في نبوّة إدريس عليه السلام
قطب الدين سعيد بن هبة الله الراوندي
منذ سنتينفي نبوّة إدريس عليه السلام
أخبرنا السيد أبو الصّمصام ذو الفقار بن أحمد بن معبد (1) الحسيني ، حدّثنا الشّيخ أبو جعفر الطّوسي ، حدّثنا الشيخ المفيد أبو عبد الله ، حدّثنا الشّيخ أبو جعفر بن بابويه ، حدثنا أبي ، حدثنا سعد بن عبد الله ، عن أحمد بن محمد بن عيسى ، عن الحسن بن محبوب ، عن ابراهيم بن أبي البلّاد ، عن أبيه ، عن أبي جعفر صلوات الله عليه قال : كان نبوّة إدريس عليه السلام أنه كان في زمنه ملك جبّار وأنّه ركب ذات يوم في بعض نزهة ، فمرّ بأرض خضرة نضرة لعبد مؤمن فأعجبته ، فسأل وزراءه لمن هذه ؟ فقالوا : لفلان ، فدعا به ، فقال له : أمتعني (2) بأرضك هذه ، فقال : عيالي أحوج إليها منك ، فغضب الملك وانصرف إلى أهله.
وكانت له امرأة من الأزارقة يشاورها في الامر إذا نزل به ، فخرجت إليه فرأت في وجهه الغضب ، فقالت : أيّها الملك انّما يغتم ويأسف من لا يقدر على التّغيير ، فان كنت تكره أن تقتله بغير حجة ، فأنا أكفيك أمره وأصيّر أرضه بيدك بحجة لك فيها العذر عند أهل مملكتك ، فقال : ما هي ؟
قالت : أبعث أقواماً من أصحابي الأزارقة حتى يأتوك به ، فيشهدون لك عليه عندك أنّه قد برىء من دينكم ، فيجوز لك قتله وأخذ أرضه ، قال : فافعلي وكان أهلها يرون قتل المؤمنين ، فأمرتهم بذلك ، فشهدوا عليه أنّه برىء من دين (3) الملك ، فقتله واستخلص أرضه.
فغضب الله تعالى للمؤمن فأوحى الى إدريس عليه السلام ان ائت عبدي الجبار فقل له : أما رضيت أن قتلت عبدي المؤمن ظلماً حتى استخلصت أرضه ، فأحوجت (4) عياله من بعده وأجعتهم (5) ، أما وعزّتي لأنتقمنَّ له منك في الآجل ، ولأسلبنّك ملكك في العاجل ، ولأطعمنّ الكلاب من لحمك ، فقد غرّك حلمي ، فأتاه إدريس عليه السلام برسالة ربِّه ، وهو في مجلسه وحوله أصحابه.
فقال الجبار : اخرج عنّي يا ادريس ، ثمَّ أخبر امراته بما جاءَ به إدريس صلوات الله عليه ، فقالت : لا تهولنّك رسالة إدريس أنا أرسل اليه من يقتله وأكفيك أمره ، وكان لإِدريس صلوات الله عليه أصحاب مؤمنون يأنسون به ويأنس بهم ، فأخبرهم بوحي الله ورسالته (6) إلى الجبّار ، فخافوا على إدريس منه.
ثم بعثت امرأة الجبار أربعين رجلاً من الازارقة ليقتلوا إدريس ، فأتوه فلم يجدوه في مجلسه ، فانصرفوا ورآهم أصحاب إدريس ، فأحسّوا بأنّهم يريدون (7) قتل إدريس عليه السّلام ، فتفرّقوا في طلبه وقالوا له : خذ حذرك يا إدريس ، فتنحّى عن القرية (8) من يومه ذلك ومعه نفرٌ من أصحابه ، فلمّا كان في السّحر ناجى ربَّه ، فأوحى الله إليه أن تنحّ عنه وخلَّني وايّاه.
قال إدريس صلوات الله عليه : أسألك أن لا تمطر السّماء على أهل هذه القرية ، وان خربت وجهدوا وجاعوا. قال الله تعالى : إنّي قد أعطيتك ما سألته ، فأخبر إدريس أصحابه بما سأل الله من حبس المطر عليهم وعنهم ، وقال : اخرجوا من هذه القرية إلى غيرها من القرى ، فتفرقوا وشاع الخبر بما سأل إدريس عليه السّلام ربّه.
وتنحّى إدريس إلى كهف في جبل شاهق ، ووكّل الله تعالى ملكاً يأتيه بالطّعام عند كلّ مساء ، وكان يصوم النّهار ، وظَهَرَ في المدينة جبّار آخر ، فسلب ملكه ـ أعني : الاول ـ (9) وقتله وأطعَمَ الكلاب لحمه ولحم امرأته ، فمكثوا بعد إدريس عشرين سنة لم تمطر السماء عليهم مطرة ، فلما جهدوا ومشى بعضهم إلى بعض.
