على هامش بشارات الاديان بالمهدي الامامي
عرفان محمود
منذ 12 سنةعراقة الإیمان بالمصلح العالمي
یعتبر الایمانُ بحتمیةِ ظهور المصلح الدیني العالمي وإقامة الدولة الإلهیة العادلة فی کل الأرض من نقاط الإشتراك البارزة بین جمیع الأدیان (1) ، والاختلاف فیما بینها إنّما هو في تحدید هویة هذا المصلح الدیني العالمي الذي یحقّق جمیع أهداف الأنبیاء علیهم السلام.
وقد استعرض الدکتور محمد مهدي خان في الأبواب الستة الاُولى من کتابه « مفتاح باب الأبواب » آراء الأدیان الستة المعروفة بشأن ظهور النبي الخاتم صلّى الله عليه وآله ثم بشأن المصلح العالمي المنتظر وبیّن أن کلَّ دینٍ منها بشّر بمجيء هذا المصلح الإلهي في المستقبل أو في آخر الزمان لیصلح العالم وینهي الظلم والشر ویحقّق السعادة المنشودة للمجتمع البشري (2). کما تحدث عن ذلک مفصلاً المیرزا محمد الاسترآبادي في کتابه « ذخیرة الأبواب » ، ونقل طرفاً من نصوص وبشارات الکثیر من الکتب السماویة لمختلف الأقوام بشأنه.
وهذه الحقیقة من الواضحات أقرَّ بها کل مَن درس عقیدة المصلح العالمي حتی الذین أنکروا صحتها أو شککوا فیها کبعض المستشرقین أمثال جولد زیهر المجري في کتابه « العقیدة والشریعة في الإسلام » (3) ، فاعترفوا بأنّها عقیدة عریقة للغایة في التأریخ الدیني وجدت حتی في القدیم من کتب دیانات المصریین والصینیین والمغول والبوذیین والمجوس والهنود والأحباش فضلاً عن الدیانات الکبرى الثلاث : الیهودیة والنصرانیة والإسلام (4).
البشارات بالمنقذ عنصر اساسي في الکتب المقدّسة
والملاحظ في عقائد هذه الأدیان بشأن المصلح العالمي أنّها تستند الی نصوص واضحة في کتبهم المقدّسة القدیمة ولیس الی تفسیرات عرضها علماؤهم لنصوص غامضة حمّالة لوجوه تأویلیة متعددة (5) ، وهذه الملاحظة تکشف عراقة هذه العقیدة وکونها تمثل أصلاً مشترکاً في دعوات الأنبیاء ـ صلوات الله علیهم ـ ، حیث إن کل دعوة نبویة ـ وعلی الأقل الرئیسة والکبرى ـ تُمثل خطوة علی طریق التمهید لظهور المصلح الدیني العالمي الذي یحقّق أهداف هذه الدعوات کافة (6) ، کما أن للتبشیر بحتمیة ظهور هذا المصلح العالمي تأثیراً علی هذه الدعوات فهو یشکل عامل دفع لاتباع الأنبیاء للتحرك باتجاه تحقیق أهداف رسالتهم والسعي للمساهمة في تأهیل المجتمع البشري لتحقیق أهداف جمیع الدعوات النبویة کاملة في عصر المنقذ الدیني العالمي.
ولذلك کان التبشیر بهذه العقیدة عنصراً أصلیاً في نصوص مختلف الدیانات والدعوات النبویة.
رسوخ الفکرة فی الیهودیة والنصرانیة
فالایمان بها ثابت عند الیهود مدون فی التوراة والمصادر الدینیة المعتبرة عندهم ، وقد فصل الحدیث عن هذه العقیدة عند الیهود کثیر من الباحثین المعاصرین وبخاصةً في العالم الغربي من أمثال جورج رذرفورد في کتابه « ملایین من الذین هم أحیاءٌ الیوم لن یموتوا أبداً » ، والسناتور الأمیرکي بول منز لي في کتابه « من یجرأ علی الکلام » والباحثة غریس هالسل في کتابها « النبوءة والسیاسة » وغیرهم کثیر (7).
فکل مَن درس الدیانة الیهودیة التفت الی رسوخ هذه العقیدة فیها وسجلها ، والنماذج التي ذکرناها آنفاً من هذه الدراسات اختصت بعرض هذه العقیدة بالذات عند الیهود والآثار السیاسیة التي أفرزتها نتیجة لتحرك الیهود انطلاقاً من هذه العقیدة وفي القرون الأخیرة خاصة بهدف الاستعداد لظهور المنقذ العالمي الذي یؤمنون به ، وسبب هذا التحرك هو أن عقیدة الیهود في هذا المجال تشتمل علی تحدید زمني لبدء مقدمات ظهور المنقذ العالمي : یبدا مع سنة ( 1914 ) للمیلاد ـ وهو عام تفجر الحرب العالمیة الاُولى کما هو معروف ـ ، ثم عودة الشتات الیهودي الی فلسطین وإقامة دولتهم التي یعتبرونها من المراحل التمهیدیة المهمة لظهور المنقذ الموعود ، ویعتقدون بأنّ العودة الی فلسطین هي بدایة المعرکة الفاصلة التي تنهي وجود الشر في العالم ویبدأ حینئذٍ « حکم الملکوت في الأرض لتصبح الأرض فردوساً » (8).
وبغض النظر عن مناقشة صحة ما ورد من تفصیلات في هذه العقیدة عند الیهود ، إلّا أن المقدار الثابت هو أنّها فکرة متأصلة في تراثهم الدیني وبقوة بالغة مکنت الیهودیة ـ من خلال تحریف تفصیلاتها ومصادیقها ـ أن تقیم علی أساسها تحرکاً استراتیجیاً طویل المدى وطویل النفس ، استقطبت له الطاقات الیهودیة المتباینة الأفکار والاتجاهات ونجحت في تجمیع جهودها وتحریکها باتجاه تحقیق ما صوره قادة الیهودیة لاتباعهم بأنّه مصداق التمهید لظهور المنقذ الموعود.
وواضح أنّ الإیمان بهذه العقیدة لو لم یکن راسخاً ومستنداً الی جذور عمیقة في التراث الدیني الیهودي لما کان قادراً علی إیجاد مثل هذا التحرك الدؤوب ومن مختلف الطاقات والاتباع ، فمثل هذا لا یتأتى من فکرة عارضة أو طارئة لا تستند الی جذور راسخة مجمع علیها.
کما آمن النصارى بأصل هذه الفکرة استناداً إلی مجموعة من الآیات والبشارات الموجودة في الإنجیل والتوراة. ویصرّح علماء الإنجیل بالایمان بحتمیةِ عودة عیسی المسیح في آخر الزمان لیقود البشریة في ثورةٍ عالمیة کبرى یعم بعدها الأمن والسلام کل الأرض کما یقول القس الألماني فندر فی کتابه « میزان الحقّ » (9) وأنّه یلجأ الی القوة والسیف لإقامة الدولة العالمیة العادلة. وهذا هو الاعتقاد السائد لدى مختلف فرق النصارى.
الإیمان بالمصلح العالمي في الفکر غیر الدیني
بل والملاحظ أن الإيمان بحتميةِ ظهور المصلح العالمي ودولته العادلة التي تضع فيها الحرب أوزارها ويعم السلام والعدل لا يختص بالأديان السماوية بل يشمل المدارس الفكرية والفلسفية غير الدينية أيضاً.
فنجد في التراث الفكري الإنساني الكثير من التصريحات بهذه الحتمية ، فمثلاً يقول المفكر البريطاني الشهير برتراند راسل : « إنّ العالم في انتظار مصلح يُوحّده تحت لواء واحد وشعار واحد » (10). ويقول العالم الفيزياوي المعروف ألبرت إينشتاين صاحب النظرية النسبية : « إنّ اليوم الذي يسود العالمَ كله فيه السلام والصفاء ويكونُ الناس متحابين متآخين ليس ببعيد » (11).
وأدقّ وأصرح من هذا وذاك ما قاله المفكر الإيرلندي المشهور برناردشو ، فقد بشر بصراحةٍ بحتميةٍ ظهور المصلح وبلزوم أن يكون عمره طويلاً يسبق ظهوره ؛ بما يقترب من عقيدة الإمامية في طول عمر الإمام المهدي عليه السلام ؛ ويرى ذلك ضرورياً لإقامة الدولة الموعودة ، قال في كتابه « الإنسان السوبرمان » ـ وحسب ما نقله عن الدكتور عباس محمود العقاد في كتابه عن برناردشو ـ في وصف المصلح العالمي بأنّه : « إنسانٌ حيٌ ذو بنيةٍ جسدية صحيحةٍ وطاقة عقلية خارقة ، إنسانٌ أعلى يترقى إليه هذا الإنسان الأدنى بعد جهد طويل ، وأنّه يطول عمرُهُ حتى ينيف على ثلاثمائة سنة ويستطيع أن ينتفع بما استجمعه من أطوار العصور وما استجمعه من أطوار حياته الطويلة » (12).
