رحمة للعالمين... ووعد للمستضعفين: من ولادة النبي إلى دولة الإمام المهدي
الشيخ مهدي المجاهد
منذ 13 ساعةاليوم السابع عشر من شهر ربيع الأوّل عند طلوع الفجر في يومٍ مبارك من عام الفيل، انبثق أعظم نور شهدته الأرض منذ بدء الخليقة؛ إنه نور النبي الأكرم محمد بن عبد الله صلى الله عليه وآله، الذي بُعث رحمةً للعالمين، وخاتمًا للأنبياء والمرسلين. لم تكن ولادته حدثًا عابرًا في تاريخ الإنسانية، بل كانت تحوّلًا مفصلياً أنهى عصور الظلمات، وبشّر بعصر الهداية والنور، حيث اكتملت الشرائع بخاتم الرسالات.
إنَّ ميلاد النبي الأكرم صلى الله عليه وآله هو ميلادُ الرحمة المهداة التي عمّت العالمين، مصداقًا لقوله تعالى: ﴿وَمَا أَرْسَلْنَاكَ إِلَّا رَحْمَةً لِلْعَالَمِينَ﴾ (1)، فقد تميّزت رسالته بأنها رحمة شاملة لكل البشر على اختلاف ألوانهم وألسنتهم، كما قال صلى الله عليه وآله: « إنما أنا رحمة مهداة » (2). وهذه الرحمة لم تنحصر في الهداية إلى صراط الله المستقيم فحسب ، بل شملت حتى المخالفين ، إذ لم يُعجَّل عليهم بالعذاب كما كان شأن الأمم السابقة ، بل أُمهلوا لعلهم يعودون إلى الفطرة ، كما فصّل أمير المؤمنين عليه السلام في تفسير الآية. وهكذا فإنّ ميلاده صلى الله عليه وآله كان بداية عهد جديد للبشرية ، حيث ارتفع عنهم العذاب الاستئصالي ، وفُتحت أمامهم أبواب الرحمة الإلهية الواسعة ، لتبقى رسالته نورًا ممتدًا وهدايةً خالدة إلى قيام الساعة.
لكن الرسالة التي بدأها النبي الأكرم صلى الله عليه وآله لم تكن لتُترك من دون استمرار وحافظ، بل شاءت الحكمة الإلهية أن تمتدّ بوجود الأوصياء من أهل بيته عليهم السلام، ليكونوا الأمناء على الرسالة، والهادين للأمّة. وهكذا يلتقي الحديث عن ولادة النبي الأكرم صلى الله عليه وآله، بالحديث عن الإمام المهدي المنتظر عجل الله تعالى فرجه الشريف، الذي سيحقّق الوعد الإلهي بنشر العدل وإتمام الغاية التي جاء من أجلها جده المصطفى صلوات الله عيهم أجميعن.
أولًا: ولادة النبي الأكرم صلى الله عليه وآله في ضوء القرآن والروايات
كان مولد النبي الأكرم صلى الله عليه وآله ميلادَ النور والهداية، إذ أشرق بوجوده ظلام الجاهلية، وانقشعت ببركته غيوم الضلال. وقد وصفه الله تعالى بقوله: ﴿قَدْ جَاءَكُمْ مِنَ اللَّهِ نُورٌ وَكِتَابٌ مُبِينٌ، يَهْدِي بِهِ اللَّهُ مَنِ اتَّبَعَ رِضْوَانَهُ سُبُلَ السَّلَامِ﴾ (3). فالنبي صلى الله عليه وآله هو ذلك النور الذي أنار دروب التوحيد، وربط الناس بخالقهم، وجعلهم يميّزون بين الحق والباطل. ومن هنا، فإن ميلاده لم يكن مجرد حدث تاريخي، بل كان بدايةَ عصر جديد من الهداية الإلهية والارتباط بالسماء.
