كيف تأتّى للمهدي هذا العمر الطويل؟
السید محمد باقر الصدر
منذ 12 سنة( المبحث الأوّل ) كيف تأتّى للمهدي هذا العمر الطويل؟
64
65
هل بالإمكان أن يعيش الإنسان قروناً كثيرة كما هو المفترض في هذا القائد المنتظر لتغيير العالم ، الذي يبلغ عمره الشريف فعلاًً أكثر من ألف ومائة وأربعين سنة ، أي حوالي (14) مرة بقدر عمر الإنسان الاعتيادي الذي يمرّ بكل المراحل الاعتيادية من الطفولة إلى الشيخوخة؟ كلمة الإمكان هنا تعني أحد ثلاثة معاني : الإمكان العملي ، والإمكان العلمي ، والإمكان المنطقي أو الفلسفي. وأقصد بالإمكان العملي : أن يكون الشيء ممكناً على نحو يتاح لي أو لك ، أو لإنسان آخر فعلاًً أن يحققه ، فالسفر عبر المحيط ، والوصول إلى قاع البحر ، والصعود إلى القمر ، أشياء أصبح الا إمكان عملي فعلاًً. فهناك من يمارس هذه الأشياء فعلاًً بشكل وآخر (1). وأقصد بالإمكان العلمي : أن هناك أشياء قد لا يكون بالإمكان عمليأ لي أو لك ، أن تُمارسها فعلاًً بوسائل المدنية المعاصرة ، ولكن لا يوجد لدى العلم ولا
__________________
(1) ولم تكن مثل هذه الأمور بمتصورة سابقاً قبل وقوعها ، ولو حَدّثَ بها أحد من الناس قبل تحققها فعلاًً لعدّ الحديث مجرد تخيلات وأوهام.
66
تشير اتجاهاته المتحركة إلى ما يبرر رفض إمكان هذه الأشياء ووقوعها وفقاً لظروف ووسائل خاصة ، فصعود الإنسان إلى كوكب الزهرة لا يوجد في العلم ما يرفض وقوعه ، بل إن اتجاهاته القائمة فعلاً تشير إلى إمكان ذلك ، وإن لم يكن الصعود فعلاً ميسورأ لي أو لك؟ لأن الفارق بين الصعود إلى الزهرة والصعود إلى القمر ليس إلأ فارق درجة ، ولا يمثل الصعود إلى الزهرة إلأ مرحلة تذليل الصعاب الإضافية التي تنشأ من كون المسافة أبعد ، فالصعود إلى الزهرة ممكن علمياً وإن لم يكن ممكنأ عمليأ فعلاً (1). وعلى العكس من ذلك الصعود إلى قرص الشمس في كبد السماء فإثه غير ممكن علمياً ، بمعنى أن العلم لا أمل له في وقوع ذلك ، إذ لا يتصور علمياً ، وتجريبيأ إمكانية صنع ذلك الدرع الواقي من الاحتراق بحرارة الشمس ، التي تمثل أئونأ هائلأ مستعرأ بأعلى درجة تخطر على بال إنسان. وأقصد بالإمكان المنطقي أو الفلسفي : أن لا يوجد لدى العقل وفق ما يدركه من قوانين قَبْلية ـ أي سابقة على التجربة ـ ما يبرر رفض الشيء والحكم باستحالته. فوجود ثلاث برتقالات تنقسم بالتساوي وبدون كسر إلى نصفين ليس له إمكان منطتي؟ لأن العقل يدرك ـ قبل أن يمارس أي تجربةـ أن الثلاثة عدد فردي وليس زوجاً ، فلا يمكن أن تنقسم بالتساوي؟ لأن انقسامها بالتساوي يعني كونها زوجاً ، فتكون فردأ وزوجاً في وقت واحد ، وهذا تناقض ، والتناقض مستحيل منطقيأ. ولكن دخول الإنسان في النار دون أن يحترق ، وصعوده للشمس دون أن تحرقه الشمس بحرارتها ليس مستحيلاً من الناحية المنطقية ، إذ لا تناقض في
__________________
(1) الكلام في وقته دقيق علمياًً ، فهو يقول : إنه ممكن علمياً ، ولكنه لم يكن قد تحقق فعلاً ، والواقع أن كثيراً من الإنجازات في عالم الفضاء ، وتسيير المركبات الفضائية إلى كواكب وتوابع الأرض وغيرها قد أصبح حقائق في أواخر القرن العشرين.
67
افتراض أن الهرارة لا تتسرب من الجسم الأكثر حرارة إلى الجسم الأقل حرارة ، وإئما هو مخالف للتجربة التي أثبتت تسرب الحرارة من الجسم الأكثر حرارة إلى الجسم الأقل حرارة إلى أن يتساوى الجسمان في الحرارة. وهكذا نعرف أن الإمكان المنطقي أوسع دائرة من الإمكان العلمي ، وهذا أوسع دائرة من الإمكان العملي. ولا شذ في أن امتداد عمر الإنسان آلاف السنين ممكن منطقيأ؟ لأن ذلك ليس مستحيلاً من وجهة نظر عقلية تجريدية ، ولا يوجد في افتراض من هذا القبيل أي تناقض؟ لأن الحياة كمفهوم لا تستبطن الموت السريع ، ولا نقاش في ذلك. كما لا شكّ أيضأ ولا نقاش في أن هذا العمر الطويل ليس ممكنأ إمكانأ عمليأ ، على نحو الإمكانات العملية للنزول إلى قاع البحر أو الصعود إلى القمر ، ذلك لأن العلم بوسائله وأدواته الحاضرة فعلاً ، والمتاحة من خلال التجربة البشرية المعاصرة ، لا تستطيع أن تمدد عمر الإنسان مئات السنين ، ولهذا نجد أن أكثر الناس حرصأ على الحياة وقدرة على تسخير إمكانات العلم ، لا يحتاح لهم من العمر إلاّ بقدر ما هو مألوف. وأما الإمكان العلمي فلا يوجد عملياً اليوم ما يبرر رفض ذلك من الناحية النظرية (1). وهذا بحث يتصل في الحقيقة بنوعية التفسير الفسلجي لظاهرة الشيخوخة والهرم لدى الإنسان ، فهل تعبز هذه الظاهرة عن قانون طبيعي يفرض على أنسجة جسم الإنسان وخلاياه ـ بعد أن تبلغ قمة نموها ـ أن تتصلب بالتدريج
__________________
(1) نعم ، لا يوجد مبرر علمي واحد يرفض هذه النظرية ، بل إن علماء الطبّ منشغلون فعلاً بمحاولات حثيثة لإطالة عمر الإنسان ، وإن هناك عشرات التجارب التي تتممّ في هذا المجال ، وذلك وحده ينهض دليلاً قوياً على الإمكان النظري أو العلمي.
