التشكيك في ولادته عليه السلام
الشيخ باقر الإيرواني
منذ 14 سنة
التشكيك في الولادة
البعد الثاني للتشكيك هوالتشكيك في ولادة الامام سلام الله عليه ، بمعنى أن يقال : نحن نسلّم بهذه الفكرة وأنّه سيظهر شخص ، لكن هذا الشخص لا يلزم أن يكون هو الامام المهدي ، ولا يلزم أن يكون مولوداً الان ، ولا يلزم أن يكون قد غاب ، ولعلّه يولد في المستقبل والان غير موجود ، ولا توجد غيبة ، فكيف نتمكن أن نثبت ولادة الامام المهدي الان وأنّه قد تحققت ولادته ؟ إن المهم في محاضرتي هذه هو إثبات هذا الموضوع ، وعنونت محاضرتي بعنوان « الامام المهدي سلام الله عليه بين التواتر وحساب الاحتمال » وسأحاول إن شاء الله إثبات ولادة الامام من خلال هذين الطريقين ، أي : طريق التواتر مرّة ، وطريق حساب الاحتمال أخرى.
1 ـ تفسير المنار 10 : 393 ، سورة التوبة ، وله مناقشات حول روايات الامام المهدي ( عليه السلام ) راجع 9 : 499 ـ 507.
2 ـ التوبة : 32.
(14)
(15)
أربع قضايا مهمّة
وقبل أن اشرع بالبحث أودّ أن أبيّن أربع قضايا كمقدمة لتحقيق الهدف :
القضية الاولى
أي مسألة تاريخية إذا ما أردنا إثباتها فهناك طريقان لاثباتها :
أحدهما : التواتر.
ثانيهما : حساب الاحتمال.
والتواتر كما تعلمون يعني : أن يخبر بالقضية مجموعة كبيرة من المخبرين بحيث لا نحتمل اجتماعهم واتفاقهم وتواطئهم على الكذب ، فإذا كان خبر من الاخبار جاء ثلاثمائة شخص أو مائتا شخص أخبرونا به ، وكلّ واحد نفترضه من مكان غير مكان الاخر ، في مثل هذه الحالة لا نحتمل تواطؤ الجميع واتفاقهم على الكذب ، مثل هذا الخبر يقال له الخبر المتواتر.
هذا طريق لتحصيل العلم بالقضية والمسألة التاريخية.
الطريق الثاني : أن نفترض أنّ الخبر ليس متواتراً ، كما اذا أخبر به واحد أو اثنان أو ثلاثة أو أربعة أو خمسة من دون تواتر ، ولكن انظمّت
(16)
إلى ذلك قرائن من هنا وهناك ، يحصل العلم بسببها على مستوى حساب الاحتمال.
فلنفترض أنّ هناك شخصاً مصاب بمرض عضال ، وجاء شخص وأخبر بأنّ فلاناً قد شوفي من مرضه ، يحصل احتمال أنّه شوفي بدرجة ثلاثين بالمائة مثلاً ، لكن إذا انضمّت إلى ذلك قرائن فسوف ترتفع القيمة الاحتمالية من ثلاثين إلى أربعين وإلى خمسين وإلى أكثر ، افترض أنّنا شاهدناه لا يستعمل الدواء بعد ذلك وكان حينما يحضر في مكان يستعمل الدواء ، فهذا يقوّي احتمال الشفاء ، وإذا كانت القيمة الاحتمالية للشفاء بدرجة ثلاثين الان ترتفع وتصير بدرجة أربعين مثلاً ، وأيضاً شاهدناه يجلس في المجلس ضاحكاً مستبشراً ، هذه الظاهرة أيضاً تصعّد من القيمة الاحتمالية لهذا الخبر ، وهكذا حينما تنضمّ قرائن من هذا القبيل ، فسوف ترتفع القيمة الاحتمالية للخبر إلى أن تصل الى درجة مائة بالمائة.
هذا الخبر هو في الحقيقة ليس خبراً متواتراً ، لكن لانضمام القرائن حصل العلم.
فهنا حصول العلم يحصل بحساب الاحتمال ، يعني بتقوّي القيمة الاحتمالية بسبب انضمام القرائن.
إذن ، حصول العلم بأي قضية تاريخيّة يتمّ من خلال أمرين :
من خلال التواتر.
ومن طريق حساب الاحتمال بتجميع القرائن.
هذه القضية الاولى التي أحببت الاشارة إليها.
(17)
القضية الثانية
لا يلزم في الخبر المتواتر أن يكون المخبر من الثقات ، فان اشتراط الوثاقة في المخبر يلزم في الخبر غير المتواتر ، كما إذا جاءنا شخص واحد أو اثنان أو ثلاثة وأخبرونا بقضية ، هنا يشترط أن يكون المخبر ـ لاجل أن يكون هذا الخبر حجة ـ عادلاً ، أما لو كانت القضية أخبر بها مائة أو مائتان أو ثلاثمائة ، يعني العدد كان يشكّل التواتر فليس من الضروري عدالة المخبر ؟ فالعدالة والوثاقة هي شرط في الخبر غير المتواتر.
وأرجو أن لا يحصل خلط في هذه القضية بين الخبر المتواتر وبين الخبر غير المتواتر ، إذ البعض يتصور أنّ مسألة الوثاقة ومسألة عدالة الراوي يلزم تطبيقهما حتى في الخبر المتواتر ، هذا غير صحيح ، بل الذي نشترط فيه العدالة والوثاقة هو الخبر غير المتواتر.
لماذا لا نشترط في الخبر المتواتر العدالة والوثاقة ؟
النكتة هي : أنّ الخبر المتواتر حسب الفرض يفيد العلم ، لكثرة المخبرين ، وبعد ما أفاد العلم لا معنى لاشتراط الوثاقة والعدالة ، إذ المفروض أنّ العلم حصل ، وليس بعد العلم شيء يُقصد ، فلا معنى إذن لاشتراط الوثاقة والعدالة في باب الخبر المتواتر ، وهذه قضيّة بديهيّة وواضحة في سوق العلم.
