تبادل السخط بين الصحابة وبين عثمان
السيّد محمّد مهدي السيّد حسن الموسوي الخرسان
منذ 3 سنواتتبادل السخط بين الصحابة وبين عثمان :
روى البلاذري بسنده عن سعيد بن المسيّب قال : « لمّا ولي عثمان كره ولايته نفرٌ من أصحاب رسول الله صلّى الله عليه وآله وسلّم لأن عثمان كان يحب قومه ، فولي الناس اثنتي عشرة حجة ، وكان كثيراً ما يولي من بني أمية من لم يكن له مع النبيّ صلّى الله عليه وآله وسلّم صحبة ، فكان يجيء من أمرائه ما ينكره أصحاب محمّد صلّى الله عليه وآله وسلّم ، وكان يُستعتب فيهم فلا يعزلهم ، فلمّا كان في الست الأواخر استأثر ببني عمه فولّاهم ، وولي عبد الله ابن أبي سرح مصر فمكث عليها سنين فجاء أهل مصر يشكونه ويتظلمون منه ، وقد كانت من عثمان قبلُ هنات إلى عبد الله بن مسعود وأبي ذر وعمار بن ياسر فكان في قلوب هذيل وبني زهرة وبني غفار وأحلافها من غضب لأبي ذر ما فيها. وحنقت بنو مخزوم لحال عمّار بن ياسر.
فلمّا جاء أهل مصر يشكون ابن أبي سرح كتب إليه كتاباً يتهدده فيه ، فأبى أن ينزع عما نهاه عثمان عنه ، وضرب بعض من كان شكاه الى عثمان من أهل مصر حتى قتله. فخرج سبعمائة إلى المدينة فنزلوا المسجد وشكوا ما صنع بهم ابن أبي سرح في مواقيت الصلاة إلى أصحاب محمّد. فقام طلحة إلى عثمان فكلّمه بكلام شديد. وأرسلت إليه عائشة رضي الله عنها تسأله أن ينصفهم من عامله.
ودخل عليه عليّ بن أبي طالب. وكان متكلم القوم. فقالوا إنما يسألك القوم رجلاً مكان رجل ، وقد ادعوا قبله دماً فاعزله عنهم واقض بينهم ، فإن وجب عليه حقّ فأنصفهم منه.
فقال لهم : اختاروا رجلاً أولّيه عليكم مكانه ، فأشار الناس عليهم بمحمّد بن أبي بكر الصدّيق ، فقالوا : استعمل علينا محمّد بن أبي بكر ، فكتب عهده على مصر ووجّه معهم عدة من المهاجرين والأنصار ينظرون فيما بينهم وبين ابن أبي سرح » (2).
وقبل الإنسياق مع مداليل النص ، لابدّ من تعريف القارئ بصاحبه لطمأنته بوثاقته في حديثه عند العثمانيين فهو سعيد بن المسيّب من أعيان التابعين ، وكان صهراً لأبي هريرة الّذي كان مع عثمان ويحدّث عن دوره في الدفاع عنه ، وسيأتي مزيد بيان عن ذلك ، ومهما شككننا في مبلغ صدق أبي هريرة ، فلا شك في صدق صهره سعيد بن المسيّب فهو أشد ورعاً منه ، وبالتالي فغير متهم في قوله على عثمان.
ونعود إلى فحوى مقاله : « فثمّ نفر من الصحابة كرهوا ولاية عثمان ، لأنّه كان يحب قومه ... » أمّا مَن هم أولئك النفر ؟ فلم يفصح عنهم ، لماذا ؟ ولا يعسر على الباحث والقارئ التعرّف عليهم من خلال الأسماء الذين ذكرهم.
فمنهم ابن مسعود وأبو ذر وعمار. واضطغنت على عثمان عشائر هؤلاء النفر وهم من عليّة الصحابة. ومنهم طلحة ومنهم عائشة. وهما من قبيلة تيم.
ومقام عائشة في المسلمين أنّها أم المؤمنين. ومنهم عليّ بن أبي طالب. وهو الّذي كان يفزع إليه عثمان في التوسّط بينه وبين الساخطين من أهل الأمصار.
فهذه أسماء ستة نفر من أصحاب محمّد صلّى الله عليه وآله وسلّم عرفناها وفيهم من كره ولاية عثمان أوّلاً وأخيراً ، كعليّ وعمّار وأبي ذر ومنهم من كرهها أخيراً كابن مسعود وطلحة وعائشة ، سوى من كان في السبعمائة من أهل مصر من الصحابة. فكل هؤلاء من الساخطين.
ولنكتف بمعرفة مواقف هؤلاء عن معرفة سائر الناس الآخرين الذين ذكرهم ابن المسيب من دون تسمية. ونذكرهم حسب ما ذكرهم ابن المسيب في الترتيب :
1 ـ عبد الله بن مسعود رضي الله عنه :
الّذي قال فيه صلّى الله عليه وآله وسلّم : ( رضيت لأمتي ما رضي الله لها وابن أم عبد وسخطت لأمتي ما سخط الله لها وابن اُم عبد ) (3) ، وفيه وفي عمّار وسلمان نزل قوله تعالى : ( أَمَّنْ هُوَ قَانِتٌ آنَاءَ اللَّيْلِ سَاجِدًا وَقَائِمًا يَحْذَرُ الآخِرَةَ ) (4).
روى البلاذري في حديثه عن أبي مخنف بإسناده قال : « لمّا قدم الوليد الكوفة ألفى ابن مسعود على بيت المال فاستقرضه مالاً ـ وقد كانت الولاة تفعل ذلك ثمّ تردّ ما تأخذ ـ فأقرضه عبد الله ما سأله ، ثمّ انّه اقتضاه إياه فكتب الوليد في ذلك إلى عثمان ، فكتب عثمان إلى عبد الله بن مسعود : إنّما أنت خازنٌ لنا فلا تعرض للوليد فيما أخذ من المال. فطرح ابن مسعود المفاتيح وقال : كنت أظنّ أنّي خازن للمسلمين ، فأما إذا كنتُ خازناً لكم فلا حاجة لي في ذلك ، وأقام بالكوفة بعد إلقائه مفاتيح بيت المال » (5).
وروى أيضاً في حديثه عن أبي مخنف وعوانة بإسنادهما : « أنّ عبد الله بن مسعود حين القى مفاتيح المال الى الوليد بن عقبة قال : من غيّر غيّر الله ما به ، ومن بدّل أسخط الله عليه ، وما أرى صاحبكم إلّا وقد غيّر وبدّل ، أيعزل مثل سعد ابن أبي وقاص ويُولي الوليد ؟ ».
وكان يتكلم بكلام لا يدعه وهو : « إن أصدق القول كتاب الله ، وأحسن الهدي هدي محمّد صلّى الله عليه ( وآله ) وسلّم وشرّ الأمور مُحدثاتها ، وكلّ مُحدَث بدعة ، وكلّ بدعة ضلالة ، وكلّ ضلالة في النار ».
فكتب الوليد إلى عثمان بذلك وقال : إنّه يعيبك ويطعن عليك ، فكتب إليه عثمان يأمره بإشخاصه ، وشيّعه أهل الكوفة ، فأوصاهم بتقوى الله ولزوم القرآن.
فقالوا له : جزيت خيراً ، فلقد علّمتَ جاهلنا ، وثبتَّ عالمنا ، وأقرأتنا القرآن ، وفقهتَنا في الدين ، فنعم أخو الإسلام أنت ، ونعم الخليل ، ثمّ ودّعوه وانصرفوا.
وقدم ابن مسعود المدينة وعثمان يخطب على منبر رسول الله صلّى الله عليه ( وآله ) وسلّم ، فلمّا رآه قال : ألا إنّه قدمت عليكم دُويّبة سوء ، من تمشِ على طعامه يقيء ويسلح.
فقال ابن مسعود : لستُ كذلك ، ولكني صاحب رسول الله صلّى الله عليه ( وآله ) وسلّم يوم بدر ويوم بيعة الرضوان (6).
ونادت عائشة : أي عثمان أتقول هذا لصاحب رسول الله صلّى الله عليه ( وآله ) وسلّم ؟
ثمّ أمر عثمان به فأخرج من المسجد إخراجاً عنيفاً ، وضرب به عبد الله بن زمعة بن الأسود بن المطلب بن أسد بن عبد العزى بن قصيّ الأرض ، ويقال : بل احتمله يحموم غلام عثمان ، ورجلاه تختلفان على عنقه حتى ضرب به الأرض فدق ضلعه.
فقال عليّ : يا عثمان أتفعل هذا بصاحب رسول الله صلّى الله عليه ( وآله ) وسلّم بقول الوليد بن عقبة ؟
فقال : ما بقول الوليد فعلتُ هذا ، ولكن وجّهت زبيد بن الصلت الكندي إلى الكوفة. فقال له ابن مسعود : إن دم عثمان حلال.
