إمامة صاحب الزمان في الصغر (الأدلة والشواهد)
السيد حسين الهاشمي
منذ 14 ساعةمن أهم الأسئلة والشبهات في موضوع إمامة الإمام المهدي عليه السلام في الطفولة هي: كيف يمكن لطفلٍ صغيرٍ في سنّ الخامسة أن يبلغ مقام الإمامة ويكون حجّة الله على الأرض، وتجب طاعته على الجميع؟ كيف يمكن أن يصل طفلٌ لا يملك عقلاً كاملاً ولم يبلُغ سنّ التكليف إلى مقام الإمامة وقيادة الأمة، في حين أنّه لم يُكلَّف بعد؟
طرح الشبهة من قِبل المخالفين
يقول إبن حجر الهيثمي في كتابه: « الْمُقَرّر فِي الشَّرِيعَة المطهرة أَن الصَّغِير لَا تصح ولَايَته فَكيف سَاغَ لهَؤُلَاء الحمقى المغفلين أَن يزعموا إِمَامَة من عمره خمس سِنِين وَأَنه أُوتِيَ الحكم صَبيا مَعَ أَنه صلى الله عَلَيْهِ وَسلم لم يخبر بِهِ مَا ذَلِك إِلَّا مجازفة وجراءة على الشَّرِيعَة الغراء » (1).
وأحمد أمين المصري أيضا يطرح الشبهة بهذه الصورة: « إنّ المفكّر يندهش من أمرين: الأوّل، أنّ طفلاً صغيراً في الرابعة أو الخامسة من عمره يُختار للإمامة، مع أنّ الإمامة منصب عظيم يُشرف على شؤون المسلمين ويحتاج إلى نضجٍ كامل لأداء هذه المسؤولية. والثاني، أنّ الشيعة يدّعون أنّ هذا الطفل غائب ومستور، وسيظهر في وقتٍ خاص. إنّ ادّعاء إمامة الطفل الصغير من قِبل وكلاء ونوّاب الإمام السابق، إنّما كان بدافع الطمع في الأموال والثروات التي كانت تُرسل من مناطق مختلفة إلى أئمة الشيعة » (2).
ردّ الشيخ المفيد على هذه الإشكالية
أجاب الشيخ المفيد عن هذه الشبهة والإشكالية بصورة وجيزة ودقيقة. حيث قال: « قال الجمهور منهم بإمامة ابنه القائم المنتظر عليه السلام قالوا إن أباه لم يمت حتى أكمل الله عقله وعلمه الْحِكْمَةَ وَفَصْلَ الْخِطابِ وأبانه من سائر الخلق بهذه الصفة إذ كان خاتم الحجج ووصي الأوصياء وقائم الزمان.
واحتجوا في جواز ذلك بدليل العقل من حيث ارتفعت إحالته ودخل تحت القدرة وبقوله تعالى في قصة عيسى عليه السلام ﴿ وَيُكَلِّمُ النَّاسَ فِي الْمَهْدِ ﴾ وفي قصة يحيى عليه السلام ﴿ وَآتَيْناهُ الْحُكْمَ صَبِيًّا ﴾ » (3).
الإمامة في الطفولة ليست أمراً مستحيلاً
إنّ تولّي إمامٍ لمنصب الإمامة وقيادة الأمة في سنّ الطفولة والصغر، ليس أمراً مستحيلاً من الناحية العقلية، إذ لا يرى العقل في وقوع ذلك أيّ استحالة. فإنّ مقام النبوة والإمامة ليس منصباً ظاهرياً بسيطاً يمكن لأيّ أحدٍ أن يكون أهلاً له، بل هو مقام رفيع يتّصل فيه الإنسان بالله تعالى، ويُمنح من الفيوضات والعلوم الغيبية، وتُوحى إليه الأحكام والتشريعات الإلهية في باطنه وقلبه النوراني، بحيث يتلقّاها بطريقة يكون فيها معصوماً من كلّ خطأٍ واشتباه. وكذلك مقام الولاية والإمامة هو مقام عظيم، يتلقّى فيه صاحبه الأحكام الإلهية وعلوم النبوة بطريقة لا مجال فيها للخطأ أو النسيان أو العصيان في ذاته المقدسة، ويظلّ دوماً متصلاً بالعوالم الغيبية، مستفيضاً من العلوم الإلهية.