68
وتصبح أقل كفاءة للاستمرار في العمل ، إلى أن تتعطل في لحظة معينة ، حتى لو عزلناها عن تأثير أي عامل خارجي؟ أو أن هذا التصلب وهذا التناقص في كفاءة الأنسجة والخلايا الجسمية للقيام بأدوارها الفسيولوجية ، نتيجة صراع مع عوامل خابىجية كالميكروبات أو التسمم الذي يتسرب إلى الجسم من خلال ما يتناوله من غذاء مكثف؟ أو ما يقوم به من عمل مكثف أو أي عامل آخر؟ وهذا سؤال يطرحه العلم اليوم على نفسه ، وهو جاد في الإجابة عنه ، ولا يزال للسؤال أكثر من جواب على الصعيد العلمي. فإذا أخذنا بوجهة النظر العلمية التي تتجه إلى تفسير الشيخوخة والضعف الهرمي ، بوصفه نتيجة صراع واحتكاك مع مؤثرات خارجية معينة ، فهذا يعني أن بالإمكان نظرياً ، إذا عُزلت الأنسجة التي يتكون منها جسم الإنسان عن تلك المؤثرات المعيّنة ، أن تمتد بها الحياة وتتجاوز ظاهرة الشيخوخة وتتغلب عليها نهائياً. وإذا أخذنا بوجهة النظر الأخرى ، التي تميل إلى افتراض الشيخوخة قانوناً طبيعياً للخلايا والأنسجة الحيّة نفسها ، بمعنى أنها تحمل في أحشائها بذرة فنائها المحتوم ، مروراً بمرحلة الهرم والشيخوخة وانتهاءً بالموت. أقول : إذا أخذنا بوجهة النظر هذه ، فليس معنى هذا عدم افتراض أي مرونة في هذا القانون الطبيعي ، بل هو ـ على افتراض وجوده ـ قانون مرن ؛ لأننا نجد في حياتنا الاعتيادية؟ ولأن العلماء يشاهدون في مختبراتهم العلمية ، أن الشيخوخة كظاهرة فسيولوجية لا زمنية ، قد تأتي مبكرة ، وقد تتأخر ولا تظهر إلأ في فترة متأخرة ، حتى إن الرجل قد يكون طاعنأ في السن ولكنه يملك أعضاء لينة ، ولا
69
تبدو عليه أعراض الشيخوخة كما نصّ على ذلك الأطباء (1). بل إن العلماء استطاعوا عمليأ أن يستفيدوا من مرونة ذلك القانون الطبيعي المفترض ، فأطالوا عمر بعض الحيوانات مئات المرات بالنسبة إلى أعمارها الطبيعية؟ وذلك بخلق ظروف وعوامل تؤجل فاعلية قانون الشيخوخة. وبهذا يثبت عملياً أن تأجيل هذا القانون بخلق ظروف وعوامل معيّنة أمر ممكن عملياً ، ولئن لم يتح للعلم أن يمارس فعلاً هذا التأجيل بالنسبة إلى كائنٍ معقد معين كالإنسان ، فليس ذلك إلاّ لفارق درجة بين صعوبة هذه الممارسة بالنسبة إلى الإنسان وصعوبتها بالنسبة إلى أحياء أخرى. وهذا يعني أن العلم من الناحية النظرية وبقدر ما تشير إليه انجاهاته المتحركة لا يوجد فيه أبداً ما يرفض إمكانية إطالة عمر الإنسان ، سواء فشرنا الشيخوخة بوصفها نتاج صراع واحتكاك مع مؤثرات خارجية أو نتاج قانون طبيعي للخليّة الحيّة نفسها يسير بها نحو الفناء. ويتلخص من ذلك : أن طول عمر الإنسان وبقاءه قروناً متعددة أمر ممكن منطقياً وممكن عملياً ، ولكنه لا يزال غير ممكن عملياً ، إلاّ أن اتجاه العلم سائر في طريق تحقيق هذا الإمكان عبر طريق طويل. وعلى هذا الضوء نتناول عمر المهدي عليه الصلاة والسلام وما أحيط به من استفهام أو استغراب ، ونلاحظ : إنه بعد أن ثبت إمكان هذا العمر الطويل منطقياً وعلمياً ، وثبت أن العلم
__________________
(1) يؤكد الأطباء والدراسات الطبية على هذه الملاحظة ، وأن لديهم مشاهدات كثيرة في هذا المجال ، ولعل هذا هو الذي دفعهم إلى إجراء محاولات وتجارب لإطالة العمر الطبيعي للإنسان ، وكالمعتاد كان مسرح التجربة في البداية هي الحيوانات لميسورية ذلك ، وعدم وجود محاذير اخرى تمنع إجراء مثل تلك التجارب على الإنسان.
70
سائر في طريق تحويل الإمكان النظري إلى إمكان عملي تدريجأ ، لا يبقى للاستغراب محتوىً إلاّ استبعاد أن يسبق المهدي العلم نفسه ، فيتحول الإمكان النظري إلى إمكان عملي في شخصه قبل أن يصل العلم في تطوره إلى مستوى القدرة الفعلية على هذا التحويل ، فهو نظير من يسبق العلم في اكتشاف دواء ذات السحايا أو دواء السرطان. وإذا كانت المسألة هي أنه كيف سبق الإسلام ـ الذي صمّم عمر هذا القائد المنتظر ـ حركة العلم في مجال هذا التحويل؟ فالجواب : أنه ليس ذلك هو المجال الوحيد الذي سبق فيه الإسلام حركة العلم. أوليست الشريعة الإسلامية ككل قد سبقت حركة العلم والتطور الطبيعي للفكر الإنساني قروناً عديدة؟ (1) أوَلم تناد بشعارات طرحت خططاً للتطبيق لم ينضج الإنسان للتوصل إليها في حركته المستقلة إلاّ بعد مئات السنين؟ أوَلم تأت بتشريعات في غاية الحكة ، لم يستطع الإنسان أن يدرك أسرارها ووجه الحكة فيها إلأ قبل برهة وجيزة من الزمن؟ أوَلم تكشف رسالة السماء أسراراً من الكون لم تكن تخطر على بال إنسان ، ثم
__________________
(1) هذه التساؤلات التي يثيرها السيد الشهيد رضي الله عنه تهدف إلى ترسيخ حقيقة مهمة ، هي أن الرسول الأعظم 6 عندما بشر ( بالمهدي ) ، وهو حالة غير اعتيادية في سياق البشرية ، تنبئ في جملتها عن تسجيل سبقٍ في الإمكانية العملية ، بحد تأكيد الإمكانية العلمية ، أى لبقاء الإنسان مدة أطول بكثير من المعتاد ، فإن مثل هذا السبق في التنبيه على حقائق ني هذا الوجود كان قد سجّله القرآن والحديث الشريف في موارد كثيرة جدأ في مسائل الطبيعة والكون والحيا ة. راجع : القرآن والعلم الحديث / الدكتور عبدالرزاق نوفل.
