المخلِّص في سِفر إشعياء
معروف عبد المجيد
منذ 14 سنةفکرة الخلاص في التراث الاسلامي
عاشت البشرية دائما فکرة ( المخلّص ) الذي يأتي على جناح الصبح ، فيحقق آمالها وأحلامها ، وينتشلها من بين أنواء الشقاء الى شاطئ اخضر مشرق تطلع عليه شمس السعادة والطمأنينة والرخاء.
ولقد عبّرت الانسانية عن هذا الحلم الموعود والأمل المنشود في تراثها ونتاجها الأدبي والثقافي ، بل وزخرت به اساطيرها القديمة.
والواقع أن المتتبع لفکرة الخلاص والمخلّص في التراث الانساني سيجدلها جذورا ضاربة في التاريخ حتى عند الشعوب والأمم الوثنية ، مما بوسعه اضاءة هذا البعد المهم في العقل البشري والحضارة الانسانية.
ولأنّ آداب الشعوب تعبّر عن آمالها وتطلعاتها فقد تفتق الکثير من النتاج الأدبي عن هذا الحلم العظيم الذي کان وما زال يراود البشرية وتعلق عليه آمالها في المستقبل المضيء الزاهر.
فقبل الميلاد ، حاول الفيلسوف اليوناني المعروف افلاطون ( 427 ـ 347 ق. م ) أن يرسم ملامح هذا الحلم الوردي في مؤلفه الشهير ( الجمهورية ).
وبعد الميلاد ، تحدث الطبيب والمنجم الفرنسي اليهودي نوستراداموس صراحة في مؤلفه البارز ( المئويات ) عن ( المخلص ) الذي أفاد منه الغرب کثيرا في صراعاته السياسية والعسکرية ، ومع أن ( نوستراداموس هذا ، 1503 ـ 1566 ) کان يهوديا ، إلا أنه وظف التراث الاسلامي جنبا إلى جنب التراث اليهودي في التعبير عن هذا الحلم الذهبي في مستقبل البشرية.
بل إن الکاتب والمسرحي الفرنسي ( صمويل بيکيت ) عبّر في مسرحيته المعروفة ( في انتظار غودو ) عن هذا الأهل المنتظر الذي يعول عليه الانسان في خلاصه من البؤس والشقاء والصراع والوصول به إلد فجر الأمل الساطع.
وإذا کان هذا هو شأنَ الأدب والتراث غير الاسلامي ـ هو ما لم نذکر سود نتف منه ـ فان حظ الأدب الاسلامي لو فير في هذا المضمار ـ ولاسيما ما استفاد منه من التراث ـ ابتداءًا من ( المدينة الفاضلة ) ـ التي يمکن أن تعدّ اثرا أدبيا ـ إلى ما أُبدع حول ( المهدي المنتظر ) من قصص وروايات واشعار من اليسير العودة إليها في مظانّها الکثيرة.
المخلّص في الکتب المقدسة امّا التاريخ العقائدي للبشرية ، فقد حفل بالکثير حول فکرة ( المخلّص ) منذ الرحلة الأولى لجبرائيل عليه السلام بين السماء والأرض قائما بمهمة الوحي.
وقد تکفلت الکتب السماوية ـ حتى ما طاله التحريف منها ـ ببيان هذا الأمر. والناظر في ( الکتاب المقدس ) بعهديه القديم والجديد ، أي ( التوراة ، والانجيل ) وکذلک في ( الأوستا ) ، وعلى رأس الجميع ( القرآن الکريم ) الذي لا ياتيه الباطل من بين يديه ولا من خلفه ، سيقف على الکثير من الکلمات ، والفقرات ، والجمل ، والآيات ، التي تحلق بالانسان من أرض الحاضر المظلم بالجور والظلم إلى آفاق المستقبل المنير بمشعل القسط والعدل. ولأن موضوعنا يحمل عنوان ( المخلّص في سفر إشَعْيَاء ) فسوف نُقصر البحث على هذا الجانب في ( التوراة ) التي تحمل نصوصها الکثير بهذا الصدد ، ولاسيما في قسميها ( الأنبياء والکتب ) أو ( نبيئيم ـ و ـ کتوبيم ) و بالأحدي ( نقيئيم ـ و ـ کتوقيم ) الذين يعبران عن نبوءات ورؤى ويمثلان الشطر الأکبر من ( العهد القديم ). وأبرز ما في هذين القسمين من التوراة ( سفر إشَعْياء ) الذي يبدو مکرّسا في مجمله لرسم مشاهد المستقبل انطلاقا من مظاهر الماضي والحاضر التي خيبت آمال الانسان.
