بيان الإمام الرضا عليه السلام لحقيقة الإمامة
عبّاس الذهبي
منذ 5 سنواتبيان الإمام الرضا عليه السلام لحقيقة الإمامة
كنّا قد أشرنا إلىٰ الجهد المتعدّد الجوانب الذي بذله الإمام الكاظم عليه السلام من أجل التعريف بإمامة الرضا عليه السلام ومزّق الأقنعة التي يختفي وراءها أصحاب المطامع من خلال ايراده ما يكفي في توضيح إمامة إمامنا الرضا عليه السلام.
وهنا يهمّنا الاشارة إلى موقف الإمام الرضا عليه السلام من الإمامة بصورة عامة ، بعد أن انتهت إليه أسرار الإمامة ومفاتيح كنوزها. وإذا أمعنّا النظر في الآثار الواردة عنه عليه السلام في خصوص الإمامة نجده عليه السلام ، قد تناول معظم المفردات التي تحتاجها الأمّة في معرفة حقيقة الإمامة والإمام ، ومن هذا القبيل بيانه عليه السلام للعلامات التي يُعرف بها الإمام.
عن علي بن الحسن بن علي بن فضال ، عن أبيه عن أبي الحسن علي ابن موسى الرضا عليهما السلام ، قال : « للإمام علامات ، يكون أعلم الناس ، وأحكم الناس ، وأتقى الناس ، وأحلم الناس ، وأشجع الناس ، وأسخى الناس ، وأعبد الناس .. » (1).
من جانب آخر كشف لنا عن الآثار الكونيّة للإمامة ، وأن الأرض لا تخلو من إمام هدىٰ : عن الحسن بن علي الوشا ، قال : قلت لأبي الحسن الرضا عليه السلام : هل تبقى الأرض بغير إمام ؟ فقال : « لا » فقلت : فإنّا نروي : أنّها لا تبقى إلّا أن يسخط الله على العباد ، فقال : « لا تبقى ، إذاً لساخت » (2).
وتتبدّى لنا أهميّة جعل الله أولي الأمر ، والأمر بطاعتهم ، من الرواية التي ذكرها الفضل بن شاذان ، وقال أنّه سمعها من الإمام الرضا عليه السلام ، وأذن لعلي بن محمّد بن قتيبة النيسابوري روايتها عنه عن الرضا عليه السلام ، ومن يقف طويلاً عندها يدرك عمق أغوار فكر الإمام الرضا عليه السلام ، وهو فكر له السبق والريادة على علماء الاجتماع السياسي الذين انتقدوا النظريّة « الفوضويّة » القائلة بعدم حاجة الناس إلى الحكومة ، وأكّدوا على ضرورة وجود أولي الأمر لمصالح كثيرة ؛ دينيّة واجتماعيّة وسياسيّة ، وقد اقتبسنا من هذه الرواية الأسطر ذات الدلالة الآتية : « .. فإن قال قائل : فلِمَ جعل أولي الأمر وأمر بطاعتهم ؟ قيل : لعلل كثيرة ، منها : أن الخلق لما وقفوا على حدّ محدود ، وأُمروا أن لا يتعدّوا ذلك الحدّ لما فيه من فسادهم .. يجعل عليهم فيه أميناً يمنعهم من التعدّي والدخول فيما حظر عليهم ، لأنّه لو لم يكن ذلك لكان أحد لا يترك لذّته ومنفعته لفساد غيره ، فجعل عليهم قيماً يمنعهم من الفساد ، ويقيم فيهم الحدود والأحكام ».
ومنها : « إنّا لا نجد فرقة من الفرق ولا ملّة من الملل بقوا وعاشوا إلّا بقيّم ورئيس ، ولما لا بدّ لهم منه في أمر الدين والدنيا ، فلم يجز في حكمة الحكيم أن يترك الخلق ممّا يعلم أنّه لا بدّ لهم منه ، ولا قوام لهم إلّا به ، فيقاتلون به عدوّهم ، ويقسمون فيئهم ، ويقيم لهم جمعهم وجماعتهم ، ويمنع ظالمهم من مظلومهم ».
