طوائف المدَّعين أو من ادُّعي في حقّهم ذلك
السيّد أحمد الإشكوري
منذ 11 سنةاعتماد الموازين في العقيدة المهدوية
ورد في الدعاء الشريف: (اللّهمّ عرّفني حجَّتك فإنَّك إن لم تعرّفني حجَّتك ضللت عن ديني)(2).
إنَّ ثراء القضيّة المهدوية ومفروغيّة تاريخيتها ومقبوليتها عند العقل الديني بمختلف أطيافه وإنْ اختلفت المسمّيات، اقترنت بظاهرة خطيرة وهي الأدعياء، ولم ينفكّ هذا التقارن من حين الولادة إلى حين الإنجاز، بل لا غرابة في ذلك، فإنَّ ظاهرة النبوّة والرسالة على طول خطّ سيرها صحبها المقنّعون أيضاً.
ومن ظريف القول: حينما ادّعى أحدهم النبوّة وكانت معجزتُه رميَ الحصى في الماء فيتفتَّت، فلمَّا طُلب منه استبدال الحصى، قال: أنتم أقسى من فرعون، فإنَّه لم يطلب من موسى استبدال العصى، كما ادّعى ذلك بعض آخر، ولمَّا طُلب منه إظهار معجزته، قال: معجزة مَنْ تُريدون؟ قالوا: معجزة موسى، قال: وما هي؟ قالوا: العصى، فقال: آتوني بأسهل، قالوا: معجزة إبراهيم، وهي صيرورة النار برداً وسلاماً، قال: أريد الأسهل، فقال السلطان: معجزة عيسى، وهي إحياء الموتى، قال: هي ما ساُعطيكم، فإنّي سأقتل السلطان ثمّ أحييه، فقال السلطان: إنّي مصدّق معجزتك، ولا حاجة إلى أن تقوم بذلك، وهكذا حال المزيّفين في القضيّة المهدوية. فهم بين مدّع أنَّه المهدي، أو كونه النائب الخاصّ، أو اليماني، أو الخراساني، أو النفس الزكيّة، أو صاحب الراية السوداء، أو ابن الإمام، أو من الأبدال، أو غيرهم من العناوين الواردة في النصوص.
والمهمّ أن نلاحظ:
طوائف المدّعين:
أوّلاً: أن نقف على طوائف المدَّعين أو من ادُّعي في حقّهم ذلك، على أصناف:
الصنف الأوّل: كمحمّد بن الحنفية، وزيد الشهيد، ومحمّد بن عبد الله الموسوم بالنفس الزكيّة، بل قد ادُّعي في حقّ بعض الأئمّة (عليهم السلام) أيضاً أنَّه هو المهدي، كالواقفية والباقرية.
الصنّف الثاني: كالمهدي العبّاسي، أو أصحاب الحركة البابيّة، أو محمّد بن أحمد بن المهدي السوداني، وآخرون من الحكّام الأمويين والعبّاسيّين، وغيرهم.
مناشئ الادّعاء:
وثانياً: أنَّ نقف على مناشئ انحراف أرباب هذه الدعوى التي منها:
1 _ الأخذ ببعض الفكر وترك البعض الآخر: (أَفَتُؤْمِنُونَ بِبَعْضِ الْكِتابِ وَتَكْفُرُونَ بِبَعْضٍ) (البقرة: 85).
2 _ الأخذ بالمتشابه من القرآن وترك محكمه: (مِنْهُ آياتٌ مُحْكَماتٌ هُنَّ أُمُّ الْكِتابِ وَأُخَرُ مُتَشابِهاتٌ فَأَمَّا الَّذينَ في قُلُوبِهِمْ زَيْغٌ فَيَتَّبِعُونَ ما تَشابَهَ مِنْهُ ابْتِغاءَ الْفِتْنَةِ وَابْتِغاءَ تَأْويلِهِ) (آل عمران: 7).
3 _ الأخذ بالجزئيات من دون إرجاعها إلى كلّياتها مع عكوفهم على ذلك.
4 _ الأخذ بالنصوص الشاذّة، أو النادرة، أو المُعرَض عنها، أو المعارضة للمشهور.
5 _ السطحيون والمثقّفون غير المتخصّصين، فيسعى مثل هؤلاء للخوض في أبحاث شائكة، وتخصّصية، كمن حفظ شيئاً وغابت عنه أشياءُ.
6 _ عدم ضبط الثوابت والرجوع والارتكاز إليها، فيتحرَّكون في أفق المتغيّر بمعزَل عن الثابت.