71
جاء العلم ليثبتها ويدعمها؟ فإذا كنا نؤمن بهذا كله ، فلماذا نستكثر على مرسل هذه الرسالة ـ سبحانه وتعالى ـ أن يسبق العلم في تصميم عمر المهدي؟ (1) وأنا هنا لم أتكلم إلأ عن مظاهر السبق التي نستطيع أن نحسّها نحن بصورة مباشرة ، ويمكن أن نضيف إلى ذلك مظاهر السبق التي تحذثنا بها رسالة السماء نفسها. ومثال ذلك أنها تخبرنا بأن النبي 6 قد أسري به ليلأ من المسجد الحرام إلى المسجد الأقصى ، وهذا الإسراء (2) إذا أردنا أن نفهمه في إطار القوانين الطبيعية ، فهو يعبز عن الاستفادة من القوانين الطبيعية بشكل لم يتح للعلم أن يُحقّقه (3) إلأ بعد مئات السنين ، فنفس الخبرة الربانية التي أتاحت للرسول 6 التحرك السريع قبل أن يتاح للعلم تحقيق ذلك ، أتاحت لآخر خلفائه المنصوصين العمر المديد ، قبل أن يتاح للعلم تحقيق ذلك. نعم ، هذا العمر المديد الذي منحه الله تعالى للمنقذ المنتظر يبدو غريبأ في
__________________
(1) إشارة إلى أن هذا من قبيل الإعجاز أيضاً ، وهو إفاضة ربانية خاصة ، وهذا أمر لا يسع المسلم إنكاره ، بعد أن أخبرت بأمثا له الكتب السماوية ، وبالأخص القرآن ، كالذي ورد في شأن عمر الني نوح 7 ، وكذا ما أخبر به القرآن من المغيبات الأخرى ، على أن كثيراً من أهل السنّة ومن المتصوفة وأهل العرفان يؤمنون بوقوع الكرامات ومايشبه المعجزات للأولياء والصلحاء والمقزبين من حضرة المولى تعالى. راجع : التصوف والكرامات / الشيخ محمد جواد مغنية. وراجع : التاج الجامع للأصول 5 : 228 / كتاب الزهد والرقائق ـ الذين تكلموا في المهد. (2) إشارة إلى الآية المباركة : ( سُبْحَانَ الَّذي أَسْرَى بِعَبدِهِ لَيْلاً مِنَ الْمَسْجِدِ الْحَرَامِ إِلَى الْمَسْجِدِ الأَقْصَى ... ) الإسراء : 1. (3) إشارة إلى تصميم المركبات الفضانية ، وركوب الفضاء والتوغل إلى مسافات بعيدة عن أرضنا ، وقطعها في ساعات أو أيام معدودة ، وقد أضحت هذه حقائق في حياتنا المعاصرة في أواخر القرن العشرين.
72
حدود المألوف حتى اليوم في حياة الناس ، وفي ما أنجز فعلاً من تجارب العلما ،. ولكن! أو ليس الدور التغييري الحاسم الذي أُعدّ له هذا المنقذ غريبأ في حدود المألوف في حياة الناس ، وما مزت جمعهم من تطورات التاريخ؟ أو ليس قد أنيط به تغيير العالم ، وإعادة بنائه الحضاري من جديد على أساس الحق والعدل؟ فلماذا نستغرب إذا اتّسم التحضير لهذا الدور الكبير ببعض الظواهر الغريبة والخارجة عن المألوف كطول عمر المنقذ المنتظر؟ فإن غرابة هذه الظواهر وخروجها عن المألوف مهما كان شديداً ، لا يفوق بحال غرابة نفس الدور العظيم الذي يجب على اليوم الموعود إنجازه. فإذا كنا نستسيغ ذلك الدور الفريد (1) تاريخيأ على الرغم من أنه لا يوجد دور مناظر له في تاريخ الإنسان ، فلماذا لا نستسيغ ذلك العمر المديد الذي لا نجد عمرأ مناظرأ له في حياتنا المألوفة؟ ولا أدري! هل هي صدفة أن يقوم شخصان فقط بتفريغ الحضارة الإنسانية من محتواها الفاسد وبنائها من جديد ، فيكون لكل منهما عمر مديد يزيد على أعمارنا الاعتيادية أضعافاً مضاعفة؟ أحدهما مارس دوره في ماضي البشرية وهو النبي نوح ، الذي نصّ القرآن
__________________
(1) إشارة إلى ما أعذ للإمام المهدي المنتظر من دور ومهمة تغييرية على مستوى الوجود الإنساني برمته كما يشير الحديث الصحيح : «يملأ الأرض قسطاً وعدلاً بعد ما ملئت ظلما وجورا » ، وهذا الدور وهذه المهمة عليها الإجماع بين علماء الإسلام ، والاختلاف حصل في أمور فرعية. ومن هنا كان التساؤل الذي أثاره السيد الشهيد رضي الله عنه له مبرر
منطقي قوي.
73
الكريم (1) على أنه مكث في قومه ألف سنة إلاّ خمسين عاماً ، وقدّر له من خلال الطوفان أن يبني العالم من جديد. والآخر يمارس دوره في مستقبل البشرية وهو المهدي الذي مكث في قومه حتى الآن أكثر من ألف عام وسيقدّر له في اليوم الموعود أن يبني العالم من جديد. فلماذا نقبل نوح الذي ناهز ألف عام على أقل تقدير ولا نقبل المهدي؟ (2)
__________________
(1) في الآية المباركة : ( فلَبثَ فِيهِمْ أَلْفَ سَنَةٍ إِلاَّ خَمْسِينَ عَاماً ) العنكبوت : 14. (2) السؤال موجّه إلى المسلمين المؤمنين بالقرآن الكريم وبالحديت النبوي الشريف ، وقد روى علماء السنّة لغير نوح ما هو أكثر من ذلك. راجع تهذيب الأسماء واللغات / النووي 1 : 176 ، ولايصخ أن يشكل أحد بأن ذاك أخبر به القرآن فالنمق قطعي الثبوت ، وهو يتعلق بالنبى المرسل نوح 7 ، أما هنا فليس لدينا نصّ قطعي ، ولا الأمر متعلق بنبيّ. والجواب : أن المهمة أولأ واحدة ، وهي تغيير الظلم والفساد ، وأن الوظيفة كما أوكلت إلى النبي ، فقد اوكلت هنا إلى من اختاره الله تعالى أيضأكما هو لسان الروايات الصحيحة. قال الرسول الأعظم 6 : « لَوْ لَمْ يَبِقْ مِنَ الدنيا إلاّ يومٌ لطوّل اللهُ ذلك اليَوم حتّى يَبعثَ رَجُلاً مِنْ أهلِ بيتي يملأ الأرضَ قِسْطاً وَعدلاً ... » التاج الجامع للأصول 5 : 343. وأما من جهة قطعية النص ، فأحاديث المهدي بلغت حدّ التواتر ، وهو موجب للقطع والعلم ، فلا فرق في المقامين. راجع : التاج الجامع للأصول 5 : 341 و 360 فقد نقل التواتر عن الشوكاني ، وانتهى المحققون من علماء الفريقين إلى القول بأنّ من كفر بالمهدي فقد كفر بالرسول محمد 6 وليس ذلك إلاّ بلحاظ أنه ثبت بالتواتر ، وأنه من ضرورات الدين ، والمنكر لذلك كافر إجماعاً. وراجع : الإشاعة لأشراط الساعة / البرزنجي في بحثه حول المهدي. وقد نقلنا حكاية التواتر في المقدمة أيضأ.