فقالوا : إنَّ الّذي نزل بنا مما ترون بسؤال إدريس عليه السلام ربّه ، وقد تنحّى عنّا ولا علم لنا بموضعه ، والله أرحم بنا منه ، فأجمعوا أمرهم على أن يتوبوا إلى الله تعالى ، فقاموا على الرّماد ، ولبسوا المسوح ، وحثّوا على رؤوسهم التّراب ، وعجّوا إلى الله بالتّوبة والاستغفار والبكاء والتّضرع إليه.
فأوحى الله تعالى إلى الملك الّذي يأتي إدريس عليه السلام بطعامه : أن أحبس طعامه عنه ، فجاع إدريس عليه السلام ليلة ، فلمّا كان في ليلة اليوم الثّاني لم يؤت بطعامه قلّ صبره وكذلك (10) اللّيلة الثّالثة ، فنادى يا ربّ حبست عنّي رزقي من قبل أن تقبض روحي.
فأوحى الله إليه اهبط من موضعك ، واطلب المعاش لنفسك ، فهبط إلى قرية فلمّا دخلها نظر الى دخان بعض منازلها ، فأقبل نحوه فهجم على عجوز كبيرة وهي ترفق قرصين لها على مقلاة ، فقال : بيعي منّي (11) هذا الطّعام ، فحلفت أنّها ما تملك شيئاً غيرهما (12) واحد لي وواحدٌ لإِبني ، فقال : إنّ ابنك صغير يكفيه نصف قرصة فيحيى به ويجزيني النّصف الآخر ، فأكلت المرأة قرصها ، وكسرت القرص الآخر بين إدريس وبين ابنها ، فلمّا رآى ابنها إدريس يأكل من قرصته اضطرب حتّى مات ، فقالت يا عبد الله : قتلت ابني جزعاً على قوته ، فقال لها إدريس عليه السلام : أحييه باذن الله ولا تجزعي.
ثمَّ أخذ إدريس بعضد الصّبيّ وقال : أيتها الرّوح الخارجة عن هذا الغلام ارجعي إليه وإلى بدنه باذن الله تعالى ، أنا إدريس النبيّ ، فرجعت روح الغلام إليه ، فقالت أشهد أنك إدريس النّبيّ ، وخرجت ونادت في القرية بأعلى صوتها : إبشروا بالفرج قد دخل إدريس عليه السلام قريتكم.
ومضى إدريس حتى جلس على موضع مدينة الجبّار الاوّل وهي تلّ ، فاجتمع إليه النّاس من أهل قريته (13) ، فقالوا مسّنا الجوع والجهد في هذه العشرين سنة ، فادع الله تعالى لنا أن يمطر علينا ، قال إدريس عليه السلام : لا أدعوا حتّى يأتيني (14) جبّاركم وجميع أهل قريتكم شاة حفاة ، فبلغ الجبّار قوله ، فبعث إليه أربعين رجلاً يأتوه بادريس ، فأتوه وعنفوا به ، فدعا عليهم فماتوا ، فبلغ الجبار الخبر ، فبعث إليه خمسمائة رجل ، فقالوا له : يا إدريس إنّ الملك بعثنا إليك لنذهب بك إليه ، فقال لهم إدريس عليه السّلام : انظروا إلى مصارع أصحابكم قالوا : متنا بالجوع (15) فارحم وادع الله أن يمطر علينا فقال : حتّى يأتي الجبّار.
ثمَّ إنهم سألوا الجبّار أن يمضي معهم ، فأتوه وقفوا بين يديه خاضعين ، فقال إدريس عليه السلام : الآن ، فنعم. فسأل الله أن يمطر عليهم فأظلّتهم سحابة من السّماء ، فارعدت وأبرقت وهطلت عليهم (16).
الهوامش
1. في ق 4 : سعيد ـ خ ل.
2. في ق 2 : متعني.
3. في ق 1 وق 4 وق 5 : عن دين.
4. في ق 2 : فأخرجت.
5. في ق 3 : وأحوجتهم. وفي ق 4 : وأفجعتهم.
6. في ق 2 وق 4 وق 5 : ورسالاته.
7. في ق 2 : أرادوا.
8. في ق 3 : عن القوم.
9. في ق 3 : فسلب ملك الأول.
10. في ق 1 وق 3 وق 4 وق 5 : وكذا.
11. في ق 2 وق 4 : من.
12. في ق 2 : منه شيئاً غيرها.
13. في ق 3 : القرية.
14. في ق 2 : يأتني.
15. في ق 3 : مسّنا الجوع.
16. ذكر العلامة المجلسي نحوه مع اختلاف كثير في الالفاظ مع التّحفظ لروح القصّة عن اكمال الدّين في البحار (11 / 271 ـ 276) ، برقم : (2) ، واكتفى بذلك عن التنصيص على عبارات القصّة عن قصص الانبياء.
مقتبس من كتاب : قصص الأنبياء / الصفحة : 73 ـ 76
التعلیقات