فقال عليّ : أحلتَ من زبيد على غير ثقة ( وقال ابن الكلبي : زبيد بن الصلت أخو كثير بن الصلت الكندي ) (7).
وقام عليّ بأمر ابن مسعود حتى أتى به منزله ، فأقام ابن مسعود بالمدينة لا يأذن له عثمان في الخروج منها الى ناحية من النواحي ، وأراد حين برئ الغزو فمنعه من ذلك. وقال له مروان : انّ ابن مسعود أفسد عليك العراق أفتريد أن يفسد عليك الشام ؟ فلم يبرح المدينة حتى توفي قبل مقتل عثمان بسنتين. وكان مقيماً بالمدينة ثلاث سنين ، وقال قوم : إنّه كان نازلاً على سعد بن أبي وقاص.
ولمّا مرض ابن مسعود مرضه الّذي مات فيه أتاه عثمان عائداً فقال : ما تشتكي ؟ قال : ذنوبي قال : فما تشتهي ؟ قال : رحمة ربي ، قال : ألا أدعو لك طبيباً ؟
قال : الطبيب أمرضني ، قال : أفلا آمر لك بعطائك ؟ قال : منعتنيه وأنا محتاج إليه ، وتعطنيه وأنا مستغن عنه. قال : يكون لولدك. قال رزقهم على الله. قال : استغفر لي يا أبا عبد الرحمن قال : أسأل الله أن يأخذ لي منك بحقي.
وأوصى أن لا يصلي عليه عثمان ، فدفن بالبقيع وعثمان لا يعلم. فلمّا علم غضب وقال : سبقتموني به. فقال له عمّار بن ياسر : إنّه أوصى أن لا تصلي عليه.
وقال الزبير :
لأعرفنّك بعد الموت تندبني |
وفي حياتي ما زوّدتني زادي |
وكان الزبير وصي ابن مسعود في ماله وولده ، وهو كلّم عثمان في عطائه بعد وفاته حتى أخرجه لولده. وأوصى ابن مسعود أن يصلي عليه عمّار بن ياسر.
قال البلاذري وقوم يزعمون : أنّ عمّاراً كان وصيّه. ووصية الزبير أثبت ... اهـ (8).
2 ـ أبو ذر الغفاري ( رضوان الله تعالى عليه ) :
رابع المسلمين وأوّل من حيا النبيّ صلّى الله عليه وآله وسلّم بتحية الإسلام فقال : « السلام عليك فقال : وعليك السلام » (9). روى البلاذري عن رجاله قالوا : « لمّا أعطى عثمان مروان بن الحكم ما أعطاه ، وأعطى الحارث بن الحكم بن أبي العاص ثلثمائة ألف درهم ، وأعطى زيد بن ثابت الأنصاري مائة ألف درهم ، جعل أبو ذر يقول : بشّر الكانزين بعذاب أليم ويتلو قول الله عزوجل : ( وَالَّذِينَ يَكْنِزُونَ الذَّهَبَ وَالْفِضَّةَ ) (10) ، فرفع ذلك مروان بن الحكم إلى عثمان. فأرسل إلى أبي ذر ناتلا مولاه أن إنتهِ عمّا يبلغني عنك. فقال : أينهاني عثمان عن قراءة كتاب الله وعيب من ترك أمر الله ، فوالله لأن أرضي الله بسخط عثمان أحبّ إليَّ وخيرٌ لي من أن أسخط الله برضاه.
فأغضب عثمان ذلك وأحفظه » (11).
قال اليعقوبي : « وبلغ عثمان أن أبا ذر يقعد في مجلس رسول الله صلّى الله عليه وآله وسلّم ويجتمع إليه الناس فيحدّث بما فيه الطعن عليه ، وأنه وقف بباب المسجد فقال :
أيّها الناس من عرفني فقد عرفني ومن لم يعرفني فأنا أبو ذر الغفاري ، أنا جندب ابن جنادة الربذي ، ( إِنَّ اللَّهَ اصْطَفَى آدَمَ وَنُوحًا وَآلَ إِبْرَاهِيمَ وَآلَ عِمْرَانَ عَلَى الْعَالَمِينَ ذُرِّيَّةً بَعْضُهَا مِنْ بَعْضٍ وَاللَّهُ سَمِيعٌ عَلِيمٌ ) (12) محمّد الصفوة من نوح فالأوّل من إبراهيم ، والسلالة من إسماعيل ، والعترة الهادية من محمّد ، إنّه شرف شريفهم واستحقوا الفضل في قوم هم فينا كالسماء المرفوعة ، وكالكعبة المستورة ، أو كالقبلة المنصوبة ، أو كالشمس الضاحية أو كالقمر الساري ، أو كالنجوم الهادية ، أو كالشجرة الزيتونة أضاء زيتها وبورك زندها. ومحمّد وارث علم آدم وما فضّلت به النبيّون. وعليّ بن أبي طالب وصي محمّد ووارث علمه.
أيتها الاُمة المتحيّرة بعد نبيّها أما لو قدمتم من قدّم الله وأخرتم من أخّر الله ، وأقررتم الولاية والوراثة في أهل بيت نبيكم لأكلتم من فوق رؤوسكم ومن تحت أقدامكم ، ولمّا عال ولي الله ولاطاش سهم من فرائض الله ، ولا اختلف اثنان في حكم الله إلّا وجدتم علم ذلك عندهم من كتاب الله وسنّة نبيّه. فأمّا إذا فعلتم ما فعلتم فذوقوا وبال أمركم ( وَسَيَعْلَمُ الَّذِينَ ظَلَمُوا أَيَّ مُنقَلَبٍ يَنقَلِبُونَ ) (13) » (14).
قال البلاذري : « وقال عثمان يوماً : أيجوز للإمام أن يأخذ من المال فإذا أيسر قضى ؟ فقال كعب الأحبار : لا بأس بذلك فقال أبو ذر : يا بن اليهوديَين أتعلّمنا ديننا ؟ فقال عثمان : ما أكثر أذاك لي وأولعك بأصحابي. إلحق بمكتبك.
وكان مكتبه بالشام إلّا انّه كان يقدم حاجاً ويسأل عثمان الإذن له في محاورة قبر رسول الله صلّى الله عليه وآله وسلّم فيأذن له في ذلك ، وإنّما صار مكتبه بالشام لأنّه قال لعثمان حين رأى البناء قد بلغ سلعاً إنّي سمعت رسول الله صلّى الله عليه وآله وسلّم يقول : إذا بلغ البناء سلعاً فالهرب ، فاذن لي آت الشام فأغزو هناك فأذن له.
وكان أبو ذر ينكر على معاوية أشياء يفعلها ، وبعث إليه معاوية بثلثمائة دينار فقال : ان كانت من عطائي الّذي حرمتمونيه عامي هذا قبلتها ، وان كانت صلة فلا حاجة لي فيها. وبعث إليه حبيب بن مسلمة الفهري بمائتي دينار فقال : أما وجدت أهون عليك مني حين تبعث إليَّ بمال ؟ وردّها.
وبنى معاوية الخضراء بدمشق فقال يا معاوية إن كانت هذه الدار من مال الله فهي الخيانة وان كانت من مالك فهذا الإسراف ، فسكت معاوية.
وكان أبو ذر يقول : والله لقد حدثت أعمال ما أعرفها ، والله ما هي في كتاب الله ولاسنّة نبيّه ، والله إنّي لأرى حقاً يطفأ ، وباطلاً يُحيى ، وصادقاً يكذَّب وإثرة بغير تُقى ، وصالحاً مستأثراً عليه » (15).
روى ابن سعد بسنده عن الأحنف بن قيس قال : « أتيت المدينة ثمّ أتيت الشام فجمّعت ـ أي صليت الجمعة ـ فإذا أنا برجل لا ينتهي إلى سارية إلّا خرّ أهلها يصلي ويُخفّ صلاته. قال فجلست إليه فقلت له يا عبد الله من أنت ؟ قال : أنا أبو ذر فقال لي فأنت من أنت ؟ قال قلت : أنا الأحنف بن قيس ، قال : قم عني لا أعدك بشرّ ، فقلت له كيف تعدني بشر ؟ قال : انّ هذا ـ يعني معاوية ـ نادى مناديه إلّا يُجالسني أحد » (16).
قال البلاذري : « فكتب معاوية الى عثمان فيه ، فكتب عثمان إلى معاوية : أمّا بعد فاحمل جُندباً إليَّ على أغلظ مركب وأوعره ، فوجّه معاوية من سار به الليل والنهار » (17).
قال المسعودي : « فحمله على بعير عليه قتب يابس معه خمسة من الصقالبة يطيرون به حتى أتوا به المدينة وقد تسلّخت بواطن أفخاذه وكاد أن يتلف. فقيل له : إنّك تموت من ذلك. فقال : هيهات لن أموت حتى أنفى ، وذكر جوامع ما ينزل به بعد ومن يتولى دفنه ...