كما أن ولادته صلى الله عليه وآله كانت مقرونة بآيات ومعجزات شهد بها القريب والبعيد. فقد روى عن أبان بن عثمان ، عن أبي عبد الله الصادق عليه السلام قال : « كان إبليس لعنه الله يخترق السمآوات السبع ، فلما ولد عيسى عليه السلام حجب عن ثلاث سمآوات ، وكان يخترق أربع سمآوات ، فلما ولد رسول الله صلى الله عليه وآله حجب عن السبع كلها ، ورميت الشياطين بالنجوم ، وقالت قريش : هذا قيام الساعة الذي كنا نسمع أهل الكتب يذكرونه ، وقال عمرو بن امية : وكان من أزجر أهل الجاهلية : انظروا هذه النجوم التي يهتدي بها ، ويعرف بها أزمان الشتآء والصيف ، فإن كان رمي بها فهو هلاك كل شئ ، وإن كانت ثبتت ورمي بغيرها فهو أمر حدث ، وأصبحت الاصنام كلها صبيحة ولد النبي صلى الله عليه وآله ليس منها صنم إلا وهو منكب على وجهه ، وارتجس في تلك الليلة أيوان كسرى ، وسقطت منه أربعة عشر شرفة ، وغاضت بحيرة ساوة ، وفاض وادي السمآوة ، وخمدت نيران فارس ، ولم تخمد قبل ذلك بألف عام ، ورأى المؤبذان في تلك الليلة في المنام إبلا صعابا تقود خيلا عرابا ، قد قطعت دجلة ، وانسربت في بلادهم ، وانقصم طاق الملك كسرى من وسطه ، وانخرقت عليه دجلة العورآء ، وانتشر في تلك الليلة نور من قبل الحجاز ثم استطار حتى بلغ المشرق ، ولم يبق سرير لملك من ملوك الدنيا إلا أصبح منكوسا ، والملك مخرسا لا يتكلم يومه ذلك وانتزع علم الكهنة ، وبطل سحر السحرة ، ولم تبق كاهنة في العرب إلا حجبت عن صاحبها ، وعظمت قريش في العرب ، وسموا آل الله عزوجل » (4).
هذه الكرامات العظيمة دلّت على أن مولود ذلك اليوم لم يكن إنسانًا عاديًا، بل هو الموعود الذي بشّرت به التوراة والإنجيل ، وخاتم النبيين الذي ستكتمل به الرسالات.
ثانيًا: ولادة النبي وارتباطها بالوعد الإلهي بخاتمة المسيرة
إنّ رسالة النبي الأعظم صلى الله عليه وآله، لم تكن منفصلة عن الامتداد الغيبي الذي يكتمل في آخر الزمان بظهور الإمام المهدي عجل الله تعالى فرجه الشريف. فالقرآن الكريم أكّد أن الرسالة الخاتمة ستبقى محفوظة إلى يوم القيامة: ﴿ إِنَّا نَحْنُ نَزَّلْنَا الذِّكْرَ وَإِنَّا لَهُ لَحَافِظُونَ ﴾ (5).
وهذا الحفظ لا يقتصر على النص القرآني، بل يشمل حفظ الرسالة عبر أوصياء معصومين من أهل بيت النبي عليهم السلام، وصولًا إلى الإمام المهدي عجل الله تعالى فرجه.
وقد وردت روايات عديدة تؤكّد هذا الارتباط. روى الشيخ الصدوق في كمال الدين وتمام النعمة بسنده عن النبي صلى الله عليه وآله قال: « الْمَهْدِيُّ مِنْ وُلْدِي اسْمُهُ اسْمِي ، وَ كُنْيَتُهُ كُنْيَتِي أَشْبَهُ النَّاسِ بِي خَلْقاً وَ خُلْقاً ، تَكُونُ لَهُ غَيْبَةٌ وَ حَيْرَةٌ حَتَّى تَضِلَّ الْخَلْقُ عَنْ أَدْيَانِهِمْ ، فَعِنْدَ ذَلِكَ يُقْبِلُ كَالشِّهَابِ الثَّاقِبِ فَيَمْلَؤُهَا قِسْطاً وَ عَدْلًا كَمَا مُلِئَتْ ظُلْماً وَ جَوْراً » (6).
فالرسالة التي وُلد النبي صلى الله عليه وآله لإحيائها، ستصل إلى كمالها على يد حفيده الإمام المهدي عجل الله تعالى فرجه الشريف.