طول عمر المصلح في الفكر الإنساني
والملاحظ أن الأوصاف التي يذكرها المفكر الإيرلندي للمصلح العالمي من الكمال الجسمي والعقلي وطول العمر ، والقدرة على استجماع خبرات العصور والأطوار بما يمكنه من إنجاز مهمته الإصلاحية الكبرى قريبة من الأوصاف التي يعتقد بها مذهبُ أهل البيت عليهم السلام في المهدي المنتظر ـ عجل الله فرجه ـ وغيبته. وقضية طول العمر في هذا المصلح العالمي التي أكد ضرورتها برناردشو ؛ تشيرُ الى إدراك الفكر الإنساني لضرورة أن يكون المصلح العالمي مستجمعاً ـ عند ظهوره لتجارب العصور لكي يكون قادراً على إنجاز مهمته (13) ، وهذه الثمرة متحصلة من غيبة الإمام المهدي عليه السلام الطويلة حسب عقيدة الإمامية الاثني عشرية ، ولكن الفرق هو أن عقيدتنا في الإمام المعصوم تقول بأنّه مستجمع منذ البداية لهذه الخبرة والثمار المرجوة من طولِ عمره ، فهو عليه السلام مؤهّل بدءاً لاداء مهمته الإصلاحية الكبرى مسددٌ إلهياً لها قادرٌ عليها متى ما تهيأت الأوضاع الموائمة لظهوره. أجل يمكن القول بأنّ طول الغيبة يؤدّي إلى اكتساب انصاره والمجتمع البشري لهذه الثمار فيستجمعونها جيلاً بعد آخر (14).
الايمان بالمهدي تجسيد لحاجة فطرية
إن ظهور الإيمان بفكرة حتمية ظهور المنقذ العالمي في الفكر الإنساني عموماً يكشف عن وجود اُسس متينةٍ قوية تستند إليها تنطلق من الفطرة الإنسانية ، بمعنى أنّها تعبّر عن حاجة فطرية عامّة يشترك فيها بنو الإنسان عموماً ، وهذه الحاجة تقوم على ما جُبل عليه الإنسان من تطلّع مستمرٍ للكمال بأشمل صورة وأن ظهور المنقذ العالمي وإقامة دولته العادلة في اليوم الموعود يُعبّر عن وصول المجتمع البشري الى كماله المنشود.
يقول العلامة الشهيد آية الله العظمى السيد محمد باقر الصدر قدّس سرّه في مقدّمة بحثه القيم عن المهدي :
« ليس المهدي عليه السلام تجسيداً لعقيدة إسلامية ذات طابعٍ ديني فحسب ، بل هو عنوانٌ لطموحٍ اتجهت إليه البشرية بمختلف أديانها ومذاهبها ، وصياغة لإلهام فطري أدرك الناس من خلاله ـ على تنوع عقائدهم ووسائلهم الى الغيب ـ أن للإنسانية يوماً موعوداً على الأرض تحقّق فيه رسالات السماء مغزاها الكبير وهدفها النهائي ، وتجد فيه المسيرةُ المكدودة للإنسان على مرِّ التاريخ استقرارها وطمأنينتها بعد عناء طويل.
بل لم يقتصر هذا الشعور بهذا الشعور الغيبي ، والمستقبل المنتظر لم يقتصر على المؤمنين دينياً بالغيب ، بل امتد الى غيرهم أيضاً وانعكس حتى على أشد الآيدلوجيات والاتجاهات الغيبية رفضاً للغيب ، كالمادية الجدلية التي فسرت التاريخ على أساس التناقضات وآمنت بيومٍ موعود ، تُصفّى فيه كل التناقضات ويسودُ فيه الوئامُ والسلامُ.
وهكذا نجد أن التجربة النفسية لهذا الشعور التي مارستها الإنسانيةُ على مرِّ الزمان من أوسع التجارب النفسية وأكثرها عموماً بين بني الإنسان » (15).
إذن الإيمان بالفكرة التي يجسدها المهدي الموعود هي من أكثر الأفكار انتشاراً بين بني الإنسان كافة لأنّها تستند الى فطرة التطلّع للكمال بأشمل صوره ، أي أنّها تعبّر عن حاجة فطرية ، لذلك فتحقّقها حتمي لأنّ الفطرة لا تطلب ما هو غير موجود كما هو معلوم.
موقف الفكر الإنساني من غيبة المهدي
إن الفكر الإنساني لا يرى مانعاً من طول عمر هذا المصلح العالمي الذي يَتضمنه الإيمان بغيبته وفقاً لمذهب أهل البيت عليهم السلام ، بل يرى طول عمره أمراً ضرورياً للقيام بمهمته الإصلاحية الكبرى كما لاحظنا في كلام المفكر الإيرلندي برناردشو. وعليه فالفكر الإنساني العام لا يرفض مبدئياً الإيمان بالغيبة إذا كانت الأدلة المثبتة لها مقبولة عقلياً. وقد تناول العلماء إثبات الإمكان العقلي لطول عمر الإمام المهدي وعدم تعارضه مع أي واحد من القوانين العقلية ، كما فعل الشيخ المفيد في كتابه ( الفصول العشرة في الغيبة ) والسيد المرتضى في رسالته ( المقنع في الغيبة ) والعلامة الكراجكي في رسالته ( البرهان على طول عمر امام الزمان عليه السلام ) التي تضمنها كتابه « كنز الفوائد » في جزئه الثاني ، والشيخ الطبرسي في « إعلام الورى » ، والسيد الصدر في « بحث حول المهدي » وغيرهم كثير إذْ قلّ ما يخلو كتاب من كتب الغيبة عن مناقشة هذا الموضوع والاستدلال عليه.
الفكر الديني يؤمن بظهور المصلح العالمي بعد غيبة
أمّا بالنسبة للفكر الديني فالأمر فيه أوضح إذْ إنّ الإجماع على حتمية ظهور المصلح العالمي مقترنٌ بالايمان بأن ظهوره يأتي بعد غيبة طويلة ، وهذا أمرٌ واضحٌ من خلال مراجعة عقائدهم بهذا الخصوص ، فقد آمن اليهود بعودة عزير أو منحاس بن إلعازر بن هارون ، وآمن النصارى بغيبةِ المسيح وعودته ، وينتظر مسيحيو الأحباش عودة ملكهم تيودور كمهدي في آخر الزمان ، وكذلك الهنود آمنوا بعودة فيشنوا ، والمجوس بحياة أوشيدر ، وينتظر البوذيون عودة بوذا ومنهم مَن ينتظر عودة إبراهيم الخليل عليه السلام وغير ذلك (16).
إذن فقضية الغيبة قبل ظهور المصلح العالمي ليست مستغربة لدى الأديان السماوية ، ولا يمكن لمنصف أن يقول بأنّها كلها قائمة على الخرافات والأساطير ، فالخرافات والأساطير لا يمكن أن توجد فكرة متأصلة بين جميع الأديان دون أن ينكر أي من علمائها أصل هذه الفكرة ، فلم ينكر أحدٌ منهم أصل فكرة الغيبة وإن أنكر صحة مصداق الغائب المنتظر في غير الدين الذي عشقه وآمن بالمصداق الذي ارتضاه.
إذن انتشار أصل هذه الفكرة في جميع الأديان السماوية كاشفٌ عن أرضية اعتقادية مشتركة رسخها الوحي الإلهي فيها جميعاً ، ودعمتها تجارب الأنبياء عليهم السلام التي شهدت غيبات متعددة ، مثل غيبة ابراهيم الخليل وعودته ، وغيبة موسى عن بني اسرائيل وعودته إليهم بعد السنين التي قضاها في مدين ، وغيبة عيسى عليه السلام وعودته في آخر الزمان التي أقرتها الآيات الكريمة وما اتفق عليه المسلمون من الأحاديث النبوية الشريفة ، وغيبة نبي الله إلياس التي قال بها أهل السنة كما صرح بذلك مفتي الحرمين الكنجي الشافعي في الباب الخامس والعشرين من كتابه البيان في أخبار صاحب الزمان ، وصرح كذلك بإيمان أهل السنة بغيبة الخضر عليه السلام وهي مستمرة الى ظهور المهدي ـ عجل الله فرجه ـ في آخر الزمان حيث يكون وزيره.