ثمّ دخل إليه فجلس على ركبتيه وتكلم بأشياء (؟) وذكر الخبر في ولد أبي العاص إذا بلغوا ثلاثين رجلاً اتخذوا عباد الله خولاً ومرّ في الخبر بطوله وتكلّم بكلام كثير » (؟) (18).
وذكر البلاذري قول قتادة : « تكلم أبو ذر بشيء كرهه عثمان فكذّبه ـ أقول : سيأتي في كلام الجاحظ ما كتمه البلاذري وكرهه عثمان ـ فقال : ما ظننت أنّ أحداً يكذبني بعد قول رسول الله صلّى الله عليه وآله وسلّم : ( ما أقلت الغبراء ولا أطبقت الخضراء على ذي لهجة أصدق من أبي ذر ). ثمّ سيّره إلى الربذة فكان أبو ذر يقول : ما ترك الحقّ لي صديقاً ، فلمّا سار إلى الربذة قال : ردّني عثمان بعد الهجرة اعرابياً » (19).
وفي حديث الجاحظ في كتاب السفيانية في رواية الواقدي : « أن أبا ذر لمّا دخل على عثمان قال له : لا أنعم الله بك عيناً يا جنيدب ، فقال أبو ذر : أنا جندب وسماني رسول الله صلّى الله عليه وآله وسلّم عبد الله فاخترت اسم رسول الله صلّى الله عليه وآله وسلّم الّذي سماني به على اسمي. فقال له عثمان : أنت الّذي تزعم أنا نقول يد الله مغلولة وان الله فقير ونحن اغنياء ؟ فقال أبو ذر : لو كنتم لا تقولون هذا لأنفقتم مال الله على عباده ، ولكني أشهد أنّي سمعت رسول الله صلّى الله عليه وآله وسلّم يقول : ( إذا بلغ بنو أبي العاص ثلاثين رجلاً جعلوا مال الله دولاً ، وعباده خِولاً ، ودينه دخلاً ).
فقال عثمان لمن حضر : أسمعتموها من رسول الله ؟ قالوا : لا ، قال عثمان : ويلك يا أبا ذر أتكذب على رسول الله. فقال أبو ذر لمن حضر : أما تدرون أنّي صدقت ؟ قالوا : لا والله ما ندري. فقال عثمان : اُدعوا لي عليّاً ، فلمّا جاء قال عثمان لأبي ذر : أقصص عليه حديثك في بني أبي العاص ، فأعاده. فقال عثمان لعليّ عليه السلام : أسمعت هذا من رسول الله صلّى الله عليه وآله وسلّم ؟ قال : لا وقد صدق أبو ذر. فقال : كيف عرفت صدقه ؟ قال : لأنّي سمعت رسول الله صلّى الله عليه وآله وسلّم يقول : ( ما أظلّت الخضراء ولا أقلّت الغبراء من ذي لهجة أصدق من أبي ذر ). فقال من حضر : أمّا هذا فسمعناه كلنا من رسول الله صلّى الله عليه وآله وسلّم. فقال أبو ذر : أحدّثكم أنّي سمعت هذا من رسول الله صلّى الله عليه وآله وسلّم فتتهمونني ، ما كنت أظن انّي أعيش حتى أسمع هذا من أصحاب محمّد صلّى الله عليه وآله وسلّم » (20).
وقد منعه عثمان من الفتيا والحديث بل حضر حتى مجالسته ، لكنه لم يعبأ بذلك كلّه ، فقال كما أخرج البخاري : « وقال أبو ذر : لو وضعتم الصمصامة على هذه ـ وأشار إلى قفاه ـ ثمّ ظننت أنّي أنفذ كلمة سمعتها من النبيّ صلّى الله عليه ( وآله ) وسلّم قبل أن تجيزوا عليَّ لأنفذتها » (21).
وفي حديث المسعودي في مروج الذهب (22) وقد ساق خروج أبي ذر وتوديع الإمام له وما جرى له مع مروان قال : « فلمّا رجع عليّ استقبله الناس فقالوا له : إنّ أمير المؤمنين عليك غضبان لتشييعك أبا ذر ، فقال عليّ : غَضَبَ الخيل على اللُجُم : فلمّا كان بالعشيّ جاء إلى عثمان فقال له : ما حملك على ما صنعت بمروان ؟ ولم اجترأت عليّ ورددت رسولي وأمري ؟ قال : أمّا مروان فأنه استقبلني يردني فرددته عن ردي ، وأمّا أمرك فلم أردُه ، قال عثمان : ألم يبلغك أنّي قد نهيت الناس عن أبي ذر وعن تشييعه ؟ فقال عليّ : أو كلّ ما أمرتنا به من شيء نرى طاعة الله والحقّ في خلافه اتبّعنا أمرك ؟ بالله لا نفعل.
قال عثمان : أقد مروان ، قال : ومم أقيده ؟ قال : ضربت بين أذني راحلته وشتمه فهو شاتمك وضارب بين أذني راحلتك. قال عليّ : أمّا راحلتي فهي تلك فإن أراد أن يضربها كما ضربت راحلته فليفعل. وأمّا أنا فوالله لئن شتمني لأشتمنّك أنت مثلها بما لا أكذب فيه ، ولا أقول إلّا حقاً.
قال عثمان : ولم لا يشتمك إذا شتمته ، فوالله ما أنت عندي بأفضل منه ؟
فغضب عليّ بن أبي طالب وقال : ألي تقول هذا القول ؟ وبمروان تعدلني ؟
فأنا والله أفضل منك ، وأبي أفضل من أبيك ، وأمي أفضل من أمك ، وهذه نبلي قد نثلتها. وهلمّ فانثل بنبلك ، فغضب عثمان واحمرّ وجهه ، فقام ودخل داره ، وانصرف عليّ واجتمع إليه أهل بيته ورجال من المهاجرين والأنصار.
فلمّا كان من الغد واجتمع الناس إلى عثمان شكا إليهم عليّاً وقال : إنّه يعيبني ويظاهر من يعيبني يريد بذلك أبا ذر وعمّار وغيرهما. فدخل الناس بينهما حتى اصطلحا وقال له عليّ : والله ما أردت بتشييع أبي ذر إلّا الله تعالى ... اهـ » (23).
قال ابن أبي الحديد في تتمة حديثه الآنف الذكر : « فأرسل عثمان إلى وجوه المهاجرين والأنصار وإلى بني أمية يشكو إليهم عليّاً عليه السلام. فقال القوم : أنت الوالي عليه وإصلاحه أجمل ، قال : وددت ذلك ، فأتوا عليّاً عليه السلام ، فقالوا : لو اعتذرت إلى مروان وأتيته ، فقال : كلا ، أمّا مروان فلا آتيه ولا أعتذر منه ، ولكن ان أحبّ عثمان أتيته. فرجعوا إلى عثمان فأخبروه ، فأرسل عثمان إليه ، فأتاه ومعه بنو هاشم ، فتكلم عليّ عليه السلام فحمد الله وأثنى عليه ثمّ قال : أمّا ما وجدتَ عليّ من كلام أبي ذر ووداعه فوالله ما أردت مساءتك ولا الخلاف عليك ، ولكن أردت به قضاء حقه ، وأمّا مروان فانه اعترض يريد ردّي عن قضاء حقّ الله عزوجل فرددته ، ردّ مثلي مثله. وأمّا ما كان مني إليك فإنك أغضبتني فأخرج الغضب مني ما لم أرده.
فتكلم عثمان فحمد الله وأثنى عليه ثمّ قال : أمّا ما كان منك الي فقد وهبته لك ، وأمّا ماكان منك إلى مروان فقد عفا الله عنك ، وأمّا ما حلفت عليه فأنت البرّ الصادق ، فأدن يدك ، فأخذ يده فضمّها إلى صدره. فلمّا نهض قالت قريش وبنو أمية لمروان : أأنت رجل ! جبهك عليّ وضرب راحلتك ، وقد تفانت وائل في ضرع ناقة ، وذبيان وعبس في لطمة فرس ، والأوس والخزرج في نِسعة ، أفتحمل لعليّ ما أتاه اليك ؟ فقال مروان : والله لو أردت ذلك لما قدرت عليه » (24).