وعلى أساس هذه القضيّة ليس من الحق وليس من الصواب أن نأتي إلى الروايات الدالة على ولادة الامام المهدي ( عليه السلام ) أو أي قضية ترتبط بالامام المهدي سلام الله عليه ونقول : هذه الرواية ضعيفة السند ، الرواة مجاهيل ، هذا مجهول أو ذاك مجهول ، هذه الرواية الاولى إذن نطرحها ،
(18)
الرواية الثانية الراوي فيها مجهول إذن نطرحها ، والثالثة كذلك ، الرابعة هكذا و ...
هذا ليس بصحيح ، فان هذا صحيح لو فرض أنّ الرواية كانت واحدة أو اثنتين أو ثلاث أو أربع أو خمس أو عشر ، أما بعد فرض أن تكون الروايات الدالة على ولادة الامام المهدي سلام الله عليه قد بلغت حدّ التواتر لا معنى أن نقول هذه الرواية الاولى ضعيفة السند ، والثانية ضعيفة السند لجهالة الراوي والثالثة هكذا ، فان هذه الطريقة وجيهة في الخبر غير المتواتر ، أمّا في الخبر المتواتر فلا معنى لها.
هذه القضيّة الثانية التي أحببت الاشارة إليها.
القضية الثالثة
إذا فرض أنّ لدينا مجموعة من الاخبار تختلف في الخصوصيّات والتفاصيل ، لكن الجميع يشترك في مدلول واحد من زاوية ، كما لو فرضنا أنّه جاءنا مجموعة كبيرة من الاشخاص يخبروننا عن تماثل ذلك الشخص المريض للشفاء ، لكن الشخص الاوّل جاء وأخبر بالشفاء في الساعة الواحدة ، والثاني حينما جاء أخبر بالشفاء أيضاً لكن في الساعة الثانية ، والثالث حينما جاء أخبر بشفائه لكن في الساعة الثالثة ، فاختلفوا في رقم الساعة ، لكن الكلّ متفق على أنّه قد شوفي ، والخامس أو السادس جاء وأخبر بالشفاء لكن بهذا الدواء ، والاخر قال بذلك الدواء ، فكان الاختلاف بمثل هذا الشكل ، أي : اختلاف في الخصوصيّات ، لكن الكلّ متفق من زاوية واحدة ، وهي أنّه قد شوفي.
في مثل هذه الحالة هل يثبت الشفاء ؟
(19)
نعم أصل الشفاء يثبت بنحو العلم.
والنكتة في ذلك ، أنّ المخبر الاوّل في الحقيقة يخبر بخبرين لا بخبر واحد : الخبر الاول الذي يخبر به أنّه شوفي ، والخبر الثاني أنّه شوفي في الساعة الاولى ، الثاني حينما يخبر أيضاً يخبر بأنه شوفي ، والثالث حينما يخبر أيضاً يخبر بأنّه شوفي ، إذن هم متفقون في الاخبار الاول أنه شوفي ، لكن يختلفون في الاخبار الثاني ، إذن في الاخبار الاول التواتر موجود والاتفاق بين الجميع موجود.
ومن هنا نخرج بهذه النتيجة : أنّ الاخبار الكثيرة إذا اتفقت من زاوية على شيء معيّن فالعلم يحصل بذلك الشيء ، وإن اختلفت هذه الاخبار من الجوانب الاخرى في التفاصيل.
وبعد هذا فليس من حقّنا أن نناقش في روايات الامام المهدي ( عليه السلام ) ونقول : هذه مختلفة في التفاصيل ، واحدة تقول بأنّ أم الامام المهدي اسمها نرجس والثانية تقول أنّ أم الامام اسمها سوسن والثالثة تقول اسمها شيء ثالث ، أو أن واحدة تقول وُلد في هذه الليلة والثانية تقول وُلد في تلك الليلة أو واحدة تقول وُلد في هذه السنة والاخرى تقول في السنة الاخرى ، فعلى هذا الاساس هذه الروايات لا يمكن أن نأخذ بها ، وليست متواترة وليست مقبولة ، لانها تختلف في التفاصيل ، ولا تنفع في إثبات التواتر وفي تحصيل العلم بولادة الامام سلام الله عليه ، لانها مختلفة ومتضاربة فيما بينها حيث اختلفت بهذا الشكل.
إنه باطل ، لان المفروض أن كل هذه الاخبار متفقة في جانب واحد ، وهو الاخبار بولادة الامام سلام الله عليه ، ولئن اختلفت فهي مختلفة في
(20)
تفاصيل وخصوصيات اُخرى ، لكن في أصل ولادة الامام هي متفقة ، فالعلم يحصل والتواتر يثبت من هذه الناحية.
هذه القضية الثالثة.
القضية الرابعة
وهي الاخيرة التي أردت الاشارة إليها : ليس من حق شخص أن يجتهد في مقابل النص ، فإذا كان عندنا نص صريح الدلالة وتام السند من كلتا الجهتين ، فلا حق لاحد أن يأتي ويقول أنا أجتهد في هذه المسألة.
فالله عزوجل يقول : ( وَأقِيمُوا الصَّلاَةَ وَآتُوا الزَّكَاةَ ) (1) ، وهذه الاية بوضوح تدلّ على الطلب ، غاية ما في الامر ليست صريحة في الطلب الوجوبي ، لكن في أصل الطلب ـ طلب الصلاة وطلب الزكاة ـ دلالتها صريحة وسند القرآن لا مناقشة فيه.
فلا يحق لاحد أن يقول : أنا أريد أن أجتهد في هذه المسألة وأقول هي لا تدل على الطلب !! ليس له هذا الحق ، وهذا يسمونه اجتهاد في مقابل النص.
نعم إذا كان يجتهد في الدلالة ويقول لا تدل على الوجوب بل تدل على الاستحباب ، فهذا جيد ، لانّ الدلالة ليست صريحة على الوجوب ، أمّا أن يجتهد في الدلالة على أصل الطلب ويقول أنا أجتهد وأقول لا تدل هذه على اصل الطلب في رأيي فهذا لا معنى له ، لانّ دلالتها على الطلب صريحة والسند أيضاً قطعي.
