عقيدة الشيعة في الإمام لمهدي
الشيخ علي الكوراني
منذ 14 سنة الإعتقاد بإمامة الأئمة الإثني عشر من أهل البيت عليهم السلام من أصول مذهبنا ، بل هو محوره الذي سمي لأجله ( المذهب الإمامي ، ومذهب التشيع ، ومذهب أهل البيت عليهم السلام. وسمينا لأجله ( الإمامية ، والشيعة ، شيعة أهل البيت عليهم السلام ).
وأول الأئمة الأوصياء المعصومين عندنا أمير المؤمنين علي بن أبي طالب عليه السلام ، وخاتمهم الإمام المهدي المنتظر محمد بن الحسن العسكري عليه السلام ، الذي ولد في سنة 255 هجرية في سامراء ، ثم مدَّ الله في عمره وغيَّبه إلى أن ينجز به وعده ويظهره ، ويظهر به دينه على الدين كله ، ويملأ به الأرض قسطاً وعدلاً كما ملئت ظلماً وجوْراً.
فالاعتقاد بأن المهدي الموعود عليه السلام هو الإمام الثاني عشر ، وأنه حيٌّ غائب جزء من مذهبنا. وبدونه لايكون المسلم شيعياً اثني عشرياً ، بل مسلماً سنياً ، أو شيعياً زيدياً ، أو إسماعيلياً.
ويستغرب بعض إخواننا اعتقادنا بإمامة الأئمة عليهم السلام وبعصمتهم ، وبغيبة المهدي المنتظر أرواحنا فداه. ولكن الميزان في الأمور الممكنة ليس هو الإستبعاد ولا الإستحسان ، بل ثبوت النص عن النبي صلى الله عليه وآله ، وقد ثبتت عندنا النصوص المتواترة القطعية ، الدالة على إمامته وغيبته عليه السلام. ومتى ثبت النص وقام الدليل ، فعلى المسلم أن يقبله ويتعبد به ، وعلى الآخرين أن يعذروه أو يقنعوه. ورحم الله القائل : نحن أتباع الدليل ... حيث ما مال نميل
وإخواننا السنة وإن لم يوافقونا على انطباق المهدي الموعود على الإمام محمد بن الحسن العسكري عليه السلام ، إلا أنهم يوافقوننا تقريباً على كل ما ورد بشأنه من الأحاديث الشريفة ، من البشارة به ، وحركة ظهوره ، وتجديد الإسلام على يده وشموله العالم ، حتى أنك تجد أحاديثه عليه السلام واحدة أو متقاربة في مصادر الفريقين ، كما رأيت من مصادرنا ، وترى من عقيدتهم.
على أن عدداً من علماء السنة يوافقنا أي على أنه هو الإمام محمد بن الحسن العسكري عليه السلام ، مثل الشعراني وابن عربي وغيرهم ، ممن صرحوا بإسمه ونسبه ، وثبت عندهم أنه حيٌّ غائب عليه السلام. وقد ذكر أسماء مجموعة منهم صاحب كتاب ( المهدي الموعود ).
وهذا الإشتراك في عقيدة المهدي عليه السلام بين جميع المسلمين ، يجب أن يستثمره العلماء والعاملون لنهضة الأمة ، لأنه عقيدة ذات تأثير حيوي في جماهير المسلمين ، من شأنها أن ترفع مستوى إيمانهم بالغيب ، وبوعد الله تعالى لهم بالنصر ، وترفع معنوياتهم في مقاومة أعدائهم ، والتمهيد لإمامهم الموعود عليه السلام.
ولا يصح أن يكون عدم ثبوت انطباقه عندهم على الإمام محمد بن الحسن عليه السلام ، موجباً لانتقاد من يعتقد بذلك ، ويتقرب به إلى الله تعالى.
وليس غرضنا هنا أن نطرح بحثاً كلامياً في عقيدتنا في الإمام المهدي عليه السلام. بل أن نعطي فكرة عن هذه الروحية الفياضة التي تعيش بها أوساطنا الشيعية عقيدة المهدي عليه السلام التي كونت في ضمير المسلم الشيعي عبر الأجيال وتربية الآباء والأمهات ، مخزوناً عظيماً من الحب والتقديس والتطلع إلى ظهوره عليه السلام.
فالإمام المهدي أرواحنا فداه هو بقية الله في أرضه من أهل بيت النبوة ، وخاتم الأوصياء والأئمة عليهم السلام ، وأمين الله على قرآنه ووحيه ، ومشكاة نوره في أرضه. ففي شخصيته تتجسد كل قيم الإسلام ومثله ، وشبَه النبوة وامتداد نورها.