نهاية مروّعة ومفزعة :
روى الشيخ المفيد بسنده عن أبي جهضم الأزدي عن أبيه ـ وذكر حديث تسيير عثمان أبا ذر إلى الشام ثمّ تسييره من الشام إلى المدينة ـ إلى أن قال ـ : « فلمّا دخل عليه قال له : لا قرّ الله بعمرو عينا. فقال أبو ذر : والله ما سمّاني أبواي عمروا ، ولكن لا قرّب الله من عصاه وخالف أمره وارتكب هواه ، فقام إليه كعب الأحبار فقال له : ألا تتقي الله يا شيخ وتجيب أمير المؤمنين بهذا الكلام ، فرفع أبو ذر عصا كانت في يده فضرب بها رأس كعب ثمّ قال : يا بن اليهوديَين ما كلامك مع المسلمين فوالله ما خرجت اليهودية من قلبك بعد ، فقال عثمان : والله لا جمعتني وإياك دار ، قد خرفت وذهب عقلك ، أخرجوه من بين يدي حتى تركبوه قتب ناقة بغير وطاء ، ثمّ انخسوا به الناقة وتعتعوه حتى توصلوه الربذة فأنزلوه بها من غير أنيس حتى يقضي الله فيه ما هو قاضِ ، فأخرجوه متعتعاً موهوناً بالعصا ، وتقدّم ان لا يشيّعه أحد من الناس ، فبلغ ذلك أمير المؤمنين عليّ بن أبي طالب عليه السلام فبكى حتى بلّ لحيته بدموعه ثمّ قال : هكذا يصنع بصاحب رسول الله صلّى الله عليه وآله وسلّم إنا لله وإنا إليه راجعون ، ثمّ نهض ومعه الحسن والحسين عليهما السلام وعبد الله بن العباس والفضل (25) وقثم وعبيد الله حتى لحقوا أبا ذر فشيّعوه ، فلمّا بصر بهم أبو ذر رضي الله عنه حنّ إليهم وبكى عليهم وقال : بأبي وجوه إذا رأيتها ذكرت رسول الله صلّى الله عليه وآله وسلّم وشملتني البركة برؤيتها ، ثمّ رفع يديه إلى السماء وقال : أحبّهم ولو قطعت إرباً إربا في محبتهم مازلت عنها ، أبتغي وجهك والدار الآخرة. فارجعوا رحمكم الله ، والله أسأل أن يخلفني فيكم أحسن الخلافة ، فودّعه القوم فرجعوا وهم يبكون على فراقه » (26).
2 ـ قال ابن أبي الحديد : « واقعة أبي ذر وإخراجه إلى الربذة أحد الأحداث الّتي نقمت على عثمان ، وقد روى هذا الكلام ـ يعني كلام الإمام في توديعه كما مرّ ـ أبوبكر أحمد بن عبد العزيز الجوهري في كتاب السقيفة عن عبد الرزاق عن أبيه عن عكرمة عن ابن عباس قال : لمّا أُخرج أبو ذر إلى الربذة ، أمر عثمان فنودي في الناس : أن لا يكلّم أحدٌ أبا ذر ولا يشيّعه ، وأمر مروان بن الحكم أن يخرج به فخرج به وتحاماه الناس إلّا عليّ بن أبي طالب عليه السلام وعقيلاً أخاه وحسناً وحسيناً عليهما السلام وعماراً ، فإنّهم خرجوا معه يشيّعونه فجعل الحسن عليه السلام يُكلم أبا ذر ، فقال له مروان : إيها يا حسن ألا تعلم أن أمير المؤمنين قد نهى عن كلام هذا الرجل ؟ فإن كنت لا تعلم فاعلم ذلك ، فحمل عليّ عليه السلام على مروان فضرب بالسوط بين أذني راحلته وقال : تنحّ نحّاك الله إلى النار.
فرجع مروان مغضباً إلى عثمان فأخبره الخبر ، فتلظّى على عليّ عليه السلام ووقف أبو ذر فودّعه القوم ومعه ذكوان مولى أم هاني بنت أبي طالب قال ذكوان : فحفظت كلام القوم وكان حافظاً.
فقال عليّ عليه السلام : يا أبا ذر إنّك غضبت لله ، إنّ القوم خافوك على دنياهم وخفتهم على دينهم ، فامتحنوك بالقلى ونفوك إلى الفلا ، والله لو كانت السموات والأرض على عبد رَتقاً ثمّ اتقى الله لجعل له منها مخرجاً ، يا أبا ذر لا يؤنسنّك إلّا الحقّ ولا يوحشنّك إلّا الباطل.
ثمّ قال لأصحابه : ودّعوا عمّكم وقال لعقيل : ودّع أخاك ، فتكلم عقيل فقال : ما عسى ما نقول يا أبا ذر وأنت تعلم أنا نحبّك وأنت تحبّنا فاتق الله ، فإنّ التقوى نجاة ، واصبر فإنّ الصبر كرم ، واعلم انّ استثقالك الصبر من الجزع ، واستبطاءك العافية من اليأس ، فدع اليأس والجزع.
ثمّ تكلم الحسن عليه السلام فقال : يا عمّاه لولا أنّه لا ينبغي للمودّع أن يسكت وللمشيّع أن ينصرف لقصر الكلام وإن طال الأسف وقد أتى من القوم إليك ما ترى ، فضع عنك الدنيا بتذكّر فراغها ، وشدة ما اشتدّ منها برجاء ما بعدها ، واصبر حتى تلقى نبيّك صلّى الله عليه وآله وسلّم وهو عنك راضِ.
ثمّ تكلم الحسين عليه السلام فقال : يا عماه إن الله تبارك وتعالى قادر أن يغيّر ما قد ترى ، الله كلّ يوم هو في شأن ، وقد منعك القوم دنياهم ومنعتهم دينك ، فما أغناك عمّا منعوك وأحوجهم إلى ما منعتهم ، فاسأل الله الصبر والنصر ، واستعذ به من الجشع والجزع ، فإن الصبر من الدين والكرم ، وإن الجشع لا يُقدّم رزقاً ، والجزع لا يؤخر أجلاً.
ثمّ تكلم عمّار ـ مغضباً ـ فقال : لا آنس الله من أوحشك ، ولا آمن من أخافك ، أما والله لو أردت دنياهم لأمّنوك ، ولو رضيت أعمالهم لأحبّوك ، وما منع الناس أن يقولوا بقولك إلّا الرضا بالدنيا والجزع من الموت ، ومالوا إلى سلطان جماعتهم عليه ، والملك لمن غلب ، فوهبوا لهم دينهم ، ومنحهم القوم دنياهم ، فخسروا الدنيا والآخرة. ألا ذلك هو الخسران المبين.
فبكى أبو ذر رحمه الله ـ وكان شيخاً كبيراً ـ وقال : رحمكم الله يا أهل بيت الرحمة ، إذا رأيتكم ذكرت بكم رسول الله صلّى الله عليه وآله وسلّم ما لي بالمدينة سكن ولا شجن غيركم ، إنّي ثقلت على عثمان بالحجاز كما ثقلت على معاوية بالشام ، وكره أن أجاور أخاه وابن خاله بالمصرين (27) فأفسد الناس عليهما فسيّرني إلى بلد ليس لي به ناصر ولا دافع إلّا الله ، والله ما أريد إلّا الله صاحباً ، وما أخشى مع الله وحشة.
ورجع القوم إلى المدينة ، فجاء عليّ إلى عثمان ، فقال له ما حملك على ردّ رسولي وتصغير أمري ؟
فقال عليّ عليه السلام أمّا رسولك فأراد أن يردّ وجهي فرددته ، وأمّا أمرك فلم أصغّره.
قال : أما بُلّغت نهيي عن كلام أبي ذر ؟ قال : أو كلّما أمرت بأمر معصية أطعناك فيه ؟
قال عثمان : أقد مروان من نفسك ، قال : ممّ ذا ؟ قال : من شتمه وجذب راحلته. قال : أمّا راحلته فراحلتي بها ، وأمّا شتمه إياي فوالله لا يشتمني شتمة إلّا شتمتك مثلها ، لا أكذب عليك ، فغضب عثمان وقال : لم لا يشتمك كأنك خير منه ؟ قال عليّ : إي والله ومنك ، ثمّ قام فخرج » (28).
3 ـ قال الواقدي : ثمّ إنّ عثمان حظر على الناس أن يقاعدوا أبا ذر ويكلّموه ، فمكث كذلك أياماً ، ثمّ اتي به فوقف بين يديه. فقال أبو ذر : ويحك يا عثمان أما رأيت رسول الله صلّى الله عليه وآله وسلّم ورأيت أبا بكر وعمر ، هل هديك كهديهم ؟ أما إنّك لتبطش بي بطش جبّار ، فقال عثمان : أخرج عنا من بلادنا فقال أبو ذر : ما أبغض إليَّ جوارك فإلى أين أخرج ؟ قال : حيث شئت ، قال : أخرج إلى الشام أرض الجهاد ، قال : إنّما جلبتك من الشام لما قد أفسدتها أفاردّك إليها ؟ أفأخرج إلى العراق ؟ قال : لا ، إنّك إن تخرج إليها تقدم على قوم أولى شقة وطعن على الأئمّة والولاة. قال : أفأخرج إلى مصر ؟ قال : لا. قال : فإلى أين أخرج ؟ قال : إلى البادية قال أبو ذر : أصير بعد الهجرة أعرابياً ؟ قال : نعم. قال أبو ذر فأخرج إلى بادية نجد ؟ قال عثمان : بل إلى الشرق الأبعد أقصى فأقصى ، امض على وجهك هذا فلا تعدونّ الربذة ، فخرج إليها (29).