خصوصيات سفر اشعياء
يتکون ( سفر إشَعْياء ) ـ والذي ينطقه البعض ( اشعيا ) ـ من ( ستة وستين إصحاحا ) ويتوسط سفري ( نشيد الأنشاد ) و ( إرميا ). وقد وُظفت نصوصه باجمعها لتبيان ( رؤيا ) رآها ( إشعياء بن آموص ) الذي يُقدّر بأنه عاش في القرن الثامن قبل الميلاد ، ويُعرف بأنه احد کبار أنبياء مملکة إسرائيل الأربعة ، وله نشاط جهادي ملموس ، ويقال بانه مات شهيدا ، وقد تنبأ في رؤياه عن ميلاد السيد المسيح ( عليه السلام ) من السيدة العذراء.
ويتميز هذا السفر بمميزات کثيرة تهم الباحث الاسلامي ، ولا سيما فيما يتعلق بفکرة الظهور والخلاص ، فضلا عن أنه کان مثار جدل کبير بين محللي ومفسري التوراة.
سفر إشعياء والنصوص الاسلامية
ولعل أبرز ما في نصوص سفر ( إشعياء ) أنه يصور مشاهد الخلاص بنفس الألفاظ والتعبيرات والمضامين التي يستخدمها التراث الاسلامي ولا سيما على نطاق الرواية والحديث. فهو يتحدث عن مقدمات الظهور ، وعلامات الظهور ، وعن حياة العالم فيما بعد الظهور ويوم الخلاص. وکل ذلک بما لا يکاد يخرج عن سياق السنة النبوية الشريفة والتراث الاسلامي في مجمل الاتجاه العام حول فکرة « الخلاص ». وکدليل على هذا الادعاء ، فلا مناص من الاتيان ببعض الأمثلة حتى تتضح الفکرة.
نماذج وأدلة
تقول التوراة : « فيقضي بين الأمم ، ويُنصف لشعوب کثيرين » إشعياء 2 / 4
ويقول الرسول صلي الله عليه وآله : « لو لم يبق من الدنيا إلا يوم واحد ، لطول الله ذلک اليوم ، وبعث رجلا من أهل بيتي ، يواطئ اسمه اسمي ، يملأ الأرض قسطا وعدلا کما مُلئت ظلما وجورا » (1).
فالقاسم المشترک في هذين النصين هو أن « المخلّص » سيحقق الانصاف والعدالة للبشرية.
وتقول التوراة : « يقضي بالعدل للمساکين ، ويحکم بالانصاف لبائسي الأرض » إشعياء 11 / 4
و يقول الرسول صلي الله عليه وآله : « يملأها عدلا ، کما مُلئت ظلما وجورا » (2).
فمهمة « المخلّص » هي إحقاق الحقوق والحکم بالعدل والإنصاف.
وتقول التوراة : « فاذا هم بالعجلة يأتون سريعا » اشعياء 5 / 26
و يقول الرسول صلي الله عليه وآله : « فأتوه ولو حبواً على الثلج » (3).
فيه إشاره واضحة ودعوة صريحة إلى الاسراع في مناصرة « المخلّص ».
وتقول التوراة : « في ذلک اليوم ، يکون غصن الرب بهاءً ومجداً ، وثمر الأرض فخراً وزينهً » إشعياء 4 / 2
ويقول الرسول صلي الله عليه وآله : « يُسقط الله الغيث ، وتُخرج الأرض نباتاتها ، وتعظم الأمّة ، وتنعم أمتي نعمة لم ينعموا بمثلها » (4).
و وجه التشابه هنا هو الخصب وازدهار الثمار والرفول في النعمة العظيمة يوم ظهور المخلّص.
وتقول التوراة : « و أعيد قضاتک کما في الأول ، ومشيريک کما في البداءة ، بعد ذلک تُدعَيْن مدينهَ العدل القريهَ الآمنه » إشعياء 1 / 26
و يقول الرسول صلي الله عليه وآله : « و يسيطر العدل حتى يکون الناس على مثل أمرهم الأول » (5).
والدلالة المشترکة هنا هي إقرار العدالة ، وعودة الانسانية إلى فطرتها السليمة بفضل ظهور المنجي والمخلّص.
وتقول التوراة : « صهيون تُفدى بالحق ، وتائبوها بالبِرّ ، وهلاک المذنبين والخطاة يکون سواءً ، وتارکوا الرب يفنون ». إشعياء 1 / 27 ، 28
و يقول الرسول صلي الله عليه وآله : « يعمر خراب الدنيا ، ويخرب عمارها » (6).
