بشارة الإمام الصادق عليهالسلام
المؤمل في الأديان
منذ 11 سنة1ـ حديث ابراهيم الكرخي قال : دخلت على أبي عبداللّه جعفر بن محمد الصادق عليهما السلام وإنّي لجالس عنده ، إذ دخل أبو الحسن موسى بن جعفر عليهما السلام وهو غلام. فقمت إليه فقبّلته وجلست. فقال ابو عبداللّه عليه السلام :
« يا إبراهيم ، أما إنّه [لـ] صاحبك من بعدي. أما ليهلكنَّ فيه أقوام ويسعد [فيه] آخرون. فلعن اللّه قاتله وضاعف على روحه العذاب.
أما ليخرجنَّ اللّه من صلبه خير أهل الأرض في زمانه ؛ سميُّ جدِّه ، ووارث علمه وأحكامه وفضائله ، [و] معدن الإمامة ، ورأس الحكمة. يقتله جبّار بني فلان ، بعد عجائب طريفة حسداً له ، ولكنَّ اللّه [عزّ وجلّ] بالغ أمره ولو كره المشركون.
يخرج اللّه من صلبه تكملة اثني عشر إماماً مهديّاً ، اختصهم اللّه بكرامته وأحلّهم دار قدسه. المنتظر للثاني عشر منهم كالشاهر سيفة بين يدي رسول اللّه صلى الله عليه وآله وسلم يذبُّ عنه.
قال : فدخل رجل من موالي بني اُميّة ، فانقطع الكلام.
فعدت الى أبي عبداللّه عليه السلام إحدى عشرة مرّة اُريد منه أن يستتمَّ الكلام ، فما قدرت على ذلك. فلمّا كان قابل السنة الثانية دخلت عليه وهو جالسٌ فقال :
يا ابراهيم ، هو المفرِّج للكرب عن شيعته بعد ضنك شديد ، وبلاء طويل وجزع وخوف. فطوبى لمن أدرك ذلك الزمان ؛ حسبك يا إبراهيم ».
قال ابراهيم : فما رجعت بشيء أسرُّ من هذا لقلبي ولا أقرُّ لعيني (1) .
2 ـ حديث أبي بصير قال : سمعت أبا عبداللّه عليه السلام يقول :
« إن سنن الأنبياء عليهم السلام بما وقع بهم من الغيبات ، حادثة في القائم منّا أهل البيت حذو النعل بالنعل والقذَّة بالقذَّة.
قال أبو بصير : فقلت : يابن رسول اللّه ، ومن القائم منكم أهل البيت؟
فقال : يا أبابصير ، هو الخامس من ولد ابني موسى ؛ ذلك ابن سيّدة الإماء ، يغيب غيبة يرتاب فيها المبطلون. ثمَّ يظهره اللّه عزّ وجلّ ، فيفتح اللّه على يده مشارق الأرض ومغاربها ، وينزل روح اللّه عيسى بن مريم عليه السلام فيصلّي خلفه ، وتشرق الأرض بنور ربّها ، ولا تبقى في الأرض بقعة عُبد فيها غير اللّه عزّ وجلّ الا عُبد اللّه فيها ، ويكون الدين كلّه للّه ولو كره المشركون » (2) .
3 ـ حديث سدير الصير في المفصل الشريف ، قال : دخلت أنا والمفضل بن عمر وأبو بصير وأبان بن تعلب على مولانا أبي عبداللّه الصادق عليه السلام ، فرأيناه جالساً على التراب وعليه مسحٌ ( أي كساء من الشَّعر ) ، خيبري مطوّق بلا جيب ، مقصّر الكمّين ، وهو يبكي بكاء الواله الثكلى ، ذات الكبد الحرَّى ؛ قد نال الحزن من وجنتيه ، وشاع التغيير في عارضيه ، وابلى الدموع محجريه وهو يقول :
« سيّدي غيبتك نفت رقادي ، وضيّقت عليَّ مهادي ، وابتزَّت منّي راحة فؤادي.
سيّدي غيبتك اوصلت مصابي بفجايع الأبد ، وفقد الواحد بعد الواحد يفنى الجمع والعدد.
فما أحسُّ بدمعة ترقى من عيني وأنين يفتر من صدري عن دوارج الرزايا وسوالف البلايا ، إلاّ مثّل بعيني عن غوابر أعظمها وأفظعها ، وبواقي أشدّها وأنكرها ، ونوائب مخلوطة بغضبك ، ونوازل معجونة بسخطك ».
قال سدير : فاستطارت عقولنا ولهاً ، وتصدَّعت قلوبنا جزعاً من ذلك الخطب الهائل والحادث الغائل ، وظننّا أنّه سَمَت ( اي تهيأ ) لمكروهة قارعة ، أو حلّت به من الدهر بائقة.
