القبر وعالم البرزخ
الشيخ جعفر السبحاني
منذ سنتينالقبر وعالم البرزخ
إذا كانت حالة الاحتضار نهاية النشأة الأُولى وبداية النشأة الثانية ، فالتكفين والصلاة على الميت والتدفين في القبر ، هو المنزل الثاني من النشأة الثانية ، وهو منزل ضيق للغاية ، ولعل الإنسان لا أُنس له بهذا النوع من المنازل ، وتنقطع صلته عن الحياة الدنيويّة إذا وُري جثمانه الثرىٰ ، وهذا أمر ملموس ، يشير إليه قوله سبحانه : ( ثُمَّ أَمَاتَهُ فَأَقْبَرَهُ ) (1).
ولكن في بطن هذا المنزل من تلك النشأة ، عالم فسيح يحيا فيه الإنسان لا بهذا البدن المقبور ، بل ببدن يناسب تلك النشأة ، وهو البدن المثالي الذي له آثار المادة وإن تجرّد عنها ، وهذا ما يعبر عنه بعالم البرزخ ، وقد صرح به الذكر الحكيم ، يقول تعالى : ( وَمِن وَرَائِهِم بَرْزَخٌ إِلَىٰ يَوْمِ يُبْعَثُونَ ) (2) ، فقوله : ( وَمِن وَرَائِهِم ) بمعنى أمامهم لا بمعنى خلفهم ، بشهادة قوله سبحانه : ( وَكَانَ وَرَاءَهُم مَّلِكٌ يَأْخُذُ كُلَّ سَفِينَةٍ غَصْبًا ). (3)
والبرزخ بمعنى الحائل والفاصل ، يقول تعالىٰ : ( بَيْنَهُمَا بَرْزَخٌ لَّا يَبْغِيَانِ ) (4) وإنّما أطلق على هذا النوع من الحياة لفظ البرزخ ، لأجل الفصل بين الحياتين علىٰ وجه لا يمكن للإنسان أن يتجاوز الفاصل والحائل ويعود إلى الدنيا.
والآيات الدالة عليه كثيرة.
منها : ما دلّت على تجرّد النفس وبقائها بعد الموت ، وقد مرّ ما يدل على ذلك.
ومنها : ما دلت على حياة الشهداء ، وانّهم في ذلك العالم فرحين مستبشرين بنعم الله سبحانه.
ومنها : ما ورد في حقّ آل فرعون ، وانّهم يعرضون على النار غدواً وعشياً ، ويوم القيامة يدخلون النار ، كما ورد نظيره في حقّ قوم نوح عليه السلام وقد مرّت هذه الآيات في فصل تجرد النفس فلاحظ.
وثمّة آيات أُخرى تدل على الحياة البرزخية لم نذكرها فيما سبق.
قال سبحانه : ( قَالُوا رَبَّنَا أَمَتَّنَا اثْنَتَيْنِ وَأَحْيَيْتَنَا اثْنَتَيْنِ فَاعْتَرَفْنَا بِذُنُوبِنَا فَهَلْ إِلَىٰ خُرُوجٍ مِّن سَبِيلٍ ). (5)
فالآية تحكي عن إماتتين وإحياءين ، فالإماتة الأُولىٰ في النشأة الدنيا ، والإماتة الثانية في عالم البرزخ عند نفخ الصور.
يقول سبحانه : ( وَنُفِخَ فِي الصُّورِ فَصَعِقَ مَن فِي السَّمَاوَاتِ وَمَن فِي الْأَرْضِ إِلَّا مَن شَاءَ اللَّـهُ ). (6) فالموت عند نفخ الصور يلازم وجود الحياة قبل النفخ ، وليس هو إلّا الحياة البرزخية ، وأمّا الإحياءان فالأوّل منهما عبارة عن الحياة في عالم البرزخ ، والثاني هو الإحياء بعد نفخ الصور. يقول سبحانه : ( وَنُفِخَ فِي الصُّورِ فَإِذَا هُم مِّنَ الْأَجْدَاثِ إِلَىٰ رَبِّهِمْ يَنسِلُونَ ). (7)
ولأجل إعطاء صورة واضحة عن طبيعة الإماتتين والإحياءين ، نقول :
الإماتة الأُولىٰ عند حلول أجله القطعي.
والإماتة الثانية عند نفخ الصور الأوّل.