1 ـ البقرة : 43.
(21)
على ضوء هذا أخرج بهذه النتيجة أيضاً : ليس من حق أحد أن يقول روايات الامام المهدي أنا اجتهد فيها كما يجتهد الناس في مجالات أخرى ، هذا لا معنى له ، لانّ الروايات حسب الفرض هي واضحة الدلالة صريحة وتامة غير قابلة للاجتهاد ، وسندها متواتر ، فالاجتهاد هنا إذن لا معنى له أيضاً ، فان للاجتهاد مجالاً إذا فرض أنّ الدلالة لم تكن صريحة أو السند لم يكن قطعياً ، أما بعد قطعية السند وصراحة الدلالة ، فالاجتهاد لا معنى له ، فانّه اجتهاد في مقابل النصّ ، وهذه قضية واضحة أيضاً.
هذه أربع قضايا أحببت الاشارة إليها في مقدّمة بحثي ، والان أدخل في البحث وأريد أن أبيّن عوامل نشوء اليقين بولادة الامام المهدي سلام الله عليه ، وسوف نلاحظ أن هذه العوامل إما تفيد التواتر ، أو تفيد اليقين بحساب الاحتمال ، كما أوضّح لكم فيما بعد.
(22)
(23)
عوامل نشوء اليقين بولادة الامام المهدي ( عليه السلام )
العامل الاول
الاحاديث الكثيرة المسلّمة بين الفريقين الامامية وغيرهم ، والتي تدلّ على ولادة الامام سلام الله عليه ، ولكن من دون أن ترد في خصوص الامام المهدي وبعنوانه ، فهي تدلّ على ولادة الامام من دون أن تنصب على هذا الاتجاه ، وأذكر لكم في هذا المجال ثلاثة أحاديث :
الحديث الاول : حديث الثِقْلين أو الثَقَلَين ، الذي هو حديث متواتر بين الامامية والاخوة العامة ، ولا مجال للمناقشة في سنده ، قاله النبي ( صلى الله عليه وآله وسلم ) في مواطن متعدّدة : في حجة الوداع ، في حجرته المباركة ، في مرضه ، وفي ... ، فإذا رأينا اختلافاً في بعض ألفاظ الحديث فهو ناشئ من اختلاف مواطن تعدّد ذكر النبي ( صلى الله عليه وآله وسلم ) لهذا الحديث :
« إنّي تارك فيكم الثقلين : كتاب الله ، وعترتي أهل بيتي ، أحدهما أكبر من الاخر ، ولن يفترقا حتّى يردا عليّ الحوض » (1).
1 ـ راجع : المستدرك للحاكم 3 : 109 ، المعجم الكبير للطبراني 5 : 166 ح 4969 ، تاريخ بغداد 8 : 442 ، حلية الاولياء 1 : 355 ، مجمع الزوائد 9 : 164 ، وغيرها كثير جداً.
(24)
لاحظوا : « ولن يفترقا حتى يردا عليّ الحوض » ، يعني أن الكتاب مع العترة ، من البداية ، من زمان النبي ( صلى الله عليه وآله وسلم ) الى أن يردا عليه الحوض.
وهذا يدلّ على أنّ العترة الطاهرة مستمرة مع الكتاب الكريم ، وهذا الاستمرار لا يمكن توجيهه إلاّ بافتراض أنّ الامام المهدي ( عليه السلام ) قد ولد ولكنه غائب عن الاعين ، إذ لو لم يكن مولوداً وسوف يولد في المستقبل لافترق الكتاب عن العترة الطاهرة ، وهذا تكذيب ـ استغفر الله ـ للنبي ، فهو يقول : « ولن يفترقا حتى يردا علي الحوض » هذا لازمه أنّ العترة لها استمرار وبقاء مع الكتاب الى أن يردا على النبي ( صلى الله عليه وآله وسلم ) ، وهذا لا يمكن توجيهه إلاّ بما قلت : إن الامام المهدي سلام الله عليه قد ولد ولكنه غائب ، وإلاّ يلزم الاخبار على خلاف الواقع.
وهذا حديث واضح الدلالة ، يدل على ولادة الامام سلام الله عليه ، لكن كما قلت هذا الحديث لم يرد ابتداءاً في الامام المهدي ، وإنّما هو منصبّ على قضيّة ثانية : « وإنّهما لن يفترقا » ، لكن نستفيد منه ولادة الامام بالدلالة الالتزامية.
وقد يقول قائل : لنفترض أن الامام ( عليه السلام ) لم يولد ، ولكن في فترة الرجعة التي ستقع في المستقبل يرجع الامام العسكري ( عليه السلام ) ، ويتولد آنذاك الامام المهدي ( عليه السلام ) ، إن هذه فريضة ممكنة وعلى أساسها يتم التلائم بين صدق الحديث وافتراض عدم ولادة الامام ( عليه السلام ).
وجوابنا : أن لازم هذه الفريضة تحقق الافتراق بين العترة الطاهرة والكتاب الكريم في الفترة السابقة على فترة الرجعة ، ففي هذه الفترة لا
(25)
وجود للامام المهدي ( عليه السلام ) ولا وجود للعترة وقد تحقق فيها افتراق الكتاب الكريم عن العترة الطاهرة.
الحديث الثاني : حديث الاثني عشر ، وهذا أيضاً حديث مسلّمٌ بين الفريقين ، يرويه البخاري ومسلم وغيرهما من طرق أهل السنة ، ومن طرقنا أيضاً قد رواه غير واحد كالشيخ الصدوق مثلاً في كمال الدين والحديث منقول عن جابر بن سمرة يقول :
دخلت مع أبي على النبي ( صلى الله عليه وآله وسلم ) فسمعته يقول : « إنّ هذا لا ينقضي حتى يمضي فيهم اثنا عشر خليفة » ، ثم تكلّم بكلام خفي عليّ ، فقلت لابي ما قال ؟ قال : كلّهم من قريش (1).
وهذا الحديث من المسلّمات أيضاً ، وليس له تطبيق معقول ومقبول إلاّ الائمة الاثني عشر ( عليهم السلام ).