في دلالة ظاهرة على عودة الموازين الصحيحة والقضاء على الموازين الخاطئة السائدة ، وهلاک المذنبين والخطاة والمشرکين ، وسيادة الحق والبر کمظهرين للفداء والتوبة. حيث سيقوم « المخلّص » بتخريب ما بناه الآثمون من بيوت مهتوکة ومواخير مرذولة ، ويعمر بيوت العبادة وخراب القلوب ، ويُفني المذنبين والخطاة وآثارَهم القائمة.
وتقول التوراة : « صارت فضتکِ زغلا وخمرک مغشوشهً بماء »
« و ارديدي عليکِ ، وأنقّي زغلک کأنه بالبورق ، وأنزع کل قصد يرک ، وأعيد قضاتک کما في الأول » إشعياء 1 / 22 ، 25 ، 26
و يقول اميرالمؤمنين الامام عليّ بن أبي طالب ( عليه السلام ) : « لينزعنّ عنکم قضاة السوء ، وليعزلنّ عنکم أمراء الجور ، وليطهرنّ الأرض من کل غاشّ » (7).
وهنا يشترک النصان في أن « المخلّص » سيقضي على قضاة السوء وأمراء الجور ، ويمحو ظاهرة الغش.
وتقول التوراة : « ويل للمبکرين صباحا يتبعون المسکر ، للمتأخرين في العتمة تلهيهم الخمر » إشعياء 5 / 11
و يقول الرسول صلي الله عليه وآله : « يبطل في دولته الزنا وشربُ الخمر والربا ويُقبل الناس على العبادات » (8).
والمعنى هنا واحد ـ حتى في الألفاظ ـ من أن « المخلّص » سيقضي على ظواهر الزنا والسکر واللهو والربا فيعود الناس إلى دور العبادة.
وتقول التوراة : « و اجعل صبيانا رؤساء لهم ، واطفالاً تتسلط عليهم » اشعياء 3 / 4
و يقول الامام عليّ عليه السلام : « و ذلک إذا أُمّرت الصبيان » (9).
حيث أورد کلا النصين علامة من علامات ظهور « المخلّص » وهي إمارة الصبيان ورئاسة الأطفال.
وتقول التوراة : « ويل للشرير شرٌّ ، لأن مجازاة يديه تعمل به... ونساءٌ يتسلطن عليه » اشعياء 3 / 11 ، 12
و يقول الرسول صلي الله عليه وآله : « إذا کانت أمراؤکم شرارَکم ، وأمورُکم إلى نسائکم » (10).
وهنا يتفق النصان على علامتين من علامات مجىء « المخلّص » وهما : امراء الشر ، وسلطة النساء.
وتقول التوراة : « فاذا نظر إلى الأرض ، فهو ذا ظلام الضيق » اشعياء 5 / 30
و يقول الرسول صلي الله عليه وآله : « ينزل بأمتي في آخر الزمان بلاء شديد من سلطانهم لم يُسمع ببلاء اشدَّ منه ، حتى تَضيق عليهم الأرض الرحبة » (11).
ووجه التشابه هنا لايکاد يخفى لفظا ومعنى ، حيث تضيق الأرض بما رحبت من شدة البلاء والظلم ، فتنفرج الهموم وتنکشف البلايا والغموم بظهور المخلّص الموعود. (12).
مفهوم الخلاص في الفکر اليهودي فمن هو هذا « المخلّص » المراد في سفر إشعياء؟
هذا هو السؤال الأساسي في هذا البحث ، وللجواب عنه لابد لنا أن نتوقف عند مفهوم الخلاص في « العهد القديم » أي « التوراة » وعند بعض تفسيرات وآراء المختصين في هذا الحقل العلمي.
يتبلور مفهوم الخلاص عند بني إسرائيل فيما يعرف في التراث اليهودي بـ « يوم يهوه » أو « يوم الرب ». وأهم ملامح يوم الرب عندهم تتلخص في انتشار نوع من السعادة والرخاء على الأرض کلها التي يسودها السلام ، وتزداد ثمارها ، وينعم الجميع بالسعادة ، وذلک على يد حاکم عادل من عند الرب يقيم العدل والقسط ويُنزل العقاب على الآثمين والمذنبين والقضاة الظالمين والأمراء الجائرين ، ويتضح ذلک في أسفار کثيرة ، کسفر إرميا ، وعاموس ، وهوشع ، واشعياء ، وزکريا ، وحزقيال ، والتکوين ، وسواها.
