت مع البدن أربعين سنة مثلاً ، واقعيّة تَفَتُّح القوى وبلوغها مقام الفعلية. وأما واقعية النفس التي تتعلق بالأجنة ، فهي فقدان كلّ فعلية ، وانتسابها إلى جميع الكمالات بالقوة ، فحسب. فالقول بتعلق تلك الفعلية بالجنين ، جمع بين النقيضين. لأنها ـ على الفرض ـ بما أنّها نفس إنسان مرّت عليه أربعون سنة ، مستجمعة لجميع الكمالات بالفعل. وبما أنها تعلقت بالجنين ، مستجمعة لها بالقوة فحسب. فتكون الكمالات في محل واحد وزمان واحد ، بالفعل وبالقوة معاً ، و هذا محال.
الثانية : أنْ تتعلق تلك النفوس بالأجنّة ، لكن بعد تنزّلها عن فعليّاتها ، وانسلاخها عن كمالاتها. وهذا النحو من التعلّق ، وإن كان يوجد بين البدن والنفس تعاضداً وانسجاماً ، لكن ذاك الإنسلاخ إما ناشئ من ذات النفس ونابع من صميمها ، وإما قد حصل بقهر من الله سبحانه. والأول لا يتصور ، لأن الحركة الذاتية من الكمال إلى النقص غير معقولة ، والثاني ينافي الحكمة الإلهية التي تقتضى بلوغ كل ممكن إلى كماله الممكن (10).
وبما أن القائلين بهذا النوع من التناسخ يخصّونه بالمتوسطين في الكمال والناقصين فيه ، دون الكاملين في مجالي العلم والعمل ، فهو على طرف النقيض من المعاد في الصنفين الأوّلَيْن ، دون الصنف الثالث الذين لهم الحشر والإنتقال إلى النشأة الأُخرى دون التناسخ.
نعم ، المتوسّطون والناقصون ـ بعد إنتهاء دورة التناسخ وزمنها ـ ينتقلون إلى عالم النور فيكون لهم من الحشر ما للكاملين من أفراد الإنسان.
التناسخ الصعودي وانتقال النفس
ذكرنا أنّ أصحاب التناسخ الصعودي يقولون بأنّ تكامل النفس من بدء حدوثها يتوقف على ظهور الحياة في النبات لتكون نفساً نباتيّة إلى أن تنتقل إلى بدن الحيوان فتصير نفساً حيوانية ، ثم نفساً إنسانية ، وعندئذٍ يقع السؤال في حقيقة هذه النفس ، فنقول :
إن النفس الموجودة في الحيوان مثلاً ، إما منطبعة انطباع النقوش في الحجر ، والأعراض في موضوعاتها ، والصور في محالّها ، فيكون انتقالها مستحيلاً على ما مرّ ، أعني استلزامه أنْ تكون في آن الانتقال بلا موضوع ومحل.
و إمّا مجرّدة ، لها من الخصوصيات ما للنفوس الحيوانية ، فمن المعلوم أنّ النفس الحيوانية بما لها من الخصوصية يمتنع أن تتحول إلى النفس الإنسانية ، فإنّ كمال النفس الأُولى عبارة عن القوة الشهوية وحسّ الانتقام ، وهما يعدّان كمالاً لنفوس الدوابّ والأنعام وأصلا عظيماً للجسمانية والإخلاد إلى الأجساد. فلو تعلّقت هذه النفس ـ بهذه الخصوصية ـ بالإنسان ، لوجب أن تنحط درجة إلى نوع نازل من الحيوان المناسب لهذه السجايا والغرائز. فإذا كان مقتضى الشهوة الغالبة أو الغضب الغالب ، شقاء النفس ونزولها إلى مراتب الحيوانات الصامتة ، التي كمالها في كمال إحدى هاتين القوتين ، فيمتنع أن يكون وجود هاتين القوتين وأفعالهما منشأً لارتفاع النفوس من درجتها البهيمية والسبعية إلى درجة الإنسان الذي كمال نفسه كسر هاتين القوتين. فتعلق النفس الحيوانية بما لها من الخصوصيات والغرائز بالإنسان ، لا يرفعه بل ينزله إلى درجة تناسب درجة الحيوانات (11).