ومنها : « أنّه لو لم يجعل لهم إماماً قيماً أميناً حافظاً مستودعاً لدرست الملة وذهب الدين وغيرت السنن والأحكام ، ولزاد فيه المبتدعون ، ونقص منه الملحدون ، وشبّهوا ذلك على المسلمين ، لأنّا وجدنا الخلق منقوصين محتاجين غير كاملين ، مع اختلافهم واختلاف أهوائهم وتشتّت أنحائهم ، فلو لم يجعل لهم قيماً حافظاً لما جاء به الرسول صلّى الله عليه وآله وسلّم لفسدوا على نحو ما بينا ، وغيرت الشرائع والسنن والأحكام والإيمان ، وكان في ذلك فساد الخلق أجمعين » (3).
إنّ هذه الرواية في الوقت الذي سيقت فيه لبيان أهميّة أولي الأمر تكشف ـ من جانب آخر ـ عن فلسفة الحكومة في الإسلام وضرورة وجود القيادة في المجتمع ، كما تحكي ـ ضمنيّاً ـ عن ضرورة سيادة الدين في جميع مرافق الحياة.
وبعد ، فلم يقتصر الإمام الرضا عليه السلام على تبيان الأمور النظريّة والعقليّة المتعلقة بموضوع الإمامة ، وانّما كشف الأدلّة النقليّة عن القيادة الربانيّة التي اختارتها العناية الإلهيّة لقيادة البشريّة ، وسنتطرق لها وفق العناوين الفرعية التالية :
أولاً : إخبار الإمام الرضا عليه السلام بإمامته :
على الرغم من توفّر النصوص الصحيحة الصريحة بإمامة الأئمّة الاثني عشر عليهم السلام ، وعلى الرغم من الأساليب العديدة التي استخدمها الإمام الكاظم عليه السلام في تأكيد إمامة الإمام الرضا عليه السلام من بعده ، فقد وجدنا بعض ذوي المطامع والنفوس الضعيفة التي ألقت بظلال كثيفة من الشكّ حول إمامة الرضا عليه السلام بعد وفاة أبيه ، ولكن امامنا بدد تلك الأوهام وقشع غيوم الشكّ ، وقد نوهنا بأن هناك من يحاول حجب الحقيقة بستار من ضباب الطمع أو الحسد. حتّى لكأنّه يريد إخفاء الشمس الساطعة بالغربال ، ومن هنا تمسّكوا بحجج واهية وأقوال مكذوبة ما أنزل الله بها من سلطان نظير قولهم إن أباه عليه السلام لم يوصِ بإمامته (4) أو أنّه ليس له ولد ، والإمامة لا تكون لمن ليس له ولد وكان زعيم هذه المقولة زعيم الغلاة ، الحسين بن قياما الواسطي الذي زعم أنّه روىٰ عن الإمام الصادق عليه السلام بأن الإمام لا يكون عقيماً ، وأنّ الرضا عليه السلام ليس له ولد !! (5)
وكانت هذه الإعتراضات ونظائرها كالفقاعات التي ما أن تنمو في محيطها إلّا وتنفجر بأسرع ما يكون وتتلاشىٰ ، سيّما وأن الإمام الرضا عليه السلام قد تولّىٰ بنفسه الشريفة الإجابة الشافية والصريحة علىٰ تساؤلات خصومه أين ما كانوا ، كما أن خاصّة الإمام الرضا عليه السلام وثقاته ممّن عرفوا بالورع والجلالة والتقوىٰ قد رووا النصّ عليه بالإمامة من أبيه عليه السلام وفي هذا الصدد يقول الشيخ المفيد : فمن روى النصَّ على الرضا عليّ عليه السلام بالإمامة من أبيه والإشارة إليه منه بذلك ، من خاصّته وثقاته وأهل الورع والعلم والفقه من شيعته : داود بن كثير الرَقّي ، ومحمّد بن إسحاق بن عمّار ، وعلي بن يقطين ، ونُعيمُ القابوسيّ ، والحسينُ بن المختار ، وزيادُ بن مروان ، والمخزومي ، وداود بن سليمان ، ونصر بن قابوس ، وداود بن زَربيّ ، ويزيد بن سليط ، ومحمّد بن سِنان (6).
ربّما يؤكّد ما ذكرناه قوله عليه السلام وقد سأله العبّاس النجاشي الأسدي : أنت صاحب هذا الأمر ؟ فقال عليه السلام : « إي والله ، على الجنّ والإنس » (7).