الإمامة مقام إلهي وليست مكتسبة
من المعلوم أنّه ليس كلّ أحدٍ يملك القابلية لنيل مقام الإمامة أو النبوة، بل لا بدّ أن يكون في أعلى مراتب الإنسانية من حيث الروح، حتى يكون أهلاً للاتصال بالعوالم الغيبية وتلقّي العلوم الإلهية. وكذلك لا بدّ أن يكون من حيث التركيب الجسدي في غاية الاعتدال، ليتمكن من تبليغ حقائق الوجود والفيوضات الغيبية إلى الناس بلا خطأ أو اشتباه؛ لذا فإنّ النبي والإمام متميّزان في الخِلقة، وبسبب هذا الاستعداد والامتياز يختارهم الله سبحانه وتعالى لمقام النبوة أو الإمامة. وهذا الامتياز موجود فيهم منذ الطفولة، فإذا وُجدت المصلحة وتوفّرت الشروط وانتفى المانع، فإنّ هؤلاء الأفراد المميّزين يُعلَن عنهم رسمياً ويُكلَّفون بحفظ الشريعة وتحمل الأحكام. وهذا الاختيار والتنصيب الظاهري، كما قد يقع أحياناً بعد البلوغ أو في سنّ الرشد، قد يتحقق أيضاً في مرحلة الطفولة. فالإمامة والقيادة لا ترتبط بصِغَر السن أو كِبَرِه، بل تتعلّق بالكفاءات والاستعدادات. والقيادة والإمامة في سنّ الطفولة، بل حتى في حال الرضاعة، ممكنة وقد وقعت بالفعل، كما في حالة النبي عيسى عليه السلام.
هل تُمنَع تصرّفات الطفل؟
إنّ ما يُقال من أنّ الطفل، من الناحية الدينية والشرعية، محجورٌ عليه ولا يحقّ له التصرّف في شؤونه أو شؤون غيره، فجوابه واضح. فالذين يعتقدون بالإمامة في سنّ الطفولة، يقولون: إنّ هذا الإمام وإن كان طفلاً من حيث السنّ والجسم، إلا أنّه قد بلغ الكمال من حيث العقل والإرادة، وهما العنصران الأساسيان في تحمّل منصب الإمامة. وكما أشار الشيخ المفيد، فإنّ الله سبحانه قد أكمل عقل الإمام المهدي عليه السلام في حياة أبيه، ومنحه الحكمة والقدرة على القضاء والحُكم. لذلك، فإنّ الحديث هنا لا يتعلّق بإمامة طفلٍ محجور، بل يتعلّق بشخصٍ منحه الله تعالى القدرة والكفاءة اللازمة، تماماً كما منح هاتين الموهبتين للنبي عيسى عليه السلام والنبي يحيى عليه السلام في صغرهما. ومن المعلوم أيضاً أنّ الخصائص والميزات الطبيعية للأطفال ليست متساوية، فبعض الأطفال لديهم قدرات وهبها الله لهم تفوق المعدّل الطبيعي، واستعدادهم للنمو وتفعيل مواهبهم أكبر من غيرهم. ومن الطبيعي أن يكون فضل الله تعالى وتوفيقه لنيل المقامات المعنوية كالإمامة متعلقاً بمثل هؤلاء الأطفال.
نُبُوَّة الأطفال في الأديان السابقة!
إنّ مسألة النبوة والإمامة في سنّ الطفولة هي أمرٌ قد حدث في الأديان السابقة أيضاً، ولذلك فهي ليست بالأمر الغريب. وسنذكر بعضاً من هذه الحالات.
نبوّة النبي عيسى عليه السلام
تكلّم النبي عيسى عليه السلام مع الناس وهو في المهد، وعرّف نفسه بأنّه نبيّ وصاحب كتاب.
قال الله تعالى في كتابه الكريم في سورة المريم: ﴿ فَأَشَارَتْ إِلَيْهِ قَالُوا كَيْفَ نُكَلِّمُ مَن كَانَ فِي الْمَهْدِ صَبِيًّا * قَالَ إِنِّي عَبْدُ اللَّهِ آتَانِيَ الْكِتَابَ وَجَعَلَنِي نَبِيًّا * وَجَعَلَنِي مُبَارَكًا أَيْنَ مَا كُنتُ وَأَوْصَانِي بِالصَّلَاةِ وَالزَّكَاةِ مَا دُمْتُ حَيًّا ﴾ (4).