بل إن انتشار فكرة غيبة المصلح العالمي في الأديان السابقة قد تكون مؤشراً على وجود نصوص سماوية صريحة بذلك كما سنلاحظ في نموذج النبوءة الواردة في سفر الرؤيا من الكتاب المقدّس والتي طبقها الباحث السني سعيد أيوب على المهدي الإمامي أمّا الاختلاف في تشخيص هوية المصلح الغائب فهو ناشئ من الخلط بين النصوص المخبرة عن غيبات بعض الأنبياء عليهم السلام وبين المتحدثة عن غيبة المصلح العالمي ، بدوافع عدّة سنشير إليها لاحقاً.
الاختلاف في تشخيص هوية المنقذ العالمي
إذن فالإجماع قائم في الأديان السماوية على حتمية اليوم الموعود ، وكما يقول العلامة المتتبع آية الله السيد شهاب الدين المرعشي النجفي في مقدمة الجزء الثالث عشر من إحقاق الحق : « وليعلم أن الاُمم والمذاهب والأديان اتفقت كلمتهم ـ إلّا من شذ وندر ـ على مجيء مصلح سماوي إلهي ملكوتي لإصلاح ما فسد من العالم وإزاحة ما يرى من الظلم والفساد فيه وإنارة ما غشيه من الظلم. غاية الأمر ، إنّه اختلفت كلمتهم بين من يراه عُزيراً ، وبين مَن يراه مسيحاً ، ومن يراه خليلاً ، ومَن يراه ـ من المسلمين ـ من نسل الإمام مولانا أبي محمد الحسن السبط ومن يراه من نسل الإمام مولانا أبي عبد الله الحسين السبط الشهيد ... ».
وإذا اختلفت الأديان بل الفرق والمذاهب المتشعبة عنها في تحديد هوية المصلح العالمي رغم إتفاقهم على حتمية ظهوره وعلى غيبته قبل عودته الظاهرة ، فما هو سر هذا الإختلاف ؟
أسباب الاختلاف في هوية المنقذ المنتظر
إنّ ما نعتقده هو أن سبب هذا الإختلاف يرجع الى تفسير النصوص والبشارات السماوية وتأويلها استناداً الى عوامل خارجة عنها وليس الى تصريحات أو إشارات في النصوص نفسها ، والى التأثر العاطفي برموز معروفة لاتباع كل دين أو فرقة وتطبيق النصوص عليها ولو بالتأويل ، بمعنى أن تحديد هوية المصلح الموعود لا ينطلق من النصوص والبشارات ذاتها بل ينطلق من إنتخاب شخصية من الخارج ومحاولة تطبيق النصوص عليها. يُضاف الى ذلك عوامل اُخرى سياسية ومصلحية كثيرة لسنا هنا بصدد الحديث عنها ، ومعظمها واضحٌ معروف فيما يرتبط بالأديان السابقة وفيما يرتبط بالفرق الإسلامية ، ومحورها العام هو : أنّ الإقرار بما تحدده النصوص والبشارات السماوية والنبوية نفسها ينسف قناعات لدى تلك الأديان ، وهذه الفرق يسلبها مبرر بقائها الاستقلالي ، ومسوغ إصرارها على عقائدها السالفة.
أمّا بالنسبة للعامل الأول فنقول : إنّ النصوص والبشارات السماوية وأحاديث الأنبياء وأوصيائهم عليهم السلام بشأن المصلح العالمي تتحدث عن قضيةٍ ذات طابع غيبي وعن شخصية مستقبلية وعن دورٍ تأريخي كبير يحقّق أعظم إنجاز للبشرية على مدى تأريخها ويحقّق في اليوم الموعود أسمى طموحاتها ، والإنسان بطبعه ميال لتجسيد القضايا الغيبية في مصاديق ملموسة يحس بها ، هذا من جهة ومن جهة اُخرى فكل قومٍ يتعصبون لشريعتهم ورموزهم وما ينتمون إليه ويميلون أن يكون صاحب هذا الدور التأريخي منهم.
لذا كان من الطبيعي أن يقع الإختلاف في تحديد هوية المصلح العالمي ، لأنّ من الطبيعي أن يسعى أتباع كل دين الى إختيار مصداق للشخصية الغيبية المستقبلية التي تتحدث عنها النصوص والبشارات الثابتة في مراجعهم المعتبرة والمعتمدة عندهم ممن يعرفون ويحبون من زعمائهم ، يدفعهم لذلك التعصب الشعوري أو اللاشعوري لشريعتهم ورموزها ، والرغبة الطبيعية العارمة في أن يكون لهم افتخار تحقّق ذاك الدور التأريخي على يد شخصية تنتمي إليهم أو ينتمون إليها.
الخلط بين البشارات وتأويلها
من هنا أخذت كل طائفة تسعى لتطبيق الصفات التي تذكرها تلك النصوص والبشارات المروية لدى كل منها على الشخصية المحبوبة لديها أو أقرب رموزها الى الصفات المذكورة ؛ فإذا وجدت بعض تلك الصفات صريحةً في عدم انطباقه على الشخصية التي اختارتها عمدت الى معالجة الأمر بالتأويل والتلفيق. أو بتغييبها أو تحريفها لتنطبق على مَن انتخبته مسبقاً أو الخلط بين النصوص والبشارات السماوية الواردة بشأن النبي اللاحق أو المنقذ للعالم في برهةٍ معينة أو المصحح لإنحراف إمةٍ معينة وبين النصوص والبشارات الخاصة بالحديث عن المصلح العالمي الذي يقيم الدولة العادلة على كل الأرض في آخر الزمان ويحقّق أهداف الأنبياء والأوصياء عليهم السلام جميعاً.
منهج لحل الاختلاف
وحيث اتضح سبب الإختلاف في تحديد هوية المصلح العالمي ؛ أمكن معرفة سبيل حلّه والتوصل الإستدلالي لمصداقه الحقيقي بصورةٍ علمية سليمة ومقنعة ؛ ويمكن تلخيص مراحله على النحو التالي :
1 ـ تمييز البشارات والنصوص الخاصة بالمصلح العالمي الموعود في آخر الزمان ، عن غيرها من الواردة بشأن نبي أو وصي معين ، استناداً الى دلالات نصوص البشارات نفسها ومن مصادرها الأصلية ، وكذلك استناداً إلى ما تقتضيهِ المبادئ الأولية المرتبطة بمهام الأنبياء والأوصياء عليهم السلام وسيرهم والواقع التأريخي الثابت ، وكذلك ما تقتضيه معرفة الثابت من دوره ومهمته الكبرى كمصلح عالمي.
2 ـ تحديد الصفات والخصائص التي تحددها النصوص والبشارات نفسها للمصلح الموعود وبصورة مجتمعة وتوضيح الصورة التي ترسمها له قبل افتراض مسبق لمصداقٍ لها ، لكي لا تكون الصورة المرسومة له متأثرة بالمصداق المفترض سلفا.
3 ـ وبعد اكتمال الصورة التجريدية المستفادة ، تبدأ عملية تعرف على الصفات والخصائص والحقائق التأريخية المذكورة كمصاديق للمصلح العالمي الموعود ، ثم عرضها على الصورة التي ترسمها له نصوص البشارات نفسها والمتحصلة من المرحلتين السابقتين ، ليتمّ بذلك تبيان عدم انسجام صفات المصاديق غير الحقيقية مع تلك الصورة ومن ثمَّ معرفة المصداق الحقيقي من بينها.
التعريف بالمهدي الإمامي لحل الاختلاف
نعتقد أنّ البشارات السماوية الواردة في الكتب المقدسة تهدي الى المهدي المنتظر الذي يقول به مذهب أهل البيت عليهم السلام كما سنشير لذلك لاحقاً ، وأثبتته دراسات متعددة في نصوص هذه البشارات (17) ؛ لذلك فإن جهلهم به هو أحد الأسباب المهمة لاختلاف علماء الأديان السابقة في تشخيص هوية المصلح العالمي الذي بشّرت به نصوص كتبهم المقدسة ، إذْ لم يجدوا بين مَن يعرفون من تنطبق عليه الصفات التي حددتها له النصوص التي بين أيديهم فعمدوا الى تأويل هذه الصفات ليطبقوها على مَن يحبون تأثراً بالعوامل الاُخرى التي ذكرناها فيما سبق.