لما كانت إمامة أهل البيت عليهم السلام هي الأعمدة الراسخة الثابتة التي يقوم عليها بناء الإسلام الشامخ ، تصدّىٰ إمامنا الرضا عليه السلام لحشد كل الأدلّة وإيراد كلّ الحجج التي تثبت أحقيّة آبائه عليهم السلام بالإمامة وأهليّتهم لها ، لا سيّما وأن مسألة الإمامة كانت مطروحة علىٰ نار ساخنة بين العلماء والعوام علىٰ حدّ سواء ، وكنّا قد أشرنا إلىٰ رواية عبد العزيز بن مسلم عن الرضا ، واقتبسنا منها مورد الحاجة في وصف الإمامة والإمام وذكر فضل الإمام ورتبته ، ونعود إلىٰ تلك الرواية في مورد بحثنا هذا ، لأنّ الإمام الرضا عليه السلام أشار فيها إلىٰ إمامة أهل البيت عليهم السلام ، قال عبد العزيز : كنّا في أيّام علي بن موسى الرضا عليهما السلام بمرو ، فاجتمعنا في مسجد جامعها في يوم الجمعة في بدء مقدمنا فأدار الناس أمر الإمامة وذكروا كثرة اختلاف الناس فيها فدخلت علىٰ سيّدي ومولاي الرضا عليه السلام ، فأعلمته ما خاض الناس فيه ، فتبسّم عليه السلام ، ثمّ قال : « يا عبد العزيز جهل القوم وخدعوا عن أديانهم ، إنّ الله تبارك وتعالىٰ لم يقبض نبيّه صلّى الله عليه وآله وسلّم حتّى أكمل له الدين وأنزل عليه القرآن ـ إلى أن يقول : ـ ولم يمضِ صلّى الله عليه وآله وسلّم حتّىٰ بيّن لأمّته معالم دينهم ، وأوضح لهم سبيلهم وتركهم على قصد الحقّ وأقام لهم عليّاً عليه السلام علماً وإماماً ... فكانت له ـ أيّ للنبي صلّى الله عليه وآله وسلّم ـ خاصّة فقلّدها صلّى الله عليه وآله وسلّم عليّاً بأمر الله عزّ وجلّ على رسم ما فرضها الله عزّ وجلّ ، فصارت في ذرّيته الأصفياء .. فهي في ولد علي عليه السلام خاصّة إلىٰ يوم القيامة إذ لا نبي بعد محمّد صلّى الله عليه وآله وسلّم .. إن الإمامة خلافة الله عزّ وجلّ وخلافة الرسول ومقام أمير المؤمنين وميراث الحسن والحسين عليهما السلام » (8).
ومن يتمعّن في استشهادات الرضا عليه السلام حول إمامة آبائه يلمس العمق العلمي الذي يجده جليّاً في الاستشهادات التي يسوقها من القرآن والسنّة وثمة شواهد عديدة علىٰ ذلك ، منها : عن عبد الله بن أبي الهذيل : سألته عن الإمامة فيمن تجب ، وما علامة من تجب له الإمامة ؟ فقال : « إنّ الدليل علىٰ ذلك والحجّة على المؤمنين والقائم بأمور المسلمين والناطق بالقرآن والعالم بالأحكام أخو نبيّ الله وخليفته على أمّته ووصيّه عليهم ووليّه الذي كان بمنزلة هارون من موسىٰ ، المفروض الطاعة بقول الله عزّ وجلّ : ( يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا أَطِيعُوا اللَّهَ وَأَطِيعُوا الرَّسُولَ وَأُولِي الْأَمْرِ مِنكُمْ ) (9) الموصوف بقوله عزّ وجلّ : ( إِنَّمَا وَلِيُّكُمُ اللَّهُ وَرَسُولُهُ وَالَّذِينَ آمَنُوا الَّذِينَ يُقِيمُونَ الصَّلَاةَ وَيُؤْتُونَ الزَّكَاةَ وَهُمْ رَاكِعُونَ ) (10) والمدعوّ إليه بالولاية المثبت له الإمامة يوم غدير خم بقول الرسول صلّى الله عليه وآله وسلّم عن الله عزّ وجلّ : ألست أولىٰ بكم منكم بأنفسكم قالوا : بلىٰ ، قال : فمن كنت مولاه فعلي مولاه ، اللهمّ وال من والاه وعاد من عاداه وانصر من نصره واخذل من خذله وأعن من أعانه ، علي بن أبي طالب عليه السلام أمير المؤمنين وإمام المتّقين وقائد الغرّ المحجّلين وأفضل الوصيّين وخير الخلق أجمعين بعد رسول الله صلّى الله عليه وآله وسلّم وبعده الحسن بن علي ، ثمّ الحسين سبطا رسول الله صلّى الله عليه وآله وسلّم وابنا خيرة النسوان ، ثمّ علي بن الحسين ثمّ محمّد بن علي ، ثمّ جعفر بن محمّد ، ثمّ موسى بن جعفر ، ثمّ علي بن موسىٰ ، ثمّ محمّد بن علي ، ثمّ علي بن محمّد ، ثمّ الحسن بن علي ، ثمّ محمّد بن الحسن ، وهم عترة الرسول عليه وعليهم السلام المعروفون بالوصيّة والإمامة ، لا تخلو الأرض من حجّة منهم في كلّ عصر وزمان وفي كلّ وقت وأوان وهم العروة الوثقىٰ وأئمّة الهدىٰ .. » (11).