وجاء البعض وحاول تطبيقه على الخلفاء الراشدين واثنين أو ثلاثة من بني أميّة واثنين أو ثلاثة من بني العباس.
إن هذا تطبيق غير مقبول ، وكلّ شخص يلاحظ هذا الحديث يجده إخباراً غيبي من النبي ( صلى الله عليه وآله وسلم ) عن قضية ليس لها مصداق وجيه ومقبول سوى الائمة صلوات الله عليهم الاثني عشر.
وهذا الحديث بالملازمة يدلّ على ولادة الامام المهدي سلام الله عليه ، إذ لو لم يكن مولوداً الان ، والمفروض أنّ الامام العسكري توفي ،
1 ـ كمال الدين : 272 ، والغيبة للطوسي : 128.
وانظر صحيح البخاري 9 : 729 كتاب الاحكام باب الاستخلاف ، وصحيح مسلم 3 : 220 ح 1821 كتاب الامارة ، ومسند أحمد 5 : 90.
(26)
ولم يحتمل أحد أنه موجود ، إذن كيف يولد الامام المهدي من أب هو متوفى.
فلابدّ وأن نفترض أنّ ولادة الامام ( عليه السلام ) قد تحقّقت ، وإلاّ هذا الحديث يعود تطبيقه غير وجيه.
فهذا الحديث بالدلالة الالتزامية يدل على ولادة الامام صلوات الله وسلامه عليه.
الحديث الثالث الذي أريد أن أذكره في هذا المجال ، حديث أيضاً مسلّم سنداً بين الفريقين ، وهو قوله ( صلى الله عليه وآله وسلم ) :
« من مات ولم يعرف إمام زمانه مات ميتة جاهليّة » (1) ، هذا أيضاً يرويه أهل السنة ، ويرويه الشيخ الكليني في الكافي ، فهو مسلّم عند السنّة والشيعة.
فإذا لم يكن الامام المهدي ( عليه السلام ) مولوداً الان ، فهذا معناه نحن لا نعرف إمام زماننا ، فميتتنا ميتة جاهلية.
فالحديث يدلّ على أنّ كلّ زمان لابدّ فيه من إمام ، وكلّ شخص مكلّف بمعرفة ذلك الامام ومكلّف بأن لا يموت ميتة جاهلية ، فلو لم يكن الامام مولوداً إذن كيف نعرف إمام زماننا ؟.
هذه أحاديث ثلاثة ، وإن لم تكن منصبّة على الامام المهدي صلوات الله عليه مباشرة ، ولكنّها بالدلالة الالتزامية تدلّ على أنّ الامام سلام الله عليه قد ولد وتحققت ولادته.
1 ـ كمال الدين : 409 ح 9 ، المناقب لابن شهر آشوب 3 : 217 ، ونحوه الكافي 1 : 377 ح3 ، وفي مسند الطيالسي : 259 ، وصحيح مسلم 3 : 239 ح 1851 عن عبد الله بن عمر : «...من مات وليس في عنقه بيعة مات ميتة جاهليّة ».
(27)
العامل الثاني
إخبار النبي والائمة صلوات الله عليهم بأنّه سوف يولد للامام العسكري ولد يملا الارض قسطاً وعدلاً ويغيب ، ويلزم على كلّ مسلم أن يؤمن بذلك.
هذه الاحاديث كثيرة ، فالشيخ الصدوق في كمال الدين جعلها في أبواب :
باب ما روي عن النبي في الامام المهدي ، ذكر فيه خمسة وأربعين حديثاً.
ثم بعد ذلك ذكر باب ما روي عن أمير المؤمنين ( عليه السلام ) في الامام المهدي.
ثم باب عن الزهراء سلام الله عليها وما ورد عنها في الامام المهدي ( عليه السلام ) ، ذكر فيه أربعة أحاديث.
ثم عن الامام الحسن ( عليه السلام ) ، ذكر فيه حديثين.
ثم عن الامام الحسين ( عليه السلام ) ، ذكر فيه خمسة أحاديث.
ثم عن الامام السجاد ( عليه السلام ) ، ذكر فيه تسعة أحاديث.
ثم عن الامام الباقر ( عليه السلام ) ، ذكر فيه سبعة عشر حديثاً.
(28)
ثم عن الامام الصادق ( عليه السلام ) ، ذكر فيه سبعة وخمسين حديثاً.
وقد جمعتُ الاحاديث فكانت مائة وثلاثة وتسعين حديثاً.
هذا فقط ما يرويه الشيخ الصدوق في الاكمال (1) ، ولا أريد أن أضمّ ما ذكره الكليني في الكافي ، والشيخ الطوسي ، وغيرهما (2) ، وربما آنذاك يفوق العدد الالف رواية.
وتبرّكاً وتيمّناً أذكر حديثاً واحداً عن النبي ( صلى الله عليه وآله وسلم ) وحديثين عن الامام الصادق سلام الله عليه.
أمّا عن النبي ( صلى الله عليه وآله وسلم ) :
فهو ما رواه ابن عباس قال : سمعت النبي ( صلى الله عليه وآله وسلم ) يقول : « ... ألا وإنّ الله تبارك وتعالى جعلني وإيّاهم حججاً على عباده ، وجعل من صلب الحسين أئمة يقومون بأمري ، ويحفظون وصيّتي ، التاسع منهم قائم أهل بيتي ومهدي أمتي ، أشبه الناس بي في شمائله وأقواله وأفعاله ، يظهر بعد غيبة طويلة ... » إلى آخر الحديث (3).
وبهذا المضمون أو قريب منه أحاديث كثيرة ، وبعض الاحاديث تذكر أسماء الائمة صلوات الله عليهم.
وأمّا عن الامام الصادق ( عليه السلام ) :
فهو ما رواه محمد بن مسلم بسند صحيح متفق عليه قال : سمعت أبا
1 ـ كمال الدين : 256 ـ 384.
2 ـ الكافي 1 : 328 ـ 335 ، والغيبة للطوسي : 157 ، البحار 51 : 65 ـ 162.
3 ـ كمال الدين : 257 ح 2 ، كفاية الاثر : 10.