وقد دفع هذا بعضَ المختصين للربط بين مجىء عصر الخلاص وبين يوم الرب کما حاولت مجموعة اخرى فهم الربط بين ما يعرف باسم « الاسکاتولوجي » (13) أي الآخرة ، أو عصر النهاية ، أو فلسفة الحشر والنشر ، وبين بنوءات يوم الرب عند الأنبياء.
على أنَّ کل من « حاييم هيرشيج » و « أجلين » و « يوسف کلوزنر » يعتقدون بأن اصل فکرة يوم الرب تَعود إلى آباء بني إسرائيل القدامى ، وان ذلک يعتمد على وعد الرب لهم بأن يکونوا شعبه المختار. وأما « سلّين » (14) فيرى وجود علاقه قوية بين مفهوم الخلاص ويوم الرب ، ولکنه يرى ايضا بأن تلک الأفکار تظهر عند بني اسرائيل منذ تجلِّي الرب لموسي عليه السلام وظهوره له في جبل سيناء.
ويعارض فريق آخر من الباحثين ـ ومنهم « هولشر » (15) و « جينز برج » (16) وجهة النظر السالفة التي تربط بين يوم الخلاص وبين « الاسکاتولوجي » واعتباره مفهوما نشأ منذ عصر الآباء ، ويتمسکون بأن مفهوم الخلاص لم يظهر إلا بعد سقوط مملکتي إسرائيل ويهودا ، أي منذ عام 586 ق. م.
ولکن عدد آخر من الباحثين ، ومنهم « جرسمان ، وستارک ، وجَارمياس ، وأوستورلي ، وجون برايت » يقفون معارضين للراي السابق ، ويقولون بأن انبياء عصر القضاة کانوا على معرفة بالإسکاتولوجي ، وأنهم قد أخذوا منه نقطة بداية لنبوءاتهم بعد تعديله ، ثم قاموا بتطبيقه على المواقف والأحداث المعاصرة.
وترد کل هذه الآراء بالتفصيل في دوائر المعارف ، المقرائية ، والبريطانية ، واليهودية.
المفهوم الخلاص في التوراة وأما اسفار التوراة فقد تناول ـ ربانيو التلمود عددا من فقراتها ، وفسروها على أنها دليل مؤکد على فکرة الخلاص.
ومن ذلک ما جاء في ( سفر التکوين ، 49 / 10 ) حيث تقول هذه الفقرة : « لا يزول القضيب من يهودا ، ويُنزعُ من بين رجليه ، حتى يأتي الذي هو أهله ، وهو يکون انتظار الأمم ».
وقد ثار جدل ساخن حول نص هذه الفقرة وترجمتها انطلاقا من کلمة « شيلوّة » أو « شيلو » التي يقرأها البعض « شيلوّح » على فرض التصحيف وتعني في الأولى « الذي له » وفي الثانيه « الرسول » کما يقرأها البعض الآخر « شلواه » وتعنى « المسالم ، الوديع ، الموثوق ».
ويرى أحد علماء اليهود الذين اسلموا عام 918 هـ واسمه عبدالسلام ، وکذلک العلامه محمد رضا ، أحد العلماء اليهود الايرانيين الذي اسلم وتشيّع عام 1237 هـ ، وايضا العلامة محمد صادق فخر الاسلام أحد العلماء النصارى الايرانيين الذي اسلم وتشيع في بداية القرن الرابع عشر الهجري ، يرون جميعا بأن هذا النص يحمل بشرى برسالة خاتم الأنبياء محمد صلي الله عليه وآله.
وإن کنا نعتقد نحن بانه نص في يوم الخلاص ، وأنه بشرى ايضا بظهور المهدي المنتظر عجّل الله تعالى فرجه الشريف انطلاقا من ألفاظ ومعاني النص من قبيل : زوال الحکم من يهوذا ، وانتظار ، والأمم أو الشعوب ، والأمل ، وهذا الفاظ ومعانٍ تتعلق بيوم الظهور والخلاص في آخر الزمان ، وإن کانت امتداداً للرساله المحمدية.
وهناک ايضا فقرات مشابهة تصب في نفس السياق ، أي مفهوم الخلاص وفکرته ، وردت في « سفر العدد » ، و « مزامير داوود » ، و « سفر هوشع » وسواها مما لايتسع المجال لذکره ولکن السهم الأوفر يبقى لسفر إشعياء الذي نحن بصدد بحثه.