وعلى الجملة فالنفس الحيوانية متشخصة بغرائز خاصة هي التمايلات الشهوية والسبعية والإخلاد إلى الأرض والمادّة ، فكيف يمكن أن تكون مثل هذه أساساً لتكامل الإنسان وتعاليه ، الذي لا يتحقق له التكامل إلا بتحطيم هذه الغرائز وكسر ثورتها فإن هذا أشبه بجعل وجود الضدّ شرطاً لوجود ضدّ آخر.
نعم ، هذا الإشكال إنما يتصور في التكامل الصعودي المنفصل المراتب والدرجات دون متصلها كما في تكامل الإنسان في رحم أُمه من الجمادية إلى النفس الإنسانية ، في ظل صور متوالية متتالية دون أن يقع بينها انفصال.
وعلى كلّ تقدير فهذا القسم من التناسخ باطل في نفسه ، وإن كان لا يصادم القول بالمعاد وحشر الإنسان في النشأة الأُخرى ، بخلاف القسمين السابقين ، فإن الأول منهما على طرف النقيض من المعاد مطلقاً والقسم الثاني على طرف النقيض منه في مورد غير الكاملين من النفوس الإنسانية.
تحليل جامع للقول بالتناسخ
قد تعرفت على أقسام التناسخ والبراهين التي تهدم أساس كل واحد منها ، وهناك برهانان آخران على بطلان التناسخ على وجه الإطلاق ، من دون أن يختصا بقسم دون قسم ، وإليك بيانهما :
الأول : اجتماع نفسين في بدن واحد
وهذا البرهان مبنى على أمرين :
أ ـ إنّ كل جسم نباتاً كان أو حيواناً أو إنساناً ، إذا بلغ من الكمال إلى درجة يصير فيها صالحاً لتعلّق النفس به ، تتعلق به. وبعبارة أخرى : متى حصل في البدن مزاج صالح لقبول تعلق النفس المدبرة به ، فبالضرورة تفاض عليه من الواهب من غير مهلة ولا تراخٍ ، وذلك مقتضى الحكمة الإلهية التي شاءت إبلاغ كل ممكن إلى كماله الممكن.
ب ـ إن القول بالتناسخ يستلزم تعلّق النفس المستنسخة المفارقة للبدن ، ببدن نوع من الأنواع من نبات أو حيوان أو إنسان ، بحيث يتقوم ذلك البدن بالنفس المستنسخة المتعلقة به.
ولازم تسليم هذين الأمرين ، تعلُّق نفسين ببدنٍ واحد : إحداهما النفس المفاضة على البدن لأجل صلاحيته للإفاضة ، وثانيتهما النفس المستنسخة المتعلقة بعد المفارقة بمثل هذا البدن.
ومن المعلوم بطلانه وذلك لأن تشخص كل فرد من الأنواع بنفسه وروحه ، وفرض نفسين وروحين مساوق لفرض ذاتين ووجودين لوجود واحد وذات واحدة.
أضف إلى ذلك : أنه ما من شخص إلا ويشعر بنفس وذات واحدة. قال التفتازاني : إنّ كلّ نفس تعلم بالضرورة أن ليس معها في هذا البدن نفس أخرى تدبر أمره وأن ليس لها تدبير وتصرُّف في بدن آخر ، فالنفس مع البدن على التساوي ، ليس لبدن واحد إلا نفس واحدة ، ولا تتعلق نفس واحدة إلا ببدن واحد (12).