والإحياء الأوّل بعد الموت وانتقاله إلى النشأة الأُخرى.
والإحياء الثاني عند نفخ الصور الثاني.
وبهذا يعلم وجود الحياة البرزخية بين النشأة الأُولى وقيام الساعة.
وقد ذكر لهاتين الإماتتين ، وهذين الإحياءين ، وجه آخر ولكن لا ينطبق على ظواهر الآيات.
الحياة البرزخية في الروايات
وقد وردت أحاديث كثيرة في كيفية وطبيعة ذلك العالم نقتصر علىٰ هذا الحديث.
روى أبو بصير ، قال : سألت أبا عبد الله عليه السلام عن أرواح المؤمنين ، فقال : « في حجرات في الجنة يأكلون من طعامها ، ويشربون من شرابها ، ويقولون ربّنا أقم لنا الساعة ، وانجز لنا ما وعدتنا » وسألته عن أرواح المشركين ، فقال : « في النار يعذبون ويقولون ربّنا لا تقم لنا الساعة ولا تنجز لنا ما وعدتنا ». (8)
السؤال في معنى القبر
يطلق القبر ويراد منه تارة ذلك المكان الضيّق ، وأُخرى ما يعيش فيه الإنسان بالبدن البرزخي في عالم فسيح ، فقد يطلق القبر في الروايات ويراد منه هذا المعنى.
روى الزهري ، عن علي بن الحسين عليهما السلام ، انّه عليهالسلام تلا قوله تعالى : ( وَمِن وَرَائِهِم بَرْزَخٌ إِلَىٰ يَوْمِ يُبْعَثُونَ ) (9) وقال : « هو القبر ، وانّه لهم فيه لمعيشة ضنكا ، والله إنّ القبر لروضة من رياض الجنة ، أو حفرة من حفر النار ». (10)
روى الكليني ، عن عمرو بن يزيد ، قلت لأبي عبد الله : إنّي سمعتك ، وأنت تقول : كلّ شيعتنا في الجنة علىٰ ما كان فيهم ، قال : « صدّقتك ، كلّهم والله في الجنة » قال : قلت : جعلت فداك انّ الذنوب كثيرة كبائر ، فقال : « أمّا في القيامة فكلّكم في الجنة بشفاعة النبي المطاع ، أو وصيّ النبيّ ، ولكنّي والله أتخوّف عليكم في البرزخ » قلت : وما البرزخ ؟ قال : « القبر منذ حين موته إلىٰ يوم القيامة ». (11)
وعلى ذلك فكلّما أُطلق القبر فهو كناية عن تلك الحياة ، وذلك العالم الفسيح ، والآيات والروايات تشهد على أنّه أمر عام يشمل جميع أفراد الإنسان دون فرق بين من مات حتف أنفه أو افترسه السبع أو غرق في الماء ، ومن تحوّل بدنه إلىٰ تراب فأثارته الرياح ونشرته ، فأكثر هؤلاء لا قبر لهم بالمعنى الملموس ، وإن كان لهم قبر بالمعنى الكنائي.
إذا عرفت معنى القبر في الروايات ، فهنا مسائل ثلاث :
1. السؤال في القبر.
2. ما يسأل عنه.
3. عمّن يسأل.
السؤال في القبر
قال الصدوق في رسالة العقائد : اعتقادنا في المسألة في القبر أنّها حقّ لابدّ منها ، فمن أجاب بالصواب ، فإذا بروح وريحان في قبره ، وبجنة نعيم في الآخرة ؛ ومن لم يأت بالصواب فله نزل من حميم في قبره ، وتصلية جحيم في الآخرة. (12)
وقال الشيخ المفيد : جاءت الآثار الصحيحة عن النبي صلّى الله عليه وآله وسلّم ، أنّ الملائكة تنزل على المقبورين فتسألهم على أديانهم ، وألفاظ الأخبار بذلك متقاربة فمنها أنّ ملكين لله تعالىٰ ، يقال لهما ناكر ونكير ينزلان على الميّت فيسألانه عن ربِّه ونبيه ودينه وإمامه ، فإن أجاب بالحقّ سلّموه إلى ملائكة النعيم ، وإن ارتج عليه سلموه إلى ملائكة العذاب. (13)
وقال المحقّق الطوسي : وعذاب القبر واقع للإمكان وتواتر السمع بوقوعه. (14)
والسؤال في القبر والتعذيب والتنعيم من العقائد الإسلامية التي اتّفقت عليها كافّة الفرق الإسلامية.