فقلنا : لا أبكى اللّه يا ابن خير الورى عينيك من ايّة حادثة تستنزف دمعتك وتستمطر عبرتك ، وأيّة حالة حتمت عليك هذا المأتم؟
قال : فزفر الصادق عليه السلام زفرة انتفخ منها جوفه ، واشتدَّ عنها خوفة ، وقال :
ويلكم! نظرت في كتاب الجفر صبيحة هذا اليوم ، وهو الكتاب المشتمل على علم المنايا والبلايا والرزايا وعلم ما كان وما يكون الى يوم القيامة ، الذي خصّ اللّه به محمّداً والأئمّة من بعده عليهم السلام ؛ وتأمّلت منه مولد قائمنا وغيبته وابطاءه وطول عمره وبلوى المؤمنين في ذلك الزمان ، وتولّد الشكوك في قلوبهم من طول غيبته وارتداد أكثرهم عن دينهم ، وخلعهم ربقة الاسلام من أعناقهم التي قال اللّه تقدّس ذكره : ( وَكُلَّ إِنسَانٍ أَلْزَمْنَاهُ طَائِرَهُ فِي عُنُقِهِ ) (3) ( يعني الولاية ). فأخذتني الرقّة واستولت عليَّ الأحزان.
فقلنا : يا ابن رسول اللّه ، كرّمنا وفضّلنا بإشراكك إيّانا في بعض ما أنت تعلمه من علم ذلك.
قال : إنَّ اللّه تبارك وتعالى أدار للقائم منّا ثلاثة ، أدارها في ثلاثة من الرسل عليهم السلام.
قدّر مولده تقدير مولد موسى عليه السلام ، وقدّر غيبته تقدير غيبة عيسى عليه السلام ، وقدّر إبطاءه تقدير ابطاء نوح عليه السلام ، وجعل له من بعد ذلك عمر العبد الصالح ( أعني الخضر عليه السلام ) دليلاً على عمره.
فقلنا له : اكشف لنا يا ابن رسول اللّه عن وجوه هذه المعاني.
قال عليه السلام : أمّا مولد موسى عليه السلام ، فإنَّ فرعون لمّا وقف على أنَّ زوال ملكه على يده أمر باحضار الكهنة ، فدلّوه على نسبه وأنّه يكون من بني إسرائيل.
ولم يزل يأمر أصحابه بشقّ بطون الحوامل من نساء بني إسرائيل حتى قتل في طلبه نيّفاً وعشرين ألف مولود ، وتعذّر عليه الوصول الى قتل موسى عليه السلام بحظ اللّه تبارك وتعالى إيّاه.
وكذلك بنو اُميّة وبنو العباس ، لمّا وقفوا على أنَّ زوال ملكهم وملك الأمراء والجبابرة منهم على يد القائم منّا ، ناصبونا العداوة ، ووضعوا سيوفهم في قتل آل الرسول صلى الله عليه وآله وسلم وإبادة نسله ، طمعاً منهم في الوصول الى قتل القائم ، ويأبى اللّه عزّ وجلّ أن يكشف أمره لواحد من الظلمة إلاّ أن يتمّ نوره ولو كره المشركون.
وأمّا غيبة عيسى عليه السلام ، فإنَّ اليهود والنصارى اتّفقت على أنّه قُتل ، فكذّبهم اللّه جلّ ذكره بقوله : ( وَمَا قَتَلُوهُ وَمَا صَلَبُوهُ وَلَـ?كِن شُبِّهَ لَهُمْ ) (4) .
كذلك غيبة القائم ، فإنّ الاُمّه ستنكرها لطولها ، فمن قائل يهذي بأنّه لم يلد ؛ وقائل يقول : إنّه يتعدّي الى ثلاثة عشر وصاعداً ، وقائل يعصي اللّه عزّ وجلّ بقوله : إنَّ روح القائم ينطق في هيكل غيره.
وأمّا إبطاء نوح عليه السلام ، فانّه لمّا استنزلت العقوبة على قومه من السماء ، بعث اللّه عزّ وجلّ الروح الأمين عليه السلام بسبع نويات ، فقال : يا نبيَّ اللّه ، إنّ اللّه تبارك وتعالى يقول لك : إنَّ هؤلاء خلائقي وعبادي ولست أبيدهم بصاعقة من صواعقي إلّا بعد تأكيد الدعوة وإلزام الحجّه ؛ فعاود اجتهادك في الدعوة لقومك ، فإنّي مثيبك عليه وأغرس هذه النوى ، فإنَّ لك في نباتها وبلوغها وإدراكها إذا أثمرت الفرج والخلاص. فبشّر بذلك من تبعك من المؤمنين.
فلمّا نبتت الأشجار وتأزَّرت وتسوّقت وتغصّنت وأثمرت وزها الثمر عليها بعد زمان طويل ، استنجز من اللّه سبحانه وتعالى العدة.
فأمر اللّه تبارك وتعالى أن يغرس من نوى تلك الأشجار ويعاود الصبر والاجتهاد ، ويؤكّد الحجّة على قومه. فأخبر بذلك الطوائف التي آمنت به فارتدّ منهم ثلاثمائة رجلٌ وقالوا : لو كان ما يدّعيه نوح حقّاً لما وقع في وعد ربّه خلف.