7 _ عدم تأسيس نظرية معرفية لمادة البحث، أو الخلط في المناهج المعرفية، كالاعتماد على المنامات، أو العلوم الغريبة، أو المكاشفات، وهذه على فرض صحَّتها كبروياً وصغروياً، وكونها حجّة في حقّ صاحبها، لا تصلح أن تكون حجّة له على الآخرين، لاسيّما لمن أراد إثبات دعواه بمثل هذه السُبُل فضلاً عن إثبات حقّانية نفسه بها.
وقد ذُكر في محلّه أنَّه حتَّى من يعتمد على مثل هذه الوسائل فهو يرى أنَّ منها ما هو من دسائس الشيطان، أو أضغاث أحلام، أو أوهام شيطان، ولو صحَّ الاعتماد على هذه الطرق فيلزمه قبول المتنافيين والمتكاذبين.
8 _ الاعتماد على مباني فاسدة، كمسالك الصوفية، والعلوم الدخيلة على الإسلام، فعن الإمام الهادي (عليه السلام): (لا تلتفتوا إلى هؤلاء الخدّاعين فإنَّهم خلفاء الشيطان ومخرّبوا قواعد الدين، يتزهَّدون لراحة الأجسام، ويتهجَّدون لصيد الأنعام يتوجَّعون عمراً حتَّى يديخوا للايكاف حمراً لا يهلّلون إلاَّ لغرور الناس ولا يقلّلون الغذاء إلاَّ لملأ العساس واختلاس قلوب الدفناس، يكلّمون الناس بإملائهم في الحبّ ويطرحون باذليلائهم في الجبّ أورادهم الرقص والتصدية، وأذكارهم الترنّم والتغنية فلا يتبعهم إلاَّ السفهاء ولا يعتقدهم إلاَّ الحمقاء، فمن ذهب إلى زيارة أحد منهم حيّاً وميّتاً فكأنَّما ذهب إلى زيارة الشيطان وعبادة الأوثان، ومن أعان أحداً منهم فكأنَّما أعان يزيد ومعاوية وأبا سفيان)، فقال له رجل من أصحابه: وإن كان معترفاً بحقوقكم؟ قال: فنظر إليه شبه المغضب وقال: (دع ذا عنك، من اعترف بحقوقنا لم يذهب في عقوقنا أمَا تدري أنَّهم أخس طوائف الصوفية والصوفية كلّهم مخالفونا وطريقتهم مغايرة لطريقتنا وإن هم إلاَّ نصارى أو مجوس هذه الأمّة أولئك الذين يجهدون في إطفاء نور الله بأفواههم والله متمّ نوره ولو كره الكافرون)(3).
مناشئ تأثير الادّعاء على القواعد الجماهيرية:
وثالثاً: أن نقف على مناشئ التأثير لهذه القوى الظلمانية على القواعد الجماهيرية، والتي منها:
أ _ الجهل، والمبالغة في الغيب، وعزل عالم التزاحم عن الأسباب الطبيعية، وتفسير الظواهر الكونية على أسس تخرّصية.
ب _ الفقر، لكنَّ نفس الفقر ليس منشأ، وإنَّما المنشأ هو الإحساس بالفقر، والمظلومية، والحرمان وتسجيله واحتسابه على المؤسسة الدينية، أو اعتبار أنَّ المؤسسة السياسية هي المؤسسة الدينية، أو الإحساس الموهوم النفسي.
فإنَّ الإحساس بالفقر برؤية سلبية قد يكون منشأ لنفوذ هذا الفكر، إمَّا عن طريق ضخّ الأموال وشراء النفوس، وإمَّا بكون الفقر عاملاً مساعداً للارتباطات الروحية المزيّفة ولو على نحو التخدير أو العجز عن محاربة الفقر بالأسباب الطبيعية، فيتوسَّل بعوامل ما وراء الطبيعة أو العوامل الطبيعية للتغلّب على الفقر، أو البحث عن جهة حاضنة لمحاربة الفقر كفارس الأحلام.
جـ _ تنشيط الخطاب التخويني التكفيري، وإضفاء الحركة الحماسيّة في الخطاب، واستعمال هالة القداسة، وتوزيع أوسمة رمزية للمنتمين.
د _ استعمال أساليب جذّابة خطابياً وتثقيفياً، كمقولة: الفناء في الله، أو العودة إلى الله، أو عين اليقين وحقّ اليقين، فإنَّ بعض هذه الخطابات وإن كانت حقّة، إلاَّ أنَّها توزَّع بأبخس الأثمان وتُعامَل على أساس عرفاني مغلوط، أو الدعوى إلى المبالغة في حبّ آل البيت (عليهم السلام) إلى حدّ بلوغ مرتبة الباطنية.
هـ _ الهدم المنهجي للشخصية في الأفكار والمعتقد والقيم والسلوك، وذلك عن طريق التكرار والتقليد واستعمال أسلوب العقل الجمعي، والانقياد الأعمى، والتلقين، وخلق روح التمرّد على الروافد الفكرية.