وفي غيبته تكمن معان كبيرة ، من الحكم والأسرار الإلهية ، ومظلومية الأنبياء والأولياء والمؤمنين ، على يد حكام الظلم وسلاطين الجور.
وفي الوعد النبوي بظهوره ، تخضرُّ آمال المؤمنين ، وتنتعش قلوبهم المهمومة ، وتقبض أكفهم على الراية ، وإن عتت العواصف ، وطال الطريق. فهم وصاحبها على ميعاد.
ولئن كان الشيعة معروفين بغنى حياتهم الروحية مع النبي وآله صلى الله عليه وآله ، فإن شخصية الإمام المهدي أرواحنا فداه ومهمته الموعودة ، بجاذبيتها الخاصة ، رافد حيوي في إغناء روح الشيعي بالأمل والحب والحنين.
ينتقد البعض شدة احترام الشيعة لعلمائهم ، بينما يعجب به آخرون ويقدرونه. ويزداد الإعجاب أو الإنتقاد إذا رأوا احترام الشيعة لمرجع التقليد نائب الإمام المهدي أرواحنا فداه ، وتقديسهم له وتقيدهم بفتواه.
أما إذا وصل الأمر إلى الأئمة المعصومين عليهم السلام فيتهمنا البعض بالمبالغة والمغالاة ، ويفرط في التهمة فيقول إن الشيعة يؤلهون النبي صلى الله عليه وآله والأئمة عليهم السلام والمراجع .. ويعبدونهم ، والعياذ بالله.
لكن المشكلة ليست في شدة احترام الشيعة وإطاعتهم وتقديسهم لعلمائهم وأئمتهم ، بل هي في الواقع ابتعادنا جميعاً عن النظرة الإسلامية إلى الإنسان والتعامل بها معه.
نلاحظ في القرآن الكريم ثلاثة مذاهب في مسألة قيمة الانسان : المذاهب البدوي الذي تذكره آيات الأعراب والمنادين من وراء الحجرات ..
والمذهب المادي الذي تذكره آيات أعداء الأنبياء عليهم السلام وأصحاب الحضارات المادية.
والمذهب الإسلامي ، الذي تذكره آيات تكريم الإنسان والتوجيه إلى عالمه العقلي والروحي والعملي.
وأحسبنا في عالمنا الإسلامي نعيش تأثيرات كثيرة للبداوة وللمادية الغربية في نظرتنا إلى الأنبياء والأئمة عليهم السلام والأولياء والشهداء والمؤمنين ، وإلى جمهورنا وشعوبنا الإسلامية. بل إلى أنفسنا أيضاً!
لقد أوجد الإنحطاط الحضاري والتسلط الغربي في مجتمعاتنا ظروفاً قاسية سياسية واقتصادية واجتماعية ، لم تعد معها حياة الانسان المسلم في أصلها محترمة ، فكيف نطمح إلى احترام أبعاد وجوده الأخرى وتقديسها ؟!
كما حول أذهاننا إلى أذهان بدوية تنزع دائماً إلى ( السطحية ) وتعادي العمق والجمع والتركيب ، فترانا نريد الشئ ببعد واحد ، ونرفض أن تكون له أبعاد متعددة في آن. ونريد في قلوبنا لوناً واحداً من العاطفة ، ولا نسمح لها أن تحمل ألواناً متعددة في آن.
وبهذا صرنا نرى في الأولياء والأئمة والأنبياء صلوات الله عليهم ، ظاهر أمرهم وحالهم ، ولا نرى قممهم الشامخة ، وعوالمهم العقلية والروحية العالية.
فإذا رأى أحد شيئاً من ذلك نقول عنه مغال ، وإذا جاش بذلك عقله أو قلبه نقول مجنون أو منحرف!
ويبلغ الأمر أقصى خطورته عندما نلبسه ثوباً دينياً فنقاوم تقديس الأولياء والأئمة والأنبياء عليهم السلام بحجة أنه يتنافى مع تقديس الله تعالى وتوحيده!!
فكأن معنى أنهم بشر صلوات الله عليهم أن نفهمهم ببداوة خشنة ، ونجعلهم حفنة من رمل الصحراء. وكأن الأمر يدور بين رمل الصحراء والسماء ، ولا ثالث. فلا رياض ولا أنهار ، ولا روابي ولا قمم!