فلمّا طلع عن المدينة ومروان يسيّره ، إذ طلع عليه ابن أبي طالب رضي الله عنه ومعه إبناه وعقيل أخوه وعبد الله بن جعفر وعمّار بن ياسر فاعترض مروان فقال : يا عليّ إنّ أمير المؤمنين قد نهى الناس أن يصحبوا أبا ذر في مسيره ويشيّعوه ، فان كنت لم تدر بذلك فقد أعلمتك ، فحمل عليه عليّ بن أبي طالب بالسوط بين أذني راحلته وقال : تنحّ نحّاك الله إلى النار ، ومضى مع أبي ذر فشيّعه ثمّ ودّعه وانصرف فلمّا أراد الانصراف بكى أبو ذر وقال : رحمكم الله أهل البيت إذا رأيتك يا أبا الحسن وولدك ذكرت بكم رسول الله صلّى الله عليه وآله وسلّم.
ومن كلام له عليه السلام لأبي ذر رحمه الله لمّا أخرج إلى الربذة : « يا أبا ذر إنّك غضبت لله فارج من غضبت له ، إنّ القوم خافوك على دنياهم وخفتهم على دينك ، فاترك في أيديهم ما خافوك عليه ، واهرب منهم بما خفتهم عليه ، فما أحوجهم إلى ما منعتهم ، وما أغناك عمّا منعوك وستعلم من الرابح غداً ، والأكثر حسداً ، ولو أن السموات والأرض كانتا على عبد رتقاً ثمّ اتقى الله لجعل الله منهما مخرجاً ، لا يؤنسك إلّا الحقّ ، ولا يوحشنّك إلّا الباطل ، فلو قبلتَ دنياهم لأحبّوك ، ولو قرضتَ منها لأمّنوك ... » (30). وإلى تمام الحديث في النهاية المروعة.
وفي نهاية المطاف كانت مأساة وفاته بالربذة ، وحديثها فيما رواه ابن سعد في طبقاته بسنده قال : « لمّا نفى عثمان أبا ذر إلى الربذة وأصابه فيها قدره ، ولم يكن معه أحدٌ إلّا إمرأته وغلامه ، فأوصاهما أن أغسلاني وكفناني وضعاني على قارعة الطريق ، فأوّل ركب يمرّ بكم فقولوا هذا أبو ذر صاحب رسول الله صلّى الله عليه وآله وسلّم فأعينونا على دفنه فلمّا مات فعلا ذلك به ، ثمّ وضعاه على قارعة الطريق ، وأقبل عبد الله بن مسعود في رهط من أهل العراق عُمّاراً فلم يرعهم إلّا بالجنازة على ظهر الطريق قد كادت الإبل أن تطأها ، فقام إليه الغلام فقال هذا أبو ذر صاحب رسول الله صلّى الله عليه وآله وسلّم فأعينونا على دفنه ، فاستهل عبد الله يبكي ويقول : صدق رسول الله تمشي وحدك وتموت وحدك وتبعث وحدك ، ثمّ نزل هو وأصحابه فواروه ، ثمّ حدثهم عبد الله بن مسعود حديثه وما قال له رسول الله صلّى الله عليه وآله وسلّم في مسيره إلى تبوك » (31).
4 ـ وروى البلاذري : « انّه لمّا بلغ عثمان موت أبي ذر بالربذة قال : رحمه الله ، فقال عمّار بن ياسر : نعم فرحمه الله من كلّ أنفسنا ، فقال عثمان : يا عاض أير أبيه أتراني ندمت على تسييره ؟ وأمر فدُفع في قفاه ، وقال : إلحق بمكانه ، فلمّا تهيأ للخروج جاءت بنو مخزوم إلى عليّ فسألوه أن يكلم عثمان فيه ، فقال له عليّ : يا عثمان أتق الله فإنك سيّرت رجلاً صالحاً من المسلمين فهلك في تسييرك ، ثمّ أنت الآن تريد أن تنفي نظيره وجرى بينهما كلام (؟) حتى قال عثمان أنت أحق بالنفي منه ، فقال عليّ : رُم ذلك إن شئت.
واجتمع المهاجرون فقالوا : إن كنت كلما كلمك رجل سيّرته ونفيته ، فإنّ هذا شيء لا يسوغ ، فكفّ عن عمّار » (32).
3 ـ عمّار بن ياسر :
(مليء إيماناً من قرنه إلى قدمه ، واختلط الإيمان بلحمه ودمه) (33) كما في حديث ابن عباس عن النبيّ صلّى الله عليه وآله وسلّم. وقال فيه أيضاً : (إنّ عماراً مع الحقّ والحقّ معه يدور عمّار مع الحقّ أينما دار وقاتل عمّار في النار) (34).
وروى البلاذري من حديث أبي مخنف بإسناده قال : كان في بيت المال بالمدينة سفط فيه حلي وجوهر فأخذ منه عثمان ما حلّى به بعض أهله ، فأظهر الناس الطعن عليه في ذلك وكلموه فيه بكلام شديد حتى أغضبوه ، فخطب فقال : لنأخذنّ حاجتنا من هذا الفيء وإن رغمت أنوف أقوام.
وفي رواية البلاذري عن الزهري قال : هذا مال الله أعطيه من شئت وأمنعه من شئت ، فأرغم الله أنف من رغم. فقال عليّ ـ كما في حديث أبي مخنف السابق ـ إذاً تُمنع من ذلك ويُحال بينك وبينه.
وقال عمّار بن ياسر : أشهد الله أن أنفي أوّل راغم من ذلك.
فقال عثمان : أعليَّ يا بن المتكاءِ (35) تجترئ ؟ خذوه ، فأخذ ودخل عثمان فدعا به فضربه حتى غشي عليه ثمّ أخرج فحمل حتى أتى به منزل أم سلمة زوج رسول الله صلّى الله عليه وآله وسلّم فلم يصلّ الظهر والعصر والمغرب ، فلمّا أفاق توضأ وصلّى وقال : الحمد لله ليس هذا أوّل يوم أوذينا فيه في الله.
وقام هشام بن الوليد بن المغيرة المخزومي. وكان عمّار حليفاً لبني مخزوم. فقال : يا عثمان أمّا عليّ فاتقيّته وبني أبيه. وأمّا نحن فاجترأت علينا وضربت أخانا حتى أشفيت به على التلف ، أمّا والله لئن مات لأقتلنّ به رجلاً من بني أمية عظيم السرّة. فقال عثمان : وإنّك لههنا يا بن القسرية ، قال : فإنهما قسريتان ـ وكانت أمه وجدته قسريتين من بجيلة ـ فشتمه عثمان وأمر به فأخرج ، فأتى أم سلمة وإذا هي غضبت لعمّار.
وبلغ عائشة ما صنع بعمّار فغضبت وأخرجت شعراً من شعر رسول الله صلّى الله عليه وآله وسلّم وثوباً من ثيابه ونعلاً من نعاله ثمّ قالت : ما أسرع ما تركتم سنّة نبيّكم وهذا شعره وثوبه ونعله لم يبل بعد.
وفي رواية أبي هلال العسكري في كتابه الأوائل انّها قالت له : « إنّك بريء من صاحب هذه الحجرات. فقال عثمان : من لي بهذه الحميراء ، انّها لمن شر بيت من قريش » (36).
وقال عمرو بن العاص ـ كما في حديث الزهري ـ : « هذا منبر نبيّكم وهذه ثيابه وهذا شعره لم يبل فيكم وقد بدلتم وغيّرتم فغضب عثمان غضباً شديداً حتى ما درى ما يقول ، فارتجّ المسجد وقال الناس سبحان الله سبحان الله ».
واغتنمها عمرو بن العاص وقد كان عثمان قال لعمرو قبل ذلك وقد عزله عن مصر : إنّ اللقاح بمصر قد درّت بعدك أبدانها ، فقال : لأنكم أعجفتم أولادها فقال له عثمان : قملت جبتك مذ عُزلت عن مصر ، فقال : يا عثمان إنّك قد ركبت بالناس نهابير وركبوها بك فإمّا أن تعدل وإمّا أن تعتزل ، فقال : يا بن النابغة وأنت أيضاً تتكلم بهذا لأنّي عزلتك عن مصر وتوعدّه.
قال أبو مخنف في حديثه : وبلغ عثمان مصير هشام بن الوليد ومن مشى معه من مخزوم إلى أم سلمة وغضبُها لعمّار فأرسل اليها : ما هذا الجمع ؟ فأرسلت إليه : دع ذا عنك يا عثمان ولا تحمل الناس في أمرك على ما يكرهون. واستقبح الناس فعله بعمّار ، وشاع فيهم فاشتد انكارهم له (37).
