قصّة فدك والتصالح مع أهالي وادي القرى
الشيخ جعفر السبحاني
منذ 4 سنواتقصّة فدك والتصالح مع أهالي وادي القرىٰ
لمّا فرغ رسول الله من خيبر قذف الله الرعب في قلوب أهل « فدك » حين بلغهم ما أوقع الله تعالى بأهل خيبر ، فبعثوا إلى رسول الله يصالحونه على النصف من فدك فقدمت عليه رسلهم بخيبر ، فقبل ذلك منهم رسول الله ، فكانت فدك لرسول الله ( صلّى الله عليه وآله وسلّم ) خالصة لأنّه لم يوجف عليها من خيل ولا ركاب (1).
قال سبحانه : ( وَمَا أَفَاءَ اللَّـهُ عَلَىٰ رَسُولِهِ مِنْهُمْ فَمَا أَوْجَفْتُمْ عَلَيْهِ مِنْ خَيْلٍ وَلَا رِكَابٍ وَلَـٰكِنَّ اللَّـهَ يُسَلِّطُ رُسُلَهُ عَلَىٰ مَن يَشَاءُ وَاللَّـهُ عَلَىٰ كُلِّ شَيْءٍ قَدِيرٌ ) ( الحشر / 6 ).
كانت فدك منطقة خصبة كثيرة الخير قرب خيبر وهي تقع في وادي القرى ، فقد شاء الله تبارك وتعالى أن تكون ملكاً مطلقاً للرسول الأكرم يصرفه في مصالح الإسلام والمسلمين حسبما يشاء ، ومن ثمّ وهب رسول الله فدكاً لابنته الطاهرة وذلك بعد ما نزل قوله سبحانه :
( وَآتِ ذَا الْقُرْبَىٰ حَقَّهُ وَالْمِسْكِينَ وَابْنَ السَّبِيلِ وَلَا تُبَذِّرْ تَبْذِيرًا ) ( الإسراء / 26 ).
وأكّد المفسّرون من الشيعة والسنّة على أنّها نزلت في أقرباء رسول الله وبالأخص ابنته الزهراء ( عليها السلام ) فإنّها كانت أقوى مصاديق « ذى القربى » وكان المسلمون يعرفونها بأنّها هي المراد من الآية.
يقول السيوطي :
« كان علي بن الحسين السجّاد ( عليه السلام ) في الشام بعد واقعة كربلاء فسأله بعض الشاميين عن نسبه ، فتلى علي بن الحسين ( عليه السلام ) تلك الآية للتعريف عن نفسه ، فقال الشامي متعجّباً : وإنّكم القرابة التي أمر الله أن يعطى حقّها » ؟! (2).
نعم اختلفوا في أنّ النبي وهب ساعة نزول الآية فدكاً لابنته فاطمة أو لا ؟ فالشيعة على الأوّل ووافقهم جمع من السنّة ، وإن خالف بعضهم الآخر.
ولمّا أراد المأمون العباسي إعادة فدك إلى بني الزهراء كتب إلى المحدّث المعروف عبد الله بن موسى وطلب منه أن يرشده في هذا الأمر ، فوافاه الجواب بالإيجاب ، فأعاد المأمون فدكاً إلى أبناء الزهراء وذرّيتها (3).
وقد جلس المأمون ذات يوم على كرسي خاصّ للإستماع إلى مظالم الناس وشكاياتهم ، فكانت أوّل ما اُعطي له رسالة وصف صاحبها نفسه فيها بأنّه يدافع عن الزهراء ، فقرأ المأمون الرسالة وبكى مدّة ، ثم قال : من هذا المحامي عن الزهراء ، فقام شيخ كبير وقال : أنا هو ذا ، فانقلب مجلس المأمون من مجلس القضاء إلى مجلس الحوار بينه وبين ذلك الشيخ ووجد نفسه محجوجاً لأدلّة الشيخ ، فأمر رئيس ديوانه بالكتابة إلى عامله أن يردّ فدك إلى أبناء الزهراء ، ثمّ وشّحه المأمون بتوقيعه ، وفي ذلك يقول دعبل الخزاعي :
أصبح وجه الزمان قد ضحكا |
بردّ مأمونٍ هاشمَ فدكا (4) |
وليست الشيعة بحاجة في ذلك المقام إلى إقامة الدلائل بأنّ فدكاً كانت ملكاً موهوباً لبنت رسول الله ( صلّى الله عليه وآله وسلّم ) ويكفي في ذلك ما قاله الإمام علي ( عليه السلام ) في رسالته إلى عثمان بن حنيف عامله بالبصرة :
« بلى كانت في أيدينا فدك من كلّ ما أظلّته السماء ، فشحّت عليها نفوس قوم وسخت عنها نفوس قوم آخرين ، ونعم الحكم الله ! » (5).