وكأن مثل النور الإلهي الذي حدثنا عنه الله تعالى في سورة النور : ( مثل نوره كمشكاة فيها مصباح ) موجودة في غير أرضنا ، ومتجسد في غير هؤلاء العظماء ، صلوات الله عليهم.
أعتقد أنه كلما تقدمت المعرفة بالفلاسفة والمفكرين والعلماء ، اكتشفوا أبعاداً جديدة في كلام النبي صلى الله عليه وآله وأهل بيته عليهم السلام ، وعرفوا قيمته وقيمتهم أكثر ، وعرفوا أن شخصية المعصوم يجب أن تفهم من كلام المعصوم!
صحيح أن الله تعالى قال لنبيه صلى الله عليه وآله قل للناس أنا بشر مثلكم : قُلْ إِنَّمَا أَنَا بَشَرٌ مِثْلُكُمْ يُوحَى إِلَيَّ أَنَّمَا إِلَهُكُمْ إِلَهٌ وَاحِدٌ. ( سورة فصلت : 6 ) ، لكنه قال لنا بذلك إن النبي مثلنا وليس مثلنا! وإن شخصيته مركبة من جنبة بشرية يعاملنا بها ، وجنبة غيبية يتلقى بها الوحي والعلم من رب العالمين!
وأنى لنا أن نفهم بفكرنا وعقولنا جنبة الغيب في شخصيته ، إلا بكلام المعصوم الذي له نافذة مفتوحة على الغيب؟!
بل حتى المثلية في قوله تعالى : قُلْ إِنَّمَا أَنَا بَشَرٌ مِثْلُكُمْ ، تعني أنه من وسطكم يعرف تفكيركم وشعوركم ويدرك مشكلاتكم ، ولاتعني أنه مثلنا بمستوانا ونوع تفكيرنا ومشاعرنا ، فإن له صلى الله عليه وآله تفكيره ومشاعره وعالمه الأعلى الذي لانرتقي اليه ، كما أنه لا ينزل الى عوالمنا الدنيا!
فالنبي إذن بسبب رقيِّ فكره ومشاعره ليس مثلنا ، وبسبب أن شخصيته مفتوحة على الغيب ، ليس مثلنا!
فماذا بقي من المثلية التي تمكننا من الإحاطة بحقيقة شخصيته صلى الله عليه وآله ؟!
وكذلك هي شخصيات المعصومين من عترته عليهم السلام.
ومن هنا نعرف لماذا اختار الله تعالى لفظ البشرية للمثلية ، دون الإنسانية!
أعتقد أنه قد آن لنا أن نجد ذاتنا الإسلامية وإنساننا المسلم ، ونجد من جديد نبينا صلى الله عليه وآله وأئمتنا عليهم السلام ، وأن نرفض السطحية البدوية التي روج لها المتمسلفون في فهم النبي وآله صلى الله عليه وآله ، وأن ونتعامل معهم بما يليق بغنى شخصياتهم الربانية ، ومقاماتهم العالية ، لتمتلئ قلوبنا مجدداً بمخزون الحب والعشق المقدس لهم ، الذي يهيؤنا ويفتح لنا باب الحب والعشق الأكبر لمولاهم ومولانا تبارك وتعالى.
إن على الذي تحجبه الشجرة عن الغابة أن يعذر من يرى الشجرة والغابة معاً ، والجبال والسماء فوقها! ومن يتصور أن تقديس الأنبياء والأئمة عليهم السلام ، والعيش في عوالمهم ، مانعاً عن تقديس الله تعالى وتوحيده ، عليه أن يعذر من يرى ذلك درجات من التعظيم شرعها الإسلام ، لتنتظم بها الحياة ، وتفتح الطريق إلى تعظيم وتقديس وتسبيح الذي ليس كمثله شئ ، تبارك وتعالى.
من المناسب قبل أن نقدم مقطوعات من الأحاديث والأدعية والزيارات كنماذج عن عقيدتنا بالإمام المهدي أرواحنا فداه ، ومشاعرنا نحوه ، أن نذكر شيئاً من الأحاديث التي وردت في مقامه عليه السلام عند الله تعالى.
فقد ورد في مصادر الفريقين أن مقامه عظيمٌ عند الله تعالى ، وأنه من كبار سادة أهل الجنة ، وأنه طاووس أهل الجنة ، وأن عليه من نور الله تعالى جلابيب نور تتوقد ، وأنه ملهمٌ مهديٌّ من الله تعالى وإن لم يكن نبياً ، وأن الله تعالى يجري على يديه كثيراً من الكرامات والآيات والمعجزات.