ثمّ إنَّ اللّه تبارك وتعالى لم يزل يأمره عند كلّ مرّة بأن يغرسها مرّة بعد اُخرى ، الى أن غرسها سبع مرّات. فما زالت تلك الطوائف من المؤمنين ترتدُّ منه طائفة ، بعد طائفة الى أن عاد الى نيّف وسبعين رجلاً.
فأوحى اللّه تبارك وتعالى عند ذلك إليه ، وقال :
يا نوح ، الآن أسفر الصبح عن الليل لعينك حين صرح الحقُّ عن محضه وصفى [الأمر والايمان] من الكدر بارتداد كلّ من كانت طينته خبيثة.
فلو أنّي أهلكت الكفّار وأبقيت من قد ارتدّ من الطوائف التي كانت آمنت بك ، لما كنت صدّقت وعدي السابق للمؤمنين الذين أخلصوا التوحيد من قومك واعتصموا بحبل نبوّتك ، بأن استخلفهم في الأرض واُمكّن لهم دينهم واُبدّل خوفهم بالأمن ، لكي تخلص العبادة لي بذهاب الشكّ من قلوبهم.
وكيف يكون الاستخلاف والتمكين وبدل الخوف بالأمن منّي لهم مع ما كنت أعلم من ضعف يقين الذين ارتدّوا وخبث طينهم وسوء سرائرهم التي كانت نتائج النفاق وسنوح الضلالة.
فلو أنّهم تسنّموا منّي الملك الذي اوتي المؤمنين وقت الاستخلاف اذا أهلكت أعداءهم ، لنشقوا روائح صفاته ولا ستحكمت سرائر نفاقهم. تأبّدت حبال ضلالة قلوبهم ، ولكاشفوا إخوانهم بالعداوة ، وحاربوهم على طلب الرئاسة ، والتفرّد بالأمر والنهي.
وكيف يكون التمكين في الدين وانتشار الأمر في المؤمنين ، مع إثارة الفتن وإيقاع الحروب ، كلاّ ، واصنع الفلك بأعيننا ووحينا.
قال الصادق عليه السلام : وكذلك القائم فإنّه تمتدُّ أيّام غيبته ليصرح الحقُّ عن محضه ويصفو الإيمان من الكدر بارتداد كلّ من كانت طينته خبيثة من الذين يخشى عليهم النفاق ، إذا أحسّوا بالاستخلاف والتمكين والأمن المنتشر في عهد القائم عليه السلام.
قال المفضّل : فقلت : يا ابن رسول اللّه ، فإنَّ [هذه] النواصب تزعم أنَّ هذه الآية ( أي آية الاستخلاف ، يعني قوله تعالى : وَعَد اللّهُ الذينَ آمنوا منكمُ وعملوا الصالحاتِ ليستخلفنَّهُم الخ ) ، نزلت في أبي بكر وعمر وعثمان وعلي عليه السلام.
فقال : لا يهدي اللّه قلوب الناصبة. متى كان الدين الذي ارتضاه اللّه ورسوله متمكّناً بانتشار الأمن في الاُمّة ، وذهاب الخوف من قلوبها ، وارتفاع الشكّ من صدورها في عهد واحد من هؤلاء ، وفي عهد عليّ عليه السلام مع ارتداد المسلمين والفتن التي تثور في أيّامهم ، والحروب التي كانت تنشب بين الكفّار وبينهم.
ثمّ تلا الصادق عليه السلام : حتّى إذا استيأسَ الرسُل وظنّوا أنّهم قد كُذبوا جاءهم نصرنا.
وأمّا العبد الصالح ( أعني الخضر عليه السلام ) ، فإنَّ اللّه تبارك وتعالى ما طوَّل عمره لنبوّة قدّرها له ، ولا لكتاب ينزله عليه ، ولا لشريعة ينسخ بها شريعة من كان قبله من الأنبياء ، ولا لإمامة يلزم عباده الاقتداء بها ، ولا لطاعة يفرضها له.
بلى ، إنَّ اللّه تبارك وتعالى لمّا كان في سابق علمه أن يقدّر من عمر القائم عليه السلام في أيّام غيبته ما يقدّر ، وعَلِمَ ما يكون من إنكار عباده بمقدار ذلك العمر في الطول ، طوَّل عمر العبد الصالح في غير سبب يوجب ذلك إلّا لعلّة الاستدلال به على عمر القائم عيه السّلام ، وليقطع بذلك حجّة المعاندين ، لئلاّ يكون للنّاس على اللّه حجّة » (5) .
__________________
(1) كمال الدين : ص 334 ب 33 ح 5.
(2) كمال الدين : ص 345 ب 33 ح 31.
(3) سورة الاسراء : الآية 13.
(4) سورة النساء : الآية 157.
(5) كمال الدين : ص 352 ب 33 ح 5.
ضمن كتاب: الإمام المنتظر عليه السلام من ولادته إلى دولته السيد علي الحسيني الصدر
التعلیقات