ثالثًا: ولادة النبي في مواجهة الظلم، وولادة المهدي في مواجهة الاستكبار
كانت ولادة النبي صلى الله عليه وآله في زمنٍ غلبت فيه الجاهلية ، وسادت فيه عبادة الأصنام ، وعمّ الظلم والوأد والفقر الروحي. فجاء النبي ليقول : ﴿ قُلْ يَا أَيُّهَا النَّاسُ إِنِّي رَسُولُ اللّهِ إِلَيْكُمْ جَمِيعاً ﴾ (7).
وبالمثل، كانت ولادة الإمام المهدي عجل الله تعالى فرجه في زمنٍ اشتدّ فيه بطش الطغاة العباسيين ، حتى اضطر إلى الغيبة لحفظ حياته. وكما أن النبي صلى الله عليه وآله ابتدأ مشروع إزالة الظلم ، فإن الإمام المهدي عجل الله تعالى فرجه الشريف سيكمل المسيرة بتمامها.
وقد قال الإمام الباقر عليه السلام: « إِنَّ دَوْلتَنَا اخِرُ الدُوَلِ ، ولم يَبْقَ أَهلُ بَيْتٍ لهم دَوْلَة إلاّ مَلكُوا قَبْلَنا ، لئلاٌ يَقُولوا إِذا رَأَوْا سيرَتَنا : إذا مَلكْنا سِرْنا بمثلِ سيرةِ هؤلاءِ ، وهُو قَولُ اللهِ تعالى : ﴿ وَالْعَاقِبَةُ لِلْمُتقِينَ ﴾ (8) » (9).
رابعًا: بشائر النبي بولادة المهدي
النبي الأكرم صلى الله عليه وآله لم يكتفِ بإبلاغ الرسالة ، بل بشّر الأمّة بولادة من سيكملها بعده.
قالَ رَسولُ اللّهِ صلى اللّه عليه و آله : « ابَشِّرُكُم بِالمَهدِيِّ ؟ يُبعَثُ في امَّتي عَلَى اختِلافٍ مِنَ النّاسِ وزَلازِلَ ، فَيَملَأُ الأَرضَ قِسطا وعَدلًا كَما مُلِئَت جَورا وظُلما ؛ يَرضى عَنهُ ساكِنُ السَّماءِ وساكِنُ الأَرضِ ؛ يَقسِمُ المالَ صَحاحا.
فَقالَ لَهُ رَجُلٌ : ما صَحاحا ؟ قالَ : بِالسَّوِيَّةِ بَينَ النّاسِ.
قالَ : ويَملَأُ اللّهُ قُلوبَ امَّةِ مُحَمَّدٍ صلى اللّه عليه و آله غِنىً ، ويَسَعُهُم عَدلُهُ ، حَتّى يَأمُرَ مُنادِيا فَيُنادي فَيَقولُ : مَن لَهُ في مالٍ حاجَةٌ ؟ فَما يَقومُ مِنَ النّاسِ إلّا رَجُلٌ ، فَيَقولُ : ايتِ السَّدّانَ يَعنِي الخازِنَ فَقُل لَهُ : إنَّ المَهدِيَّ يَأمُرُكَ أن تُعطِيَني مالًا ، فَيَقولُ لَهُ : احثُ ، حَتّى إذا جَعَلَهُ في حِجرِهِ وأبرَزَهُ نَدِمَ ؛ فَيَقولُ : كُنتُ أجشَعَ امَّةِ مُحَمَّدٍ نَفسا ، أوَ عَجَزَ عَنّي ما وَسِعَهُم !؟ قالَ : فَيَرُدُّهُ ، فَلا يُقبَلُ مِنهُ ، فَيُقالُ لَهُ : إنّا لا نَأخُذُ شَيئا أعطَيناهُ » (10).
وهذا يدل على أن الاحتفال بولادة النبي الأكرم لا ينفصل عن انتظار الإمام المهدي عجل الله تعالى فرجه الشريف، بل هما حلقتان في سلسلة واحدة.