74
75
( المبحث الثاني ) المعجزة والعمر الطويل
76
77
وقد عرفنا حتى الآن أنّ العمر الطويل ممكن علمياً ، ولكن لنفترض أنه غير ممكن علمياً ، وانّ قانون الشيخوخة والهرم قانون صارم لا يمكن للبشرية اليوم ، ولا على خطها الطويل ان تتغلب عليه ، وتغير من ظروفه وشروطه ، فماذا يعني ذلك؟ إنّه يعني أنّ إطالة عمر الإنسان ـ كنوحٍ أو كالمهدي ـ قروناً متعددة ، هي على خلاف القوانين الطبيعية التي أثبتها العلم بوسائل التجربة والاستقراء الحديثة ، وبذلك تصبح هذه الحالة معجزة عطلت قانوناً طبيعياً في حالة معينة للحفاظ على حياة الشخص الذي أنيط به الحفاظ على رسالة السماء ، وليست هذه المعجزة فريدة من نوعها ، او غريبة على عقيدة المسلم المستمدة من نصّ القرآن والسنّة (1) ، فليس قانون الشيخوخة والهرم أشدّ صرامة من قانون انتقال الحرارة من الجسم الأكثر حرارة إلى الجسم الأقل حرارة حتى يتساويا ، وقد عطّل هذا القانون لحماية حياة أبراهيم 7 حين كان الأسلوب الوحيد للحفاظ عليه تعطيل ذلك القانون. فقيل للنار حين ألقي فيها إبراهيم ( قلنا يا نار كوني برداً وسلاماً على إبراهيم) أنبياء : 69 ، فخرج منها كما دخل سليماً لم يصبه أذىً ، إلى كثير من القوانين الطبيعية التي عطّلت
__________________
(1) أي أنّ الأمر يصبح من قبيل المعجز ، وهو ما نطق به القرآن ، وجاء في صحيح السنّة المطهرة ، والإعجاز حقيقة رافقت دعوة الأنبياء ، وادّعاء سفارتهم عن الحضرة الإلهية ، وهو ما لا يسع المسلم إنكاره أو الشك فيه ، بل إنّ غير المسلم يشارك المسلم في الاعتقادات بالمعجزات.
78
لحماية أشخاص من الأنبياء وحجج الله على الارض ، ففلق البحر لموسى (1) ، وشبّه للرومان أنهم قبضوا على عيسى (2) ولم يكونوا قد قبضوا عليه ، وخرج النبي محمد 6 من داره وهي محفوفة بحشود قريش التي ظلّت ساعات تتربص به لتهجم عليه ، فستره الله تعالى عن عيونهم وهو يمشي بينهم (3). كلّ هذه الحالات تمثل قوانين طبيعية عطّت لحماية شخص ، كانت الحكمة الربانية تقتضي الحفاظ على حياته ، فليكن قانون الشيخوخة والهرم من تلك القوانين. وقد يمكن ان نخرج من ذلك بمفهوم عام وهو انه كلّما توقف الحفاظ على حياة حجة لله في الارض على تعطيل قانون طبيعي ، وكانت إدامة حياة ذلك الشخص ضرورية لإنجاز مهمته التي اُعدّ لها ، تدخلت العناية الربانية في تعطيل ذلك القانون لإنجاز ذلك ، وعلى العكس اذا كان الشخص قد انتهت مهمته التي اُعِدّ لها ربانياً فإنه سيلقى حتفه ويموت أو يستشهد وفقاً لما تقرره القوانين الطبيعية. ونواجه عادة بمناسبة هذا المفهوم العام السؤال التالي :كيف يمكن ان يتعطل القانون (4)؟ وكيف تنفصم العلاقة الضرورية التي تقوم بين الظواهر الطبيعية؟ وهل هذه إلاّ مناقضة للعلم الذي اكتشف ذلك القانون الطبيعي ، وحدّده هذه العلاقة
__________________
(1) إشارة الى قوله تعالى : ( فأَُوْحُيْنَا إِلَى مُوسَى أَنِ اضْرِب بِعَصَاكَ البَحْرَ فَانفَلَقَ فَكَانَ كُلُّ فِرْقٍ كَالطَّوْدِ الْعَظِيمِ ) الشعراء : 63. (2) إشارة الى قوله تعالى : ( وَمَا قَتَلُوهُ وَمَا صَلَبُوهُ وَلَكِن شُبِّهَ لَهُمْ ... ) النساء : 157. (3) راجع : سيرة ابن هشام 2 : 127 ، فقد نقل هذه الحادثة وهي مجمعٌ عليها. (4) قد يقال : إنّ القانون بصفته قانوناً لابدّ أن يطّرد ، ولا يتصور التعطيل والانخرام ، وقد لاحظ بعضهم أنّ الانخرام إنما هو بقانون آخر ، كما هو الأمر بالنسبة إلى قانون الجاذبية ، الذي يستلزم جذب الأشياء الى المركز ، ومع ذلك فإنّ الماء يصعد بعملية الامتصاص في النباتات من الجذر إلى الأعلى بواسطة الشعيرات ، وهذا بحسب قانون آخر هو ( الخاصية الشعرية ). راجع : القرآن محاولة لفهم عصري / الدكتور مصطفى محمود.
79
الضرورية على أسس تجريبية واستقرائية؟! والجواب : أنّ العلم نفسه قد أجاب عن هذا السؤال بالتنازل عن فكرة الضرورة في القانون الطبيعي ، وتوضيح ذلك : إنّ القانون الطبيعية يكتشفها العلم على اساس التجربة والملاحظة المنتظمة ، فحين يطّرد وقوع ظاهرة طبيعية عقيب ظاهرة أخرى يستدل بهذا الاطّراد على قانون طبيعي ، وهو أنه كلّما وجدت الظاهرة الاولى وجدت الظاهرة الثانية عقيبها ، غير أنّ العلم لا يفترض في هذا القانون الطبيعي علاقة ضرورية بين الظاهرتين نابعة من صميم هذه الظاهرة وذاتها ، وصميم تلك وذاتها ؛ لأنّ الضرورة حالة غيبية ، لا يمكن للتجربة ووسائل البحث الاستقرائي والعلمي إثباتها ، ولهذا فإنّ منطق العلم الحديث يؤكد أنّ القانون الطبيعي ـ كما يعرّفه العلم ـ لا يتحدث عن علاقة ضرورية ، بل عن اقتران مستمر بين ظاهرتين (1) ، فإذا جات المعجزة وفصلت إحدى الظاهرتين عن الاخرى في قانون طبيعي لم يكن ذلك فصماً لعلاقة ضرورية بين الظاهرتين. والحقيقة أنّ المعجزة بمفهومها الديني ، قد أصبحت في ضوء المنطق العلمي الحديث مفهومة بدرجة أكبر مما كانت عليه في ظلّ وجهة النظر الكلاسيكية الى علاقات السببية. فقد كانت وجهة النظر القديمية تفترض أنّ كلّ ظاهرتين اطرّد اقتران إحداهما بالأخرى فالعلاقة بينهما علاقة ضرورة ، والضرورة تعني أنّ من المستحيل ان تنفصل إحدى الظاهرتين عن الاخرى ، ولكن هذه العلاقة تحولت في منطق العلم الحديث إلى قانون الاقتران أو التتابع المطّرد (2) بين الظاهرتين دون افتراض تلك الضرورة الغيبية.
__________________
(1) وقد بسط الشهيد الصدر القول في هذه المسألة في كتابه فلسفتنا فراجع ص 295 و 299. (2) راجع فلسفتنا : ص 282 وما بعدها.
80
وبهذا تصبح المعجزة حالة استثنائية لهذا الاطّراد في الاقتران أو التتابع دون ان تصطدم بضرورة او تؤدي الى استحالة. وأما على ضوء الاسس المنطقية للاستقراء (1) فنحن نتفق مع وجهة النظر العلمية الحديثة ، في أنّ الاستقراء لا يبرهن على علاقة الضرورة بين الظاهرتين ، ولكنّا نرى أنّه يدلّ على وجود تفسير مشترك لاطّراد التقارن او التعاقب بين الظاهرتين باستمرار ، وهذا التفسير المتشرك كما يمكن صياغته على أساس افتراض الضرورة الذاتية ، كذلك يمكن صياغته على أساس افتراض حكمة دعت منظم الكون إلى ربط ظواهر معينة بظواهر أخرى باستمرار ، وهذه الحكمة نفسها تدعو أحياناً إلى الاستثناء فتحدث المعجزة.