(29)
عبد الله ( عليه السلام ) يقول : « إن بلغكم عن صاحبكم غيبة فلا تنكروها » (1).
وحديث آخر عن زرارة يقول : سمعت أبا عبد الله ( عليه السلام ) يقول : « إنّ للقائم غيبة قبل أن يقوم ، يا زرارة وهو المنتظر ، وهو الذي يشك في ولادته » (2).
فمسألة التشكيك في الولادة أخبر بها الامام الصادق ( عليه السلام ) من ذلك الزمان ، فكان أوّل من شكك في الولادة جعفر عمّ الامام المهدي ( عليه السلام ) ، لعدم اطلاعه على الولادة ، ووجود تعتيم إعلامي قوي على مسألة ولادة الامام المهدي ( عليه السلام ) ، نتيجة الظروف الحرجة المحيطة بالامامة في تلك الفترة ، حتى أنّه لم يجز الائمة التصريح باسم الامام المهدي ، فجعفر ما كان مطّلعاً على أنّ الامام العسكري ( عليه السلام ) له ولد باسم الامام المهدي ، لذلك فوجئ بالقضية وأنكر أو شكّك في الولادة ، فهو اوّل من شكك.
ثم تلاه في التشكيك ابن حزم في كتابه الفصل في الملل والاهواء والنحل ، شكّك في مسألة الولادة فقال : وتقول طائفة منهم ـ أي من الشيعة ـ أنّ مولد هذا يعني الامام المهدي الذي لم يخلق قط في سنة ستين ومائتين ، سنة موت أبيه (3).
وتبعه على ذلك محمد اسعاف النشاشيبي في كتابه الاسلام الصحيح ، يقول : ولم يعقب الحسن ـ يعني العسكري سلام الله عليه ـ
1 ـ الكافي 1 : 340 ح 15 ، الغيبة للطوسي : 161 ح 118.
2 ـ كمال الدين : 342 ح 24.
3 ـ الفصل 3 : 114.
(30)
ذكراً ولا أنثى (1).
على أي حال مسألة التشكيك في الولادة أخبر بها الامام الصادق ( عليه السلام ) ، وكانت موجودة من تلك الفترة ، فالامام يقول لزرارة : « وهو المنتظر وهو الذي يشك في ولادته ، منهم من يقول مات أبوه بلا خلف ، ومنهم من يقول أنّه ولد قبل موت أبيه بسنتين ... » إلى أن يقول الامام : « يا زرارة إذا أدركت ذلك الزمان فادعوا بهذا الدعاء : « اللّهم عرّفني نفسك فانّك إن لم تعرفني نفسك لم أعرف نبيّك ، اللّهم عرّفني رسولك فانّك إن لم تعرّفني رسولك لم أعرف جحتك ، اللّهم عرّفني حجتك فانّك إن لم تعرّفني حجتك ضللت عن ديني » (2).
واقعاً الانسان والعياذ بالله فجأةً يضلّ عن الدين من حيث لا يشعر ، فالدعاء بهذا ضروري للبقاء بالتمسّك بهذا المذهب الصحيح : « اللّهم عرّفني حجتك فانّك إن لم تعرفني حجتك ضللت عن ديني ».
ومن الاشياء التي لا تنبغي الغفلة عنها الادعية المعروفة عن أهل البيت صلوات الله عليهم ، ومنها هذا الدعاء : « اللّهم كن لوليك الحجة ابن الحسن صلواتك عليه وعلى آبائه في هذه الساعة وفي كلّ ساعة ولياً وحافظاً وقائداً وناصراً ودليلاً وعيناً حتى تسكنه أرضك طوعاً وتمتعه فيها طويلاً » (3).
ومن الطبيعي أنّ الائمة صلوات الله عليهم يذكرون هذا الدعاء
1 ـ الاسلام الصحيح : 348.
2 ـ كمال الدين : 342 ح 24.
3 ـ الكافي 4 : 162.
(31)
ليعلّموا شيعتهم ، ومِنْ تعبيرهم بالحجة فقط يعلم مدى حالة الكتمان والتكتم ، حتى أنّ الوارد في الدعاء المتقدم « اللّهم كن لوليك فلان ابن فلان » كتماناً للاسم المبارك.
هذه جملة من الاحاديث ، وهي بهذا الصدد كثيرة ، رواها الكليني في الكافي والشيخ في الغيبة وغيرهما ، وهي تشكّل في الحقيقة مئات الاحاديث في هذا المجال.
وبعد هذه الكثرة فهي من حيث السند متواترة لا معنى للمناقشة فيها ، وهي واضحة غير قابلة للاجتهاد ، وإلاّ لكان ذلك اجتهاداً في مقابل النص.
هذا هو العامل الثاني من عوامل نشوء اليقين بولادة الامام المهدي سلام الله عليه.
(32)
(33)
العامل الثالث
رؤية بعض الشيعة للامام المهدي ( عليه السلام ) ، كما حدّثت به مجموعة من الروايات الاخرى ، وهذه الروايات التي سأذكرها هي غير الروايات التي ذكرها الشيخ الصدوق في كمال الدين.
فرغم التعتيم الاعلامي بالنسبة الى اسم الامام وولادته ( عليه السلام ) الذي قام به الائمة ( عليهم السلام ) ، السلطة اطلعت من خلال إخبار النبي وأهل البيت أنّه سوف يولد شخص من ذرّية الامام العسكري يملا الارض قسطاً وعدلاً وتزول على يده المباركة السلطات الظالمة ، انهم كانوا مطلعين ويراقبون الاوضاع ، كما اطلع فرعون على مثل هذه القضية وكان يراقب الاوضاع ويراقب النساء ويراقب القوابل ، ونفس القضية اتبعها بنو العباس في زمان المعتمد العباسي ، فكانوا يراقبون الاوضاع ، ولذلك كانت القضيّة تعيش كتماناً شديداً من هذه الناحية.
