حديث الإمام الهادي عليه السلام والغيبة المهدوية
الشيخ مهدي المجاهد
منذ 8 ساعاتسؤال الشيعة وجواب الإمامة
في كل مرحلة انتقال بين إمامين ، يُطرح السؤال الجوهري في العقيدة الإمامية : من هو الحجة بعد الإمام الراحل ؟ ولا سيما حين يكون الانتقال مفاجئًا أو محفوفًا بالغموض السياسي والاجتماعي ، كما حدث بعد استشهاد الإمام محمد الجواد عليه السلام.
في هذا السياق كتب الشيعة إلى الإمام علي الهادي عليه السلام يسألونه عن مصير الإمامة ، فجاءهم الجواب يحمل من الوضوح ما يثبت الإمامة الحاضرة ، ومن الإشارة ما يمهّد للغيبة القادمة :
« الْأَمْرُ لِي مَا دُمْتُ حَيّاً ، فَإِذَا نَزَلَتْ بِي مَقَادِيرُ اللَّهِ عَزَّ وَ جَلَّ ، آتَاكُمُ اللَّهُ الْخَلَفَ مِنِّي ، وَ أَنَّى لَكُمْ بِالْخَلَفِ بَعْدَ الْخَلَفِ ؟ » (1).
هذه الكلمات تختصر خطّ الإمامة من الحضور إلى الغيبة ، ومن الوضوح إلى الانتظار ، وتحمل في عمقها بشارة صريحة بالإمام المهدي عجل الله فرجه الشريف.
قراءة في مفردات الحديث الشريف
« الْأَمْرُ لِي مَا دُمْتُ حَيّاً »
تأكيد قاطع بأن مقام الإمامة قد انتقل إليه بعد شهادة والده الإمام الجواد عليه السلام. لم تكن هذه الجملة جوابًا عابرًا على سؤال شيعته ، بل كانت تصريحًا عقائديًا صارمًا يُثبّت الحجة ، ويغلق باب الشك. « الْأَمْرُ» هنا ليس مجرد إدارة شؤون الناس ، بل هو تعبير شامل عن الولاية التشريعية والتكوينية ، أي المرجعية الدينية والسياسية والروحية التي لا تجتمع إلا في الإمام المعصوم المفترض الطاعة. وعبارة « مَا دُمْتُ حَيّاً » تقطع الطريق على أي تصور بأن الإمامة يمكن أن تُنازع أو تُشارك ، وتربطها بالحياة النورانية للإمام القائم في وقته.
هذا الإعلان ليس فقط ردًا على تساؤل الشيعة ، بل هو خط فاصل بين الإيمان والشك ، بين من يسلّم بالنص والوصية ، ومن يتعلل أو يتريث أو يتبع الهوى. فكل من شك في إمام زمانه ، أو جعل لنفسه خيارًا آخر غير الحجة المعيّن من الله ، فقد خرج عن الصراط الحق ، وإن ظن أنه على هدى. ومن هنا ، يكون كلام الإمام الهادي عليه السلام بمثابة حدّ واضح للعقيدة الإمامية : أن كل زمان لا بد له من إمام ، وكل إمام لا بد أن يُعرف ويُطاع ، ومن لم يعرف إمام زمانه مات ميتة جاهلية ، كما جاء في الحديث الشريف.
« فَإِذَا نَزَلَتْ بِي مَقَادِيرُ اللَّهِ »
إشارة إلى انتقال الإمامة بعد وفاته ، بلغة خاشعة تعبّر عن خضوع الإمام لإرادة الله ، مع تمهيد ذكي للانتقال إلى إمام جديد. فهو لا يذكر الموت بصيغته المباشرة ، بل يختار عبارة جليلة تعبّر عن خضوعه التام لإرادة الله تعالى. هذا التعبير يكشف عن الوعي العميق بأن الإمامة ليست مرتبطة بالبقاء الجسدي ، بل هي أمر إلهي مستمر ، ينتقل وفق تقدير الله لا باجتهاد الناس. فهو يهيّئ شيعته للانتقال القادم ، ويمهّد بعناية للمرحلة التالية التي سيكون فيها "الخلف" ، أي الإمام الجديد ، حجة الله في الأرض بعده. وليس في العبارة مجرد إخبار عن نهاية حياة ، بل تمهيد ذكي لمرحلة جديدة ، ستأخذ شكلًا مختلفًا في التاريخ الشيعي ، وتفتح الباب على مفهوم الغيبة. إنها إشارة إلى أن هذا "الخلف" القادم له وضع خاص ، قد لا يُدرك بسهولة ، وقد لا يكون ظهوره كظهور من سبقه ، وهو ما تؤكده العبارة التالية : « وَ أَنَّى لَكُمْ بِالْخَلَفِ بَعْدَ الْخَلَفِ ؟ ».
« آتَاكُمُ اللَّهُ الْخَلَفَ مِنِّي »
الخلف ليس فقط خليفة بالمعنى الإداري أو العائلي ، بل هو استمرار للسلسلة الإلهية للحجج ، وهبة ربانية لا تقطعها الغيبة ، وهذه العبارة تؤكد أن الإمامة سلسلة ربانية لا تنكسر ، وأن الغيبة لا تعني انقطاع الحجة ، بل استمرار وجوده وإن خفي. فـ" الخلف " الموعود لا يُفرض من الخارج ، ولا يُنتخب ، بل يُعطى للأمة من عند الله ، كما يُعطى النور في الظلمة ، وكما يُعطى الغيث في القحط. ومن هنا نفهم أن وجود الإمام المهدي عليه السلام ـ وإن كان غائبًا ـ هو استمرار لهذا الخلف الرباني ، الذي وعد الله به عباده ، وأبقى به نظام الكون ، وأتم به الحجة.