سؤال وجواب :
أما السؤال فهو أنّ هذا إنما يتم إذا كان هناك فصل زمني بين صلوح البدن لإفاضة الحياة ، وتعلّق النفس المستنسخة. وأما إذا كان صلوحه وقابليته ، مقارناً لتعلق النفس المستنسخة ، فلا يلزم اجتماع نفسين في بدن واحد ، لأنها تمنع عن إفاضة الحياة عليه ، فلا تكون له نفسان ولا حياتان.
والجواب : إن كون النفس المستنسخة مانعة من حدوث النفس الأخرى ليس بأولى من منع الأخرى من التعلّق بالبدن.
أضف إلى ذلك أنّ استعداد المادة البدنية لقبول النفس من الواهب للصور ، يجري مجرى استعداد الجدار لقبول نور الشمس مباشرة أو انعكاساً إذا رفع الحجاب من أمامه. فإن كان عند ارتفاع الحجاب جسم ثقيل ينعكس فيه نور الشمس الواقع عليه إلى ذلك الجدار ، أشرق عليه النوران الشمسيان المباشري والإنعكاسي ، ولا يمنع من وقوع الإنعكاسي ، وقوع النور المباشري عليه. ومثل ذلك ما نحن فيه ، غير أن اجتماع النفسين ممتنع ، ومانعية إحداهما عن طروء الأخرى غير صحيحة. فينتج أنّ التناسخ المبتني على أحد الأمرين ( اجتماع نفسين أو مانعية إحداهما من طروء الأخرى ) باطل (13).
الثاني : عدم التناسخ بين النفس والبدن
قد ثبت في محله أنّ تركيب البدن والنفس ، تركيب طبيعي إتحادي ، لا تركيب إنضمامي ، فليس تركيبهما كتركيب السرير من الأخشاب والمسامير ، ولا كتركيب العناصر الكيميائية وتأثير بعضها في بعض.
والنفس في أول حدوثها متسمة بالقوة ، في كل ما لها من الأحوال ، وكذا البدن ، ولها في كل وقت شأن آخر من الشؤون الذاتية بإزاء سن الطفولة والصبا والشباب والشيخوخة والهرم. وهما معا يخرجان من القوة إلى الفعل ، ودرجات القوة والفعل في كل نفس معينة بإزاء درجات القوة والفعل في بدنها الخاص بها ما دامت متعلقة به. فإذا صارت بالفعل في نوع من الأنواع استحال صيرورتها تارة أُخرى في حد القوة المحضة ، كما استحال صيرورة الحيوان بعد بلوغه تمام الخلقة ، نطفة وعلقة.
فلو تعلقت نفس منسلخة ببدن آخر عند كونه جنيناً أو غير ذلك ، يلزم كون أحدهما بالقوة والآخر بالفعل ، وذلك ممتنع. لأن التركيب بينهما طبيعي إتحادي ، والتركيب الطبيعي يستحيل بين أمرين ، أحدهما بالفعل والآخر بالقوة (14).
نعم ، هذا البرهان إنما يتم لو تعلقت النفس ببدن أدون من حيث الدرجات الفعلية من النفس ، كما إذا تعلقت بالجنين على مراتبه وأما لو تعلقت ببدن له من الفعلية ما للنفس منها ، فالبرهان غير جارٍ فيه.
وهذا البرهان يغاير البرهان الذي ذكرناه ، عند إبطال التناسخ النزولي فإن محور البرهان هنا لزوم التناسق بين البدن والنفس من حيث القوة والفعل ، وهذا الشرط مفقود في أكثر موارد التناسخ ، كما إذا تعلقت بالجنين.
وأما ما ذكرناه في إبطال التناسخ النزولي فإن محوره هو لزوم الحركة الرجعية في عالم الكون ، ورجوع ما بالفعل إلى ما بالقوة ، فلا يختلط عليك الأمران.