__________________
(1) راجع بسط وشرح النظرية في « إلأسس المنطقية للاستقراء» حيث توصل الإمام الشهيد الصدر رضي الله عنه الى اكتشاف مهم وخطير على صعيد نظرية المعرفة بشكل عام.
81
لماذا كل هذا الحرص على إطالة عمره؟
83
ونتناول الآن السؤال الثاني ، وهو يقول : لماذا كلّ هذا الحرص من الله سبحانه وتعالى على هذا الإنسان بالذات ، فتُعطّل من أجله القوانين الطبيعية لإطالة عمره؟ ولماذا لا تترك قيادة اليوم الموعود لشخص يتمخض عنه المستقبل ، وتضجه إرهاصات اليوم الموعود فيبرز على السلاحة ويمارس دوره المنتظر. وبكلمة أخرى : ما هي فائدة هذه الغيبة الطويلة وما المبرّر لها؟
وكثير من الناس يسألون هذا السؤال وهم لا يريدون ان يسمعوا جواباً غيبياً ، فنحن نؤمن بأنّ الأئمة الاثني عشر مجموعة فريدة (1) لا يمكن التعويض عنأي واحد منهم ، غير أنّ هؤلاء المتسائلين يطالبون بتفسير اجتماعي للموقف ، على ضوء الحقائق المحسوسة
__________________
(1) اشارة الى معتقد الإمامية الاثني عشرية المستند إلى أدلة المعقول والمنقول ، وبالأخص إلى حديث الثقلين المتواتر « إنّي تركتم فيكم ما إن تمسكتم بهما لن تضلوا بعدي أبداً كتاب الله وعترتي أهل بيتي». راجع : صحيح مسلم 4 : 1873 وراجع الصواعق المحرقة لابن حجر : ص 89 ، قال : ثمّ اعلم أنّ لحديث التمسّك بذلك طرقاً كثيرة وردت عن نيف وعشرين صحابياً.
وكذلك إلى قوله 6 : « لن يفترقا حتى يردا عليّ الحوض..» وإلى قوله 6 : « إلخلفاء بعدي اثنا عشر كلهم من قريش ». ومفاد ذلك كله تقرير هذا المعنى.
84
لعملية التغيير الكبرى نفسها والمتطلبات المفهومة لليوم الموعود. وعلى هذا الاساس نقطع النظر مؤقتاً عن الخصائص التي نؤمن بنوفرها في هؤلاء الائمة المعصومين (1) ونطرح السؤال التالي : إننا بالنسبة إلى عملية التغيير المرتقبة في اليوم الموعود ، بقدر ما تكون مفهومة على ضوء سنن الحياة وتجاربها ، هل يمكن ان نعتبر هذا العمر الطويل لقائدها المدّخر عاملاً من عوامل إنجاحها ، وتمكنه من ممارستها وقيادتها بدرجة أكبر؟ ونجيب عن ذلك بالإيجاب ، وذلك لعدة أسباب منها ما يلي :
إنّ عملية التغيير الكبرى تتطلب وضعاً نفسياً فريداً في القائد الممارس لها ، مشحوناً بالشعور .. بالتفوق والإحساس بضآلة الكيانات الشامخة التي أعُدّ للقضاء عليها ، وتحويلها حضارياً إلى عالم جديد.
فبقدر ما يعمر قلب القائد المغيّر من شعور بتفاهة الحضارة التي يصارعها ، وإحساس واضح بأنها مجرد نقطة على الخط الطويل لحضارة الإنسان ، يصبح أكثر
__________________
(1) تحدّث النبي الأكرم محمد 6 كثيراً عن خصائصهم وأدوارهم ، ووظيفتهم ومهماتهم ، وأنهم حملة الشريعة ، وسفن النجاة ، وأمان الأمّة ، وعصمتها من الضلال ، كما اليه الإشارة في حديث الثقلين ، وحديث لن يفترقا وكلاهما يؤكدان عصمتهم ، إذ لا يعقل أنهم عصمة اُمّة من الضلال ، وأنهم لن يفترقا عن القرآن المعصوم ، وهم غير معصومين!!
راجع في هذا المطلب : الأصول العامة للفقه المقارن / العلامة محمد تقي الحكيم / مبحث حجية السنّة : ص 169 وما بعدها.
85
قدرة من الناحية النفسية (1) على مواجهتها والصمود في وجهها ومواصلة العمل ضدها حتى النصر.
ومن الواضح أنّ الحجم المطلوب من هذا الشعور النفسي يتناسب مع حجم التغيير نفسه ، وما يراد القضاء عليه من حضارة وكيان ، فكلما كانت المواجهة لكيان أكبر ولحضارة أرسخ وأشمخ تطلّبت زخماً أكبر من هذا الشعور النفسي المفعم.
ولما كانت رسالة اليوم الموعود تغيير عالم مليء بالظلم وبالجور ، تغييراً شاملاً بكل قيمه الحضارية وكياناته المتنوعة ، فمن الطبيعي ان تفتش هذه الرسالة عن شخص أكبر في شعوره النفسي من ذلك العالم كله ، عن شخص ليس من مواليد ذلك العالم الذين نشأوا في ظل تلك الحضارة التي يراد تقويضها واستبدال حضارة العدل والحق بها ؛ لأنّ من ينشأ في ظل حضارة راسخة ، تعمر الدنيا بسلطانها وقيمها وفكارها ، يعيش في نفسه الشعور بالهيبة تجاهها ؛ لأنّه ولد وهي قائمة ونشأ صغيراً وهي جبارة ، وفتح عينيه على الدنيا فلم يجد سوى أوجهها المختلفة.
وخلافاً لذلك ، شخص يتوغل في التاريخ عاش الدنيا قبل أن ترى تلك الحضارة النور ، ورأى الحضارات الكبير سادت العالم الواحدة تلو الأخرى ثمّ تداعت وانهارت (2) ، رأى ذلك بعينيه ولم يقرأه في كتاب تاريخ ..
__________________
(1) أن يكون القائد التاريخي مهيّئاً نفسياً ومعدّاً إعداداً مناسباً لأداء المهمة ، أمرٌ مفروغ منه ، ولو رجعنا الى القرآن الكريم لوجدناه يتحدث عن هذه المسألة في تاريخ الأنبياء بصورة واضحة جداً ، وبخاصة فيما يتعلق بالنبي نوح 7 ، وهو أمر يلفت الانتباه والنظر ، وربما يكون للتشابه والاتفاق في الدور والمهمة التي أوكلت لهما ، كما نبّه الشهيد الصدر رضي الله عنه إليه.
راجع : مع الأنبياء / عفيف عبد الفتاح طبارة.
(2) ويمكن ان وتقرّب هذا المعنى بما عشناه وشاهدناه من صعود الاتحاد السوفيتي وترقية حتى صار
86
ثمّ رأى الحضارة التي يقدّر لها أن تكوّن الفصل الأخير من قصة الإنسان قبل اليوم الموعود ، رآها وهي بذور صغيرة لا تكاد تتبين ..
ثمّ شاهدها وقد اتخذت مواقعها في أحشاء المجتمع البشري تتربص الفرصة لكي تنمو وتظهر ..
ثمّ عاصرها وقد بدأت تنمو وتزحف وتصاب بالنكسة تارة ويحالفها التوفيق تارة أخرى ..