يُستفاد من هذه الآية أنّ النبي عيسى عليه السلام كان نبيّاً وصاحب كتاب منذ طفولته.
النبي يحيى عليه السلام
لقد بلغ النبي يحيى عليه السلام مقام النبوة في فترة طفولته وصباه. كما جاء في الآية الشريفة: ﴿ يَا يَحْيَىٰ خُذِ الْكِتَابَ بِقُوَّةٍ وَآتَيْنَاهُ الْحُكْمَ صَبِيًّا ﴾ (5).
يقول الفخر الرازي من علماء العامة حول الحكم في هذه الآية: « المقصود بالحكم في هذه الآية الكريمة هو النبوة، لأنّ الله تعالى ثبت عقل يحيى عليه السلام وكماله في سن الطفولة، وأوحى إليه. وذلك لأنّ الله سبحانه وتعالى بعث يحيى عليه السلام وعيسى عليه السلام بالرسالة في مرحلة الطفولة، على خلاف موسى عليه السلام ومحمد صلى الله عليه وآله وسلم الذين بعثا في سنّ الرشد » (6).
فإذا كان المسيح عيسى ويحيى عليهما السلام قد بلغا مقام النبوة في طفولتهما، فما المانع أن يبلغ الإمام المهدي عجل الله تعالى فرجه الشريف مقام الإمامة في سنّ الطفولة أيضاً؟
الإمامة في الطفولة لدى الأئمة الآخرين
كان هناك أئمة بلغوا مقام الإمامة في سن الطفولة في الأئمة الذين سبقوا الإمام المهدي عجل الله تعالى فرجه. فالإمام الجواد عليه السلام كان عند وفاة أبيه في سن تسع سنوات أو سبع سنوات، وقد عرّفه الإمام الرضا عليه السلام كخليفة له. لقد أثارت أقوال ومناقشات الإمام الجواد عليه السلام، وحلوله للمشكلات العلمية والفقهية الكبرى، إعجاب وتقدير العلماء المسلمين من شيعة وسنة، مما دفعهم إلى التبجيل أمام عظمته العلمية، وقد مدحوه كلٌّ بطريقته.
على سبيل المثال يقول سبط ابن الجوزي: « كان على منهاج أبيه في العلم و التقى و الزهد و الجود » (7).
ويعترف ابن حجر الهيثمي بأعلمية الإمام الجواد عليه السلام ويقول: « عزم المأمون على تَزْوِيجه بابنته أم الْفضل وصمم على ذَلِك فَمَنعه العباسيون من ذَلِك خوفًا من أَن يعْهَد إِلَيْهِ كَمَا عهد إِلَى أَبِيه فَلَمَّا ذكر لَهُم أَنه إِنَّمَا اخْتَارَهُ لتميزه على كَافَّة أهل الْفضل علما وَمَعْرِفَة وحلما مَعَ صغر سنه » (8).
كان الإمام الهادي عليه السلام قد أتمّ ستّ سنوات وخمسة أشهر من عمره الشريف عندما استشهد والده وانتقلت الإمامة إليه.
إعلان إمامة الإمام المهدي عجل الله فرجه في الطفولة من قِبل الأئمة السابقين
لقد توقّع الأئمة الأطهار عليهم السلام موضوع وصول الإمام الحجة أرواحنا فداه إلى الإمامة في طفولته وأعلنوه لكي لا يكون عرضة لاعتراضات المعارضين والمعادين.
على سبيل المثال قال الإمام الباقر عليه السلام: « صَاحِبُ هَذَا اَلْأَمْرِ أَصْغَرُنَا سِنّاً وَ أَخْمَلُنَا شَخْصاً » (9).