بل يدل الحديث المعروف الذي صححه علماء الشيعة والسنة ، على أنه أرواحنا فداه في مصاف الأنبياء والرسل صلوات الله عليهم.
فعن النبي صلى الله عليه وآله قال : ( نحن ولد عبد المطلب سادة أهل الجنة ، أنا وحمزة وعلي والحسن والحسين والمهدي ) ( الغيبة للطوسي 13 ، وصواعق ابن حجر 158 ).
وقد وردت في مصادرنا أحاديث مفصلة في فضائل الأئمة الاثني عشر عليهم السلام ومقامهم العظيم عند الله تعالى ، ومنها أحاديث خاصة بالإمام المهدي المنتظر أرواحنا فداه ، وأنه نور الله في أرضه ، وحجته على خلقه ، والقائم بالحق ، وخليفة الله في الأرض ، وشريك القرآن في وجوب الطاعة ، ومعدن علم الله تعالى ومستودع سره. إلى آخر ما فصلته كتب العقائد والتفسير والحديث.
وقال أكثر علمائنا بتفضيله على بقية الأئمة بعد أمير المؤمنين والحسن والحسين عليهم السلام ، ووردت به الرواية.
وقد ورد عند السنة تفضيله على أبي بكر وعمر ، فعن ابن سيرين ، قيل له : ( المهدي خير أو أبو بكر وعمر؟ قال : أخير منهما ويعدل بنبي ) ( ابن حماد ص 98 ).
من الملفت في هذا المجال أن نجد أن الأئمة عليهم السلام كانوا في طليعة المعبرين عن مشاعرهم وحبهم للإمام المهدي عليه السلام قبل ولادته ، إيماناً بوعد النبي صلى الله عليه وآله به ، وتطلعاً إلى ولدهم الموعود ، وما سيحققه الله تعالى على يده.
ونكتفي من ذلك بذكر كلمات عن الإمام علي والإمام الصادق عليهما السلام.
قال أمير المؤمنين عليه السلام :
( ألا إن مثل آل محمد صلى الله عليه وآله ، كمثل نجوم السماء : إذا خوى نجم طلع نجم. فكأنكم قد تكاملت من الله فيكم الصنائع ، وأراكم ما كنتم تأملون ). ( نهج البلاغة خطبة 100 ).
وقال عليه السلام : ( فانظروا أهل بيت نبيكم ، فإن لبدوا فالبدوا ، وإن استنصروكم فانصروهم. فليفرجن الله بغتةً برجل منا أهل البيت ، بأبي ابن خيرة الإماء ، لا يعطيهم إلا السيف ، هرجاً هرجاً موضوعاً على عاقته ثمانية أشهر ، حتى تقول قريش لو كان هذا من ولد فاطمة لرحمنا )
( يعطف الهوى على الهدى ، إذا عطفوا الهدي على الهوى. ويعطف الرأي على القرآن إذا عطفوا القرآن على الرأي. وتخرج له الأرض أفاليذ أكبادها ، وتلقي إليه سلما مقاليدها. فيريكم كيف عدل السيرة. ويحيي ميت الكتاب والسنة ) ( خطبة 138 ).
( قد لبس للحكمة جنتها ، وأخذ بجميع أدبها ، من الإقبال عليها والتفرغ لها ، فهي عند نفسه ضالته التي يطلبها ، وحاجته التي يسأل عنها. فهو مغترب إذا اغترب الإسلام ، وضرب بعسيب ذنبه ، وألصق الأرض بجرانه. بقيةٌ من بقايا حجته ، خليفةٌ من خلائف أنبيائه ). ( خطبة 182 ).
عن سدير الصير في قال : دخلت أنا والمفضل بن عمر وأبو بصير وأبان بن تغلب ، على مولانا أبي عبد الله جعفر بن محمد عليه السلام فرأيناه جالساً على التراب وعليه مسح خيبري مطوق بلا جيب مقصر الكمين ، وهو يبكي بكاء الواله الثكلى ، ذات الكبد الحرى ، قد نال الحزن من وجنتيه ، وشاع التغير في عارضيه ، وأبلى الدموع محجريه ، وهو يقول :
سيدي ، غيبتك نفت رقادي ، وضيقت علي مهادي ، وأسرت مني راحة فؤادي. سيدي غيبتك أوصلت مصابي بفجائع الأبد ، وفقد الواحد بعد الواحد يفني الجمع والعدد ، فما أحس بدمعة ترقأ من عيني ، وأنين يفتر من صدري ..