« وَ أَنَّى لَكُمْ بِالْخَلَفِ بَعْدَ الْخَلَفِ »
هذه الجملة ذات دلالات عميقة ، تكاد تصرخ بإشارة واضحة إلى الإمام المهدي عجل الله فرجه. فهو الخلف الذي يختفي عن الأنظار ، والخلف الذي لا يدركه الناس بسهولة ، والخلف الذي تمّت الإشارة إليه مرارًا في روايات أهل البيت بهذه الصيغة تحديدًا.
وفي هذا القول تعبير عن عظمة هذا الإمام ، وغموض مقامه ، وصعوبة إدراك حقيقته في زمن الغيبة ، فهو خلفٌ إلهيّ ليس كغيره من الأوصياء.
الخلف بعد الخلف: عنوان الغيبة المهدوية
روايات أهل البيت استخدمت تعبير " الخلف " أكثر من مرة للإشارة إلى الإمام المهدي عليه السلام ، ومنها :
عن أبي هاشم داود بن القاسم الجعفري قال : سمعت أبا الحسن العسكري عليه السلام يقول :
« الْخَلَفُ مِنْ بَعْدِي الْحَسَنُ ابْنِي فَكَيْفَ لَكُمْ بِالْخَلَفِ مِنْ بَعْدِ الْخَلَفِ ؟ قُلْتُ : وَ لِمَ جَعَلَنِيَ اللَّهُ فِدَاكَ ؟
قَالَ : لِأَنَّكُمْ لَا تَرَوْنَ شَخْصَهُ وَ لَا يَحِلُّ لَكُمْ ذِكْرُهُ بِاسْمِهِ.
قُلْتُ : فَكَيْفَ نَذْكُرُهُ فَقَالَ قُولُوا الْحُجَّةُ مِنْ آلِ مُحَمَّدٍ صلى الله عليه وآله » (2).
ورد عن مُوسَى بْنُ جَعْفَرِ بْنِ وَهْبٍ الْبَغْدَادِيُّ قَالَ : سَمِعْتُ أَبَا مُحَمَّدٍ الْحَسَنَ بْنَ عَلِيٍّ عليه السلام يَقُولُ : « كَأَنِّي بِكُمْ وَ قَدِ اخْتَلَفْتُمْ بَعْدِي فِي الْخَلَفِ مِنِّي ... » (3).
عَنِ الْمُفَضَّلِ بْنِ عُمَرَ قَالَ : دَخَلْتُ عَلَى سَيِّدِي جَعْفَرِ بْنِ مُحَمَّدٍ عليه السلام فَقُلْتُ : يَا سَيِّدِي لَوْ عَهِدْتَ إِلَيْنَا فِي الْخَلَفِ مِنْ بَعْدِكَ.
فَقَالَ لِي : « يَا مُفَضَّلُ الْإِمَامُ مِنْ بَعْدِي ابْنِي مُوسَى ، وَ الْخَلَفُ الْمَأْمُولُ الْمُنْتَظَرُ محمد بْنُ الْحَسَنِ بْنِ عَلِيِّ بْنِ مُحَمَّدِ بْنِ عَلِيِّ بْنِ مُوسَى » (4).
كلها تصب في تشكيل صورة الإمام المهدي عجل الله تعالى فرجه بصفته الخلف الخفيّ ، الذي يستمر الخط الإلهي بوجوده وإن غاب عن الأبصار ، تمامًا كما قال الإمام الهادي عليه السلام : « وأنى لكم به ؟ ».
التمهيد للغيبة الكبرى
إن هذا الحديث لا يأتي فقط لطمأنة الشيعة بأن الإمام الهادي عليه السلام هو الحجة بعد أبيه ، بل يضع بذور العقيدة بالغيبة. فالمؤمن الموالي ، حين يسمع عبارة « وَ أَنَّى لَكُمْ بِالْخَلَفِ بَعْدَ الْخَلَفِ » ، يبدأ بإدراك أن القادم ليس حضورًا مألوفًا ، بل غيابًا تمهيديًا. إنها نبوءة مبطّنة ، وتأسيس لفهم وجود الإمام المهدي عجل الله فرجه كـ "خلف إلهي" لا يخضع لمألوف السياق الزمني والسياسي.
خاتمة: الحجة باقٍ ، وإن غاب
في كلمات الإمام الهادي عليه السلام نورٌ هادئ يحمل بشرى عظيمة : الإمامة لن تنقطع. والخلف قادم ، وإن حالت المقادير دون رؤيته. والغيبة ليست غيابًا عن الواقع ، بل غياب عن العيون ، بينما يستمر الإمام في دوره : حافظًا للدين ، مراقبًا للأمة ، وموعدًا للظهور في الوقت الذي قدّره الله عز وجل.
إنها رسالة لنا اليوم ، نحن المنتظرين ، بأن الخلف الذي بشّر به الإمام الهادي ما زال معنا ، حاضرًا في الغيب ، ننتظر ظهوره ليملأ الأرض قسطًا وعدلًا ، كما مُلئت جورًا وظلمًا.
الهوامش
1. كمال الدين و تمام النعمة / الشيخ الصدوق / المجلّد : 2 / الصفحة : 382.
2. الغيبة / الشيخ الطوسي / المجلّد : ١ / الصفحة : ٢٢٦ ؛ كمال الدين و تمام النعمة / الشيخ الصدوق / المجلّد : 2 / الصفحة : 381.
3. كمال الدين و تمام النعمة / الشيخ الصدوق / المجلّد : 2 / الصفحة : 409.
4. كمال الدين و تمام النعمة / الشيخ الصدوق / المجلّد : 2 / الصفحة : 334.
التعلیقات