ز _ عزلها عن العلماء وإيجاد روح الكراهية والبغضاء لهم، بل إباحة دمائهم عن طريق تشويه صورهم بكونهم سبباً لعدم ظهور الإمام (عليه السلام)، أو أنَّ قتل العلماء يعجّل في ظهوره (عليه السلام).
7 _ الازدواجية في العمل، فمن جانب يُدعون إلى طقوس خاصّة دخيلة، ومن جانب تُعطَّل التكاليف الشرعية بدعوى أنَّها تكاليف ظاهرية، وأنَّه لا بدَّ من البلوغ إلى باطن الشريعة، بل بلغ ببعضهم من ارتكاب المحرَّمات أن حرَّم ما هو محلَّل بالضرورة، أو حلَّل ما هو محرَّم كذلك.
الملازمات السلبية للادّعاء:
ورابعاً: أن نقف على ملازمات هذه الدعوى، والتي منها:
أ _ الكذب.
ب _ الإغراء بالجهل.
جـ _ بخس الحقّ.
د _ الهَرْج والمَرْج.
هـ _ السرّية والخفاء في المنهج والسلوك والفكر.
و _ الخدعة والضلالة والحماقة.
ز _ الغلو.
دواعي الانحراف:
وخامساً: أن نقف على دواعي الانحراف، والتي منها:
أ _ الدافع النفسي والعاطفي.
ب _ الدافع الفلسفي وانحراف الفكر.
جـ _ الدوافع السياسية، بين الاختراق من أجهزة خارجية لدوافع متعدّدة، وبين إيجاد الشقاق والخلاف، وبين إحراج المذهب الشيعي، وبين إيجاد مجاميع ضاغطة على الموقف الشيعي، وبين تنشيط من قبل الحكومات الداخلية لمآرب كثيرة، كإشغال الناس، وتصفية المخالفين عن طريقهم، وتبرير فشلهم.
د _ الدافع المادي، ومكاسب الشهرة، وتحصيل حطام الدنيا.
هـ _ الاستعجال وعدم الصبر والجري وراء تحصيل نشوة ولو وهمية للقضيّة المهدوية.
الوسائل العلاجية للانحراف:
وسادساً: أن نقف على المناعات التي يمكن أن تكون علاجاً لهذه الانحرافات، والتي منها:
أ _ اعتماد العلم:
أوّلاً: العلم بأنَّ الحركات الانحرافية موجودة على مرَّ التاريخ.
وثانياً: العلم والوعي على فهم القضيّة المهدوية وفهم الوظائف، وفهم كيفية الانتظار.
ب _ اعتماد مبدأ عدم الوثوق بالفكر الخفي والغريب والشاذ والموهم، وكذا الحركات والقيادات المظنونة والمجهولة والسلوكيّات واللقاءات السرّية.
جـ _ اعتماد أنَّ الأصالة للعمل الشرعي، وإمضاء قانون (أنَّ الله لا يطاع من حيث يعصى)، فالثوابت الشرعية (من الصلاة والصوم والأمر بالمعروف والنهي عن المنكر، والاحتراز عن المحرَّمات كإضرار النفس بلا مبرّر شرعي، ومَقْت الفكر الإرهابي لتكفير الآخر وإباحة دمه والتجاوز عن أعراض الناس) لها الأصالة والاعتماد في العمل والتشريع والإمضاء.
د _ اعتماد طريقة التحذير من السلوك والخطاب والمنهج الصوفي.
هـ _ الإذعان بأنَّ الفكر الشيعي أصيل، وله جذور ومنهج من عصر النبيّ (صلى الله عليه وآله وسلم) إلى يومنا هذا، وهذا الطريق قد رسمه النبيّ (صلى الله عليه وآله وسلم) والعترة الطاهرة (عليهم السلام)، وبالتالي تُرفض الوجودات النكرة والفكر المبتور والعقيم، فإنّا حقبة زمنية بين ماضٍ معروف ومستقبل مرسوم معلوم، فأيّ اتّجاه لا بدَّ أن يوزن على هذا الأساس، أمَّا الوجود المجهول الذي ليس له فقه مجذَّر، ولا فكر محدَّد، ولا مشروع متكامل وثابت، فلا يمكن قبوله والركون إليه.
و _ اعتماد ثقافة عدم قبول أدعياء العلم اللدنّي، وأدعياء الشذوذ العلمي، وأدعياء الطرق غير المعهودة عقلياً وعقلائياً ودينياً.
ز _ إشاعة ثقافة عدم تشخصن القضيّة المهدوية، وأنَّها منحصرة ومتقولبة بقوالب فردية وشخصية.
* * *
التعلیقات