خامسًا: الدروس المعاصرة للمرأة والرجل في ضوء الولادتين
إنّ الحديث عن ولادة النبي صلى الله عليه وآله هو دعوة للتأمل في الدروس العملية التي يقدمها للرجال والنساء. فقد كان النبي القدوة في الصبر والجهاد، كما كانت السيدة الزهراء عليها السلام الامتداد المضيء لرسالته، و السيدة زينب عليها السلام حافظةً لأمانة كربلاء. وكذلك الحال في زمن الغيبة، حيث يُنتظر من المؤمنين أن يكونوا أهل صبر وانتظار، يعملون لتمهيد الأرضية للظهور.
عن أبي بصير عن أبي عبد الله عليه السلام أنه قال ذات يوم : « ألا أخبركم بما لا يقبل الله عز وجل من العباد عملاً إلا به ؟ فقلت : بلى ، فقال : شهادة أن لا إله إلا الله ، وأن محمداً عبده ورسوله ، والإقرار بما أمر الله ، والولاية لنا والبراءة من أعدائنا يعني الأئمة خاصة والتسليم لهم والورع والاجتهاد والطمأنينة والإنتظار للقائم عليه السلام .
ثم قال : إن لنا دولة يجئ الله بها إذا شاء . ثم قال : من سره أن يكون من أصحاب القائم فلينتظر ، وليعمل بالورع ومحاسن الأخلاق وهو منتظر ، فإن مات وقام القائم بعده كان له من الأجر مثل أجر من أدركه ، فجدّوا وانتظروا ، هنيئاً لكم أيتها العصابة المرحومة » (11).
الخاتمة
إنّ ولادة النبي الأكرم صلى الله عليه وآله لم تكن مجرّد حدث تاريخي ، بل هي ميلاد النور الذي سيبقى ممتدًا في ذرّيته الطاهرة ، حتى يكتمل بظهور خاتم الأوصياء الإمام المهدي عجل الله تعالى فرجه الشريف.
فإذا كانت ولادة النبي بداية الرحمة ، فإن ظهور الإمام المهدي هو اكتمال هذه الرحمة بانتشار العدل. وإذا كانت ولادة النبي إعلانًا لبداية الخاتمة ، فإن ولادة الإمام المهدي هي ضمان تحقق الوعد الإلهي الذي قال فيه تعالى: ﴿ وَنُرِيدُ أَن نَّمُنَّ عَلَى الَّذِينَ اسْتُضْعِفُوا فِي الْأَرْضِ وَنَجْعَلَهُمْ أَئِمَّةً وَنَجْعَلَهُمُ الْوَارِثِينَ ﴾ (12).
وهكذا يصبح الحديث عن ولادة النبي الأكرم صلى الله عليه وآله متلازمًا مع الحديث عن الإمام المهدي عجل الله تعالى فرجه الشريف ، فهما بداية المسيرة ونهايتها، وهما الوعد الإلهي الذي لا يتخلّف ، وبانتظارهما يثبت المؤمنون على عهد الرسالة حتى يتحقق الظهور المبارك.
الهوامش
1. سورة الانبياء : الآية ١٠٧.
2. مجمع البيان في تفسير القرآن / الشيخ الطبرسي / المجلّد : 7 / الصفحة : 107 / ط دار المعرفة.
3. سورة المائدة : الآية 15 - 16.
4. بحار الأنوار / العلامة المجلسي / المجلّد : 15 / الصفحة : 258 / ط مؤسسة الوفاء.
5. سورة الحجر : الآية 9.
6. كمال الدين و تمام النعمة / الشيخ الصدوق / المجلّد : 1 / الصفحة : 287.
7. سورة الأعراف: الآية 158.
8. سورة القصص : الآية 83.
9. الإرشاد / الشيخ المفيد / المجلّد : 2 / الصفحة : 385.
10. حكم النبى الأعظم / محمد محمدی ريشهري / المجلّد : 6 / الصفحة : 610؛ مسند ابن حنبل / المجلّد : 4 / الصفحة : 75 / الحديث : 11326 ، والصفحة : 104 / الحديث : 11484 نحوه.
11. كتاب الغيبة للنعماني / محمد بن إبراهيم النعماني / المجلّد : 1 / الصفحة : 200.
12. سورة القصص: الآية 5.
التعلیقات