قال سدير : فاستطارت عقولنا ولهاً وتصدعت قلوبنا جزعاً من ذلك الخطب الهائل والحادث الغائل ، وظننا أنه سمة لمكروهة قارعة ، أو حلت به من الدهر بائقة ، فقلنا : لا أبكى الله يا ابن خير الورى عينيك ، من أي حادثة تستنزف دمعتك ، وتستمطر عبرتك ، وأيه حالة حتمت عليك هذا المأتم ؟!
قال : فزفر الصادق عليه السلام زفرة انتفخ منها جوفه واشتد منها خوفه وقال : ويلكم إني نظرت في كتاب الجفر صبيحة هذا اليوم ، وهو الكتاب المشتمل على علم المنايا والبلايا والرزايا وعلم ما كان وما يكون إلى يوم القيامة ، الذي خص الله تقدس اسمه به محمداً والأئمة من بعده صلى الله عليه وآله وتأملت فيه مولد قائمنا وغيبته ، وإبطائه وطول عمره وبلوى المؤمنين في ذلك الزمان ، وتولد الشكوك في قلوبهم من طول غيبته ، وارتداد أكثرهم عن دينهم ، وخلعهم ربقةالإسلام من أعناقهم ، التي قال الله تقدس ذكره : ( وَكُلَّ إِنْسَانٍ أَلْزَمْنَاهُ طَائِرَهُ فِي عُنُقِهِ ، الولاية ، فأخذتني الرقة ، واستولت علي الأحزان.
فقلنا : يا بن رسول الله كرمنا وشرفنا باشراكك إيانا في بعض ما أنت تعلمه من علم.
قال : إن الله تبارك وتعالى أدار في القائم منا ثلاثة أدارها في ثلاثة من الرسل ، قدر مولده تقدير مولد موسى عليه السلام ، وقدر غيبته تقدير غيبة عيسى عليه السلام ، وقدر إبطاءه تقدير إبطاء نوح عليه السلام وجعل من بعد ذلك عمر العبد الصالح أعني الخضر دليلاً على عمره.
فقلت : إكشف لنا يا بن رسول الله عن وجوه هذه المعاني.
قال : أما مولد موسى فإن فرعون لما وقف على أن زوال ملكه على يده أمر بإحضار الكهنة فدلوه على نسبه وأنه يكون من بني إسرائيل ، ولم يزل يأمر أصحابه بشق بطون الحوامل من بني إسرائيل حتى قتل في طلبه نيفاً وعشرين ألف مولد ، وتعذر عليه الوصول إلى قتل موسى لحفظ الله تبارك وتعالى إياه.
كذلك بنو أمية وبنو العباس لما وقفوا على أن زوال ملكهم والأمراء والجبابرة منهم على يد القائم منا ، ناصبونا العداوة ، ووضعوا سيوفهم في قتل آل بيت رسول الله صلى الله عليه وآله وإبادة نسله ، طمعاً منهم في الوصول إلى قتل القائم عليه السلام ، ويأبى الله أن يكشف أمره لواحد من الظلمة ، إلى أن يتم نوره ولو كره المشركون.
وأما غيبة عيسى عليه السلام فإن اليهود والنصارى اتفقت على أنه قتل ، وكذبهم الله عزوجل بقوله : ( وَمَا قَتَلُوهُ وَمَا صَلَبُوهُ وَلَكِنْ شُبِّهَ لَهُمْ ) كذلك غيبة القائم عليه السلام فإن الأمة تنكرها لطولها.
وأما إبطاء نوح عليه السلام فإنه لما استنزل العقوبة على قومه من السماء ، بعث الله عزوجل جبرئيل الروح الأمين بسبعة نويات فقال : يانبي الله إن الله تبارك وتعالى يقول لك : إن هؤلاء خلائقي وعبادي ولست أبيدهم بصاعقة من صواعقي إلا بعد تأكيد الدعوة وإلزام الحجة ، فعاود اجتهادك في الدعوة لقومك فإني مثيبك عليه ، واغرس هذا النوى فإن لك في نباتها وبلوغها وإدراكها إذا أثمرت الفرج والخلاص ، فبشر بذلك من تبعك من المؤمنين. فلما نبتت الأشجار وتأزرت وتسوقت وتغصنت وأثمرت وزهى الثمر عليها بعد زمن طويل ، استنجز من الله سبحانه وتعالى العدة ، فأمره الله تبارك وتعالى أن يغرس من نوى تلك الأشجار ويعاود الصبر والإجتهاد ، ويؤكد الحجة على قومه ، فأخبر بذلك الطوائف التي آمنت به ، فارتد منهم ثلاث مائة رجل وقالوا : ولو كان ما يدعيه نوح حقاً لما وقع في وعد ربه خلف.