* * * *
سؤالان وجوابان
قد فرغنا من أقسام التناسخ وأنواعه وما يمكن أن يستدل به على إبطالها. وبقى هنا سؤالان يجب طرحهما والإجابة عنهما :
السؤال الأول : التناسخ ووقوع المسخ في الأُمم السالفة
لو كان تعلق النفس الإنسانية ببدن الحيوان بعد مفارقة البدن الإنساني تناسخاً ممتنعاً ، فكيف وقع المسخ في الأُمم السالفة ، حيث مسخوا إلى القردة والخنازير كما يقول سبحانه : ( قُلْ هَلْ أُنَبِّئُكُم بِشَرٍّ مِّن ذَٰلِكَ مَثُوبَةً عِندَ اللَّـهِ مَن لَّعَنَهُ اللَّـهُ وَغَضِبَ عَلَيْهِ وَجَعَلَ مِنْهُمُ الْقِرَدَةَ وَالْخَنَازِيرَ وَعَبَدَ الطَّاغُوتَ أُولَـٰئِكَ شَرٌّ مَّكَانًا وَأَضَلُّ عَن سَوَاءِ السَّبِيلِ ) (15).
ويقول سبحانه : ( فَلَمَّا عَتَوْا عَن مَّا نُهُوا عَنْهُ قُلْنَا لَهُمْ كُونُوا قِرَدَةً خَاسِئِينَ ) (16).
فإن صريح هذه الآيات تَحَوُّلُ جماعة من البشر إلى قردة وخنازير ، وهو لا ينفك عن تعلق نفوسهم البشرية بأبدان الحيوانات. فما هو الفرق بينه والقول بالتناسخ ؟.
الجواب : إنّ مقوم التناسخ أمران :
١ ـ تعدد البدن ، فإن في التناسخ بدنين : أحدهما البدن الذي تنسلخ عنه الروح ، والثاني : البدن الذي تتعلق به ثانياً بعد المفارقة سواء كان نباتاً أو حيواناً أو جنيناً.
٢ ـ تراجع النفس الإنسانية من كمالها إلى الحد الذي يناسب بدنها المتعلقة به من نبات أو حيوان أو جنين أو إنسان.
وكلا الشرطين مفقود في المقام ، فإن الأُمة الملعونة والمغضوبة مسخت إلى القردة والخنازير بنفس أبدانها الأولية ، فخرجت عن الصورة الإنسانية إلى الصورة القردية والخنزيرية من دون أن يكون هناك بدنان. كما أن نفوسها السابقة بقيت على الحد الذي كانت عليه ، وذلك لتنظر إلى الصورة الجديدة التي عرضت عليها ، فتعاقب وتنزجر. وإلا ، لو انقلبت نفوسها من الحد الذي كانت عليه إلى حد النفس الحيوانية ، فلا شكّ أنّها ستكون قردة بالحقيقة ، وعندئذ لا يترتب عليه عقاب ولا يصدق عليه النكال ، مع أنه سبحانه يصفه نكالا ، ويقول : ( فَجَعَلْنَاهَا نَكَالًا لِّمَا بَيْنَ يَدَيْهَا وَمَا خَلْفَهَا وَمَوْعِظَةً لِّلْمُتَّقِينَ ) (17).
وهذان الأمران يفصلان المسخ في الأُمم السالفة عن القول بالتناسخ.
وبالجملة : فقد تجلت الروحيات الخبيثة التي كانت عليها تلك الأُمة ، على ظواهر أبدانها ، فلبست لباس الخنازير والقردة المعروفة بالحرص الشديد ، ومثل هذا ـ مع وحدة البدن وعدم نزول النفس عن درجتها السابقة ـ لا يعدّ تناسخاً.
قال التفتازاني : « إن المتنازع هو أن النفوس بعد مفارقتها الأبدان ، تتعلق في الدنيا بأبدان أُخر للتدبير والتصرف والإكتساب ، لا أن تتبدل صور الأبدان ، كما في المسخ. أو أن تجتمع أجزاؤها الأصلية بعد التفرق ، فتردّ إليها النفوس ، كما في المعاد على الإطلاق ، وكما في إحياء عيسى بعد الأشخاص » (18).