وكانت تعقد في بلاط المأمون مناظرات ساخنة يحشّد لها المأمون كبار العلماء من مختلف الملل والنحل ، وكان الإمام الرضا عليه السلام بما يمتلك من أفق معرفي رحب ، يردّ بصدر رحب على أسئلة العلماء عامّة وأسئلة المأمون بصورة خاصّة.
عن الريان بن الصلت قال : حضر الرضا عليه السلام مجلس المأمون بمرو ، وقد اجتمع في مجلسه جماعة من علماء أهل العراق وخراسان ، فقال المأمون : أخبروني عن معنى هذه الآية : ( ثُمَّ أَوْرَثْنَا الْكِتَابَ الَّذِينَ اصْطَفَيْنَا مِنْ عِبَادِنَا ) (12) فقالت العلماء : أراد الله عزّ وجلّ بذلك الأُمّة كلّها ، فقال المأمون : ما تقول يا أبا الحسن ؟ فقال الرضا عليه السلام : « لا أقول كما قالوا ، ولكنّي أقول : أراد الله عزّ وجلّ بذلك العترة الطاهرة » فقال المأمون : وكيف عنى العترة من دون الأمّة ؟ فقال له الرضا عليه السلام : « إنّه لو أراد الأُمّة لكانت أجمعها في الجنّة ، لقول الله عزّ وجلّ : ( فَمِنْهُمْ ظَالِمٌ لِّنَفْسِهِ وَمِنْهُم مُّقْتَصِدٌ وَمِنْهُمْ سَابِقٌ بِالْخَيْرَاتِ بِإِذْنِ اللَّهِ ذَٰلِكَ هُوَ الْفَضْلُ الْكَبِيرُ ) (13) ثمّ جمعهم كلّهم في الجنّة فقال عزّ وجلّ : ( جَنَّاتُ عَدْنٍ تَجْرِي مِن تَحْتِهِمُ الْأَنْهَارُ يُحَلَّوْنَ فِيهَا مِنْ أَسَاوِرَ مِن ذَهَبٍ ) (14) الآية ، فصارت الوراثة للعترة الطاهرة لا لغيرهم » فقال المأمون : من العترة الطاهرة ؟
فقال الرضا عليه السلام : « الذين وصفهم الله في كتابه فقال عزّ وجلّ : ( إِنَّمَا يُرِيدُ اللَّهُ لِيُذْهِبَ عَنكُمُ الرِّجْسَ أَهْلَ الْبَيْتِ وَيُطَهِّرَكُمْ تَطْهِيرًا ) (15) وهم الذين قال رسول الله صلّى الله عليه وآله وسلّم : إنّي مخلّف فيكم الثقلين كتاب الله وعترتي أهل بيتي ، ألا وإنّهما لن يفترقا حتّىٰ يردا عليّ الحوض ، فانظروا كيف تخلفوني فيهما ، أيّها الناس لا تعلموهم فإنّهم أعلم منكم ».