وذكر المحبّ الطبري في الرياض النضرة في الطعن الثاني عشر : « ان أصحاب رسول الله صلّى الله عليه وآله وسلّم اجتمع منهم خمسون رجلاً من المهاجرين والأنصار فكتبوا أحداث عثمان وما نقموا عليه في كتاب ، وقالوا لعمّار أوصل هذا الكتاب إلى عثمان ليقرأه فلعله يرجع عن هذا الّذي ينكر ، وخوّفوه فيه بأنّه إن لم يرجع خلعوه واستبدلوا غيره.
قالوا : فلمّا قرأ عثمان الكتاب طرحه ، فقال له عمّار : لا ترم بالكتاب وانظر فيه فإنه كتاب أصحاب رسول الله صلّى الله عليه وآله وسلّم وأنا والله ناصح لك وخائف عليك ، فقال : كذبت يا بن سميّة ، وأمر غلمانه فضربوه حتى وقع لجنبه وأغمي عليه وزعموا انّه قام بنفسه فوطأ بطنه ومذاكيره حتى أصابه الفتق وأغمي عليه أربع صلوات ، فقضاها بعد الأفاقة واتخذ لنفسه تبّاناً تحت ثيابه ، وهو أوّل من لبس التبّان لأجل الفتق ، فغضب لذلك بنو مخزوم وقالوا والله لئن مات عمّار من هذا لنقتلن من بني أمية شيخاً عظيماً يعنون عثمان ، ثمّ أن عمّاراً لزم بيته إلى أن كان من الفتنة ما كان ... اهـ » (38).
وهذا ذكره أيضاً البلاذري في أنسابه بصورة مختصرة ، وذكر من أسماء الساخطين الذين كتبوا الكتاب مضافاً إلى عمّار المقداد وطلحة والزبير في عدة من أصحاب رسول الله صلّى الله عليه وآله وسلّم (39) ، وسنأتي على معرفة مواقفهم بعد ذلك.
4 ـ عائشة اُمّ المؤمنين :
لعل الكثير من الناس الذين لا يعلمون سبب النفرة بين عائشة وعثمان ، وكلّ ما عرفوه عنهما ، أنّها كانت تشنّع عليه في حياته كثيراً ، ثمّ صارت مطالبة بدمه بعد موته.
أمّا لماذا كانت قبل ذلك كذلك ؟ ولماذا صارت بعد ذلك كذلك ؟ فقد لا يعرفون جواب ذلك. وهو باختصار ، إنّما هو المال أوّلاً وأخيراً. فقد كان عمر بن الخطاب قد فضّل عائشة وحفصة واُم حبيبة على بقية نساء النبيّ صلّى الله عليه وآله وسلّم في العطاء ففرض للثلاثة في اثنتي عشرة والبقية أمهات المؤمنين ستة آلاف ستة آلاف ولصفية وجويرية في خمسة آلاف خمسة آلاف (40).
وهذا التفضيل لا يخلو من التدليل على مدى التوافق في السلوك المرضي لعمر ، خصوصاً إذا عرفنا أن عائشة وحفصة كانتا من حزب واحد على عهد رسول الله صلّى الله عليه وآله وسلّم كما أخرج ذلك البخاري في صحيحه عن عائشة : « إنّ نساء النبيّ صلّى الله عليه وآله وسلّم كنّ حزبين ، فحزب فيه عائشة وحفصة وصفية وسوده ، والحزب الآخر أم سلمة وسائر نساء رسول الله صلّى الله عليه وآله وسلّم ... اهـ » (41).
ولم يغب عن الذاكرة ما مرّ في فترة بين عهدين عن المرأتين من مواقف خدمت الخالفين بعد النبيّ صلّى الله عليه وآله وسلّم.
قال اليعقوبي في تاريخه : « وكان بين عثمان وعائشة منافرة ، وذلك أنّه نقصها ممّا كان يعطيها عمر بن الخطاب وصيّرها أسوة غيرها من نساء رسول الله صلّى الله عليه وآله وسلّم. ونادت يا معشر المسلمين هذا جلباب رسول الله صلّى الله عليه وآله وسلّم لم يبل وقد أبلى عثمان سنته. فقال عثمان : ربِّ اصرف عني كيدهنّ إنّ كيدهنّ عظيم ... اهـ » (42).
وقد مرّ بنا في معرفة الوشائج ما حكاه المجلسي عن تاريخ الطبري وتاريخ الثقفي أن عائشة جاءت إلى عثمان فقالت أعطني ما كان يعطيني أبي وعمر ، قال : لا أجد له موضعاً في كتاب الله ولا في السنة ، ولكن كان أبوك وعمر يعطيانك عن طيبة أنفسهما وأنا لا أفعل. قالت : فأعطني ميراثي من رسول الله صلّى الله عليه وآله وسلّم ، قال : أو لم تجيء فاطمة تطلب ميراثها من رسول الله صلّى الله عليه وآله وسلّم فشهدتِ أنتِ ومالك بن أوس النضري : أن النبيّ صلّى الله عليه وآله وسلّم لا يورث ، وأبطلتِ حقّ فاطمة ، وجئتني تطلبينه لا أفعل (43). فكان تنقيص العطاء ، هو بدء العناء ، وبالتالي انتهى إلى مزيد من البلاء ، وهو ممّا حمل العقاد على نقد موقف عثمان في ذلك فقال : جاء الخطأ الأوّل في هذه السياسة من القائمين بالأمر في حكومة عثمان ، وكان خطأً عجيباً حقاً ، لأنه لا يفهم على وجه من وجوه المصلحة ، ولا تدعو إليه ضرورة من ضرورات الدولة ، ونعني به نقص العطاء الّذي كان مقدوراً للسيدة عائشة في عهد الفاروق ، أعدل من لاحظ العدل في تقسيم الأعطية على حسب المراتب والحقوق انّ نقص عطاء السيدة كان يكون سائغاً عندها وعند المسلمين والمسلمات إذا دعت إليه حاجة في خزانة الدولة ، ولكنه لا يسوغ ولا تستريح إليه النفس ، والأموال تتدفّق على خزانة الدولة بالألوف الّتي يحار فيها الإحصاء ، وغنائم افريقية وحدها تبلغ مليونين ونصف مليون من الدنانير ، فيعطى خمسها لبنت الخليفة وزوجها مروان ابن الحكم ، وغير ذلك من القطائع والأعطية الّتي يخص بها القريبات والقريبين ولا يضبط لها حساب (44).
والآن وقد عرفنا الجواب ، كان من الطبيعي أن تستغلّ عائشة الأحداث الّتي أدين فيها عثمان ، فيرتفع صوتها معلنة سخطها تضامناً مع الساخطين حتى صارت من أشدّ المحرّضين ، وإلى بعض مواقفها :
1 ـ لمّا استدعي ابن مسعود من الكوفة إلى المدينة فدخل المسجد وعثمان على المنبر فقال في ابن مسعود منكراً من القول ، وما كان ينبغي له ، قال : « دويّبة سوء من يمشي على طعامه يقيء ويسلح ».
فنادته عائشة : « أي عثمان أتقول هذا لصاحب رسول الله صلّى الله عليه وآله وسلّم » ، وقد مرّ بنا ذكر ابن مسعود في أوّل قائمة الساخطين.
2 ـ موقفها في حادثة سكر الوليد بن عقبة والي عثمان بالكوفة وخرج الشهود إلى عثمان يشكونه فلم يشكهم بل ضرب بعض الشهود أسواطاً ، فأتى الشهود عائشة فأخبروها بما جرى بينهم وبين عثمان ، وأنه زبرهم فنادت عائشة : إن عثمان أبطل الحدود وتوعد الشهود ـ كما مرّ في أسباب السخط ـ وان الشهود إنّما لجأوا إلى بيت عائشة لأن عثمان توعدهم بالتنكيل بهم.
فقد روى أبو الفرج في الأغاني عن الزهري قال : « خرج رهط من أهل الكوفة إلى عثمان في أمر الوليد فقال : أكلّما غضب رجل منكم على أميره رماه بالباطل ؟ لئن اصبحت لأنكلنّ بكم. فاستجاروا بعائشة ، وأصبح عثمان فسمع من حجرتها صوتاً وكلاماً فيه بعض الغلظة ، فقال : أما يجد مرّاق اهل العراق وفسّاقهم ملجأ إلّا بيت عائشة فسمعت فرفعت نعل رسول الله صلّى الله عليه وآله وسلّم وقالت : تركتَ سنة رسول الله صلّى الله عليه وآله وسلّم صاحب هذا النعل.
فتسامع الناس فجاؤا حتى ملأوا المسجد ، فمن قائل : أحسنت ، ومن قائل ما للنساء ولهذا ؟ حتى تحاصبوا وتضاربوا بالنعال » (45).