ثم إن الله تبارك وتعالى لم يزل يأمره عند كل مرة أن يغرسها تارة بعد أخرى ، إلى أن غرسها سبع مرات ، فما زالت تلك الطوائف من المؤمنين ترتد منهم طائفة ، إلى أن عاد إلى نيف وسبعين رجلاً ، فأوحى الله عزوجل عند ذلك إليه وقال : يا نوح الآن أسفر الصبح عن الليل لعينك ، حين صرح الحق عن محضه وصفي من الكدر ، بارتداد كل من كانت طينته خبيثة ..
قال الصادق عليه السلام : ( وكذلك القائم عليه السلام تمتد أيام غيبته ليصرح الحق عن محضه ، ويصفوا الايمان من الكدر ). ( البحار : 51/219 – 222 ).
( اللهم كن لوليك الحجة بن الحسن ، صلواتك عليه وعلى آبائه ، في هذه الساعة وفي كل ساعة ، ولياً وحافظاً وقائداً وناصراً ، ودليلاً وعيناً ، حتى تسكنه أرضك طوعاً ، وتمتعه فيها طويلا ).
( اللهم وصل على ولي أمرك ، القائم المؤمل ، والعدل المنتظر ، وحفه بملائكتك المقربين ، وأيده منك بروح القدس يا رب العالمين.
اللهم اجعله الداعيَ إلى كتابك ، والقائمَ بدينك ، استخلفه في الأرض كما استخلفت الذين من قبله ، مَكِّنْ له دينه الذي ارتضيته له ، أبدله من بعد خوفه أمناً ، يعبدك لا يشرك بك شيئاً. اللهم أعزه وأعزز به ، وانصره وانتصر به ، وافتح له فتحاً يسيراً ، واجعل له من لدنك سلطاناً نصيراً. اللهم أظهر به دينك وسنة نبيك صلى الله عليه وآله ، حتى لايستخفي بشئ من الحق مخافة أحد من الخلق.
اللهم إنا نرغب إليك في دولة كريمة ، تعز بها الإسلام وأهله ، وتذل بها النفاق وأهله ، وتجعلنا فيها من الدعاة إلى طاعتك ، والقادة إلى سبيلك ، وترزقنا بها كرامة الدنيا والآخرة.
اللهم ما عرفتنا من الحق فحملناه ، وما قصرنا عنه فبلغناه. اللهم الْمُمْ به شعثنا ، واشعب به صدعنا ، وارتق به فتقنا ، وكثر به قلتنا ، وأعزز به ذلتنا ، وأغن به عائلنا ، واقض به عن مغرمنا ، واجبر به فقرنا ، وسد به خلتنا ، ويسر به عسرنا ، وبيض به وجوهنا ، وفك به أسرنا ، وأنجح به طلبتنا ، وأنجز به مواعيدنا ، واستجب به دعوتنا وأعطنا به سؤلنا ، وبلغنا به من الدنيا والآخرة آمالنا ، وأعطنا به فوق رغبتنا.
يا خير المسؤولين وأوسع المعطين ، إشف به صدورنا ، وأذهب به غيظ قلوبنا ، واهدنا به لما اختلف فيه من الحق بإذنك ، إنك تهدي من تشاء إلى صراط مستقيم ، وانصرنا به على عدوك وعدونا إله الحق آمين.
اللهم إنا نشكو إليك فقد نبينا صلواتك عليه وآله ، وغيبة ولينا ، وكثرة عدونا ، وقلة عددنا ، وشدة الفتن بنا ، وتظاهر الزمان علينا ، فصل على محمد وآل محمد ، وأعنا على ذلك كله بفتح منك تعجله ، وضر تكشفه ونصر تعزه ، وسلطان حق تظهره ، ورحمة منك تجللناها ، وعافية منك تلبسناها ، برحمتك يا أرحم الراحمين.
( اللهم صلِّ على محمد وعليهم صلاةً كثيرةً دائمةً طيبة ، لا يحبط بها إلا أنت ، ولا يسعها إلا علمك ، ولا يحصيها أحد غيرك.
اللهم صلى على وليك المحيي سنتك ، القائم بأمرك ، الداعي إليك ، الدليل عليك ، وحجتك على خلقك ، وخليفتك في أمرك ، وشاهدك على عبادك. اللهم أعزَّ نصره ، ومُدَّ عمره ، وزيِّنْ الأرض بطول بقائه.