ثمّ واكبها وهي تزدهر وتتعملق وتسيطر بالتدريج على مقدّرات عالم بكامله ، فإنّ شخصاً من هذا القبيل عاش كلّ هذه المراحل بفطنة وانتباه كاملين ينظر إلى هذا العملاق ـ الذي يريد أن يصارعه ـ من زاوية ذلك الامتداد التاريخي الطويل الذي عاشه بحسّه لا في بطون كتب التاريخ فحسب ، ينظر إليه لا بوصفه قدراً محتوماً ، ولا كما كان ينظر (جان جاك روسو) (1) إلى الملكيّة في فرنسا ، فقد جاء عنه انّه كان يرعبه مجرد أن يتصور فرنسا بدون ملك ، على الرغم من كونه من الدعاة الكبار فكرياً وفلسفياً الى تطوير الوضع السياسي القائم وقتئذٍ ؛ لأنّ (روسو) هذا نشأ في ظل الملكيّة ، وتنفس هواءها طيلة حياته ، وأما هذا الشخص المتوغل في التاريخ ، فله هيبة التاريخ ، وقوة التاريخ ، والشعور المفعم بأنّ ما حوله من كيان وحضارة وليد يوم من أيام التاريخ ، تهيأت له الأسباب فُوُجِد ، وستتهيأ
__________________
القطب الثاني في العالم ، وتقاسم هو وأمريكا النفوذ الحضاري والهيمنة السياسية ، وركبا معاً أجواء الفضاء ، ثمّ شهدنا انهيار الاتحاد السوفيتي وتفكك أوصاله بمثل تلك السرعة القياسية في الانهيار ، فكم كان لذلك من أثر؟ وكم كان فيه من عبرة؟ وكم فيه من دلالة عميقة؟
(1) جان جاك روسو (1712 ـ 1778 م) كاتب وفيلسوف فرنسي اعتبره بعض النقاد الوجه الأبعد نفوذاً في الادب الفرنسي الحديث والفلسفة الحديثة ، وقد مهدت كتاباته ومقالاته للثورة الفرنسية ، وأشهر مؤلفاته العقد الاجتماعي. راجع : موسوعة المورد / منير البعلبكي 8 : 169.
87
الأسباب فيزول ، فلا يبقى منه شيء كما لم يكن يوجد منه شيء بالأمس القريب أو البعيد ، وانّ الأعمار التاريخية للحضارات والكيانات مهما طالت فهي ليست إلاّ أياماً قصيرة في عمر التاريخ الطويل.
هل قرأت سورة الكهف؟
وهل قرأت عن أولئك الفتية الذين آمنوا بربهم وزادهم الله هدى (1)؟ وواجهوا كياناً وثنياً حاكماً ، لا يرحم ولا يتردد في خنق أي بذرة من بذور التوحيد والارتفاع عن وحدة الشرك ، فضاقت نفوسهم ودبّ إليها اليأس وسدّت منافذ الأمل أمام أعينهم ، ولجأوا إلى الكهف يطلبون من الله حائلاً لمشكلتهم بعد أن أعيتهم الحلول ، وكبر في نفوسهم أنّ يظل الباطل يحكم ويظلم ويقهر الحق ويصفّى كلّ من يخفف قلبه للحق.
هل تعلم ماذا صنع الله تعالى بهم؟
إنه أنامهم ثلاثمائة سنة وتسع سنين (2) في ذلك الكهف ، ثمّ بعثهم من نومهم ودفع بهم إلى مسرح الحياة ، بعد أن كان ذلك الكيان الذي بهرهم بقوتهم وظلمه قد تداعى وسقط ، واصبح تاريخاً لا يُرعب احداً ولا يُحرّك ساكناً كل ذلك لكي يشهد هؤلاء الفتية مصرع ذلك الباطل الذي كبر عليهم امتداده وقوته واستمراره ويرو انتهاء امره باعينهم ويتصاغر الباطل في نفوسهم.
ولئن تحققت لأصحاب الكهف هذه الرؤية الواضحة في كل ما تحمّل من زخم وشموخ نفسيّين من خلال ذلك الحدث الفريد الذي مددّ حياتهم ثلاثمائة سنة ، فإن
__________________
(1) اشارة الى الآية القرآنية المباركة : ( إِنَّهُم فِتيَةٌ ءَامَنُوا بِرَبِّهِم وَزِدنَهُمْ هُدًى ... ) الكهف : 13 ، وراجع تفسيرها في الكاشف / الزمخشري 2 : 706 ، نشر دار الكتاب العربي ـ بيروت.
(2) إشارة إلى الآية : ( وَلَبِثُوا فِي كَهفِهِم ثَلَـثَ مِائَةٍ سِنِينَ وَازدَادُوا تِسعاً ... ) الكهف : 25.
88
الشيء نفسه يتحقق للقائد المنتظر من خلال عمره المديد الذي يتيح له أن يشهد العملاق وهو قزم والشجرة الباسقة وهي بذرة ، والإعصار وهو مجرد نسمة (1).
اضف الى ذلك ان التجربة التي تتيحها مواكبة تلك الحضارة المتعاقبة ، والمواجهة المباشرة لحركتها وتطوارتها لها أثر كبير في الإعداد الفكري وتعمير الخبرة القيادية في اليوم الموعود ؛ لأنها تضع الشخص المدّخر امام ممارسات كثيرة للآخرين بكل ما فيها من نقاط الضعف والقوة ، ومن ألوان الخطأ والصواب ، وتعطي لهذا الشخص قدرة اكبر على تقييم الظواهر الاجتماعية بالوعي الكامل على أسبابها ، وكل ملابساتها التاريخية.
ثمّ إنّ عملية التغيير المدّخرة للقائد المنتظر تقوم عى أساس رسالة معينة هي رسالة الاسلام ، ومن الطبيعي ان تتطلّب العملية في هذه الحالة قائداً قريباً من مصادر الاسلام الاولى ، قد بنيت شخصيته بناءً كاملاً بصورة مستقلة ومنفصلة عن مؤثرات الحضارة التي يقدر اليوم الموعود أن يحاربها.
وخلافاً لذلك ، الشخص الذي يولد وينشأ في كنف هذه الحضارة وتتفتح افكاره ومشاعره في إطارها ، فإنّه لا يتخلص غالباً من رواسب تلك الحضارة ومرتكزاتها ، وإن قاد حملة تغييرية ضدّها.
فلكي يضمن عدم تأثر القائد المدّخر بالحضارة التي اُعدّ لإستبدالها ، لابدّ أن تكون شخصية قد بنيت بناءاً كاملاً حضارية سابقة هي أقرب ما
__________________
(1) وكلّ ذلك له مدخلية في تربية وإعداده الاعداد الخاص ، بما في ذلك من امتلاكه النظرة الشمولية العميقة ، فضلاً عن شهوده بنفسه ضآلة أولئك المتعملقين الذين يملؤون الدنيا ضجيجاً وصخباً ، ويسترهبون الناس ، وهذا الشهود يؤهله أكثر فأكثر لأداء مهمته الكونية في التغيير ، أي ملئه للأرض عدلاً بعد ما ملئت ظلماً ، هذه بغمض النظر الى مؤهلاته الذاتية ، والعناية الربانية الخاصة.
89
تكون في الروح العامة ومن ناحية المبدأ إلى الحالة الحضارية التي يتجه اليوم الموعود الى تحقيقها بقيادته(1).