قال أحمد بن حنبل : وعذاب القبر حقّ يسأل العبد عن دينه ، وعن ربّه ، ويرىٰ مقعده من النار والجنة ، ومنكر ونكير حقّ. (15)
وقال الإمام الأشعري : ونؤمن بعذاب القبر ومنكر ونكير ومساءلتهما المدفونين في قبورهم. (16)
وقال القاضي عبد الجبار ـ وهو من أعاظم متكلّمي المعتزلة في القرن الخامس ـ : لا خلاف فيه بين الأُمّة ، إلّا شيء يحكىٰ عن ضرار بن عمرو ، وكان من أصحاب المعتزلة ، ثمّ التحق بالمجبرة ، ولهذا ترىٰ ابن الراوندي يشنع علينا ، ويقول : إنّ المعتزلة ينكرون عذاب القبر ولا يقرّون به. (17)
وهذا النوع من الاعتقاد العام رهن روايات وردت في القبر وسؤاله وعذابه ، والروايات في هذا الباب متضافرة بل متواترة ، ولكن ليس فيها أيّ إشارة إلىٰ أنّ المسؤول هو البدن العنصري ، ولذلك قلنا إنّ المسؤول هو البدن البرزخي فلا مناص من إرجاع السؤال والعذاب والروح والريحان إلى البدن البرزخي.
نعم ربما يعبر عنه بالقالب المثالي ، وهذا هو الإمام الصادق عليه السلام يصف البدن ، يقول أبو ولّاد الحناط : قلت له : جعلت فداك يروون أنّ أرواح المؤمنين في حواصل طيور خضر حول العرش ، فقال : « لا ، المؤمن أكرم على الله من أن يجعل روحه في حوصلة طير ، لكن في أبدان كأبدانهم ». (18)
وفي رواية أُخرىٰ عنه عليه السلام : « فإذا قبضه الله عزّوجلّ صيّر تلك الروح في قالب كقالبه في الدنيا فيأكلون ويشربون ، فإذا قدم عليهم القادم عرفوه بتلك الصورة التي كانت في الدنيا ». (19)
نعم ربما يستفاد من بعض الروايات أنّ المسؤول والمعذَّب والمنعّم هو هذا البدن العنصري ، في ذلك المكان الضيق إلّا انّ تأويلها أفضل من الاعتماد عليها. (20)
إلى هنا اتضحت الأُمور الثلاثة التالية :
1. المراد من القبر هو عالم البرزخ.
2. انّ السؤال والتعذيب والتنعيم أمر متفق عليه بين المذاهب الإسلامية.
3. انّ المسؤول هو البدن المثالي.
نعم بقي هناك أمران وهما :
1. الأُمور التي يسأل عنها.
2. المسؤولون في البرزخ. وإليك البحث عن هذين الأمرين.
1. الأُمور التي يسأل عنها
لقد تكفّلت الأخبار بتحديد الأُمور التي يسأل عنها.
فقد روى زر بن حبيش الأسدي الكوفي ( وهو من أصحاب الإمام أمير المؤمنين عليه السلام ) قال : سمعت عليّاً ، يقول : « إنّ العبد إذا أُدخل حفرته أتاه ملكان اسمهما منكر ونكير ، فأوّل ما يسألانه عن ربّه ، ثمّ عن نبيه ، ثمّ عن وليّه ، فإن أجاب نجا ، وإن عجز عذباه » فقال له رجل : ما لمن عرف ربّه ونبيه ولم يعرف وليّه ؟
فقال : « مذبذب (21) ، لا إلى هؤلاء ، ولا إلى هؤلاء ، ومن يضلل فلن تجد له سبيلاً ذلك لا سبيل له ». (22)
وروى سعيد بن المسيب ، قال : كان علي بن الحسين عليهما السلام يعظ الناس ويزهدهم في الدنيا ويرغّبهم في أعمال الآخرة بهذا الكلام في كلّ جمعة في مسجد الرسول صلّى الله عليه وآله وسلّم وحفظ عنه وكتب ، كان يقول : « أيّها الناس اتّقوا الله ، واعلموا أنّكم إليه ترجعون ، فتجد كلّ نفس ما عملت في هذه الدنيا من خير محضراً ، وما عملت من سوء تود لو أنّ بينها وبينه أمداً بعيداً ، ويحذركم الله نفسه ، ويحك ابن آدم ، الغافل ، وليس بمغفول عنه.