ولاجدال في أن مفهوم الخلاص في ( سفر إشعياء ) لايتعلق بالاسکاتولوجى ، أي بالحشر والنشر ويوم القيامة ، بل يتعلق بوضوح بيوم الخلاص وظهور المخلّص في الحياة الدنيا وفي آخر الزمان حيث يقيم العدل ويُنصف المظلومين ويملأ الأرض خيرا وبرکة وسعادة وأمناً. هناک ظاهرة مشابهة في تفسير بعض الايات القرانية حول المهدي المنتظر عجّل الله تعالى فرجه الشريف. ومن ذکر قوله تعالى : إِنَّهُمْ يَرَوْنَهُ بَعِيدًا * وَنَرَاهُ قَرِيبًا (17) حيث يرى بعض المفسرين بأنها في يوم القيامة ، بينما يعتقد البعض الآخر بأنها في يوم الخلاص وظهوره الحجة المنتظر عجّل الله تعالى فرجه الشريف.
من المخلص في سفر إشعياء
وفي محاولة للتعرف على « المخلّص » في سفر إشعياء ، بعد الوقوف على مفهوم الخلاص في مجمل التوراة والفکر اليهودي يجدر بنا النظر في صفات وملامح وظروف مجىء هذا « المخلّص » والواقع أن « سفر إشعياء » يشير إلى ثلاثة « مخلّصين » ذکر اثنين منهم بالاسم تقريبا.
فأحد المخلّصين في « سفر إشعياء » هو السيد المسيح عليه السلام الذي يسميه « عمّا نوئيل » ، حيث يقول : « ولکن يعطيکم السيد نفسُه آية ، ها هي العذراء تحبل ، وتلد إبناً ، وتدعو إسمه عمّا نوئيل. زُبْداً وعسلا يأکل متى عرف ان يرفض الشرّ ويختارَ الخير » إشعياء 7 / 15 ، 16
وأما « المخلّص » الثاني فهو « کوروش : 557 ـ 528 ق. م » حيث يقول السفر :
« هکذا يقول الرب لمسيحه لکورُوشَ الذي أمسکتُ بيمينه لأدوس أمامه امما واحقاءَ ملوک أَحُلُ لأفتح أمامه المصراعين والأبوابُ لاتُغلق » اشعياء ، 45 / 1 ، 2
وأما « المخلّص » الثالث ، فيکتفي « سفر إشعياء » بذکر ملامحه واوصافه وعلامات ظهوره :
و منها : المجىء من عند الرب ، والعدل ، والقضاء على الزنا والرشوة ، وإسقاط أمراء الجور ، وانتزاع السند والرکن من أورشليم.
وابرز العلامات التي تسبق ظهوره : امتلاءُ الأرض بالظلم والجور ، وتسلط النساء والصبيان ، وتحول المرشدين إلى مضلين ، وتفشى الکذب ، وانتشار الجدب والقحط والدمار والخراب ، وسوى ذلک من الاوصاف والعلامات التي على رأسها جميعا : خضوع کافة شعوب وأمم الأرض لحکمه بعد انتظاره وتعليق الأمل عليه ، وانطلاقا من هذه العلامة والصفة الأساس نستطيع الاستنتاج بأن « المخلّص الحقيقي والنهائي » في « سفر إشعياء » هو الإمام « المهديّ المنتظر » عجّل الله تعالى فرجه الشريف.
استنتاج واستدلال
والذي يسانه هذا الاستنتاج هو أن السيد المسيح عليه السلام مع أنه کان إلهيا وکان من عند الرب ، إلا انه لم يُخضع الشعوب والأمم لحکمه. کما أن « کوروش » وإن کان قد خلص بني إسرائيل من سبي بابل ، إلا انه لم يُخضع کافة شعوب وأمم الأرض لسلطانه ، فضلا عن أنه لم يکن من عند الرب ولم يکن إلهيا ، وهناک نظر في الرأي القائل بأن « کوروش » هو نفسه « ذو القرنين ».
واما الدليل الثاني فهو تلک الفقرات المهمة من « سفر إشعياء » والتي تقول :
« و يخرج قضيبٌ من جذع يَسَّى وينبت غصن من اصوله. ويَحُلُ عليه روح الرب ، روح الحکمة والفهم ، روح المشهورة والقوة ، روح المعرفة ومخافةِ الرب. ولذّته تکون في مخافة الرب ، فلا يقضى بحسب نظر عينيه ، ولا يحکم بحسب سمع اذنيه بل يقضي بالعدل للمساکين ، ويحکم بالأنصاف لبائسي الأرض ، ويضرب الأرض بقضيب فمه ، ويميت المنافق بنفخة شفتيه ، ويکون البر مِنْطقةَ متنيه والأمانة منطقةَ حَقْوَيْه.