من هنا فإنّ مما يساعد على رفع هذا الاختلاف هو تعريف علماء واتباع تلك الديانات بعقيدة أهل البيت عليهم السلام في المهدي المنتظر ـ عجّل الله فرجه ـ ، فإذا تعرفوه انفتحت أمامهم آفاق أوسع للاهتداء للمصداق الحقيقي للمصلح العالمي الذي بشّرت به أديانهم وعرفوه وآمنوا به طبقاً لدلالات نصوص البشارات الواردة في كتبهم المقدسة حتى لو كان إيمانهم الجديد خلاف قناعاتهم السابقة.
وكنموذج على تأثير هذا التعريف نشير مثلاً الى نتيجة تحقيق القاضي جواد الساباطي من أعلام القرن الثاني عشر الهجري ، إذ كان في بداية أمره عالماً نصرانياً ثم تعرّف الإسلام واعتنقه على المذهب السنّي الذي كان أوّل ما عرف من الفرق الإسلامية ، وألّف كتابه المعروف « البراهين الساباطية » في رد النصارى وإثبات نسخ شرائعهم استناداً الى ما ورد في نصوص كتبهم المقدسة (18).
رأي القاضي الساباطي كنموذج
ففي معرض تناوله لهذه النصوص ، تناول القاضي الساباطي إحدى البشارات الواردة في كتاب أشعيا من العهد القديم من الكتاب المقدس بشأن المصلح العالمي ، ثم ناقش تفسير اليهود والنصارى لها ودحض تأويلات اليهود والنصارى لها ليخلص الى القول : « وهذا نصٌ صريحٌ في المهدي عليه السلام حيث أجمع المسلمون أنه رضي الله عنه لا يحكم بمجرد السمع والظاهر ، ومجرد البينة بل لا يلاحظ إلّا الباطن ، ولم يتفق ذلك لأحد من الأنبياء والأولياء » ثم يقول بعد تحليل النص : « .. وقد اختلف المسلمون في المهدي ، فأما أصحابنا من أهل السنّة ، وجماعة قالوا : إنّه رجل من أولاد فاطمة عليها السلام ، اسمه محمد واسم ابيه عبد الله ، واسم امه آمنة.
وقال الإماميون : بل هو محمد بن الحسن العسكري الذي وُلِد سنة خمس وخمسين ومائتين من جارية للحسن العسكري اسمها نرجس في سُرَّ من رآى في عصر المعتمد ثم غاب سنة (19) ثم ظهر ثم غاب وهي الغيبة الكبرى ولا يرجع بعدها إلّا حين يريد الله تعالى.
ولما كان قولهم أقرب لما يتناوله هذا النص وإن هدفي الدفاع عن اُمة محمد صلّى الله عليه وآله مع قطع النظر عن التعصب لمذهب ؛ لذلك ذكرت لك أنّ ما يدعيه الإمامية يتطابق مع هذا النص » (20).
فنلاحظ هنا أنّ هذا العالِم الذي خبر النصرانية يصرح بانطباق البشارة مورد البحث على المهدي المنتظر ، طبق ما يعتقده مذهب أهل البيت عليهم السلام ، على الرغم من انتمائه هو الى المذهب السني بعد اعتناقه الإسلام ، والمذهب السني يعتقد في تشخيص هوية المهدي المنتظر غير ما يراه الإمامية ، فخالف رأي المذهب الذي ينتمي إليه في هذا المجال ورجَّحَ رأي مذهب أهل البيت عليهم السلام وصرح بانطباق بشارة كتاب أشعيا على هذا الرأي. والذي أوصله الى الاهتداء للمصداق الحقيقي هو تعرف رأي الإمامية في المهدي المنتظر ـ عجّل الله فرجه ـ ، وبدون معرفة هذا الرأي لعله لم يكن ليتوصّل الى المصداق الذي تنطبق عليه البشارات المذكورة ولولا ذلك لكان يقتصر إمّا على رد أقوال النصارى بشأن البشارة المذكورة أو إغفالها أصلاً أو تأويل بعض دلالاتها لتنطبق على رأي المذهب السنّي الذي ينتمي إليه في المهدي الموعود.
والملاحظة نفسها نجدها في دراسات علماء آخرين من أهل الكتاب بشأن هذه البشارات ، فقد أصبح عليهم من اليسير معرفة المصداق الذي تتحدّث عنه عندما تعرفوا رأي مذهب أهل البيت عليهم السلام في المهدي المنتظر وخاصة الذين اعتنقوا الإسلام وتهيأت لهم فرصة معرفة هذا الرأي وأثارهم شدة انطباق ما تذكره البشارات التي عرفوها في كتب دياناتهم السابقة على المهدي المنتظر عليه السلام الذي تؤمن به الإمامية ؛ الأمر الذي دفعهم الى دراسة هذه البشارات في كتبهم والنموذج الآخر هو : ما فعله العلامة محمد صادق فخر الإسلام ، الذي كان نصرانياً واعتنق الإسلام وانتمى لمذهب أهل البيت عليهم السلام وألّف كتابه الموسوعي « أنيس الأعلام » في رد اليهود والنصارى (21) وتناول فيه دراسة هذه البشارات وانطباقها على الإمام المهدي ابن الحسن العسكري عليهما السلام. مثل ما فعله العلّامة محمد رضا رضائي الذي أعرض عن اليهودية ـ وقد كان من علمائها ـ واعتنق الإسلام وألّف كتاب « منقول رضائي » الذي بحث فيه موضوع تلك البشارات وأثبت النتيجة نفسها.
البشارات السماوية لا تنطبق على غير المهدي الإمامي
إنّ من الواضح لمَن يمعن النظر في نصوص تلك البشارات السماوية أنها تقدم مواصفات للمصلح العالمي لا تنطبق على غير المهدي المنتظر ـ عجّل الله فرجه ـ طبقاً لعقيدة مدرسة أهل البيت عليهم السلام لذلك فإن مَن لم يتعرّف هذه العقيدة لا يستطيع التوصّل الى المصداق الذي تتحدث عنه كما نلاحظ ذلك في أقوال مفسري الانجيل بشأن الآيات ( 1 ـ 17 ) من سِفر الرؤيا الفصل الثاني عشر مكاشفات يوحنا اللاهوتي » فهم يصرحون بأن « الشخص الذي تتحدث عنه البشارة الواردة في هذه الآيات لم يُولد بعد ، لذا فإنّ تفسيرها الواضح ومعناها البيّن موكول للمستقبل والزمان المجهول الذي سيظهر فيه » (22) ، في حين أنّ هذه الآيات تتحدث بوضوح عن الحكومة الإلهية التي يقيمها هذا الشخص في كل العالم ويقطع دابر الأشرار والشياطين وهي المهمة التي حددتها البشارات الاُخرى بأنها محور حركة المصلح العالمي. لكن مفسري الإنجيل لم يستطيعوا تطبيقها على المصداق الذي اختاروه لهذا المصلح وهو السيد المسيح عيسي بن مريم عليهما السلام ، لأنّ البشارة واردة عن يوحنا اللاهوتي عن السيد المسيح فهو المبشّر بمجيء هذا المنقذ ، كما أنّهم لم يتعرفوا عقيدة أهل البيت عليهم السلام في المهدي المنتظر ـ عجّل الله فرجه ـ ، لذلك لم يستطيعوا الاهتداء الى مصداق تلك الآيات.
البشارات و غيبة الامام الثاني عشر
وهناك باحث سُنّي استطاع الاهتداء الى المصداق الذي تتحدث الآيات المشار إليها عندما تعرف عقيدة أهل البيت في المهدي المنتظر ـ سلام الله عليهم أجمعين ـ ، وهو الاستاذ سعيد أيوب ، حيث يقول في كتابه ( المسيح الدجّال ) عن هذه الآيات نفسها : « ويقول كعب : مكتوب في أسفار الانبياء : المهدي ما في عمله عيب » ثم علّق على هذا النص بالقول : « وأشهد أنّي وجدته كذلك في كتب أهل الكتاب ، لقد تتبّع أهل الكتاب أخبار المهدي كما تتبعوا أخبار جدّه صلّى الله عليه وآله ، فدلت أخبار سِفر الرؤيا الى امرأة يخرج من صلبها اثنا عشر رجلاً ، ثم أشار الى امرأة اخرى : أي التي تلد الرجل الأخير الذي هو من صلب جدته ، وقال السِفر : إنّ هذه المرأة ستحيط بها المخاطر ، ورمز للمخاطر باسم « التنين » وقال : « والتنين وقف أمام المرأة العتيدة حتى تلد ، يبتلع ولدها متى ولدت ». سفر الرؤيا 12 : 3.