__________________
(1) ولا ينبغي ان يُشكل أحد بإنّ النبي محمد 6 مع عالمية رسالته ومهمته التغييرة الكبرى إلا أنه عاش في كنف الحضارة الجاهلية ، ولم يتأثر بها ، وكذا الانبياء السابقون ، فما هو الوجه في هذا الرأي؟
فجوابه :
أ ـ إنّ النبي 6 قد أخضع فعلاً إلى حالة عزالة تامة عن الحضارة الجاهلية ، وأنه كما ورد في السيرة النبويّة قد حُبّبَ إليه الخلاء ، وكان يذهب إلى غار حراء يتحنث فيه وكذا الأنبياء كانوا يتنزّهون عما عليه مجتمعهم ، وكانوا يعتزلون ، واليه الاشارة في قوله تعالى : ( فلُمّا اعتَزَلَهُم ومَا يَعبُدُون مِن دون الله وَهَبنا لَهُ إسْحَاقَ ) مريم : 49.
ب ـ إنّ النبي المرسل يوحى اليه ، ويسدّد مباشرة من السماء ، ويبلّغ بالأعمال والخطوات التي يتخذها خطوةً خطوةً ، والإمام7 لا يوحى اليه ـ كما هو عقيدة الامامية ـ ولا يبلّغ بالأمور مباشرةً من السماء ، نعم يكون مسدّداً وتحت العناية الربانية ، ولذلك فهو يحتاج إلى اعداد خاص. ففي نفس الوقت الذي يكون فيه قريباً ومتصلاً بالحضارة الإسلامية ، مستمداً من آبائه: الأصالة والمعرفة والعلم ، يكون مطلّلعاً على التجارب البشرية والحضارات في صعودها وعوامل تكوّنها وقوتها ، وكذلك إخفاقاتها وعوامل ضعفها وانهيارها ، فيستمد الخبرة والقدرة والإحاطة بالأمور جميعاً ، هذا مع اعتقادنا بقدرات الامام العلمية الذاتية التي وهبها الله تعالى له ، وبكونه مسدداً من السماء كما سيتوضح في المبحث الرابع.
90
( المبحث الخامس ) كيف نؤمن بأن المهدي قد وجد
(102)
ونصل الآن إلى السؤال الرابع وهو يقول : هب أنّ فرضية القائد المنتظر ممكنة بكلّ ما تستبطنه من عمر طويل ، وإمامة مبكرة ، وغيبة صامتة ، فإنّ الإمكان لا يكفي للاقتناع بوجوده فعلاً.
فكيف نؤمن فعلاً بوجود المهدي؟ وهل تكفي بضع روايات تنقل في بطون الكتب عن الرسول الأعظم (صل الله عليه واله) للاقتناع الكامل بالامام الثاني عشر على الرغم مما في هذا الافتراض من غرابة وخروج عن المالوف؟ بل كيف يمكن أن نثبت أنّ للمهدي وجوداً تاريخياً حقّاً وليس مجرد افتراض توفرت ظروف نفسية لتثبيته في نفوس عدد كبير من الناس؟ (1) والجواب : إنّ فكرة المهدي بوصفه القائد المنتظر لتغير العالم إلى الأفضل قد جاءت في أحاديث الرسول الاعظم عموماً ، وفي روايات أئمة أهل البيت
__________________
(1) هذه التساؤلات يطرحها السيد الشهيد رضي الله عنه بصفتها من الإشكالات التي أثيرت وتثار عادةً حول المهدي(عليه السلام) ، وهي أقصى ما يثار في هذا الصدد ، حتّى إنّ بعض الكتّاب المعاصرين قد أثاروها أخيراً مدفوعين بدوافع غير علمية ، مصحوبة تلك الإثارة بضجيج مكثفٍ ، ومحاولات بائسة من الوهابية لترويجها وتبنيها ، ولا تخفى الدوافع بعد ذلك على أحد.
وقد أجاب الإمام الشهيد بجواب علمي لمن يريد الحقيقة.
راجع ما كتبناه في المقدمة أيضاً.
(104)
خصوصاً ، وأكدت في نصوص كثيرة بدرجة لا يمكن أن يرقى إليها الشك.
وقد أحصي أربعمائة حديث عن النبي (صل الله عليه واله) من طرق إخواننا أهل السنّة (1) ، كما أُحصي مجموع الأخار الواردة في الإمام المهدي من طرق الشيعة والسنّة فكان أكثر من ستة آلاف رواية (2) ، وهذا رقم إحصائي كبير لا يتوفر نظيره في كثير من قضايا الإسلام البديهية التي لا يشك فيها مسلم عادة.
وأما تجسيد هذه الفكرة في الإمام الثاني عشر عليه الصلاة والسلام فهذا ما توجد مبررات كافية وواضحة للاقتناع به.
ويمكن تلخيص هذه المبررات في دليلين : أحدهما إسلامي.
والآخر علمي.
فبالدليل الإسلامي نثبت وجود القائم المنتظر.
وبالدليل العلمي نبرهن على أنّ المهدي ليس مجرد أسطورة وافتراض ، بل هو حقيقة ثبت وجودها بالتجربة التاريخية.
أما الدليل الاسلامي : فيتمثل في مئات الروايات الواردة عن رسول الله (صل الله عليه واله) (3) والائمة من أهل
__________________
(1) يلاحظ كتاب ( المهدي ) للسيد « إلعم» الصدر قدس الله روحه الزكية.
( الشهيد الصدر ) راجع : ما أثبته الشيخ العباد في مجلة الجامعة الاسلامية / العدد 3 سنة 1969.
وراجع : المهدي الموعود المنتظر / الشيخ نجم الدين العسكري.
(2) يلاحظ كتاب منتخب الأثر في الامام الثاني عشر للشيخ لطف الله الصافي.
( الشهيد الصدر ) (3) راجع : معجم أحاديث الإمام المهدي / مؤسسة المعارف الاسلامية / الجزء الأول ـ أحاديث النبي.
(105)
البيت : والتي تدلّ على تعيين المهدي وكونه من أهل البيت (1) .
ومن ولد فاطمة (2) .
ومن ذرية الحسين (3) .
وأنه التاسع من ولد الحسين (4) .
__________________
(1) أخرج أحمد وابن ابي شيبة وابن ماجة ونعيم بن حماد في الفتن عن علي (عليه السلام) قال : قال رسول الله (صل الله عليه واله) : « إلمهدي منّا أهل البيت يصلحه الله في ليلة ».
راجع : الحاوي للفتاوي / السيوطي 2 : 213 و 215 وفيه ، أيضاً : اخرج أحمد وابن أبي شيبة وأبو داود ، عن علي ، عن النبي (صل الله عليه واله) قال : « لو لم يبق من الدهر إلاّ يومُ لبعث الله رجلاً من أل بيتي يملؤها عدلاً كما ملئت جورا » ، وراجع : صحيح سنن المصطفى 2 : 207 ، وسننن ابن ماجة 2 : 1367 / 4085.
وراجع : معجم أحاديث المهدي 1 : 147 وما بعدها إذ ينقل أحاديث كثيرة عن الصحاح والمسانيد في هذا المعنى.
وراجع : موسوعة الإمام المهدي / ترتيب مهدى فقيه إيماني ، الجزء اأول ، وفيها نقول مصورة عن عشرات الكتب لعلماء السنّة ومحدّثيهم في المهدي وصفاته ما يتعلق به وفيها نسخة مصورة الشيخ العباد حول ما جاء من الاحاديث والآثار في المهدي(عليه السلام).