إعلان إمامة الإمام المهدي من قِبل الإمام العسكري عليهما السلام
من أهمّ وسائل معرفة الإمام المعصوم هو إعلان الإمام السابق، وقد قدّم الإمام العسكري عليه السلام في حياته تعيينه للإمامة، كما ورد في رواية خادم الإمام: « وُلِدَ لِأَبِي مُحَمَّدٍ عليه السلام وَلَدٌ فَسَمَّاهُ مُحَمَّداً فَعَرَضَهُ عَلَى أَصْحَابِهِ يَوْمَ الثَّالِثِ وَ قَالَ هَذَا صَاحِبُكُمْ مِنْ بَعْدِي وَ خَلِيفَتِي عَلَيْكُمْ وَ هُوَ الْقَائِمُ الَّذِي تَمْتَدُّ إِلَيْهِ الْأَعْنَاقُ بِالانْتِظَارِ فَإِذَا امْتَلَأَتِ الْأَرْضُ جَوْراً وَ ظُلْماً خَرَجَ فَمَلَأَهَا قِسْطاً وَ عَدْلًا » (10).
ومن الواضح أنّ الإمام المهدي عليه السلام وُلد في سنة 255 هـ، وأنّ الإمام العسكري استشهد في سنة 260 هـ، فبلغ الإمام المهدي عجل الله تعالى فرجه الشريف الإمامة في سنّ الخامسة.
النتيجة
الإمامة في المذهب الشيعي ليست منصباً ملكياً وراثياً. فالأئمة في الشيعة، خلافاً للملوك الآخرين مثل الأمويين، والعباسيين، والفاطميين، لم يرثوا التاج والعرش. بل كانوا يُنتخبون كقادة بسبب صفاتهم الخاصة، ومنها العلم الواسع، والتقوى، والصلات القوية مع الناس.
وفي الإسلام، لا يكون القائد مستحقاً للقيادة إلا من كان:
أن يكون أعلم الناس في زمانه: يجب أن يكون الإمام أعلم وأدرى من جميع الناس.
أن يكون معصوماً: يجب أن يكون الإمام مصوناً من الذنوب والأخطاء.
ولهذا، فإنّ شروط اختيار الإمام في المذهب الشيعي صارمة جداً، فلا يمكن لأيّ شخص أن يصبح إماماً، بل لا بدّ أن يكون واجداً لجميع هذه الصفات. في الحقيقة، إنّ الإمامة في مذهب الشيعة مسؤولية عظيمة لا تُمنح إلا لمن يستطيع أن يهدي الناس إلى الله والسعادة الأبدية. وظاهرة الإمامة في سنّ مبكرة ليست خيالاً لا أساس له، بل هي واقع عملي وتجربة ملموسة؛ فالإمام الذي يتولّى الإمامة في طفولته ويعلن قيادته الروحية والفكرية للمسلمين، لا يُقبل من الأمّة إلا إذا بلغ أعلى مراتب العلم، وكان ذا نظرة واسعة، ومتمكّناً من الفقه والتفسير والكلام بشكل كامل، وإلا فلن تُقبل زعامته.
1) الصواعق المحرقة (لإبن حجر الهيثمي) / المجلد: 1 / الصفحة: 168 / الناشر: مؤسسة الرسالة – بيروت / الطبعة: 1.
2) ضحى الإسلام (لإحمد أمين) / المجلد: 3 / الصفحة: 524 / الناشر: الهيئة المصرية – القاهرة / الطبعة: 1.
3) الفصول المختارة (للشيخ المفيد) / المجلد: 1 / الصفحة: 319 / الناشر: نشر الشيخ المفيد – قم / الطبعة: 1.
4) سورة المريم / الآية: 29.
5) سورة المريم / الآية: 12.
6) تفسير الرازي (لفخر الدين الرازي) / المجلد: 11 / الصفحة: 192 / الناشر: مؤسسة النشر – بيروت / الطبعة: 3.
7) تذكرة الخواص (لإبن جوزي) / المجلد: 1 / الصفحة: 321 / الناشر: منشورات الرضي – قم / الطبعة: 1.
8) الصواعق المحرقة (لإبن حجر الهيثمي) / المجلد: 2 / الصفحة: 597 / الناشر: مؤسسة الرسالة – بيروت / الطبعة: 1.
9) بحار الأنوار (للعلامة المجلسي) / المجلد: 51 / الصفحة: 38 / الناشر: مؤسسة الوفاء – بيروت / الطبعة: 1.
10) كمال الدين (للشيخ الصدوق) / المجلد: 2 / الصفحة: 431 / الناشر: دار الكتب الإسلامية – طهران / الطبعة: 2.









التعلیقات