وقال البلاذري في حديثه : « إنّ عائشة أغلظت لعثمان ، وأغلظ لها وقال : وما أنتِ وهذا ؟ إنما أَمرتِ أن تقرّي في بيتكِ. فقال قوم مثل قوله ، وقال آخرون : ومن أولى بذلك منها ، فاضطربوا بالنعال ، وكان ذلك أوّل قتال بين المسلمين بعد النبيّ صلّى الله عليه وآله وسلّم » (46).
3 ـ موقفها من حادثة ضرب عمّار حتى أغمي عليه وفاتته أربع صلوات فبلغ ذلك عائشة فغضبت وأخرجت شعراً من شعر رسول الله صلّى الله عليه وآله وسلّم وثوباً من ثيابه ونعلاً من نعاله ثمّ قالت : ما أسرع ما تركتم سنة نبيكم وهذا شعره وثوبه ونعله لم يبل بعده. كما مرّ في ذكر عمّار من الساخطين.
4 ـ موقفها من حصار عثمان فقد روى البلاذري وقال : « وحاصر الناس عثمان وأجلب محمّد بن أبي بكر ببني تيم وغيرهم ، وأعانه على ذلك طلحة بن عبيد الله ، وكانت عائشة تقرصه كثيراً » (47).
5 ـ موقفها وقد استنجد بها عثمان وهو محصور فارسل إليها مروان بن الحكم وعبد الرحمن بن عتاب بن أسيد فأتياها وهي تريد الحج فقالا لها : لو أقمت فلعلّ الله يدفع بك عن هذا الرجل ، فقالت : قد قرّبت ركابي وأوجبت الحج على نفسي والله لا أفعل. فنهض مروان وصاحبه ومروان يقول :
حتى إذا أضطرمت أجذما |
وحرّق قيس عليّ البلاد |
فقالت عائشة : يا مروان وددت والله انّه في غرارة من غرائري هذه ، وأني طُوّقت حمله حتى ألقيه في البحر. هذا ما رواه البلاذري في الأنساب (48).
إلّا أنّ ابن سعد روى في الطبقات أن عائشة قالت : « أيّها المتمثّل عليّ بالأشعار وددت انّك وصاحبك هذا الّذي يعنيك أمره في رجل كلّ واحد منكما رحىً وأنكما في البحر ، وخرجت إلى مكة » (49).
6 ـ موقفها مع ابن عباس وقد ولاه عثمان الموسم ، فقد روى البلاذري في الأنساب قال : « ومرّ عبد الله بن عباس بعائشة ـ وقد ولاه عثمان الموسم ـ وهي بمنزل من منازل الطريق فقالت : يا بن عباس إن الله قد آتاك عقلاً وفهماً وبياناً ، فإيّاك أن تردّ الناس عن هذا الطاغية » (50).
وفي حديث الطبري في تاريخه قال : « فمرّ بعائشة في الصلصل فقالت : يا ابن عباس أنشدك الله فإنك قد أعطيت لساناً إزعيلاً ـ أي ذلقاً ـ أن تخذل عن هذا الرجل وأن تشكك فيه الناس ، فقد بانت لهم بصائرهم ، وأنهجت ورفعت لهم المنار ، وتحلّبوا عن البلدان لأمر قد حمّ. وقد رأيت طلحة بن عبيد الله قد اتخذ على بيوت الأموال والخزائن مفاتيح ، فان يل يسر بسيرة ابن عمه أبي بكر.
قال : يا أمه لو حدث بالرجل حدثٌ ما فزع الناس إلّا إلى صاحبنا. فقالت : إيهاً عنك ، إنّي لست أريد مكابرتك ولا مجادلتك » (51).
7 ـ موقفها في مكة المكرمة : قال البلاذري في الأنساب : « وكانت عائشة تؤلب على عثمان فلمّا بلغها أمره وهي بمكة أمرت بقبتها فضربت في المسجد الحرام وقالت : إنّي أرى عثمان سيشأم قومه كما شأم أبو سفيان قومه يوم بدر » (52).
8 ـ وأخيراً موقفها في شراف في الطريق عند عودتها من الحجّ وقد بلغها مقتل عثمان فقالت : « بُعداً (53) لنعثل وسحقاً ، وقالت : أبعده الله ذلك بما قدمت يداه وما الله بظلامٍ للعبيد (54) وقالت : أبعده الله قتله ذنبه وأقاده الله بعمله. يا معشر قريش لا يسومنكم قتل عثمان كما سام أحمر ثمود ... » (55) ، إلى غير ذلك من المواقف الّتي أثارت الغضب على عثمان حتى أنّها فيما روى الرواة قالوا : « أوّل من سمى عثمان نعثلاً عائشة وكانت تقول : اقتلوا نعثلاً قتل الله نعثلاً » (56).
بقي الكلام عن موقف طلحة ، وهذا سيأتي في قائمة الصحابة الذين حظوا من عثمان بالحباء والعطاء ولم يحسنوا له الجزاء. أمّا الكلام عن موقف الإمام عليّ عليه السلام فكذلك يأتي في موقف بني هاشم من عثمان.
وهذه هي الأسماء الواردة في قول سعيد بن المسيب ، أمّا ما ورد عند غيره ، فقد عرفنا من خلال معرفة مواقف ابن مسعود وأبي ذر وعمّار وعائشة الآنفة الذكر مجموعة أسماء وقبائل سخطت ولاية عثمان وولاته.
فقد عرفنا أنّ بني هذيل وبني زهرة وبني غفّار وأحلافها كلّها غضبت لما جرى على ابن مسعود وأبي ذر.
وعرفنا أن بني مخزوم كذلك حنقت على عثمان لحال عمّار حتى قالوا لئن مات عمّار لنقتلن به رجلاً من بني أمية. وكانوا يعنون به عثمان.
وعرفنا سخط الشهود الوافدين من الكوفة يشهدون على الوليد أفعاله المنكرة وما لحقهم من وعيد عثمان حتى استجاروا بعائشة.
وعرفنا ثمة سبعمائة وفد أهل مصر جاؤا يشكون ما يلقون من ظلم ابن أبي سرح.
وعرفنا ثمة أناس من أهل المدينة أيّدوا عائشة في استنكارها فعل عثمان مع أهل العراق ، واضطربوا بالنعال مع أنصار عثمان وكان ذلك أوّل قتال بين المسلمين.
وعرفنا سخط بني تيم وغيرهم ممن أجلب بهم محمّد بن أبي بكر ، وأعانه طلحة بن عبيد الله ومن ورائهما عائشة حيث كانت تقرص عثمان كثيراً.
وعرفنا أنّ المهاجرين اجتمعوا على عثمان فأنكروا عليه صنعه مع عمّار.
وعرفنا أنّ خمسين رجلاً من المهاجرين والأنصار كتبوا أحداث عثمان وما نقموا عليه ، منهم المقداد وطلحة والزبير. وأخيراً عرفنا أنّ الناس استقبحوا ما فعله بعمّار وشاع فيهم فاشتد إنكارهم له.
ولم يكن الساخطون من ذكرناهم فقط ، بل هناك آخرون كثيرون حتى جاء في حديث للواقدي : ولا ينكر ما يقال فيه إلّا نُفَير. وجاء في حديث المسعودي : وغير هؤلاء ممّن لا يحمل كتابنا ذكره ، فلنقرأ ما قاله الواقدي والمسعودي.
قال الواقدي بإسناده : « لمّا كانت سنة 34 كتب أصحاب رسول الله صلّى الله عليه وآله وسلّم بعضهم إلى بعض يتشاكون سيرة عثمان وتغييره وتبديله ، وما الناس فيه من عمّاله ويكثرون عليه ، ويسأل بعضهم أن يقدموا المدينة إن كانوا يريدون الجهاد. ولم يكن أحد من أصحاب رسول الله صلّى الله عليه وآله وسلّم يدفع عن عثمان ، ولا ينكر ما يقال فيه ( إلّا نفير منهم ) (57) زيد بن ثابت وأبو أسيد الساعدي وكعب بن مالك بن أبي كعب من بني سلمة من الأنصار وحسان بن ثابت الأنصاري » (58).
وقال المسعودي في مروج الذهب في حديث حصار الثوار ومقتل عثمان بداره : « وأحدقوا بداره بالسلاح وطالبوه بمروان ، فأبى أن يتخلى عنه ، وفي الناس بنو زهرة لأجل عبد الله بن مسعود لأنّه كان من أحلافها ، وهذيل لأنّه كان منها ، وبنو مخزوم وأحلافها لعمّار ، وغفار وأحلافها لأجل أبي ذر ، وتيم بن مرّة مع محمّد بن أبي بكر وغير هؤلاء ممّن لا يحمل كتابنا ذكره » (59).
قال طه حسين في كتابه الفتنة الكبرى عثمان : « فسياسة عثمان في العزل والتولية لم تكن ملائمة للعهد الّذي أعطاه ، وليس من شك في أنّ الذين ضاقوا بهؤلاء العمّال وثاروا عليهم ونقموا من عثمان توليتهم لم يكونوا مخطئين » (60).