قالت العلماء : أخبرنا يا أبا الحسن عن العترة ، أهم الآل أم غير الآل ؟ فقال الرضا عليه السلام : « هم الآل » فقالت العلماء : فهذا رسول الله صلّى الله عليه وآله وسلّم يؤثر عنه أنّه قال : « أمّتي آلي » وهؤلاء أصحابه يقولون بالخبر المستفاض الذي لا يمكن دفعه : آل محمّد أُمّته ؟ فقال أبو الحسن عليه السلام : « أخبروني ، فهل تحرّم الصدقة على الآل ؟ » فقالوا : نعم ، قال : « فتحرّم على الأُمّة ؟ » قالوا : لا ، قال : « هذا فرق بين الآل والأُمّة ، ويحكم أين يُذهب بكم ، أضربتم عن الذكر صفحاً أم أنتم قوم مسرفون ؟! أما علمتم أنّه وقعت الوراثة والطهارة على المصطفين المهتدين دون سائرهم ؟! »
قالوا : ومن أين يا أبا الحسن ؟ فقال : « من قول الله عزّ وجلّ : ( وَلَقَدْ أَرْسَلْنَا نُوحًا وَإِبْرَاهِيمَ وَجَعَلْنَا فِي ذُرِّيَّتِهِمَا النُّبُوَّةَ وَالْكِتَابَ فَمِنْهُم مُّهْتَدٍ وَكَثِيرٌ مِّنْهُمْ فَاسِقُونَ ) (16) فصارت وراثة النبوّة والكتاب للمهتدين دون الفاسقين ، أما علمتم أن نوحاً حين سأله ربّه عزّ وجلّ : ( فَقَالَ رَبِّ إِنَّ ابْنِي مِنْ أَهْلِي وَإِنَّ وَعْدَكَ الْحَقُّ وَأَنتَ أَحْكَمُ الْحَاكِمِينَ ) (17) وذلك أن الله عزّ وجلّ وعده أن ينجيه وأهله ، فقال ربّه عزّ وجلّ : ( يَا نُوحُ إِنَّهُ لَيْسَ مِنْ أَهْلِكَ إِنَّهُ عَمَلٌ غَيْرُ صَالِحٍ فَلَا تَسْأَلْنِ مَا لَيْسَ لَكَ بِهِ عِلْمٌ إِنِّي أَعِظُكَ أَن تَكُونَ مِنَ الْجَاهِلِينَ ) (18).
فقال المأمون : هل فضّل الله العترة على سائر الناس ؟ فقال أبو الحسن : « إنّ الله عزّ وجلّ أبان فضل العترة على سائر الناس في محكم كتابه » فقال له المأمون : وأين ذلك من كتاب الله ؟ فقال له الرضا عليه السلام : « في قول الله عزّ وجلّ : ( إِنَّ اللَّهَ اصْطَفَىٰ آدَمَ وَنُوحًا وَآلَ إِبْرَاهِيمَ وَآلَ عِمْرَانَ عَلَى الْعَالَمِينَ * ذُرِّيَّةً بَعْضُهَا مِن بَعْضٍ وَاللَّهُ سَمِيعٌ عَلِيمٌ ) (19) وقال عزّ وجلّ في موضع آخر : ( أَمْ يَحْسُدُونَ النَّاسَ عَلَىٰ مَا آتَاهُمُ اللَّهُ مِن فَضْلِهِ فَقَدْ آتَيْنَا آلَ إِبْرَاهِيمَ الْكِتَابَ وَالْحِكْمَةَ وَآتَيْنَاهُم مُّلْكًا عَظِيمًا ) (20) ثمّ ردّ المخاطبة في أثر هذه إلى سائر المؤمنين ، فقال : ( يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا أَطِيعُوا اللَّهَ وَأَطِيعُوا الرَّسُولَ وَأُولِي الْأَمْرِ مِنكُمْ ) (21) يعني الذين قرنهم بالكتاب والحكمة وحُسدوا عليهما ، فقوله عزّ وجلّ : ( أَمْ يَحْسُدُونَ النَّاسَ عَلَىٰ مَا آتَاهُمُ اللَّهُ مِن فَضْلِهِ فَقَدْ آتَيْنَا آلَ إِبْرَاهِيمَ الْكِتَابَ وَالْحِكْمَةَ وَآتَيْنَاهُم مُّلْكًا عَظِيمًا ) (22) يعني الطاعة للمصطفين الطاهرين ، فالملك هاهنا هو الطاعة لهم .. » (23).
والرواية طويلة قد استعرض الإمام عليه السلام فيها الآيات الواردة في حقّ أهل البيت عليهم السلام كآية التطهير والمودّة والمباهلة ، كما ذكّرهم باخراج النبي صلّى الله عليه وآله وسلّم الناس من مسجده ما خلا العترة ، وتطرق لحديث مدينة العلم ، ومجيء النبي صلّى الله عليه وآله وسلّم إلىٰ باب علي وفاطمة عليهما السلام تسعة أشهر كلّ يوم عند حضور كلّ صلاة خمس مرّات ، فيقول : « الصلاة رحمكم الله » وما أكرم الله أحداً من ذراري الأنبياء بمثل هذه الكرامة التي أكرم الله تعالى بها أهل البيت عليهم السلام وخصّصهم من دون سائر الأُمّة.