أي أنّ السلطة كانت تريد قتل هذا الغلام ، ولكن بعد ولادة الطفل ؛ يقول باركلي في تفسيره : « عندما هجمت عليها المخاطر اختطف الله ولدها وحفظه ». والنص : ( واختطف الله ولدها ) ، سِفر الرؤيا 12 : 5 ، أي : « إنّ الله غيّب هذا الطفل » كما يقول باركلي.
وذكر السِفر أنّ غيبة الغلام ستكون ألفا ومائتين وستين يوماً (23) ، وهي مدة لها رموزها عند أهل الكتاب ، ثم قال باركلي عن نسل المرأة [ الاولى ] عموماً : إنّ التنين سيعمل حرباً شرسة مع نسل المرأة كما قال السِفر : ( فغضب التنين على المرأة ، وذهب ليصنع حرباً مع باقي نسلها الذين يحفظون وصايا الله ) سِفر الرؤيا 12 : 13 »
وعقّب الاستاذ سعيد أيوب على ما تقدم بالقول : « هذه هي أوصاف المهدي ، وهي نفس أوصافه عند الشيعة الإمامية الاثني عشرية » ، ودعم قوله بتعليقات أوردها في الهامش بشأن انطباق الأوصاف على مهدي آل البيت عليهم السلام (24).
البشارات و خصوصيات المهدي الإمامي
ويلاحظ في هذه البشارة الإنجيلية تناولها لخصوصيات في المصلح العالمي إلّا على أبرز ما يميز عقيدة مدرسة أهل البيت عليهم السلام ، والواقع التأريخي الذي مرت به. فتناول هذه الخصوصيات الظاهرة بالذات يشير الى حكمة ربانية في هداية الآخرين الى المصداق الحقيقي للمصلح العالمي بأبلغ حجّة من خلال الإشارة الى أبرز خصوصياته الظاهرة والمعروفة لكي يكون الاهتداء إليها أيسر ، فمثلاً نلاحظ فيها الإشارة الى تعرض مدرسة أهل البيت عليهم السلام لمخاطر التصفية والإبادة التي تؤدي من ثمّ الى غيبة الإمام الثاني عشر منهم ، ثم تأكيد أنّ هذا الإمام محفوظ بالرعاية الإلهية في غيبته حتى يحين موعد ظهوره المبارك. ومعلوم أنّ القول بغيبة الإمام الثاني عشر هو أهم ما يميز عقيدة الإمامية في المهدي المنتظر ولذلك وردت الإشارة إليها بالذات تسهيلاً للاهتداء الى المصداق الحقيقي للمنقذ العالمي.
كما وردت إشارات الى مميزات معروفة اُخرى تختص بها عقيدة أئمة أهل البيت عليهم السلام ، مثل القول بأنّ الإمام المهدي هو الإمام الثاني عشر من سلسلة مباركة متصلة كما تشير لذلك الآيات المتقدمة وبشارات اُخري واردة في الكتب المقدسة نظير ما ورد في ( سِفر التكوين : 17 : 20 ، ص 22 ـ 23 من الأصل العبري ) ، من الوعد على لسان الرب تعالى خطاباً لابراهيم الخليل عليه السلام ، بالمباركة والتكثير في صلب اسماعيل بمحمدٍ صلى الله عليه وآله وسلم والائمة الاثني عشر من عترته عليهم السلام (25). ومعلوم أنّ مصداق الأئمة الاثني عشر من صلب أسماعيل لم يتحقّق بالصورة المتسلسلة المشار إليها في البشارات إلّا في الأئمة الاثني عشر من اهل البيت عليهم السلام ، كما يثبت ذلك الواقع التأريخي فضلاً عن الأحاديث النبوية المتّفق على صحتها بين المسلمين (26) ، فهي خاصة بهم حتى أصبحت ظاهرة واضحة في التأريخ الإسلامي اُطلقت على المذهب المنتمي لأهل البيت فسُمي مذهب الإمامية الاثني عشرية. وعليه يتضح أن تلك البشارات تهدي الى حقيقة أن المهدي هو خاتم هؤلاء الأئمة الاثني عشر عليهم السلام.
البشارات و أوصاف المهدي الإمامي
كما وردت فيها إشارات الى ألقاب اختص بها المهدي الامامي عليه السلام ، مثل وصف « القائم » (27) فمثلاً نلاحظ البشارة التالية من سِفر اشعيا النبي التي تحدث القاضي جواد الساباطي عن دلالتها علي المهدي وفق عقيدة الإمامية الاثني عشرية : « 2 ـ ويحل عليه روح الرب وروح الحكمة والفهم ، وروح المشورة والقوة ، وروح المعرفة ومخافة الرب.3 ـ ولذته في مخافة الرب ، ولا يقضي بحسب مرأى عينيه ولا بحسب مسمع أُذنيه ، 4 ـ ويحكم بالإنصاف لبائسي الأرض ، ويضرب الأرض بقضيب فمه ويميت المنافق بنفخة شفتيه ...
6 ـ ويسكن الذئب والخروف ، ويربض النمر مع الجدي والعجل والشبل معاً وصبي صغير يسوقها ... 9 ـ لا يسيئون ولا يفسدون في كل جبل قدسي لأنّ الأرض تمتلئ من معرفة الرب كما تغطي المياه البحر. 10 ـ وفي ذلك اليوم سيرفع « القائم » راية للشعوب والاُمم التي تطلبه وتنتظره ويكون محله مجداً » (28).
ومثل وصف « صاحب الدار » المعدود من ألقاب الإمام المهدي ـ عجّل الله فرجه ـ (29) ، فقد ورد ضمن بشارة عن انتظار المنقذ العالمي الذي لا يختص به المسيحيون إشارة الى عدم هذا الاختصاص وتحدثت عن ظهوره المفاجئ وهي في الإنجيل ( إنجيل مرقس ، 13 : 35 ) (30). ومثل وصف المنتقم لدم الحسين عليه السلام المستشهد عند نهر الفرات كما ورد في بشارة في ( سِفر أرميا ، 46 / 2 ـ 11 ) ، كما صرّح بذلك الاستاذ الأردني عودة مهاوش في دراسته الكتاب المقدس تحت المجهر وذكر أنها تتعلق بالمهدي المنتقم لدم الحسين عليه السلام (31). ونظائر ذلك كثيرة لا يتسع المجال لذكرها.
الاهتداء الى هوية المنقذ في ضوء البشارات
إذن معرفة هذه الخصوصيات تقودنا الى إثبات ان المصلح العالمي الذي بشّرت به جميع الديانات هو المهدي ابن الحسن العسكري عليهما السلام كما تقوله عقيدة أهل البيت عليهم السلام لأنّ البشارات السماوية لا تنطبق على العقائد الاُخري. فتكون النتيجة هي أنّ الديانات السابقة لم تبشّر بظهور المنقذ العالمي في آخر الزمان بعنوانه العام وحسب بل شخّصت أيضاً هويته الحقيقية من خلال تحديد صفات وتفصيلات لا تنطبق على غيره عليه السلام. فتكون هذه البشارات دليلاً إضافياً على صحة عقيدة أهل البيت عليهم السلام بهذا الشأن وأنّها ذات مصدر إلهي.
ونكتفي هنا بالإشارة الى بعض البشارات الواردة في العهدين القديم والجديد ( أسفار التوراة والإنجيل ) بهذا الصدد ، بحكم كونها معتبرةً عند أكبر وأهم الديانات السابقة على الإسلام أي اليهودية والنصرانية ؛ ولأن هذين العهدين الموجدين حالياً قد مرّا بالكثير من التحقيق والتوثيق عند علماء اليهود والنصارى وأُجريت بشأنها الكثير من الدراسات ودونت الكثير من الشروح لهما ونسخها كثيرة ومتداولة بترجمات كثيرة لمختلف اللغات. وإن كان الاعتماد على الاُصول العبرية أدقّ لوقوع أخطاء ولبس في الترجمات.
فالاقتصار عليهما لا يعني بحال انحصار البشارات التي لا يمكن تفسيرها بغير المهدي ـ عجل الله فرجه ـ طبق عقيدة مذهب أهل البيت عليهم السلام ، بل على العكس فإنّ امثالها موجودة في مختلف كتب الأديان الاُخرى وبتصريحات ودلالات أوضح ذكرتها الدراسات المتخصّصة في هذا الباب (32). ولكنها غير مشهورة عند الجميع ونسخها غير متداولة وأغلبها لم تترجم عن لغاتها الاُم إلّا قليلاً ، على أنّ الاقتصار على النماذج المتقدّمة من العهدين القديم والجديد فيه الكفاية في الاستدلال على المطلوب والتفصيلات موكولة للمراجع المتخصّصة المشار إليها في طيات البحث.