حتى أنّ الامام الهادي سلام الله عليه يروي عنه الثقة الجليل أبو القاسم الجعفري داود بن القاسم الرجل العظيم الثقة الجليل ويقول : سمعت أبا الحسن ـ يعني الامام الهادي ( عليه السلام ) ـ يقول : « الخلف من بعدي الحسن ابني ، فكيف لكم بالخلف من بعد الخلف ؟ » فقلت : ولم جعلني
(34)
الله فداك ؟ فقال : « إنّكم لا ترون شخصه ولا يحلّ لكم ذكره باسمه » ، فقلت : فكيف نذكره ؟ قال : « قولوا الحجة من آل محمّد » (1).
على اي حال ، رغم هذا التعتيم الاعلامي الذي حاول الائمة ( عليهم السلام ) أن يقوموا به رأى الامام المهدي ( عليه السلام ) جماعة من الشيعة.
ينقل الشيخ الكليني عن محمد بن عبد الله ومحمد بن يحيى جميعاً عن عبد الله بن جعفر الحميري.
وهذا السند في غاية الصحة والوثاقة ، فالشيخ الكليني معروف إذا حدّث هو مباشرة بكلام يحصل من نقله اليقين ، ومحمد بن عبد الله هو محمد بن عبد الله بن جعفر الحميري من الثقات الاجلّة الاعاظم ، ومحمّد بن يحيى العطار هو استاذ الشيخ الكليني من الاعاظم الاجلّة ، فاثنان من أعاظم مشايخ الكليني الكبار ينقل عنهم ، وعبد الله بن جعفر الحميري معروف بالوثاقة والجلالة.
يقول عبد الله بن جعفر الحميري : اجتمعت أنا والشيخ أبو عمرو (2) ( رحمه الله ) عند احمد بن اسحاق (3) ، فغمزني أحمد بن اسحاق أن أساله عن الخلف ، فقلت له : يا ابا عمرو إني أريد أن أسالك عن شيء وما أنا بشاك فيما أريد أن أسألك عنه ، فإنّ اعتقادي وديني أنّ الارض لا تخلو من حجّة ، .... ولكن أحببت أن أزداد يقيناً ، فانّ إبراهيم ( عليه السلام ) سأل ربه عزوجل أن يريه كيف يحيي الموتى فقال : أولم تؤمن ؟ قال : بلى ولكن
1 ـ الكافي 1 : 328 ، كمال الدين : 381 ح 5.
2 ـ عمرو بن عثمان بن سعيد العمري السمّان.
3 ـ احمد بن اسحاق القمي الاشعري المعروف بالوثاقة.
(35)
ليطمئنّ قلبي ، وقد أخبرني أحمد بن إسحاق عن أبي الحسن ـ يعني عن الامام الهادي ( عليه السلام ) ـ قال : سألته وقلت : من أعامل ؟ وعمّن آخذ وقول من أقبل ؟ فقال : « العمري ثقتي ، فما أدّى إليك عنّي فعنّي يؤدّي ، وما قال لك عنّي فعنّي يقول ، فاسمع له وأطع ، فإنه الثقة المأمون » ، وأخبرني أبو علي أنّه سأل ابا محمّد ( عليه السلام ) ـ يعني الامام العسكري ( عليه السلام ) ـ عن مثل ذلك ؟ فقال : « العمري وابنه ثقتان ، فما أدّيا إليك فعنّي يؤدّيان وما قالا لك فعنّي يقولان ، فاسمع لهما وأطعهما ، فإنهما الثقتان المأمونان » ، فهذا قول إمامين قد مضيا فيك ، قال : فخرّ أبو عمرو ساجداً وبكى ثم قال : سل حاجتك ، فقلت له : أنت رأيت الخلف من بعد أبي محمد ؟ ـ يعني من بعد العسكري ـ فقال : إي والله .... فقلت له : فبقيت واحدة ، فقال لي : هات ، قلت : الاسم ؟ قال : محرّم عليكم أن تسألوا عن ذلك ، ولا أقول هذا من عندي ، وليس لي أن أحلّل ولا أحرم ، ولكن عنه ( عليه السلام ) ، فإنّ الامر عند السلطان أنّ أبا محمد مضى ولم يخلّف ولداً وقسّم ميراثه ... فاتقوا الله وامسكوا عن ذلك » (1).
فهل هذه الرواية قابلة للاجتهاد من حيث الدلالة ؟
انها من حيث الدلالة صريحة ، ويتمسّك بها الاصوليّون في مسألة حجيّة خبر الثقة ، وقد ذكر السيد الشهيد الصدر في أبحاثه أنّ هذه الرواية لوحدها تفيدنا اليقين ـ وقد ذكر ذلك لا بمناسبة الامام المهدي ، بل بمناسبة حجية خبر الثقة ـ اذ هناك إشكال يقول ان هذه الرواية هي خبر واحد فكيف نستدل بها على حجيّة خبر الواحد ؟ ما هذا إلاّ دور في هذا
1 ـ الكافي 1 : 329 ح 1 ، الغيبة للطوسي : 243 ح 209.
(36)
المجال ، وكان السيد الشهيد يريد أن يثبت أنّ هذه الرواية تفيد اليقين ، لانّ الشيخ الكليني كلّما ينقل ويقول : أخبرني ، فلا نشك في اخباره ، والذي أخبره هو محمد بن عبد الله ومحمد بن يحيى العطار ، وهما من أعاظم الشيعة لا نحتمل في حقّهم أنّهم كذبوا أو أخطأوا ويحصل القطع من نقلهما ، وهما ينقلان عن عبد الله بن جعفر الحميري الذي هو من الاعاظم ، وهو ينقل مباشرةً عن السفير الاول للامام سلام الله عليه ، والسفير يقول : أنا رأيت الخلف بعيني.
فهذه الرواية لوحدها يمكن أن يحصل منها اليقين ، وهي واضحة في الدلالة على أنّه قد رئي الامام صلوات الله وسلامه عليه.
وهناك رواية أخرى تنقل قصة حكيمة بنت الامام الجواد سلام الله عليه ، وهذه القصة مشهورة ، ولكن لا بأس أن أشير إلى بعض مقاطعها ، وهي مذكورة في كتاب كمال الدين وغيره.