وكان لهذه المناظرة وقع في نفوسهم بما تميّزت به من براهين قرآنيّة وأحاديث نبويّة لم يرق لها الشكّ وبذلك أدار دفة عقولهم نحو وجهة جديدة ، فقال المأمون والعلماء : جزاكم الله أهل بيت نبيّكم عن هذه الأمّة خيراً ، فما نجد الشرح والبيان فيما اشتبه علينا إلّا عندكم (24).
ثانياً : إخبار الإمام الرضا عليه السلام بإمامة ابنه الجواد عليه السلام :
شغلت إمامة محمّد بن علي عليه السلام حيزاً كبيراً من عناية الإمام الرضا عليه السلام ، وذلك بسبب تأخّر ولادته ومن ثمّ اضطلاعه بالإمامة مع صغر سنّه ، الأمر الذي لم تألفه الشيعة من قبل ونتيجة لذلك تصدّىٰ الإمام الرضا عليه السلام بنفسه لتوضيح ما قد خفي على بعضهم ، وذكّرهم بما حصل في تاريخ الأنبياء عليهم السلام وما جرىٰ في الأنبياء لا يمتنع جريانه في أوصيائهم عليهم السلام. وعند استطلاع الروايات التي تتناول إمامة محمّد التقي عليه السلام نجد أن والده الرضا عليه السلام كان ينوه بمكانته ومنزلته منذ صغره ، روي عن يحيى الصنعاني قال : كنت عند أبي الحسن عليه السلام فجيء بابنه أبي جعفر عليه السلام وهو صغير ، فقال : « هذا المولود الذي لم يولد مولود أعظم على شيعتنا بركة منه » (25).
وأمّا عن مسألة صغر السنّ فقد أجاب عليها إمامنا الرضا عليه السلام إجابة استقاها من أُصول قرآنيّة صافية ، عن صفوان بن يحيى قال : قلت للرضا عليه السلام قد كنّا نسألك قبل أن يهب الله لك أبا جعفر فكنت تقول : يهب الله لي غلاماً ، وقد وهبك الله وأقرّ عيوننا ، فلا أرانا الله يومك ، فإن كان كون فإلى مَن ؟ فأشار بيده إلى أبي جعفر وهو قائم بين يديه ، فقلت له : جعلت فداك ، وهذا ابن ثلاث سنين ؟! قال : « وما يضرّه من ذلك ، وقد قام عيسىٰ بالحجّة وهو ابن أقلّ من ثلاث سنين ؟! » (26).
وفي رواية أخرى عن معمر بن خلاد ، قال : سمعت الرضا عليه السلام يقول : « .. هذا أبو جعفر قد أجلسته مجلسي وصيرته مكاني » ، وقال : « إنّا أهل بيت يتوارث أصاغرنا عن أكابرنا القذّة بالقذّة » (27).
وهكذا نجد أن الإمام الرضا عليه السلام قد غدا شعلة من حركة لا تخمد من أجل التمهيد لإمامة ولده محمّد عليه السلام وكان يرد شبهة صغر سنّ ولده بمنطق قرآني لا يمكن دحضه أو تأويله ، وممّا يعزّز ما سبق نورد هذه الرواية ذات الدلالة : عن الخيزراني عن أبيه ، قال : كنت واقفاً بين يدي أبي الحسن الرضا عليه السلام بخراسان ، فقال قائل : يا سيّدي إن كان كون فإلىٰ من ؟ قال : « إلى أبي جعفر ابني » ، فكأن القائل استصغر سنّ أبي جعفر ، فقال أبو الحسن عليه السلام : « إنّ الله بعث عيسىٰ بن مريم رسولاً نبيّاً صاحب رسالة ، مبتدأة في أصغر من السنّ الذي فيه أبو جعفر عليه السلام » (28).
ثالثاً : هوية الإمام المهدي (عج) في أخبار الرضا عليه السلام
شغلت قضيّة الإمام المهدي عجّل الله فرجه حيزاً كبيراً من تفكير إمامنا الرضا عليه السلام واكتسبت أهميّة فائقة في توجّهاته ، لا سيّما وإنّ المهدي المنتظر هو الرابع من ولده ، وفيه معالم شبه منه ، وكذلك للحركة التغيريّة الكبرىٰ التي سوف يضطلع بها من بعده ، إذ من المنتظر أن تسود العدالة العامة جميع ما في الكون ، فعن الحسين بن خالد ، قيل للإمام الرضا عليه السلام : .. يابن رسول الله ومن القائم منكم أهل البيت ؟ قال : « الرَّابع من ولدي ابن سيّدة الإماء ، يطهر الله به الأرض من كلِّ جور ، ويقدِّسها من كلِّ ظلم ، وهو الّذي يشكَّ النّاس في ولادته ، وهو صاحب الغيبة قبل خروجه ، فإذا خرج أشرقت الأرض بنوره ، ووضع ميزان العدل بين النّاس فلا يظلم أحدٌ أحداً .. » (29).