(2) الحاوي للفتاوي / السيوطي جلال الدين 2 : 214 ، قال : وأخرج ابو داود وابن ماجة والطبراني والحاكم عن أمّ سلمة قالت : سمعت رسول الله (صل الله عليه واله) يقول : « إلمهدي من عترتي من ولد فاطمة ».
راجع صحيح سنن المصطفى لأبي داود 2 : 208.
(3) حديث المهدي من ذرية الحسين (عليه السلام) كما في المصادر الآتية على ما نقل في معجم أحاديث المهدي وهي : الأربعون حديثاً لأبي نعيم الأصفهاني كما في عقد الدرر للمقدسي الشافعي ، وأخرجه الطبراني في الأوسط على ما في المنار المنيف لابن القيم ، وفي السيرة الحلبية 1 : 193 ، وفي القول المختصر لابن حجر.
راجع منتخب الأثر للشيخ لطف الله الصافي في ما نقله من كتب الشيعة.
وراجع توهين الرواية التي تقول بأنه من ولد الحسن (عليه السلام) كتاب السيد العميدي ( دفاع عن الكافي 1 : 296).
(4) راجع الرواية التي تنص على أنّه التاسع من ولد الحسين (عليه السلام) في:ينابيع المودة لقندوزي
(106)
وانّ الخلفاء اثنا عشر (1).
فإنّ هذه الروايات تحدد تلك الفكرة العامة وتشخيصها في الإمام الثاني عشر من أئمة اهل البيت ، وهي روايات بلغت درجة كبيرة من الكثرة والانتشار على الرغم من تحفّظ الأئمة : واحتياطهم في طرح ذلك على المستوى العام ، وقايةً للخلف الصالح من الاغتيال أو الإجهاز السريع على حياته (2).
وليست الكثرة العددية للروايات هي الأساس الوحيد لقبولها ، بل هناك إضافة إلى ذلك مزايا وقرائن تبرهن على صحتها ، فالحديث النبوي الشريف عن الائمة أو الخلفاء أو الأمراء بعده وأنهم اثنا عشر إماماً أو خليفةً أو أميراً ـ على اختلاف متن الحديث في طرقه المختلفة ـ قد أحصى بعض المؤلفين رواياته فبلغت أكثر من مائتين وسبعين رواية(3) مأخوذة من أشهر كتب الحديث عند الشيعة والسنّة بما في ذلك البخاري (4) ومسلم (5)والترمذي (6) وأبي داود (7)
__________________
الحنفي : ص 492 ، وفي مقتل الإمام الحسين للخوارزمي 1 : 196 ، وفي فرائد السمطين للجويني الشافعي 2 : 310 ـ 315 الأحاديث من 561 ـ 569 ، وراجع منتخب الأثر للعلامة الشيخ الصافي إذ خرّجها من طرق الفريقين ( دفاع عن الكافي 1 : 294 ).
(1) حديث « إلخلفاء بعدي اثنا عشر كلهم من قريش » أو « لا يزال هذا الدين قائماً ما وليه اثنا عشر كلهم من قريش ».
هذا الحديث متواتر ، روته الصحاح والمسانيد بطرق متعددة وإن اختلف في متنه قليلاً.
نعم ، اختلفوا في تأويله واضطربوا.
راجع : صحيح البخاري 9 : 101 كتاب الأحكام ـ باب الاستخلاف.
صحيح مسلم 2 : 119 كتاب الإمارة.
مسند أحمد 5 : 90 ، 93 ، 97.
(2) راجع الغيبة الكبرى / السيد محمد الصدر : ص 272 وما بعدها.
(3) راجع التاج الجامع للأصول 3 : 40 قال : رواه الشيخان الترمذي ، وراجع في تحقيق الحديث وطرقه وأسانيده كتاب الإمام المهدي (عليه السلام) / علي محمد علي دخيل.
(4) صحيح البخاري / المجلد الثالث / 9 : 101 ، كتاب الأحكام ـ باب الاستخلاف.
طبعة دار إحياء التراث العربي ـ بيروت.
(5) و (6) و (7) راجع : التاج الجامع لأصول 3 : 40 ، قال تعقيباً على الحديث : رواه الشيخان
(107)
ومسند أحمد (1) ومستدرك الحاكم على الصحيحين (2) ، ويلاحظ هنا أنّ البخاري الذي نقل هذا الحديث كان معاصراً للإمام الجواد والإمامين الهادي والعسكري ، وفي ذلك مغزىً كبير ؛ لأنه يبرهن على أنّ هذا الحديث قد سجّل عن النبي (صل الله عليه واله) قبل أن يتحقق مضمونه وتكتمل فكرة الأئمة الاثني عشر فعلاً ، وهذا يعني أنه لا يوجد أي مجال للشك في أن يكون نقل الحديث متأثراً بالواقع الإمامي الاثني عشري وانعكاسات أو تبريرات لواقع متأخر زمنياً لا تسبق في ظهورها وتسجيلها في كتب الحديث ذلك الواقع الذي تشكل انعكاساً له ، فما دمنا قد ملكنا الدليل المادي على أنّ الحديث المذكور سبق التسلسل التاريخي للأئمة الاثني عشر ، وضبط في كتب الحديث قبل تكامل الواقع الإمامي الاثني عشري ، أمكننا ان نتأكد من أنّ هذا الحديث ليس انعكاساً لواع وإنما هو تعبير عن حقيقة ربانية نطق بها من لا ينطق عن هوى (3) ، فقال : « إنّ الخلفاء بعدي اثنا عشر» (4).
وجاء الواقع الإمامي الاثني عشري ابتداءً من الإمام عليٍّ وانتهاءً بالمهدي ؛ ليكون التطبيق الوحيد المعقول (5) لذلك الحديث النبوي الشريف.
__________________
والترمذي ، وفي الهامش قال : رواه أبو داود في كتاب المهدي بلف : « لا يزال هذا الدين قائماً حتى يكون عليكم اثنا عشر خليفة» ، وراجع سنن أبي داود 2 : 207.
(1) مسند الإمام أحمد 5 : 93 ، 100.
(2) المستدرك على الصحيحين 3 : 618.
(3) إشارة إلى قوله تعالى : ( وَمَا يَنطِقُ عَنِ الهَوَى * إن هُوَ إلاّ وَحْيٌ يُوحَى ) النجم : 3 ـ 4.
(4) تقدم تخريج الحديث.
(5) اضطرب العلماء في تأويله بعد إطباقهم على صحته ، وما أوردوه من مصاديق لا يمكن قبولها ، بل إنّ بعضها غير معقول تماماً كإدخالهم يزيد بن معاوية المجاهر بالفسق ، المحكوم بالمروق والكفر أو من هو على شاكلته.
راجع ما نقله السيد ثامر العميدي من أقوالهم وقد ناقش هذه القضية مناقشة وافية وعلمية ، وأبطل تأويلاتهم بما لا مزيد عليه في دفاع عن الكافي 1 : 540 وما بعدها.
(108)
وأما الدليل العلمي : هو يتكون من تجربة عاشتها أمّة من الناس فترة امتدت سبعين سنة تقريباً وهي فترة الغيبة الصغرى.
لتوضيح ذلك نمهد بإعطاء فكرة موجزة عن الغيبة الصغرى (1).
إنّ الغيبة الصغرى تُعبّر عن المرحلة الأولى من إمامة القائد المنتظر عليه ?
التعلیقات