الاستناد الى بشارات الكتب السابقة و مشكلة التحريف
وتبقى هنا قضيتان من الضروري التطرّق لهما قبل تثبيت النتائج المتحصلة من البحث.
القضية الاولي هي : مناقشة السؤال التالي : كيف يمكن الاستناد الى كتب الديانات الاُخرى في إثبات قضية مهمة مثل قضية تخصّ هوية المصلح العالمي المنتظر وإثبات أنّه المهدي بن الحسن العسكري عليه السلام ، وإثبات صحة هذه العقيدة وانتمائها الالهى مع اتفاق المسلمين على وقوع التحريف في هذه الكتب ؟
نعتقد أن الإجابة عن هذا التساؤل ممكنة بقليل من التدبر في حيثيات الموضوع ، ويمكن تلخيصها بما يلي :
1 ـ إنّ إثبات عقيدة اهل البيت عليهم السلام في المهدي المنتظر ـ عجل الله فرجه ـ يستند الى الكثير من البراهين العقلية والآيات القرآنية وما اتفق عليه المسلمون من صحاح الأحاديث النبوية والواقع التأريخي لسيرة أئمة أهل البيت عليهم السلام ، كما هو مشهود في الكتب العقائدية التي تناولت هذا الموضوع ، وسنتناول الحديث عن ذلك في بحث آخر بالتفصيل إن شاء الله.
أمّا الاستناد الى البشارات الواردة في كتب الأديان المقدّسة فهو من باب الدليل الإضافي أو الشواهد المؤيدة فلا تسقط النتيجة المتحصلة منه بسقوط أو بطلان الأساس. لأنّ هذه العقيدة قائمة على اُسس اُخرى أيضاً ، اذن لا مجال للاعتراض على صحة هذه العقيدة حتى مع افتراض بطلان بعض اُسسها باعتبار القول بتحريف تلك الكتب.
أجل ثمة ثمار مهمة لدراسة وتوثيق هذا الدليل ، وهي هداية أتباع الديانات الاُخرى الى الحق والى المصلح الإلهي الحقيقي بالاستناد الى كتبهم نفسها وفي ذلك حجّة كاملة عليهم ؛ هذا أولاً وثانياً فإنّ مثل هذه الدراسة تؤكّد الجانب العاملي في القضية المهدوية ، وتوفر محوراً جديداً للوفاق بين الأديان المختلفة بشأن المصلح العالمي الذي ينتظرونه جميعاً.
2 ـ ليس ثمة مَن يقول بأنّ جميع ما في كتب الأديان السابقة محرف ، بل إن المتفق عليه بين المسلمين وقوع التحريف في بعضها وليس في كلّها. لذلك فإنّ ما صدّقته النصوص الشرعية الاسلإمية ـ قرآناً وسنة ـ ممّا في الكتب السابقة محكوم بالصحة وعدم تطرق التحريف إليه ؛ وهذا واضحٌ.
الاستناد الى ما صدقه الاسلام من البشارات
ومن الثابت إسلامياً أن الرسول الاكرم صلى الله عليه وآله و سلم قد بشر بالمهدي الموعود من أهل بيته ومن ولد فاطمة ـ سلام الله عليها (33) ـ ، لذلك فإن البشارات الواردة في كتب الأديان السابقة من هذا النمط الذي لم تطاله أيدي التحريف ما دامت منسجمة مع ما صح في النصوص الشرعية الاسلامية. اذن لا مانع من الاستناد إليه والاحتجاج به.
يُضاف الى ذلك أنّ القرآن الكريم نفسه قد بشر بالدولة الإلهية العالمية وإقامتها في آخر الزمان كما صرحت بذلك آياتُهُ الكريمة التي دل عددٌ منها على المهدي الموعود وحتمية وجودِهِ وغيبته ـ كما سنوضح ذلك في بحث لا حق ان شاء الله تعالى ـ وهذا يعني تصديق ما ورد في بشارات الأديان السابقة الواردة بالمضمون نفسه الأمر الذي يعني صدورها من نفس المصدر الذي صدر منه القرآن الكريم ، ومن ثمَّ الحكم بصحتها وعدم تطرق التحريف اليها ، فلا مانع حينئذ من الاستناد اليها والاحتجاج بها في اطارالمضامين التي صدقها القرآن الكريم.
الواقع التأريخي و تصديق البشارات
3 ـ إنّ بعض هذه البشارات ترتبط بواقع خارجي معاش أو ثابت تأريخياً ، بمعنى أن الواقع الخارجي الثابت جاء مصدِّقاً لها. فمثلاً البشارات التي تشير الي أن المصلح العالمي هو الإمام الثاني عشر من ذرية إسماعيل وأنّه من ولد خيرة الإماء وأن ولادته تقع في ظل أوضاع سياسية خانقة ومهددة لوجوده فيحفظه الله ويغيبه عن أعين الظالمين الى حين موعد ظهوره وأمثالها ، كلها تنبأت بحوادث ثابتة تأريخياً وهذا يضيف دليلاً آخر على صحتها ، ما دام أن من الثابت علمياً أنّها مدونة قبل وقوع الحوادث التي أخبرت عنها ، فهي في هذه الحالة تثبت أنّها من أنباء الغيب التي لا يمكن أن تصدر إلّا من له ارتباط بعلّام الغيوب تبارك وتعالى. وبذلك يمكن الحكم بصحّتها وعدم تطرق التحريف إليها ، ومن ثمَّ يمكن الاستناد إليها والاحتجاج بها (34).
تأثير البشارات في صياغة العقيدة المهدوية
أمّا القضية الثانية ؛ فهي ما يرتبط بالاعتراض القائل بأن الاستناد الى هذه البشارات في إثبات عقيدة أهل البيت في المهدي المنتظر ـ سلام الله عليهم ـ ، يفتح باب التشكيك والإدعاء بأن هذه العقيدة تسللت الى الفكر الإسلامي من الاسرائيليات ومحرفات الأديان السابقة.
والجواب عن هذا الاعتراض واضحٌ من الإجابة السابقة ، فهو يصح إذا كانت العقيدة الإمامية المهدوية تستند الى تلك البشارات وحدها في حين أن الأمر ليس كذلك.
ولو قلنا بأنّ كل فكرة إسلامية لها نظير في الأديان السابقة هي من الأفكار الداخلية في الإسلام ؛ لأدي الأمر الى إخراج الكثير من الحقائق والبديهيات الإسلامية التي أقرها القرآن الكريم وصحاح الأحاديث الشريفة وهي موجودة في الأديان السابقة وهذا واضح البطلان ولا يخفى على ذي لب. فالمعيار في تشخيص الأفكار الدخيلة على الإسلام هو عرضها على القرآن والسنة والأخذ بما وافقهما ونبذ ما خالفهما ، وليس عرضها على ما في كتب الديانات السابقة ونبذ كل ما وافقها مع العلم بأنّ فيها ما لم تتطرق له يد التحريف وفيه ما ثبت صدوره عن نفس المصدر الذي صدر عنه القرآن الكريم.
يُضاف الى ذلك أن عقيدة الإمامية في المهدي المنتظر ـ عجل الله فرجه ـ تستند الى واقع تأريخي ثابت ، فكون الإمام المهدي هو الثاني عشر من أئمة أهل البيت ثابت تأريخياً وحتى ولادته الخفية من الحسن العسكري ـ عليهما السلام ـ سجلها المؤرخون من مختلف المذاهب الإسلامية وأقرها علماء مختلف هذه المذاهب حتي الذين لم يذعنوا أنه هو المهدي الموعود وإن كان عدد الذين صرحوا بأنّه هو المهدي من علماء أهل السنة كثيرون أيضاً (35).
النتائج المتحصلة من البحث
نصل الى القسم الأخير من البحث ، وهو تسجيل النتائج المتحصلة منه في النقاط التالية :
1 ـ إنّ أصل فكرة الإيمان بالمصلح العالمي في آخر الزمان وإقامة الدولة العادلة التي تحقّق السعادة الحقّة للبشرية جمعاء تستند الى جذور فطرية في الانسان تنبع من فطرة تطلّعه الى الكمال ، ولذلك لاحظنا إجماع مختلف التيارات الفكرية الانسانية حتى المادية منها على حتمية تحقّق هذا اليوم الموعود. أمّا الفكر الديني فهو مجمع عليها لتواتر البشارات السماوية في كتب الأديان المختلفة بذلك. فلا يمكن قبول ما زعمه المستشرقين بأنّ هذه الفكرة المجمع عليها تستند الى الخرافات والأساطير.