وكانت القضيّة المهدويّة تتغلغل في أعماق قلبه تغلغلاً عميقاً ، وكان لسانه يلهج بالثناء والمدح والتقدير لصاحب الزمان عجّل الله فرجه ويركز على أوجه التشابه بينهما ، فعن الحسن بن محبوب أن الإمام الرضا عليه السلام قال : « .. بأبي وأمّي سميَّ جدِّي صلّى الله عليه وآله وسلّم وشبيهي وشبيه موسىٰ بن عمران عليه السلام عليه جيوب النور ، يتوقّد من شعاع ضياء القدس .. يكون رحمةً على العالمين ، وعذاباً على الكافرين » (30).
وكانت الشيعة بعد وفاة والده الكاظم عليه السلام قد دخلت في مرحلة الحيرة والتساؤل ، تتساءل عن صاحب هذا الأمر من بعده ، بعد أن اختلطت الرؤية عند البعض فتصوّرا أن الإمام الرضا عليه السلام هو الإمام المهدي عجّل الله فرجه نفسه ، لذلك لم يترك إمامنا عليه السلام مناسبة إلّا واغتنمها من أجل تبيان هوية الإمام المهدي عجّل الله فرجه الحقة ، وإبقاء هذه المسألة الحيوية حيّةً وساخنة ، فعن أيّوب بن نوح ، قال : قلت للرِّضا عليه السلام : إنّا لنرجو أن تكون صاحب هذا الأمر وأن يردَّه الله عزَّ وجلَّ إليك من غير سيف ، فقد بويع لك وضربت الدَّراهم بإسمك ، فقال : « ما منَّا أحدٌ اختلفت إليه الكتب وسئل عن المسائل وأشارت إليه الأصابع وحملت إليه الأموال إلّا اغتيل أو مات علىٰ فراشه حتّىٰ يبعث الله عزَّ وجلَّ لهذا الأمر رجلاً خفيَّ المولد والمنشأ غير خفيٍّ في نسبه » (31).
ممّا تقدم يظهر لنا أنّ الإمام الرضا عليه السلام يكرس الفكرة المهدويّة ضمن إطارها التاريخي وليست مجرّدة عنه ، فقد كشف النقاب عن الظروف التاريخيّة الضاغطة المحيطة به ، والتي حالت أو تحول دون قيامه هو والأئمّة من قبله ومن بعده بحركة تغييريّة كبرىٰ ، وأفصح بأن قيام كلّ إمام قبل المهدي عجّل الله فرجه كان يعرضه للاغتيال أو الموت المحتم أو الموت البطيء علىٰ فراش الموت.
فلا يُجدي ـ والحال هذه ـ العمل المكشوف ، لكن الظروف الخفيّة التي سيتحرك فيها الإمام المهدي عجّل الله فرجه وبتخطيط ربّاني سوف تؤتي ثمارها المرجوّة إن شاء الله في تحقيق العدالة العالميّة.
ونتيجة لكلّ ذلك كان الإمام الرضا عليه السلام يُسدي نصائحه لشيعته بالتزام التقيّة ويثني أحسن الثناء على من تمسّك بها في مرحلة الغيبة.
ولكن الشارع الشيعي المعبأ بقوة الأمل ، كان يتساءل علىٰ الدوام عن الفرج ، فكان الإمام عليه السلام يتجاوب مع أماني المسلمين العريضة بظهور المهدي عجّل الله فرجه بعبارات تبعث الأمل والرَّجاء ، ولكنّه في نفس الوقت يوصي بالتزام الصبر وانتظار الفرج ، وعدم ترك التقيّة. ويُلفت نظرهم بأن الظهور تبدو معالمه من اختصاص الغيب.