وقال العلامة المجلسي : « إن امتياز نوع الإنسان ، إذا كان بهذا الهيكل المخصوص ، فلا يكون إنساناً بل قرداً. وإن كان امتيازه بالروح المجردة ، كانت الإنسانية باقية غير ذاهبة ، وكان إنساناً في صورة حيوان ، ولم يخرج من نوع الإنسان ولم يدخل في نوع آخر » (19).
يقول العلامة الطباطبائي : لو فرضنا إنسانا تغيّرت صورته إلى صورة نوع آخر من أنواع الحيوان كالقرد والخنزير ، فإنما هي صورة على صورة ، فهو إنسانٌ خنزيرٌ ، أو إنسان قِردٌ ، لا إنسانٌ بطلت إنسانيته وحلّت الصورة الخنزيرية أو القردية محلها ، فالإنسان إذا اكتسب صورةً من صور الملكات ، تصورت نفسه بها ، ولا دليل على استحالة خروجها في هذه الدنيا من الكمون إلى البروز على حد ما ستظهر في الآخرة بعد الموت.
فالممسوخ من الإنسان ، إنسانٌ ممسوخ ، لا أنّه ممسوخٌ فاقد للإنسانية.
وبذلك يظهر الفرق بين المقام والتناسخ ، فإن التناسخ هو تعلق النفس المستكملة بنوع كمالها بعد مفارقتها البدن ، ببدن آخر ، بخلاف المقام (20).
السؤال الثاني : التناسخ والرجعة
ما هو الفرق بين التناسخ الباطل بالأدلة السابقة ، والقول بالرجعة على ما عليه الإمامية ، فإن رجوع بعض النفوس بعد مفارقتها أبدانها ، إليها في هذه النشأة ، أشبه بالتناسخ.
والجواب : قد عرفت عند البحث عن المسخ ، أن مجوز التناسخ أمران : تعدد البدن وتراجع النفس عن الحد الذي كانت عليه ، وكلاهما مفقودان في الرجعة ، فإن النفس ترجع إلى البدن الذي فارقته من دون أن تمس كمال النفس ، وتحطها من مقامها ، بل هي على ما هي عليه من الكمال عند المفارقة ، فتتعلق أُخرى بالبدن الذي فارقته.
ومن هنا يظهر أن القول بالحشر في النشأة الأُخرى ، على طرف النقيض من التناسخ.
خاتمة المطاف
إن الذكر الحكيم ينصّ على عدم رجوع نفس الإنسان إلى هذه الدنيا بعد مفارقتها البدن ( خرج ما خرج بالدليل كما في إحياء الأموات بيد الأنبياء العظام وغيره ) يقول سبحانه : ( حَتَّىٰ إِذَا جَاءَ أَحَدَهُمُ الْمَوْتُ قَالَ رَبِّ ارْجِعُونِ * لَعَلِّي أَعْمَلُ صَالِحًا فِيمَا تَرَكْتُ كَلَّا إِنَّهَا كَلِمَةٌ هُوَ قَائِلُهَا وَمِن وَرَائِهِم بَرْزَخٌ إِلَىٰ يَوْمِ يُبْعَثُونَ ) (21).
إن قوله سبحانه : ( كَلَّا ) ، رَدْعٌ لطلب الرجوع إلى الدنيا ، فيفيد أنه على خلاف السنة الإلهية ، ومع ذلك فهو كسائر السنن التي ربما يخرج عنها بدليل.
وبذلك تعرف قيمة كلمة أحمد أمين المصري ذلك الكاتب المستهتر حيث يقول : « وتَحْتَ التشيُّع ظَهَرَ القوْلُ بتناسخ الأرواح » (22). والمسكين لا يفرق بين المَسْخ والتناسخ ، كما لا يفرق بين التناسخ والرجعة ، بل بين التناسخ والمعاد.