الهوامش
1. الفتنة الكبرى 1 / 190 و 197.
2. أنساب الأشراف 1 ق 4 / 512.
3. مستدرك الحاكم 3 / 317 ـ 318 ، مجمع الزوائد 9 / 290 ، الاستيعاب 1 / 371.
4. راجع تفاسير الخازن والألوسي والسيوطي وغيرها.
5. أنساب الاشراف 1 ق 4 / 518 تحـ إحسان عباس ، وفي تاريخ الطبري 4 / 251 ـ 252 ذكر نحو ذلك بين ابن مسعود وسعد بن أبي وقاص فكان ذلك سبب عزل سعد عن الكوفة وتوليته أخاه الوليد. فراجع.
6. وهذا تعيير مبطّن لعثمان إذ كان لم يحضرهما فكان يعاني منهما عقدة النقص حيث كان يعيّر بذلك وسيأتي تعيير عبد الرحمن بن عوف له بذلك أيضا.
7. أحسب أن البلاذري أدرج كلام ابن الكلبي ليعرّف القرّاء بزبيد وانه أخو كثير بن الصلت الّذي كان كاتباً لعبد الملك بن مروان ( تهذيب التهذيب ترجمته ).
8. نفس المصدر.
9. راجع طبقات ابن سعد 4 ق 1 / 161 ، وصحيح مسلم في المناقب ، وحلية الأولياء 1 / 159 ، والاستيعاب 2 / 664 ط حيدر آباد.
10. التوبة / 34.
11. أنساب الأشراف 1 ق 4 / 541.
12. آل عمران / 33.
13. الشعراء / 227.
14. تاريخ اليعقوبي 2 / 148 ط الغري.
15. أنساب الأشراف 1 ق 4 / 542.
16. طبقات ابن سعد 4 ق 1 / 168.
17. أنساب الأشراف 1 ق 4 / 543.
18. مروج الذهب 2 / 329 تحـ محمّد محي الدين عبد الحميد.
19. أنساب الأشراف 1 ق 4 / 544.
20. شرح النهج لابن أبي الحديد 2 / 377 ط مصر الأولى.
21. صحيح البخاري 1 / 21 ط بولاق في كتاب العلم باب العلم قبل القول.
أقول : لم يذكر البخاري تمام ما قاله أبو ذر ، وغضّ الطرف عن سبب ذلك لما فيه من تحريج وتهريج. وإليك ما قاله أبو ذر برواية حميد بن زنجويه في كتابه الأموال ـ وهذا من معاصري البخاري ، فإنه مات سنة 251 قبل وفاة البخاري بخمس سنين ـ روى في كتابه الأموال برقم 1578 / 892 ط مركز الملك فيصل سنة 1406 هـ بسنده عن أبي ذر أن رجلاً أتاه فقال : إن مصدّقي رسول الله صلّى الله عليه وآله وسلّم أتونا فصدّقونا ثمّ أتانا مصدّقو ( أبا بكر ) فصدّقونا كما صدّقنا مصدّقو رسول الله صلّى الله عليه وآله وسلّم ثمّ أتانا مصدّقو عمر فصدّقونا كذلك. ثمّ أتى مصدّقو عثمان فصدّقونا كذلك صدراً من خلافته ، ثمّ ازدادوا علينا ، أفأغيّب عنهم من مالي بقدر ما ازدادوا علينا ؟ فقال : لا قف بمالك عليهم ، وقل : ما كان لكم من حقّ فخذوه ، وما كان باطلاً فذروه ، فما تعدّوا عليك ، جعل في ميزانك يوم القيامة. وعلى رأسه فتى من قريش فقال : ما نهاك أمير المؤمنين عن الفتيا. قال : أرقيبٌ أنت عليّ ؟ فوالذي نفسي بيده ، لو وضعتم الصمصامة ها هنا ثمّ ظننت أنّي منفذ كلمة سمعتها من رسول الله صلّى الله عليه وآله وسلّم قبل أن تجيزوا عليّ لأنفذتها.
وكذلك أخرجه الدارمي في سننه 1 / 112 ط دار المحاسن للطباعة سنة 1386 هـ موصولاً من طريق الأوزاعي حدثني أبو كثير ـ يعني مالك بن مرتد ـ عن أبيه قال أتيت أبا ذر وهو جالس عند الجمرة الوسطى ، وقد اجتمع عليه الناس يستفتونه ، فأتاه رجل فوقف عليه ثمّ قال : ألم تنه عن الفتيا ؟ فرفع رأسه إليه فقال : أرقيب أنت عليّ. لو وضعتم فذكر مثله.
وأخرجه أبو نعيم في حلية الأولياء 1 / 160 ط السعادة بمصر.
وأخرجه ابن حجر في فتح الباري 1 / 171 ط مصطفى البابي الحلبي سنة 1378 هـ.
23. مروج الذهب 2 / 350.
24. شرح النهج لابن أبي الحديد 2 / 375 / 376.
25. لا يتوهم انّه ابن العباس بن عبد المطلب فإنه مات في أيام عمر في طاعون عمواس ، بل هذا هو الفضل بن العباس اللهبي.
26. أمالي المفيد / 89 ط الحيدرية سنة 1367 هـ.
27. يريد بهما الكوفة والبصرة ، فقد كان واليه على الكوفة الوليد بن عقبة بن أبي معيط أخاً عثمان لأمه ، وعلى البصرة عبد الله بن عامر وهو ابن خاله.
28. شرح النهج لابن أبي الحديد 2 / 375 ط مصر الأولى.
29. نفس المصدر 2 / 377.
30. نفس المصدر / 374.
31. طبقات ابن سعد 4 ق 1 / 173.
32. أنساب الأشراف 1 ق 4 / 544 تحـ إحسان عباس بيروت.
33. أنظر تفسير الزمخشري والرازي والخازن والبيضاوي والآلوسي في تفسير قوله تعالى : ( إِلَّا مَنْ أُكْرِهَ وَقَلْبُهُ مُطْمَئِنٌّ بِالْإِيمَانِ ).
34. طبقات ابن سعد 3 / 187.
35. المتكاء. البظراء فحش لا ينبغي لمثل عثمان في سنّه وشأنه أن يقوله ، ولكن يبدو أنّه كان يستمرئ الفحش فقد مرّ قوله لعمار أيضاً يا عاض أير أبيه. وهذا يأبى التصديق بما يصفه به علماء التفخيم ورواة المناقب بأنه كان حيياً فأين الحياء من قائل هذا الفحش ؟ ولقد أنكر الزهري حديث تستحي منه الملائكة فقد روى عبد الرزاق في المصنف 11 / 233 حديث عائشة ودخول أبي بكر وعمر وعثمان متعاقبين وهي مع النبيّ صلّى الله عليه وآله وسلّم في مرط واحد وانه صلّى الله عليه وآله وسلّم أصلح عليه ثيابه وجلس لمّا دخل عليه عثمان فسألته عن ذلك فقال أن عثمان رجل حيي قال الزهري : وليس كما يقول الكذابون : ألا استحيي من رجل تستحي منه الملائكة.
36. الأوائل / 133 ط دار المعرفة.
37. أنساب الأشراف 1 ق 4 / 537 ـ 538 و 580 ـ 581.
38. الرياض النضرة 2 / 140.
39. أنساب الأشراف 1 ق 4 / 539.
40. تاريخ اليعقوبي 1 / 130 ط الغري.
41. صحيح البخاري كتاب الهبة باب من أهدى إلى صاحبه وتحرّى بعض نسائه دون بعض 3 / 156 ط بولاق.
42. تاريخ اليعقوبي 2 / 152.
43. بحار الأنوار 8 / 320 ط الكمپاني الحجري.
44. الصديقة بنت الصديق / 138 سلسلة الهلال.
45. الأغاني 4 / 180.
46. أنساب الأشراف 1 ق 4 / 522.
47. أنساب الأشراف 1 ق 4 / 557.
48. نفس المصدر / 565.
49. طبقات ابن سعد 5 / 25.
50. أنساب الأشراف 1 ق 4 / 565.
51. تاريخ الطبري 4 / 407.
52. أنساب الأشراف 1 ق 4 / 583.
53. أنظر شرح النهج لابن أبي الحديد 2 / 77.
54. نفس المصدر.
55. نفس المصدر.
56. نفس المصدر.
57. في الطبري وابن الأثير والنويري.
58. أنساب الأشراف 1 ق 4 / 549 ، وتاريخ الطبري 4 / 336.
59. مروج الذهب 2 / 353 تحـ محمّد محي الدين عبد الحميد ط مصر.
60. الفتنة الكبرى 1 / 189 ط دار المعارف.
مقتبس من كتاب : [ موسوعة عبدالله بن عبّاس ] / المجلّد : 2 / الصفحة : 187 ـ 216
التعلیقات