ابن آدم انّ أجلك أسرع شيء إليك ، قد أقبل نحوك حثيثاً يطلبك ويوشك ان يدركك ، وكأن قد أُوفيتَ أجلك وقبض الملك روحك ، وصرتَ إلى منزل وحيداً فرد إليك فيه روحك ، واقتحم عليك فيه ملكاك : منكراً ونكيراً ، لمساءلتك وشديد امتحانك ، ألا وإنّ أوّل ما يسألانك عن ربّك الذي كنت تعبده ، وعن نبيِّك الذي أُرسل إليك ، وعن دينك الذي كنت تدين به ، وعن كتابك الذي كنت تتلوه ، وعن إمامك الذي كنت تتولّاه ، ثمّ عن عمرك فيما أفنيته ؟ ومالك من أين اكتسبته وفيما أتلفته ؟ فخذ حذرك وانظر لنفسك ». (23)
2. المسؤولون في البرزخ
أمّا المسؤولون في البرزخ فتحديدهم رهن نقل الأخبار والروايات :
1. روى أبو بكر الحضرمي ، عن أبي جعفر عليه السلام ، قال : « لا يُسأل في القبر إلّا من محضّ الإيمان محضاً ، أو محض الكفر محضاً » فقلت له : فسائر الناس ؟ فقال : « يلهىٰ عنهم ». (24)
2. روى محمد بن مسلم ، قال : قال أبو عبد الله عليه السلام : « لا يسأل في القبر إلّا من محض الإيمان محضاً ، أو محض الكفر محضاً ». (25)
إلى هنا تمّ ما أردنا ذكره في هذا المقام ممّا يرجع إلىٰ عالم البرزخ ، وهناك بحوث شيقة لها صلة به نطوي الكلام عنها بغية الاختصار.
وليعلم أنّ تعلّق النفس بالبدن البرزخي ليس هو من التناسخ بشيء ، لما عرفت من أنّه عبارة عن تعلّق النفس بعد كمالها ، ببدن آخر ، ولكن البدن المثالي ليس بدناً آخر ، بل هو عينه ولكن ألطف منه.
الهوامش
1. عبس : 21.
2. المؤمنون : 100.
3. الكهف : 79.
4. الرحمن : 20.
5. غافر : 11.
6. الزمر : 68.
7. يس : 51.
8. بحار الأنوار : 6 / 269 ، الحديث 122 و 126 وما ذكرناه حديث واحد وإن جعله العلّامة المجلسي حديثين.
9. المؤمنون : 100.
10. بحار الأنوار : 6 / 159 ، باب سكرات الموت ، الحديث 19.
11. بحار الأنوار : 6 / 267 ، باب أحوال البرزخ والقبر وعذابه وسؤاله ، الحديث 116.
12. البحار : 6 / 279 ، باب أحوال البرزخ.
13. شرح عقائد الصدوق : 45 ، ط تبريز.
14. كشف المراد : المقصد السادس ، المسألة 14.
15. كتاب السنّة لأحمد بن حنبل : 44 ـ 50.
16. مقالات الإسلاميين : 320 ـ 325.
17. شرح الأُصول الخمسة : 730.
18. البحار : 6 / 268 ، باب أحوال البرزخ الحديث 119.
19. البحار : 6 / 270 ، باب أحوال البرزخ ، الحديث 124.
20. لاحظ البحار : 6 / 222 ـ 226 ، باب أحوال البرزخ ، الحديث 22 و 26.
21. متحير ومتردد بين أمرين.
22. البحار : 6 / 233 ، باب أحوال البرزخ ، الحديث 46.
23. البحار : 6 / 223 ، باب أحوال البرزخ ، الحديث 24.
24. البحار : 6 / 235 ، باب أحوال البرزخ ، الحديث 52.
25. البحار : 6 / 260 ، باب أحوال البرزخ ، الحديث 100.
مقتبس من كتاب : [ مفاهيم القرآن ] / المجلّد : 8 / الصفحة : 178 ـ 186
التعلیقات