2 ـ إنّ القول بوجود المهدي الموعود بالفعل وغيبته وهو الذي يؤمن به مذهب أهل البيت عليهم السلام ويتميز به عن عقيدة أهل السنة في المهدي الموعود ، هذا القول غير مستبعد لا في الفكر الإنساني العام الذي يرى أن من الضروري أن يكون عمر المصلح العالمي طويلاً ، ولا من الفكر الديني الذي اقترن إيمانه بالمصلح العالمي بالإيمان بأنّه يعود بعد غيبة. بل إنّ وقوع الغيبات في تأريخ الأنبياء عليهم السلام يدعم هذا القول ويعززه.
3 ـ إن إجماع الأديان السماوية على الإيمان بالمصلح العالمي وغيبته قبل الظهور والعودة اقترن بالإختلاف الشديد في تحديد هويته ، وهو اختلاف ناشئ من جملة من العوامل ، منها أن البشارات الواردة في الكتب المقدّسة بشأنه تتحدث عن قضية غيبية والإنسان بطبعه ميال لتجسيد الحقائق الغيبية في مصاديق محسوسة يعرفها ، ومنها أن التعصب المذهبي والرغبة في الفوز بافتخار الانتماء لصاحب هذا الدور التأريخي المهم دفعت أتباع كل دين الى تأويل تلك البشارات أو خلطها بالبشارات الواردة بشأن نبي أو وصي معين غير المصلح العالمي ، أو تحريفها لتطبيقها على الأقرب من المواصفات التي تذكرها من زعمائهم ورموزهم الدينية. فالاختلاف ناشئ من سوء تفسير وتطبيق البشارات السماوية وليس من نصوص البشارات نفسها.
4 ـ إن سبيل حل الاختلاف هو تمييز البشارات الواردة بشأن المصلح العالمي عن غيرها المرتبطه بغيره من الأنبياء والأوصياء عليهم السلام ، ثم تحديد الصورة التي ترسمها بنفسها للمصلح العالمي بعيداً عن التأثر بالمصاديق المفترضة سلفاً.
ثم عرض المصاديق عليها لمعرفة هويته الحقيقية استناداً الى الواقع التأريخي القابل للإثبات وبعيداً عن حصر هذه المصاديق المفترضة برموز دين معين ، بل عرض كل مصداق مرشح من قبل أي دين أو مذهب على الصورة التي ترسمها نصوص البشارات بصورة تجريدية.
5 ـ إنّ تلك البشارات السماوية تهدي ـ على وفق هذا المنهج العلمي ـ الى معرفة حقيقة وهي أن المصلح العالمي الذي بشرت به هو الإمام الثاني عشر من عترة خاتم الإنبياء ـ صلوات الله عليه وآله ـ وهو صاحب الغيبة التي يضطر إليها بسبب تربّص الظلمة به لتصفيته ، أي انها تهدي الى المهدي الإمامي الذي يقول به مذهب أهل البيت عليهم السلام ، وقد حرصت تلك البشارات على الهداية إليه من خلال ذكر صفات لا تنطبق على غيره ، ومن خلال ذكر خصائص فيه امتاز بها واشتهرت عنه كما لاحظنا.
البشارات دليل إضافي على صحة العقيدة المهدوية
6 ـ إن الاستناد الى هذه البشارات في إثبات صحة عقيدة أهل البيت عليهم السلام في المهدي المنتظر ـ عجل الله فرجه ـ يشكل دليلاً إضافياً في إثبات هذه العقيدة يُضاف الى الأدلّة العقلية والقرآنية وما صح لدى المسلمين من الأحاديث الشريفة ، ولا مانع من الاستدلال بهذه البشارات بعد ما ثبت أن التحريف في الديانات السابقة لم يشمل كل نصوصها الموحاة ، فيمكن الاستناد الى ما صدقته النصوص الشرعية الإسلامية ممّا ورد في كتب الديانات السابقة ؛ وكذلك ما صدقه الواقع التأريخي الكاشف عن صحة ما اُخبرت عنه باعتباره من أنباء الغيب التي لا يعلمها سوى الله تعالى ، ومنها أخبار المهدي عليه السلام.
ثمرة عرض دليل البشارات السماوية
7 ـ إنّ في الاستناد الى بشارات الأديان السابقة في إثبات صحة عقيدة أهل البيت عليهم السلام في المهدي الموعود وإضافة الى الأدلة الشرعية والعقلية الاُخري ، ثمارٌ عديدة منها :
الكشف عن أهمية هذه العقيدة وترسيخ الإيمان بها لدى أتباعها ، ومنها إعانة اتباع الديانات والمذاهب الاُخرى على الاهتداء لمعرفة هوية المصلح العالمي الذي بشرت به نصوص كتبهم المقدّسة ودعوتهم إلى الإسلام من هذا الطريق ، والاحتجاج عليهم بالنصوص المعتبرة عندهم وهو احتجاج أبلغ في الدلالة ، ومنها : إيجاد محور توحيدي لدعاة الإصلاح الديني من أتباع مختلف الديانات يعزز جهودهم وينسقها ، يقوم على أساس الإيمان بهذا المصلح العالمي ووجوده فعلاً ورعايته لجهود الممهدين لظهوره طبقاً للعقيدة الإسلامية الأوسع شموليةً وتفصيلاً في عرض هذه الفكرة العريقة في الفكر الديني والإنساني.
يقول العلامة الشهيد آية الله العظمى السيد محمد باقر الصدر : « وإذا كانت فكرة المهدي أقدم من الإسلام وأوسع منه ، فإن معالمها التفصيلية التي حددها الإسلام جاءت أكثر إشباعاً لكل الطموحات التي انشدت الى هذه الفكرة مُنذ فجر التأريخ الديني ، وأغنى عطاءً وأقوى إثارةً لأحاسيس المظلومين والمعذبين على مر التأريخ. وذلك لأنّ الإسلام حوّل الفكرة من غيبٍ الى واقع ، ومن مستقبل الى حاضر ، ومن التطلع الى منقذ تتمخض عنه الدنيا في المستقبل البعيد المجهول ، الى الإيمان بوجود المنقذ فعلاً ، وتطلعه مع المتطلعين الى اليوم الموعود الى اكتمال كل الظروف التي تسمح له بممارسة دوره العظيم.
فلم يعد المهدي ـ عليه السلام ـ فكرةً تنتظر ولادتها ، ونبوءة نتطلع الى مصداقها ، بل واقعاً قائماً ننتظر فاعليته ، وإنساناً معيناً يعيش بيننا بلحمه ودمه ، نراه ويرانا ، ويعيش آمالنا وآلامنا ، ويشاركنا أحزاننا وأفراحنا ، ويشهد كل ما تزخر به الساحة على وجه الأرض من عذاب المعذبين وبؤس البائسين وظلم الظالمين ، ويكتوي بذلك من قريب أو بعيد ، وينتظر بلهفة اللحظة التي يُتاح له فيها أن يمد يده الى كل مظلوم وكل محروم وكل بائس ويقطع دابر الظالمين.
وقد قُدّر لهذا القائد أن لا يُعلن عن نفسه ولا يكشف للآخرين حياته على الرغم من أنّه يعيش معهم انتظاراً للحظة الموعودة.
ومن الواضح أن الفكرة بهذه المعالم الإسلامية تقرب الهوية الغيبية بين المظلومين ؛ كل المظلومين ؛ وبين المنقذ المنتظر ، وتجعل الجسر بينهم وبينه في شعورهم النفسي قصيراً مهما طال الانتظار.
ونحن حينما يُراد منا أن نؤمن بفكرة المهدي بوصفها تعبيراً عن إنسان حي محدد يعيش فعلاً كما نعيش ، ويترقب كما نترقب ، يُراد الإيحاء الينا بأنّ فكرة الرفض المطلق لكل ظلم وجور التي يمثلها المهدي ، تجسدت فعلاً في القائد الرافض المنتظر ، الذي سيظهر وليس في عنقه بيعة لظالم كما في الحديث وإن الإيمان به إيمان بهذا الرفض الحي القائم فعلاً ومواكبة له ... (36).
الهوامش
1. راجع مثلاً كتاب آية الله الشيخ محمد أمين زين « مع الدكتور أحمد أمين في حديث المهدي والمهدوية » : 13.