وممّا يكشف عن تفاعل الإمام عليه السلام العميق مع قضيّة الإمام المهدي عجّل الله فرجه أن « دعبل الخزاعي » لما أنشده قصيدته العصماء حول أهل البيت عليهم السلام التي أوَّلها :
مدارس آياتٍ خلت من تلاوة |
ومنزلُ وحي مقفر العرصات |
فلمَّا انتهى « دعبل » إلىٰ قوله :
خروج إمام لا محالة خارج |
يقوم علىٰ اسم الله والبركات | |
يميّز فينا كل حقٍّ وباطل |
ويجزي على النعماء والنقمات |
بكىٰ الرِّضا عليه السلام بكاءاً شديداً ، ثمّ رفع رأسه إلىٰ دعبل وقال كلاماً مفعماً بشحنة عاطفيّة كبيرة ، وكاشفاً في الوقت نفسه عن الدور المستقبلي الكبير الذي يضطلع به الإمام المهدي عجّل الله فرجه ، قال عليه السلام : « .. يا خزاعيُّ ، نطق روح القدس علىٰ لسانك بهذين البيتين ، فهل تدري من هذا الإمام ومتىٰ يقوم ؟ » فقلت : ـ والكلام لدعبل ـ لا يا مولاي ، إلّا أنّي سمعت أن إماماً منكم يُطهّر الأرض من الفساد ويملأها عدلاً كما مُلئت جوراً.
فقال : « يا دعبل ، الإمام بعدي محمّدٌ ابني ، وبعد محمّد ابنه عليٌّ ، وبعد عليٍّ ابنه الحسن ، وبعد الحسن ابنه الحجّة القائم المنتظر في غيبته ، المطاع في ظهوره ، لو لم يبقَ من الدُّنيا إلّا يومٌ واحدٌ لطوَّل الله عزَّ وجلَّ ذلك اليوم حتّى يخرج فيملأ الأرض عدلاً كما مُلئت جوراً » (32).
وهكذا نجد أن القضيّة المهدويّة قد اكتسبت أهميّة فائقة في ذكر وسلوك الإمام الرضا عليه السلام فقد سبر غورها بعمق وحدّد معالمها وقدم الرؤية الواضحة حولها ، مستبعداً الحقائق المبتورة والمشوهة عنها ، والأهمّ من كلّ ذلك إبقاؤها حيّة وساخنة في نفوس الناس وفتح بصائرهم على الأسرار الكامنة وراءها.
الهوامش
1. عيون أخبار الرضا عليه السلام 1 : 192 ، ح 1 ، باب 19 ، كشف الغمة 3 : 82.
2. عيون أخبار الرضا عليه السلام 1 : 246 ، ح 3 ، باب 28.
3. عيون أخبار الرضا عليه السلام 1 : 106 ـ 108 ، ح 1 ، باب 34.
4. دلائل الإمامة 363 : 311.
5. عيون أخبار الرضا عليه السلام 2 : 209 / 13 ، وإعلام الورى 2 : 323.
6. الإرشاد : 248.
7. عيون أخبار الرضا عليه السلام 1 : 10 باب 4 ص 21.
8. عيون أخبار الرضا عليه السلام 1 : 195 / 20.
9. سورة النساء : 4 / 59.
10. سورة المائدة : 5 / 55.
11. الخصال 478 : 46 ، بحار الأنوار 36 : 396 باب 46.
12. سورة فاطر : 35 / 32.
13. سورة فاطر : 35 / 32.
14. سورة الكهف : 18 / 31.
15. سورة الأحزاب : 33 / 33.
16. سورة الحديد : 57 / 26.
17. سورة هود : 11 / 45.
18. سورة هود : 11 / 46.
19. سورة آل عمران : 3 / 33 و 34.
20. سورة النساء : 4 / 54.
21. سورة النساء : 4 / 59.
22. سورة النساء : 4 / 54.
23. عيون أخبار الرضا عليه السلام 1 : 207 ، ح 1 ، باب 23.
24. المصدر السابق.
25. بحار الأنوار 50 : 25 / 13.
26. كشف الغمة 3 : 144.
27. كشف الغمة 3 : 144.
28. كشف الغمة 3 : 145.
29. إكمال الدين واتمام النعمة / الشيخ الصدوق 2 : 372 / ح 5 باب 35.
30. إكمال الدين وإتمام النعمة / الشيخ الصدوق 2 : 370 / ح 3 باب 35.
31. إكمال الدين / الشيخ الصدوق 2 : 370 / ح 1 باب 35.
32. إكمال الدين / الشيخ الصدوق 2 : 371 باب 35.
مقتبس من كتاب : [ الإمام الرضا عليه السلام سيرة وتاريخ ] / الصفحة : 61 ـ 76
التعلیقات