بيعة عمر بن الخطاب
الدكتور أحمد عزّالدين
منذ 7 أشهربيعة عمر بن الخطاب
لم يكن انتقال القيادة بعد أبي بكر الى عمر (رض) أمراً غير متوقع إذا نظرنا إليه في إطار سياسة السقيفة وما تلاها على مدى عامين ، إذ كان عمر أشد الناس فعالية في إتمام بيعة أبي بكر (رض) كما لعب دوراً سياسياً بارزاً في الداخل خلال فترة قيادة الخليفة الأول. وكان الإمام علي (ع) أول من توقع انتقال القيادة الى عمر (رض) وذلك حين بعث أبو بكر عمر إليه ليأخذ منه البيعة بالجبر والإكراه وقال له ( ائتني به بأعنف العنف ، فلما أتاه جرى بينهما كلام فقال ( علي لعمر ) ( أحلب حلباً لك شطره ، والله ما حرصك على إمارته اليوم إلا ليؤثرك غداً ) (1) وفي رواية أخرى ( أحلب يا عمر حلباً لك شطره (2) أشدد له اليوم أمره ليرد عليك غداً ، لا والله لا أقبل قولك ولا أتابعه ) (3) لذلك رأينا أبا بكر ( رض ) في مرضه يرفض ترشيحات من استشارهم ، ويدفع الإعتراضات التي سجلها بعضهم ، ويصر على دفـع القيادة الى عمر (4) حتى دعا عثمان (رض) وحده فقال له ( أكتب بسم الله الرحمن الرحيم ، هذا ما عهد به أبو بكر بن أبي قحافة الى المسلمين ، أما بعد ، ثم أغمي عليه فذهب عنه ، فكتب عثمان أما بعد فإني قد استخلفت عليكم عمر بن الخطاب ، ولم آلكم خيراً منه ، ثم أفاق أبو بكر فقال : إقرأ علي ، فقرأ عليه ، فكبر أبو بكر وقال : أراك خفت أن يختلف الناس إن افتلتت نفسي في غشيتي ، قال نعم ، قال جزاك الله خيراً عن الإسلام وأهله ، وأقرها أبو بكر رضي الله تعالى عنه من هذا الموضع ) (5) وهذه الرواية أيضاً تؤيد ما ذهبنا إليه من أن دفع القيادة الى عمر كان أمراً متوقعاً ، توقعه علي (ع) وعثمان (رض) وربما غيرهما كثير ممن لم يذكرهم المؤرخون ، حتى أن عثمان كتبه دون أن يمليه عليه الخليفة ، ولو لم يكن الأمر يقيناً عنده ما كتبه في هذا الموضع دون أمر وإملاء.
وجلس عمر مع الناس وفي يده الجريدة المكتوبة وهو يقول ( أيها الناس اسمعوا وأطيعوا قول خليفة رسول الله صلى الله عليه وسلم ، إنه يقول إني لم آلكم نصحاً ). (6)
وانتقلت القيادة الى عمر بن الخطاب بالعهد ، ولم يشترط لصحتها رضا الناس ، وتم تعيين القيادة الجديدة هذه المرة وفق قاعدة جديدة غير الأولى ، ليس لها أيضاً سند من كتاب ولا سنة ، وفي غياب دستور الدولة. ثم تأسس عليها فيما بعد مبدأ نقل القيادة والسلطة من شخص الآخر بالعهد دون رضا الناس واختيارهم ، كما فعل بنو أمية وبنو العباس ، وكما تفعل المشيخات والمملكات العربية المعاصرة.
ولئن كان النظام الملكي بملامحه الواضحة قد ابتدعه معاوية في الإسلام ، إلا أن عهد أبي بكر لعمر كان أول درجة من الإنحراف الى هذا الطريق قبل معاوية بأقل من أربعين عاماً ، ثم أخذ يتسع درجة درجة حتى استوى واكتمل بتولية يزيد أمر المسلمين ، ثم سارت الدول من بعد في هذا الطريق باسم الإسلام ، ذلك أن التغيرات السياسية ـ كما ذكرت ـ تبدأ بدرجة ثم تتسع وتكبر.