تنقل حكيمة : بعث إليّ أبو محمد سلام الله عليه سنة خمس وخمسين ومائتين في النصف من شعبان وقال : يا عمّة اجعلي الليلة إفطارك عندي فإنّ الله عزوجل سيسرّك بوليّه وحجّته على خلقه خليفتي من بعدي ، قالت حكيمة : فتداخلني لذلك سرور شديد وأخذت ثيابي عليّ وخرجت من ساعتي حتى انتهيت إلى أبي محمد ( عليه السلام ) وهو جالس في صحن داره وجواريه حوله ، فقلت : جعلت فداك يا سيدي الخلف ممّن هو ؟ قال : من سوسن ـ في بعض الروايات سوسن ، وفي بعضها نرجس ، وفي بعضها شيء آخر ـ وقلت أنّ هذه الاختلافات لا يمكن أن يتشبّث بها شخص ويقول هذه الروايات مردودة لانّها مختلفة ، فان هذا
(37)
ليس له أثر ـ فأدرتُ طرفي فيهنّ فلم أرَ جارية عليها أثر غير سوسن ، قالت حكيمة : فلمّا صلّيت المغرب والعشاء أتيت بالمائدة فأفطرت أنا وسوسن وبايتّها في بيت واحد ، فغفوت غفوة ثم استيقظت ، فلم أزل مفكرة فيما وعدني أبو محمد من أمر ولي الله ، فقمت قبل الوقت الذي كنت أقوم في كلّ ليلة للصلاة ، فصلّيت صلاة الليل حتى بلغت الى الوتر ، فوثبت سوسن فزعة وخرجت فزعة واسبغت الوضوء ، ثم عادت ـ يعني امّ الامام المهدي ( عليه السلام ) ـ فصلّت صلاة الليل وبلغت الوتر ، فوقع في قلبي أنّ الفجر قد قرب ، فقمت لانظر فإذا بالفجر الاول قد طلع ، فتداخل قلبي الشك من وعد أبي محمد ( عليه السلام ) فناداني من حجرته : « لا تشكّي وكأنّك بالامر الساعة » ، قالت حكيمة : فاستحييت من أبي محمد وممّا وقع في قلبي ورجعت إلى البيت خجلة ، فإذا هي قد قطعت الصلاة وخرجت فزعة ، فلقيتها على باب البيت فقلت : بأبي أنت وأمي هل تحسّين شيئاً ؟ قالت : نعم يا عمّة إنّي لاجد أمراً شديداً ، قلت : لا خوف عليك إن شاء الله ، وأخذت وسادة فألقيتها في وسط البيت وأجلستها عليها وجلست منها حيث تقعد المرأة من المرأة للولادة ، فقبضت على كفي وغمزت غمزةً شديدة ثم أنّت أنّة وتشهّدت ونظرت تحتها فإذا أنا بولي الله صلوات الله عليه متلقّياً الارض بمساجده (1).
ونقل الشيخ الطوسي أيضاً في الغيبة حديثاً ظريفاً فقال :
جاء أربعون رجلاً من وجهاء الشيعة اجتمعوا في دار الامام العسكري ليسألوه عن الحجة من بعده ، وقام عثمان بن سعيد العمري
1 ـ الغيبة للطوسي : 234 ح 204.
(38)
فقال : يابن رسول الله أريد أن أسالك عن أمر أنت أعلم به منّي ، فقال له : إجلس يا عثمان ، فقام مغضباً ليخرج ، فقال : لا يخرجنّ أحد ، فلم يخرج منّا أحد ، إلى أن كان بعد ساعة فصاح ( عليه السلام ) بعثمان فقام على قدميه فقال : أخبركم بما جئتم ؟ قالوا : نعم يا بن رسول الله ، قال : جئتم تسألوني عن الحجة من بعدي ؟ قالوا : نعم ، فاذا غلام كأنّه قطعة قمر أشبه الناس بأبي محمد ، فقال : هذا إمامكم من بعدي ، وخليفتي عليكم ، أطيعوه ولا تتفرقوا من بعدي فتهلكوا في أديانكم ، ألا وانّكم لا ترونه من بعد يومكم هذا حتى يتمّ له عمر ، فاقبلوا من عثمان ما يقوله ، وانتهوا الى أمره ، واقبلوا قوله ، فهو خليفة إمامكم والامر إليه » (1).
هذه اربع روايات نقلتها لكم ، والروايات في هذا الصدد كثيرة جدّاً ، وحسبنا ما روي في رؤية الامام الذي هو في الحقيقة يمكن أن يشكّل مقدار التواتر.
1 ـ الغيبة للطوسي : 357 ح 319.
(39)
العامل الرابع
وضوح فكرة ولادة الامام المهدي ( عليه السلام ) بين الشيعة ، فالذي يقرأ التاريخ ويقرأ الروايات يفهم أنّ الشيعة من الزمان الاول كانوا يتداولون فكرة الامام المهدي وأنّه يغيب ، وكانت قضية واضحة فيما بينهم ، ولذلك نرى أنّ الناووسية ادعت أنّ الامام الغائب هو الامام الصادق ( عليه السلام ) ، ولكن بعد وفاة الامام الصادق اتضح بطلان هذه العقيدة ، والواقفيّة ادعوا أنّ الامام المهدي الذي يبقى هو الامام موسى بن جعفر سلام الله عليه ، والفت النظر الى ان هذا لا ينبغي سبباً لتضعيف فكرة الامام المهدي ، بل بالعكس ، هذا عامل للتقوية ، لانّ هذا يدل على أنّ هذه الفكرة كانت فكرة واضحة بين الاوساط ، ولذلك ينسبون إلى بعض الائمة نسبة غير صحيحة وان هذا هو الامام المهدي أو ذاك.
وإذا راجعنا كتاب الغيبة للشيخ الطوسي نجده يذكر بعنوان الوكلاء المذمومين عدّة ، منهم : محمد بن نصير النميري ، أحمد بن هلال الكرخي ، محمد بن علي بن أبي العزاقر الشلمغاني ، وغير ذلك إلى عشرة أو أكثر من الذين أدعوا الوكالة والسفارة عن الامام كذباً وزوراً وخرجت عليهم اللعنة وتبّرأ منهم الشيعة.