2. ملحقات إحقاق الحق لآية الله المرعشي النجفي 29 : 621 ـ 622.
3. العقيدة والشريعة في الإسلام : 218 حيث وصفها بأنّها من الأساطير ذات الجذور غير الإسلامية لكنه قال أيضاً باتفاق كلمة الأديان عليها ، المصدر : 192 ، والإنكار الحديث للفكرة مصدره المستشرقين وتابعهم بعض المتأثرين بهم من المسلمين أمثال أحمد أمين.
4. الإمامة وقائم القيامة للدكتور مصطفى غالب : 270.
5. النصوص الخاصة بالمهدي الموعود من كتاب « بشارات عهدين » بالفارسية للشيخ محمد الصادقي.
6. لمعرفة تفصيلات هذا التمهيد يُراجع كتاب تأريخ الغيبة الكبرى للسيد محمد الصدر في حديثه عن التخطيط الإلهي لليوم الموعود قبل الإسلام : 251 وما بعدها.
7. راجع أيضاً أهل البيت عليهم السلام في الكتاب المقدّس ، أحمد الواسطي : 121 ـ 123.
8. صحيفة العهد اللبنانية العدد : 685 ، مقال تحت عنوان « حركة شهود يهوه ، النشأة ، التنظيم ، المعتقد ».
9. بشارات عهدين : 261 ، نقلاً عن كتاب ميزان الحقّ للقس الألماني فندر : 271.
10. المهدي الموعود ودفع الشبهات عنه للسيد عبد الرضا الشهرستاني : 65.
11. المصدر السابق : 7.
12. برناردشو ، للاستاذ عباس محمود العقاد : 124 ـ 125 ، وعلق الاستاذ العقاد على كلمة برناردشو بالقول : « يلوح لنا أن سوبرمان شو ليس بالمستحيل ، وأن دعوته إليه لا تخلو من حقيقةٍ ثابتة » ، نقلاً عن كتاب المهدي المنتظر في الفكر الإسلامي : 9 ، وقد نقلها عن العقاد الشيخ محمد حسن آل ياسين في كتابه المهدي المنتظر بين التصور والتصديق : 81.
13. راجع توضيح هذه النقطة في البحث القيم الذي كتبه آية الله الإمام الشهيد الصدر حول المهدي : 46 ـ 48 ، ط 3 دار التعارف.
14. لمزيد من التوضيح راجع تأريخ الغيبة الكبرى : 276 وما بعدها.
15. بحث حول المهدي : 7 ـ 8.
16. راجع مثلاً كتاب دفاع عن الكافي للسيد العميدي 1 : 181 ، وإحقاق الحقّ 13 : 3 ـ 4.
17. نظير كتاب بشارات عهدين للشيخ الصادقي وترجمته العربية بقلم المؤلّف نفسه المطبوعة تحت عنوان « البشارات والمقارنات ».
18. كشف الأستار للميرزا حسين النوري : 84.
19. لعل من سهو القلم أو النسخ لأن الثابت أن غيبة الإمام المهدي بعد وفاة أبيه عليهما السلام استمرت 69 سنة.
20. المصدر السابق : 85 ، وذكر أن كتاب البراهين الساباطية قد طبع قبل أكثر من ثلاثين سنة من تأريخ تأليف كتابه كشف الأستار.
21. بشارات عهدين : 232 ، وذكر أن العالم المذكور كان من متتبعي علماء النصارى ومحقّقيهم واعتنق الإسلام بعد دراسة معمقة استغرقت أمداً وألف عدّة كتب منها الكتاب المذكور الذي يُوصف بأنّه أفضل ما أُلف في الرد على اليهود والنصارى.
22. المصدر السابق : 264.
23. المدة رمزية وقد وردت في الأصل العبري بتعبير : « وسيغيب عن التنين زماناً وزمانين ونصف زمان » ، راجع بشارات العهدين : 263.
24. المسيح الدجال ، سعيد أيوب : 379 ـ 380 ، نقلاً عن المهدي المنتظر في الفكر الإسلامي إصدار مركز الرسالة : 13 ـ 14.
25. أهل البيت في الكتاب المقدسّ ، أحمد الواسطي : 105 ـ 107.
26. راجع مثلاً الفصل الأول من كتاب منتخب الأثر في الإمام الثاني عشر لآية الله الشيخ لطف الله الصافي ، فقد نقل فيه ( 271 ) حديثاً من المصادر الحديثية المعتبرة عند مختلف طوائف المسلمين تشتمل على إخبار النبي صلى الله عليه وآله وسلم باتصال الإمامة في هؤلاء الأئمة الاثني عشر من اهل بيته عليهم السلام الى يوم القيامة ، وفيها أحاديث تنص صراحة على أسمائهم ، أو تحدد أن أولهم علي عليه السلام وآخرهم الإمام المهدي ـ عجل الله فرجه ، وللشيخ الصافي في هذا الفصل تعليقة استقرائية تأريخية تثبت عدم صدق هذه الأحاديث على غير الأئمة الاثني عشر من عترة الرسول صلى الله عليه وآله وسلم.
27. اختص هذا اللقب بأئمة العترة الطاهرة ، و إذا أُطلق كان المراد منه الإمام الثاني عشر المهدي المنتظر عجل الله فرجه ـ ، راجع كتاب النجم الثاقب لآية الله الميرزا حسين النوري 1 : 211 ، من الطبعة المترجمة الى العربية ، و قد ذكر الميرزا النوري أن هذا اللقب مذكور في الزبور الثالث عشر و غيره ، نقل ذلك عن كتاب ذخيرة الألباب للشيخ محمد الاسترابادي.
28. أهل البيت في الكتاب المقدّس : 123 ـ 127.
29. النجم الثاقب 2 : 198.
30. بشارات العهدين : 277.
31. الكتاب المقدّس تحت المجهر : 155 ، نقلاً عن كتاب دفاع عن الكافي للسيد ثامر العميدي 1 : ، وراجع بشأن هذه البشارة ، أهل البيت في الكتاب المقدّس 1 : 185 ـ 186.
32. راجع مثلاً ما نقله الشيخ الصادقي في كتابه بشارات العهدين من كتب الأديان الاُخرى.
33. بل أثبتت دراسات عدد من علماء أهل السنة تواتر هذه الأحاديث الشريفة ، مثل كتاب « التوضيح في تواتر ما جاء في المنتظر والدجال والمسيح » للامام الشوكاني ، وكتاب « الإشاعة في أشراط الساعة » للبرزنجي ، وكتاب « التصريح » للكشميري وغيرها.
34. هذا الحكم يصدق أيضاً على الأحاديث الشريفة المروية عن الرسول الأكرم وأئمة العترة ـ صلوات الله وسلامه عليهم اجمعين ـ والتي تنبأت بولادة المهدي من الحسن العسكري وغيبته ، فثبوت صدورها وتدوينها قبل وقوع الولادة والغيبة بما يزيد على القرن وأكثر ، ثم تحقّق ما أخبرت عنه عملياً يثبت صحتها حتى لو كان ثمة نقاش في بعض أسانيدها لأنّ تصديق الواقع لها دليل على صحة صدورها من ينابيع الوحي المتصلة بالله تبارك وتعالى الذي لا يعلم الغيب سواه ولا يطلع على غيبه إلّا من ارتضى. وقد استدل العلماء بهذا الدليل الوجداني على صحة الغيبة وصحة إمامة المهدي بن العسكري عليهما السلام ، مثل الشيخ الصدوق في إكمال الدين 1 : 19 ، والشيخ الطوسي في كتاب الغيبة : 101 ـ 107 ، والطبرسي في إعلام الورى وابن طاووس في كشف المحجة وغيرهم.
35. ذكر الشيخ القندوزي الحنفي في ينابيع المودة الكثير من علماء أهل السنة القائلين بأنّ المهدي الموعود هو ابن الحسن العسكري وأنه حي وغائب ، كما ذكر الميرزا النوري في كتاب كشف الأستار أربعين عالماً منهم ونقل تصريحاتهم في ذلك ، وكذلك فعل العلامة نجم الدين العسكري في كتابه المهدي الموعود المنتظر عند علماء أهل السنة والإمامية. وجمع أقوالهم وتصريحاتهم السيد ثامر العميدي في الجزء الأول من كتابه ( دفاع عن الكافي ).
36. بحث حول المهدي : 12 ـ 14.
مقتبس من مجلّة : [ الفكر الإسلامي ] / العددان الثامن عشر والتاسع عشر / الصفحة : 241 ـ 268
التعلیقات