اللهم اكفه بغي الحاسدين ، وأعذه من شر الكائدين ، وازجر عنه إرادة الظالمين ، وخلصه من أيدي الجبارين. اللهم أعطه في نفسه وذريته وشيعته ورعيته وخاصته وعامته وعدوه وجميع أهل الدنيا ما تَقَرُّ به عينه ، وتُسَرُّ به نفسه ، وبلغه أفضل أمله في الدنيا والآخرة. إنك على كل شئ قدير.
اللهم جدد به ما محي من دينك ، وأحي به ما بدل من كتابك ، وأظهر به ما غير من حكمك ، حتى يعود دينك به وعلى يديه غضاً جديداً خالصاً مخلَصاً ، لاشك فيه ولا شبهة معه ، ولا باطل عنده ولا بدعة لديه.
اللهم نوره بنوره كل ظلمة ، وهد بركنه كل بدعة ، واهدم بعزته كل ضلالة واقصم به كل جبار ، وأخمد بسيفه كل نار ، وأهلك بعدله كل جبار ، وأجر حكمه على كل حكم ، وأذل لسلطانه كل سلطان.
اللهم أذن كل من ناواه ، وأهلك كل من عاداه ، وامكر بمن كاده ، واستأصل من جحد حقه واستهان بأمره ، وسعى في إطفاء نوره ، وأراد إخماد ذكره ).
( اللهم لك الحمد على ماجرى به قضاؤك في أوليائك ، الذين استخلصتهم لنفسك ودينك ، إذا اخترت لهم جزيل ما عندك من النعيم المقيم ، الذي لازوال له ولا اضمحلال ، بعد أن شرطت عليهم الزهد في درجات هذه الدنيا الدنية وزخرفها وزبرجها ، فشرطوا لك ذلك ، وعلمت منهم الوفاء به ، فقبلتهم وقربتهم ، وقدمت لهم الذكر العلي ، والثناء الجلي ، وأهبطت عليهم ملائكتك ، وأكرمتهم بوحيك ، ورفدتهم بعلمك ، وجعلتهم الذرائع إليك ، والوسيلة إلى رضوانك. فبعض أسكنته جنتك إلى أن أخرجته منها. وبعض حملته في فلكك ونجيته ومن آمن معه من الهلكة برحمتك. وبعض اتخذته خليلاً ، وسألك لسان صدق في الآخرين فأجبته وجعلت ذلك علياً ، وبعض كلمته من جشرة تكليماً ، وجعلت له من أخيه ردءاً ووزيراً. وبعض أولدته من غير أب ، وآتيته البينات ، وأيدته بروح القدس. وكلاً شَرَعْتَ له شريعة ، ونهجْت له منهاجاً ، وتخيرت له أوصياء ، مستحفظاً بعد مستحفظ ، من مدة إلى مدة ، إقامةً لدينك ، وحجةً على عبادك ، ولئلا يزول الحق عن مقره ، ويغلب الباطل على أهله ، ولا يقول أحد : لولا أرسلت إلينا رسولاً منذراً ، وأقمت لناً علماً هادياً ، فنتبع آياتك من قبل أن نذل ونخرى.
إلى أن انتهيت بالأمر إلى حبيبك ونجيبك محمد صلى الله عليه وآله فكان كما انتجبته ، سيد من خلقته ، وصفوة من اصطفيته ، وأفضل من اجتبيته ، وأكرم من اعتمدته ، قدمته على أنبيائك ، وبعثته إلى الثقلين من عبادك ، وأوطأته مشارقك ومغاربك ، وسخرت له البراق وعرجت به إلى سمائك ، وأودعته علم ما كان وما يكون إلى انقضاء خلقك.
فعلى الأطائب من أهل بيت محمد وعلي صلى الله عليهما وآلهما ، فليبك الباكون ، وإياهم فليندب النادبون ، ولمثلهم فلتذرف الدموع ، وليصرخ الصارخون ، ويضج الضاجون ، ويعج العاجون.
أين الحسن ، أين الحسين ، أين أبناء الحسين ، صالحٌ بعد صالح ، وصادقٌ بعد صادق. أين السبيلُ بعد السبيل ، أين الخيرةُ بعد الخيرة ، أين الشموسُ الطالعة ، أين الأقمارُ المنيرة ، أين الأنجمُ الزاهرة ، أين أعلامُ الدين ، وقواعدُ العلم.