لقد بدأ منع بني الزهراء من فدك في عهد الخليفة الأوّل ، وكان الحال على ذلك حتّى تسنّم معاوية سدّة الحكم ، فوّزع فدكاً بين ثلاثة هم : مروان بن الحكم وعمرو بن العثمان وابنه يزيد ، ولمّا ولّى الأمر مروان ابن الحكم ، سيطر على فدك بصورة كاملة ووهبها لابنه عبد العزيز وهو وهبها لولده عمر بن عبد العزيز (6).
وهو أوّل من ردّ فدك إلى بني فاطمة ، ثمّ انتزعها الخلفاء الذين توالوا بعده من أبناء الزهراء ، وكانت بأيديهم حتّى انقرض حكم الأمويين.
وقد اضطرب أمر فدك اضطراباً عجيباً أيام الخلافة العباسية ، فلمّا ولّي أبوالعباس السفّاح ردّها على عبد الله بن الحسن بن الحسن ، ثمّ قبضها أبو جعفر من بني الحسن ، ثمّ ردّها محمد المهدي ابنه على ولد فاطمة ( عليها السلام ) ، ثمّ قبضها موسى الهادي بن المهدي وهارون أخوه ، لأسباب سياسيّة خاصّة ، حتّى وصل الدور إلى المأمون فردّها على الفاطميين أصحابها الشرعيّين ضمن تشريفات خاصة وبصورة رسمية ، ثمّ اضطرب أمر فدك من بعده أيضاً ، فربّما سلبت من أصحابها وربّما ردّت إليهم ، وهكذا تراوحت بين السلب والردّ.
ولقد اُستغلّت فدك في عهد الأمويين والعباسيين في أغراض سياسية بحتة قبل أن تستغل في أغراض إقتصاديّة.
فلقد كان الخلفاء في صدر الإسلام يحتاجون إلى عائدات فدك المالية مضافاً إلى أنّهم انتزعوها من يد الإمام علي ( عليه السلام ) لغرض سياسي ، ولكن في العصور المتأخّرة عن ذلك كثرت ثروة الخلفاء وزادت زيادة هائلة بحيث لم يكونوا بحاجة إلى عائدات فدك ، ولهذا فإنّ عمر بن عبد العزيز لمّا أعاد فدكاً إلى بني فاطمة إحتجّ عليه بنو اُميّة واعترضوا قائلين : « هجنت فعل الشيخين ، وإن أبيت إلّا هذا فامسك الأصل واقسم الغلّة » (7).
إنّ دراسة قصّة فدك وما ورد حولها من الأقوال والآراء يحتاج إلى بسط في الكلام وهو خارج عن مقاصد هذه الموسوعة ، وقد أشبعنا الكلام فيها في بعض كتبنا الخاصّة ببيان سيرة الأئمّة الطاهرين وفي مقدّمتهم أمير المؤمنين علي ( عليه السلام ) فمن شاء فليرجع إليه.
الهوامش
1. السيرة النبويّة لابن هشام ج 2 ص 353.
2. الدر المنثور ج 4 ص 176 ، مجمع البيان ج 3 ص 411.
3. مجمع البيان ج 3 ص 411 ، وفتوح البلدان ص 46.
4. شرح نهج البلاغة ، لابن أبي الحديد ج 16 ص 217.
5. نهج البلاغة ، الكتاب رقم 45.
6. شرح نهج البلاغة ج 16 ص 216.
7. شرح نهج البلاغة لابن أبي الحديد ج 16 ص 278.
مقتبس من كتاب : [ مفاهيم القرآن ] / المجلّد : 7 / الصفحة : 313 ـ 316
التعلیقات