(40)
وهذا العامل أيضاً لا يكون سبباً لتضعيف فكرة الامام المهدي وولادته وغيبته ، بل هذا في الحقيقة عامل للتقوية ، اذ يدلّ على أنّ هذه الفكرة كانت واضحة وثابتة ، لذلك ادعى هؤلاء الوكالة كذباً وزوراً ، وخرجت البراءة واللعنة في حقهم.
إذن هذا العامل الرابع من عوامل حصول اليقين بفكرة الامام المهدي ( عليه السلام ).
(41)
العامل الخامس
ان قضية السفراء الاربعة وخروج التوقيعات بواسطتهم قضيته واضحة في تاريخ الشيعة ، ولم يشكك فيها أحد من زمان الكليني الذي عاصر سفراء الغيبة الصغرى ووالد الشيخ الصدوق علي بن الحسين والى يومنا ، انه لم يشكك أحد من الشيعة في جلالة هؤلاء السفراء ولم يحتمل كذبهم ، وهم أربعة :
الاول : عثمان بن سعيد أبو عمرو ، الذي قرأنا الرواية المتقدمة عنه ، وكان عثمان بن سعيد السمّان يبيع السمن في الزقاق ، وكانت الشيعة توصل له الكتب والاموال فيضعها في الزقاق ، حتى يخفي القضية ثم يوصلها الى الامام ، وكان هذا وكيلاً عن الامام الهادي وعن الامام العسكري وبعد ذلك عن الامام الحجة صلوات الله عليهم.
الثاني : محمد بن عثمان بن سعيد.
الثالث : الحسين بن روح.
الرابع : علي بن محمد السمري.
هؤلاء أربعة سفراء أجلّة ، خرجت على أيديهم توقيعات ـ استفتاءات ـ كثيرة ، نجد جملة منها في كمال الدين ، وفي كتاب الغيبة ،
(42)
وكتب أخرى.
ان هذه السفارة والسفراء الذين ما يحتمل في حقّهم الكذب ، وخروج هذه التوقيعات الكثيرة بواسطتهم هو نفسه قرينة قويّة على صحة هذه الفكرة ، أي : فكرة ولادة الامام المهدي ، وعلى أنّه غائب صلوات الله وسلامه عليه.
(43)
العامل السادس
تصرّف السلطة ، فان تاريخ الاماميّة وغيرهم ينقل أنّ المعتمد العباسي بمجرّد أن وصل إلى سمعه أنّه ولد للامام مولود أرسل شرطته إلى دار الامام وأخذوا جميع نساء الامام واعتقلوهنّ حتى يلاحظوا الولادة ممّن ؟ طبيعي بعض التاريخ ينقل أنّ القضية كلها كانت بإرشاد جعفر عمّ الامام المهدي ، وهذا غير مهمّ ، فان نفس تصرّف السلطة قرينة واضحة على أنّ مسألة الولادة ثابتة ، وإلاّ فهذا التصرف لا داعي إليه.
(44)
(45)
العامل السابع
ان كلمات المؤرّخين وأصحاب التاريخ والنسب من غير الشيعة واضحة في ولادة الامام المهدي ، منهم :
ابن خلكان قال : أبو القاسم محمد بن الحسن العسكري ، ثاني عشر الائمة الاثني عشر على اعتقاد الامامية ، المعروف بالحجة ، كانت ولادته يوم الجمعة منتصف شعبان سنة خمس وخمسين ومائتين (1).
والذهبي قال : وأما ابنه محمد بن الحسن الذي تدعوه الرافضة القائم الخلف الحجة ، فولد سنة ثمان وخمسين ، وقيل : سنة ست وخمسين (2).
وابن حجر الهيتمي قال : ولم يخلّف ـ يعني الامام العسكري ـ غير ولده أبي القاسم محمد الحجة ، وعمره عند وفاة أبيه خمس سنين (3).
وخير الدين الزركلي قال : ولد في سامراء ، ومات أبوه وله من العمر خمس سنين (4).
1 ـ وفيات الاعيان 4 : 176 رقم : 562
2 ـ تاريخ الاسلام 19 : 113 رقم : 159.
3 ـ الصواعق : 255 و 314.
4 ـ الاعلام 6 : 80.
(46)
إلى غير ذلك من كلمات المؤرخين العامة ، وهي تشكّل قرينة على صحة هذه القضية.
(47)
العامل الثامن
تباني الشيعة واتفاقهم من زمان الكليني ووالد الشيخ الصدوق وإلى يومنا هذا على فكرة الامام المهدي ( عليه السلام ) وغيبته ، وفي كل طبقات الشيعة لم نجد من شكك في ولادة الامام وفي غيبته ، وهذا من أصول الشيعة وأصول مذهبهم.
(48)
حساب الاحتمال
هذه عوامل ثمانية لنشوء اليقين ، وقبل أن أختم محاضرتي أقول :
نحن إمّا أن نسلّم بكثرة الاخبار وتواترها ووضوح دلالتها على الغيبة ، ومعه فلا يمكن لاحد أن يجتهد في مقابلها ، لانّه اجتهاد في مقابل النص.
أو لا نسلّم التواتر ، ولكن بضميمة سائر العوامل إلى هذه الاخبار ـ التي منها : تباني الشيعة ، وكلمات المؤرخين ، ووضوح فكرة الامام المهدي وولادته بين طبقات الشيعة من ذلك التاريخ السابق ، وتصّرف السلطة ، ومسألة السفارة والتوقيعات ، وغير ذلك من العوامل ـ يحصل اليقين بحقانية القضية.
إذن نحن بين أمرين :
امّا التواتر ، على تقدير التسليم بكثرة الاخبار وتواترها.
أو اليقين ، من خلال ضم القرائن على طريقة حساب الاحتمال.
نسأل الله عزّوجلّ بحقّ محمّد وآل محمّد أن يهدينا إلى الصراط المستقيم.
(( ضمن کتاب الإمام المهدي (ع) بين التواتر وحساب الاحتمالات ))
التعلیقات