أين بقيةُ الله التي لاتخلو من العترة الطاهرة ، أين المعدُّ لقطع دابر الظلمة ، أين المنتظرُ لإقامة الأمْتِ والعِوج ، أين المرتجى لإزالة الجور والعدوان ، أين المدخر لتجديد الفرائض والسنن ، أين المتخير لإعادة الملة والشريعة ، أين المؤمّضل لاحياء الكتاب وحدوده ، أين محيي معالم الدين وأهله ، أين قاصم شوكة المعتدين ، أين هادم أبنية الشرك والنفاق.
أين معز الأولياء ومذل الأعداء ، أين جامع الكلم على التقوى ، أين السبب المتصل بين أهل الأرض والسما ، أين صاحب يوم الفتح ، وناشر رايات الهدى ، أين مؤلف الشمل الصلاح والرضا ، أين الطالب بذحول الأنبياء وأبناء الأنبياء ، أين الطالب بدم المقتول بكربلاء.
بأبي أنت وأمي ونفسي لك الوقاء والحمى ، يا بن السادة المقربين ، يا ابن النجباء الأكرمين ، ياابن الهداة المهتدين يا ابن الخيرة المهديين. عزيزٌ عليَّ أن أرى الخلق ولا ترى ، ولا أسمع لك حسيساً ولا نجوى ، عزيز علي أن لاتحيط بي دونك البلوى ولا ينالك مني ضجيج ولا شكوى. بنفسي أنت من مغيب لم يخل منا ، بنفسي أنت من نازح لم ينزح عنا.
إلى متى أحار فيك يا مولاي وإلى متى. وأي خطاب أصف فيك وأي نجوى. عزيزٌ علي أن أجاب دونك وأناغى. عزيز علي أن أبكيك ويخذلك الورى. عزيزٌ على أن يجري عليك دونهم ما جرى.
هل من معين فأطيل معه العويل والبكا ، هل من جزوع فأساعد جزعه إذا خلا ، هل قذيت عين فتسعدها عيني على القذى ، هل إليك يا ابن أحمد سبيل فتلقى ، هل يتصل يومنا منك بغده فنحظى ؟ ترى أترانا نحف بك وأنت تؤم الملأ ، وقد ملأت الأرض عدلاً ، وأذقت أعداءك هواناً وعقاباً ، واجتثثت أصول الظالمين ، ونحن نقول الحمد لله رب العالمين.
اللهم أنت كشاف الكرب والبلوى ، وإليك أستعدي فعندك العدوي ، وأنت رب الآخرة والأولى.
اللهم ونحن عبيدك التائقون إلى وليك ، المذكر بك وبنبيك ، الذي خلقته لنا عصمةً وملاذاً ، وأقمته لنا قواماً ومعاذاً ، وجعلته للمؤمنين منا إماماً ، فبلغه منا تحيةً وسلاماً.
اللهم وأقم به الحق ، وادحض به الباطل ، وأدِلْ به أولياءك ، وأذلل به أعداءك ، وصل اللهم بيننا وبينه وصلةً تؤدي إلى مرافقة سلفه ، واجعلنا ممن يأخذ بحجزتهم ، ويكمن في ظلهم ، وأعنا على تأدية حقوقه إليه ، والإجتهاد في طاعته ، والإجتناب عن معصيته ، وامنن علينا برضاه ، وهب لنا رأفته ورحمته ودعاءه ، وخير ما ننال به سعة من رحمتك ، وفوزا عندك ، واجعل صلواتنا به مقبولة ، وذنوبنا به مغفورة ، ودعاءنا به مستجاباً ، واجعل أرزاقنا به مبسوطة ، وهمومنا به مكفية ، وحوائجنا به مقضية ، وأقبل إلينا بوجهك الكريم ، واقبل تقربنا إليك ، وانظر إلينا نظرة رحيمة ، نستكمل بها الكرامة عندك ، ثم لا تصرفها عنا بجودك. واسقنا من حوض جده صلى الله عليه وآله ، بكأسه وبيده رَيَاً روياً ، سائغاً هنياً ، لا ظمأ بعده. يا أرحم الراحمين ).
هذا غيض من فيض من آدابنا الشيعية وأدبنا الشيعي مع الإمام المهدي الموعود أرواحنا فداه.
كما أن للشيعة في مدحه وحبه من الشعر من قبل ولاته الى يومنا هذا ، مئات القصائد ، وفيها من عيون الشعر العربي ، وآيات الشعر الفارسي والتركي والأوردي. وسنختم الكتاب بمقطوعات منها ، إن شاء الله.
(( ضمن كتاب عصر الظهور))
التعلیقات