وبناء على هذه السابقة التاريخية التي صدرت عن بشر لم يطالبنا الإسلام باتباعه إن أخطأ ، اعتبر من كتبوا لنا في السياسة والدستور الإسلامي تعيين القيادة في الأمة بالعهد أصلاً اسلامياً ، ولا اعتبار في هذا لرأي الناس ، فقال الماوردي مثلاً ( والصحيح أن بيعته منعقدة ، وأن الرضا بها غير معتبر ، لأن بيعة عمر رضي الله عنه لم تتوقف على رضا الصحابة ، ولأن الإمام أحق بها ) (7) ومع أن القيادة آلت الى عمر كما رأينا دون مشورة من المسلمين ، بعهد من سابقه ، إلا أننا نجد في كتبنا ما هو مروي عن عمر (رض) نفسه من إدانة في قوله ( من بايع رجلاً عن غير مشورة من المسلمين فلا يبايع هو ولا الذي بايعه تغرة أن يقتلا ) (8)
ومن حق أحدنا أن يقول : إن تعدد أشكال تسلم السلطة وتسليمها يعطى الناس حرية الإختيار ، فينتخب كل شعب منها ما يناسب مجتمعه وبيئته ، وعليه فكل هذه الأشكال والطرق جائزة.
لكننا نقول في جوابه : إن هذا الكلام صحيح لو كان الإسلام قد ذكر في ذلك شيئاً.
فإن قيل إن القاعدة الأصولية أن سكوت الشارع عن شيء يعني إباحته ، قلنا نعم ولكن هذا ينطبق على المتغيرات ، والقيادة شيء ثابت. فإن وضع الإسلام ـ مثلاً ـ قاعدة الشورى وسكت عن طريقة تنفيذها فهمنا أن طريقة التنفيذ متروكة لكل قوم وعصر بما يناسبه . لكن أن يسكت الإسلام عن مسألة أساسية بل هي أم المسائل ، فهذا ما فيه ألف نظر. ولئن سكت الإسلام فلا يسكت أبداً عن الفوضى الدستورية والسياسية التي انتشرت في الدولة دون مبرر ، عن طريق التغيير السريع لأسلوب تعيين الأمة ـ وهي خير أمة ـ لقيادتها.
إن تغيير أسلوب التنفيذ أو الإصلاحات الدستورية عملية طبيعية في حياة المجتمعات ، لكنها مرتبطة بالمستجدات من الظروف التي تقتضي التعديل ، فلو افترضنا أن أسلوب السقيفة صحيح ، وأنه هو المقرر في الإسلام ، فما هي الظروف التي طرأت خلال عامين من حكم أبي بكر وجعلت تغيير هذا الأسلوب أمراً محتوماً ، فإذا القيادة تتحدد بالعهد ، وإن كان العهد هو الصواب فما الذي حدث من أمور جديدة في الدولة استدعت تغييره الى مجلس شورى ؟
وهل القيادة في الإسلام أتفه من الجماع والبصق والتبول والتبرز ، فيسكت عنها السلام مع عظيم شأنها ؟ مع أن الأمة كلها إن أخطأت في التبول والتبرز ما وقعت كارثة ، وما اختل لنظام ، بينما الأمة لو أخطأت في افراز قيادة ، فهي كارثة بل والله أم الكوارث.