فيسکنُ الذئبُ مع الخروف ، ويربض النمر مع الجدي ، والعجلُ والشبلُ والمسمَّنُ معا ، وصبيٌ صغير يسوقها. والبقرة والدُّبَّة ترعيان ، تربض أولادهما معا ، والأسد کالبقر ياکل تبنا. ويلعب الرضيع على سَرَب الصِّلّ ، ويمد الفطيم يده على حُجر الأُفعوان. لا يسوءون ولا يُفسدون في کل جبل قدسي لأن الأرض تمتلىء من معرفة الرب کما تغطي المياهُ البحر. ويکونُ في ذلک اليوم انّ اصل يسَّىَ القائمَ رايهً للشعوب إياه تطلب الأمم ، ويکونُ مَحِلُّه مَجْداً ». اشعياء ، 11 / 1 10
هذا النص يشبه رواية لأمير المؤمنين عليه السلام وهي التي يقول فيها : « يملک المهدي مشارق الأرض ومغاربها ، وترعى الشاة والذئب في مکان واحد ، ويلعب الصبيان بالحيّات والعقارب ولاتضرهم بشيىء ، ويذهب الشر ويبقي الخير ». (18)
أفليست کل هذه الصفات هي صفات « المهدي المنتظر » عجّل الله تعالى فرجه الشريف ؟ وهل يمکن ان تکون کل هذه الملامح سوى ملامح لعصر ظهوره؟ وهل هناک « قائم » سواه؟! وإذا قلنا بأن کلمة « يسَّى » الواردة في هذه الفقرات ليست إلا تحريفا لکلمة « يَس » ـ بناءً على ظاهرة التحريف في التوراة ـ فهل نکون قد تجاوزنا الحقيقة والواقع ؟ وهل يعدو « المهدي المنتظر » عليه السلام أن يکون جذعا من نسل « يس » وغصنا من أصوله؟!
و لعله من المناسب هنا ايضا أن نسوق هذا النص الشعري للشاعر « سليمان بن جبيرول » اليهودي ، الذي يستنهض فيه مجىء « المخلّص » وظهورَ « ابنِ يسَّى » الذي لم يأت ، والذي يراه حقا.
يقول الشاعر في قصيدة له بعنوان « جيئولاه » أي « خلاص » :
مبشّر السلام لم يات لمقدساتي
فلماذا لم يأت ابن يسَّى؟
حينئذ تشهد کافه الأمم بالمقدسات
هآنذا حقا اري ابن يسَّى
و هناک نصوص أخرى مشابهة لشعراء يهود ـ ولاسيما في العصر الوسيط ـ من أمثال : يهوذا اللاوي ، وأبراهام بن عزرا ، وعمّا نوئيل بن شلوموه ، وإن کانت قد فُسرت في اتجاهات أخرى ربما لا تکون مناسبة تماما لطبيعة وأصول النصوص التوراتية المستقيمة.
وأما الدليل الثالث الذي يمکن أن يعضد استنتاجنا فهو أن « المخلّص » الذي يتحدث عنه « سفر إشعياء » لم يظهر بعد ، ولو کان قد ظهر ، لما کانت حرکة المخلّصين الأدعياء وظاهرة المسحاء الکذابين.
المخلّص الدّجّال في التاريخ اليهودي ( بعد الاسلام )
فهناک وثائق تاريخيه تشير إلي ظهور عدد کبير من أدعياء « المسيحانيه » من بين صفوف اليهود ، ولا سيما في العصور الوسطى وما بعدها. وقد تزامنت هذه الحرکة مع بوادر الحملات الصليبية عام 1096 م ، فقد ظهر من بين اليهود رجل أسمى نفسه « إيليّا » أو « إلياهو » النبيّ ، وادعى أنه جاء مبشرا بقدوم « المخلّص » و « المسيح » الموعود.
کما ظهر مسيح دجال يهودي آخر أثناء الحملة الصليبية الثانية ، وکان ذلک في فلسطين عام 1121 م ، وادعى بأنه « المخلّص » المنتظر ، وأنه سيحرر فلسطين.
ومن أشهر من ادعوا « المسيحانية » في القرن الثاني عشر الميلادي ، وبالتحديد عام 1147 م شخص يهودي يُدعى « داوود بن سليمان » ، ويعرف باسم « داوود الرائي » ، وکان قد درس « التوراة » و « المدراش » و « المشنا » و « التلمود » على أبرز أساتذة عصره في بغداد ، کما أتقن العلوم العربية والاسلامية التي کانت سائدة في عصره ، وأوغل في تعلم التنجيم والسحر ، وغيرهما من المعارف السرية ، ويقال بأنه کان من کردستان.