* * *
الهوامش
1. أقرب الموارد ، ج 2 ، مادة نسخ.
2. المفردات في غريب القرآن ، مادة نسخ.
3. قُطب الدين محمود بن مسعود الشيرازي ، المتوفي عام 710 أو 716 للهجرة.
4. شرح حكمة الأشراق ، المقالة الخامسة ، الفصل الأول ، ص 476.
5. أي البدن والهيكل المادي الإنساني في اصطلاح شيخ الإشراق ومن تابعه.
6. الأسفار ، ج 9 ، الباب الثامن ، الفصل 2 ، ص 8 ، ويسمي الأول نسخاً والثاني مسخاً والثالث فسخاً والرابع رسخاً ، يقول الحكيم السبزواري :
نَسْخٌ ومَسْخٌ رَسْخٌ فَسْخٌ قُسِما |
إنساناً وحيواناً جماداً نما |
7. سورة المؤمنون : الآية 14. وما ذكرناه إجمال ما يرمي إليه أصحاب هذا القول ، والتفصيل يطلب من محله ، لاحظ في ذلك « أسرار الحكم » ، للحكيم السبزواري ، ص 293 ـ 294.
8. العقل المستفاد أحد مراتب العقل الأربعة المصطلح عليها في الحكمة النظرية : وهي عبارة عن : 1 ـ العقل الهيولاني ، 2 ـ العقل بالمَلَكة ، 3 ـ العقل بالفعل ، 4 ـ العقل المستفاد ، راجع في توضيحها شرح المنظومة للحكيم السبزواري ، قسم الطبيعيات ، مباحث النفس ، ص 306 ـ 307.
9. شرح حكمة الإشراق المقالة الخامسة ، الفصل الأول ، ص 476 ، والأسفار ، ج 9 الباب الثامن ، الفصل الثاني.
10. ما ذكرناه تقريراً واضح لما أفاده صدر المتألهين ، في أسفاره. لاحظ الأسفار ، ج 9 ، ص 16.
11. لاحظ الأسفار : ج 9 ، ص 23.
12. شرح المقاصد ، ج ٢ ، ص ٣٨. ولاحظ كشف المراد ، ص ١١٣ ، ط صيدا. ويضيف الأخير : أنه لو تعلقت نفس واحدة ببدنين لزم أن يكون معلوم أحدهما معلوماً للآخر وبالعكس ، وكذا باقي الصفات النفسانية ، وهو باطل بالضرورة.
13. لاحظ الأسفار ، ج ٩ ، ص ١٠ ، وهذا البرهان يختص المشائيين وقَبِلَه صدر المتألهين أيضاً.
14. الأسفار ، ج ٩ ، ص ٢ ـ ٣.
15. سورة المائدة : الآية ٦٠.
16. سورة الأعراف : الآية ١٦٦. والاستدلال مبني على أن المراد من النكالة هو العقوبة كما أن المراد من الموصول في « لما بين يديها وما خلفها » ، الذنوب المتقدمة على الإصطياد والمتأخرة عنه. فتكون اللام في قوله : « لما » ، سببيّة. ( لاحظ مجمع البيان ، ج ١ ، ص ١٣٠ ).
17. سورة البقرة : الآية ٦٦.
18. شرح المقاصد ، ج ٢ ، ص ٣٩.
19. البحار ، ج ٥٨ ، طبعة بيروت ، ص ١١٣.
20. الميزان ، ج ١ ، ص ٢١٠ بتلخيص.
21. سورة المؤمنون : الآيتان ٩٩ و ١٠٠.
22. فجر الإسلام ، ص ٢٧٧ وقد افترى على الشيعة في كتابه هذا ما افترى ، وندم عليه في أخريات عمره حيث لا ينفع الندم.
مقتبس من كتاب : [ الإلهيّات على هدى الكتاب والسنّة والعقل ] / المجلّد : 4 / الصفحة : 298 ـ 312
التعلیقات