فإن قال أحد إن القاعدة العامة هي الشورى ، سألناه فأين الشورى في استخلاف عمر (رض) وإن قال ـ كما يحلو للبعض أن يشبهوا أحداث السقيفة بذلك ـ إنها الإنتخاب الحر ، سألناه : فأين بيعة أبي بكر من هذه ؟
وأعجب ما قيل في هذا قول ابن خلدون وهو يعقب على هذه الأحداث وما تلاها في تاريخنا الإسلامي من حروب واقتتالات وبغي وتزوير ، اذ اعتبر أن كل الأطراف على صواب ، فالحسين مصيب ويزيد أيضاً مصيب ، وعلي على حق ومعاوية كذلك على حق ، والقاتل في الجمل وصفين على هدى والمقتول أيضاً على هدى ، وأسلوب تولية أبي بكر صحيح ، وطريقة إسناد القيادة الى عمر صواب ، وكل الناس كانوا على حق ، ثم قال ما نصه ( واعتقد أن اختلافهم رحمة لمن بعدهم من الأمة ليقتدي كل واحد بمن يختاره ويجعله إمامه وهاديه ودليله ) (9) وذلك عنده لأن كل واحد منهم اجتهد ، فمنهم من فاز بأجرين ومنهم من نال أجراً واحداً ، ولنا أن نقتدي بمن نحب ، فإن قامت في بقعة من ديارنا دولة إسلامية شرعية وخرج بعضنا عليها ، وأراق دم المسلمين ، وأسقط نظام الدولة الإسلامي ، فالحكومة على حق والخارج الباغي على حق ، لأن قدوته في ذلك معاوية . وإذا ركبنا حاكم فاسق خليع يشرب المسكر ويلعب بالقرود عن طريق شراء الأصوات وتزييف البيعات كما فعل يزيد ، فهو على حق ، ومن قام في وجهه وثار عليه ودفع دمه استشهاداً في سبيل إزالته أيضاً على حق ، لأن قدوة الأول يزيد وقدوة الثاني الحسين.
وإن أعطى أحد حكامنا القيادة بعده لأحد أصدقائه دون أخذ رأي الشعب فله في السلف أسوة حسنة ، وإن سلك في توليته طرقاً يشك فيها ، أو رفع أسرته على رقاب الناس ، أو بدد خزانة الدولة ، أو فعل أكبر من ذلك أو أصغر ، فله في الجيل الأول قدوة ، لأن كل ذلك مباح مشروع اكتسب شرعيته من ممارسة السلف له.
أفهذا بالله فكر سياسي ننسبه الى الإسلام ونقدمه للناس في القرن العشرين ، ونطرحه على الشرق والغرب مباهين به الأمم ، مفاخرين بهذه الفوضى السياسية والدستورية نظمهم المستقرة المحددة رغم علمانيتها ، زاعمين بأن المسألة إجتهاد ؟ أما آن الأوان لأن نميز بين الحق والباطل ، والصواب والخطأ ، لنصل الى شيء محدد نعرضه على البشر في فخر واعتزاز ؟
وإن كان اختلافهم رحمة كما يقال ، فمالنا محرومين من هذه الرحمة وقد مر على اختلافهم أربعة عشر قرناً ؟
وما لنا لم نر من اختلافهم إلا إختلافاً مماثلاً ، وفوضى سياسية ودستورية كتلك التي بدعوها ثم استسغاناها وبلعناها ، لأن مشايخنا قالوا لنا إنها كانت اجتهاداً ولم يسموها لنا باسمها الحقيقي ؟
الهوامش
1. البلاذري : 1 / 587.
2. هذا مثل قديم عند العرب يضارع ما في العامية المصرية : من خدم السبت يلقى الحد خدامه ، أو : شيلني وأشيلك.
3. شرح نهج البلاغة ، ابن أبي الحديد الشافعي : 6 / 11 ، مصر 1959 هـ.
4. الطبري : 2 / 618.
5. نفس المصدر : 2 / 618 ـ 619.
6. نفس المصدر : 2 / 618.
7. الأحكام السلطانية : ص 8.
8. صحيح البخاري : كتاب الحدود ، باب رجم الحبلى من الزنا.
9. المقدمة : ص 213.
مقتبس من كتاب : الإمامة والقيادة / الصفحة : 72 ـ 80
التعلیقات