وقد بدأ « داوود الرائي » مهمته في ادعاء أنه المخلّص والمسيح المنتظر بدعوة يهود بغداد والمناطق المحيطة بها للذهاب إلى القدس والاستيلاء عليها. وبعد أن اجتمع حوله العديد من الأتباع والأنصار فانه کون جيشا من المتطوعين ، ثم قرر أن يشن هجو ما حربيا على المسلمين بادئا بالاستيلاء على مدينة ( آمد ) التي وُلد فيها ـ وهي « ديار بکر » الحالية ـ لکن جيوش المسلمين فتکت به وأحبطت هجومه ، فقُتل في المعرکة.
کما يتحدث « موسى بن ميمون » في رسالته ليهود اليمن عن ظهور رجل في اليمن عام 1172 م ادعى أنه رسول المسيح المنتظر جاء ليمهد السبيل لقدومه وظهوره القريب في اليمن.
والمثير في هذه الحادثة هو أن الدجال اليهودي ثم القبض عليه وتقديمه لحاکم اليمن في ذلک الوقت ، فلما سأله الحاکم عن علامة ودليل مدّعاه ، فانه أجاب قائلا : اقطع رأسي ، وسأعود للحياة مره أخرى ، فقال الحاکم ، وکان عربيا ، لا توجد علامة أفضل من هذه ، وأنه إذا صدق کلامه فسوف يقتنع هو وکل العالم بصدق دعوته ، وأمر الملک فقطعوا رأسه! وهکذا راح المخلّص الدجال صخيه کذبه ... !
و من أشهر حرکات المخلّصين الکذابين حرکة اليهودي الدجال « أبراهام أبوالعافية » في النصف الثاني من القرن الثالث عشر الميلادي. فقد ادعى مجىء الخلاص على يديه ، وکتب کتابا أسماه « کتاب المعجزة » ، وزعم أنه على دراية بأسرار الأبجدية العبرية وأنها قادته إلى آفاق الرؤيا ، وقال : عندما وصلت إلى الأسماء وکُشفت لي أسرار واستار الغموض فيها تجلى لي رب العالمين ، وأطلعني على سره ، کما أطلعني على نهاية السبي وبداية الخلاص ... !
لکن حرکته لقيت معارضة کبيرة من قبل ربانيي التلمود ، فأنکر « سليمان الدرعي » ادعاءاته ، ولقبّه بالوغد ، ودعا کافة اليهود إلى تکذيبه.
وهناک حرکات أخرى مشابهة ظهرت في فرنسا عام 1087 م ، وفي قرطبة عام 1117 م ، وفي مدينة ( فاس ) بالمغرب عام 1127 م ، اشهرها حرکة « داوود الرأويني » الذي وُلد في خيبر عام 1490 م وهلک في إسبانيا عام 1525 م ، وادعى أنه سليل النبيّ محمد صلي الله عليه وآله ، وأطلق الوعود بمکان في الجنة لمن يتبعه من المسلمين ، ثم ادعى أنه الوريث الشرعي لعرش مملکة خيبر اليهودية ، ثم ذهب إلى البابا کليمنت السابع في روما وعرض عليه خدماته لمحاربة المسلمين وطرد الأتراک من فلسطين.
ولعل أشهر حرکات « المخلّص الکذاب » على الاطلاق هي حرکة « شبتاي تسيقى » الذي ولد في أزمير عام 1626 م ، وتوفي في ألبانيا عام 1675 م ، وهو من أسرة يهودية ألمانية ، وقد أعلن في إحدي الولائم أمام جمهور هائل من الحاضرين عن زواجه من التوراة ، مدعيا أن هذا الزواج يمثل الاتحاد العضوي بينه ، باعتباره المسيح المخلّص ، وبين توراة بني إسرائيل. واختار له ستة عشر رجلا من أتباعه ليکونوا نوابا له في عصر الخلاص. وبعد أن صار له جمهور کبير من اليهود فان « شبتاي تسيقي » هذا ما لبث أن أعلن إسلامه أمام السلطان محمد الرابع العثماني ( 1645 ـ 1687 م ) ، کما أعلن إسلام زوجته ، فأسماه السلطان بمحمد أفندي ، وأسمي زوجته بفاطمة ، ولکن محمد افندي ، وقد أتقن العربية والترکية ودرس القرآن ، کان يصرح امام خواصه بأنه « المخلّص » الذي تحدثت عنه التوراة ، وأن إسلامه ليس سوى ستار يختفي وراءه!
و من المعروف أن کافة هذه الحرکات قد باءت جميعا بالفشل ، کما فشلت مثيلاتها في التاريخ الاسلامي لدي أدعياء « المهدوية » الکاذبة.
« سفر إشعياء » والتحريف ولکن الملاحظة الأهم في حرکة الخلاص الکاذب لدي اليهود ، ولا سيما بعد « شبتاي تسيقى » ، هي الترکيز على « سفر إشعياء » وإعادة تفسير بعض فقراته التي تتضمن فکرة الخلاص وتشير إلى أوصاف المخلّص ، ومن ذلک الفقرة الخامسة من الاصحاح الثالث والخمسين من سفر إشعياء والتي تقول : « هو مجروح لأجل معاصينا ، مسحوق لأجل آثمنا » إشعياء ، 53 / 5
ففسروا کلمة مجروح على أنها تعني « مدنّسا ». وقالوا بأن هذه الفقرة تشير إلى أن کل الأمم الأخرى هي أمم مدنسة ، أما إسرائيل فهي الأمة الوحيدة المقدسة .. !
و ليس من المستبعد هنا أن نقول بأن تلک الحرکات اليهودية اصطدمت في تلک الأثناء بالتيار الفکري الاسلامي فيما يتعلق بالموعود المنتظر ، فلما اتضح زيفها فانها سعت إلى النيل من نفس الفکرة في التراث والدين الاسلامي فوسمت « المخلّص » وأمته معا بالتدنيس ، وهو ما يکشف عن بعد آخر في تحريف التوراة يتمثل هذه المرة في المعنى والمضمون والتفسير بعد تعسر التحريف اللفظي جراء انتشار حرکة الطباعة.
ولا يسعنا أخيرا إلا القول بأن ثمة أفاقا أخرى کان يمکن أن ينفتح عليها هذا البحث لولا ضآلة الفرصة وضيق الوقت ، وهو ما نترکه مُشرعا أمام الباحثين الأعزاء.
تنويه كما لا يفوتنا التنويه بأن هذا البحث ، بما فيه من رؤى ووجهات نظر واستنتاجات ، يبقى دائما رهن البحث حتى تخرج شمس الحقيقة من خلف السحاب فتملأ الأرض نورا وإشراقا وقد حملت في عطفيها الحقيقة المطلقة في عصر الظهور الحقيقي ويوم الخلاص المرتقب وفجر الوعد الموعود.
هوامش
1. بشارة الإسلام ، ص 59 وسواها ، إلزام الناصب ، ص 251 ـ252 ؛ ينابيع المودة ، ج 3 ، ص 166 ، 109 ومصادر أخرى.
2. الاختصاص ، ص 208 ؛ البحار ، ج 51 ، ص 91 وينابيع المودة ، ج 3 ، ص 93.
3. عيون أخبار الرضا ، ج2 ، ص 60 ومنتخب الأثر ، ص 143.
4. البيان ، ص 73 ؛ الملاحم والفتن ، ص 57 ؛ بشارة الاسلام ، ص 280 ، 290 وسواها.
5. الحاوي للفتاوى ، ج 2 ، ص 153 ومنتخب الأثر ، ص 478.
6. البحار ، ج 51 ، ص 75 ؛ الملاحم والفتن ، ص 56 ؛ الغيبة ، ص 114 وغيرها بألفاظ مختلفة.
7. إلزام الناصب ، ص 176 ؛ البحار ، ج 52 ، ص 224 ـ 225 بألفاظ مختلفة.
8. منتخب الأثر ، ص 308 ؛ الملاحم والفتن ، ص 54 ؛ الحاوي للفتاوى ، ج 2 ، ص 161 وغيرها بألفاظ أخرى.
9. بشارة الإسلام ، ص 41 ، 44 ، 76 وغيره من المصادر.
10. نهج الفصاحة ، ج 1 ، ص 45.
11. بشارة الإسلام ، ص 28 ، 31 ؛ الحاوي للفتاوى ، ج 2 ، ص 135 والمهدي ، ص 221.
12. الروايات نقلاً عن ( يوم الخلاص ).
13. Eschatology.
14. Sellin.
15. Holsher.
16. Ginseberg.
17. المعارج : 70 / 6و7.
18. منتخب الأثر ، ص 474 وسواه من المصادر.
مقتبس من كتاب " بررسي نظريه هاي نجات و مباني مهدويت " / مجلد 1 / الصفحة 97 ـ 112
التعلیقات