التوسل بالمعصومين عليهم السلام ودور الإمام المهدي عجل الله فرجه في زمن الغيبة
الشيخ مهدي المجاهد
منذ 4 ساعاتمن المسائل العقائدية التي حظيت بعناية خاصة في الفكر الإسلامي ، وبالأخص في مدرسة أهل البيت عليهم السلام ، مسألة الشفاعة والتوسل بالنبي الأكرم صلى الله عليه وآله وبالأئمة الطاهرين من ذريته. وهي من المسائل التي تعبّر عن عمق الارتباط الروحي بين المؤمنين ومصادر الهداية الإلهية ، وعن إيمانهم بأن لله عباداً اصطفاهم وجعلهم وسائط فيضه ورحمته.
التوسل ليس عبادة لغير الله ، بل هو طلب من الله بحق من أحبهم وقرّبهم ، تعظيماً لمقامهم عنده ، واعترافاً بفضلهم ومنزلتهم. وقد جرى العمل بين المؤمنين على التوسل بالأنبياء والأوصياء ، اقتداءً بما ورد في النصوص القرآنية والسنّة النبوية ، كما في قوله تعالى :
﴿ وَمَا أَرْسَلْنَا مِن رَّسُولٍ إِلَّا لِيُطَاعَ بِإِذْنِ اللَّهِ وَلَوْ أَنَّهُمْ إِذ ظَّلَمُوا أَنفُسَهُمْ جَاءُوكَ فَاسْتَغْفَرُوا اللَّهَ وَاسْتَغْفَرَ لَهُمُ الرَّسُولُ لَوَجَدُوا اللَّهَ تَوَّابًا رَّحِيمًا ﴾ (1).
فهذا النصّ يفتح باب الرجوع إلى النبي الأكرم صلى الله عليه وآله حتى بعد وفاته، باعتباره باب الرحمة الإلهية، وشفيع الأمة الذي لا يُردّ دعاؤه ولا يُغلق بابه.
معنى الشفاعة والتوسل
الشفاعة في حقيقتها طلب الخير والرحمة من الله بواسطة أحبّ خلقه إليه ، وهي لا تعني الشرك بالله ، لأن الشفاعة لا تكون إلا بإذن الله ، كما قال سبحانه : ﴿ مَن ذَا الَّذِي يَشْفَعُ عِندَهُ إِلَّا بِإِذْنِهِ ﴾ (2).
أما التوسل، فهو نوع من طلب القرب إلى الله تعالى عبر الوسيلة التي أمرنا بها في قوله عز وجل: ﴿ يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا اتَّقُوا اللَّهَ وَابْتَغُوا إِلَيْهِ الْوَسِيلَةَ ﴾ (3).
وقد فهم العلماء والمفسرون من هذه الآية أن الوسيلة هي كل ما يُقرّب إلى الله ، وأعظمها النبي الأكرم صلى الله عليه وآله وأهل بيته الطاهرون صلوات الله عليهم أجمعين، الذين جعلهم الله « أبواب رحمته » و« محالّ مشيئته ».
معنى الوسلية في كتاب تفسير الأمثل
فكلمة " الوسيلة " في الأصل بمعنى نشدان التقرب أو طلب الشئ الذي يؤدي إلى التقرب للغير عن ميل ورغبة ، وعلى هذا الأساس فإن كلمة " الوسيلة " الواردة في هذه الآية لها معان كثيرة واسعة ، فهي تشمل كل عمل أو شئ يؤدي إلى التقرب إلى الله سبحانه وتعالى ، وأهم الوسائل في هذا المجال هي الإيمان بالله وبنبيه صلى الله عليه وآله وسلم والجهاد في سبيل الله، والعبادات كالصلاة والزكاة والصوم، والحج إلى بيت الله الحرام وصلة الرحم والإنفاق في سبيل الله سرا وعلانية وكذلك الأعمال الصالحة - كما يقول الإمام أمير المؤمنين علي بن أبي طالب عليه السلام في خطبة له وردت في " نهج البلاغة " منها: « إن أفضل ما توسل به المتوسلين إلى الله سبحانه وتعالى الإيمان به وبرسوله والجهاد في سبيله فإنه ذروة الإسلام وكلمة الإخلاص فإنها الفطرة، وإقامة الصلاة فإنها الملة (4)، وإيتاء الزكاة فإنها فريضة واجبة، وصوم شهر رمضان فإنه جنة من العقاب، وحج البيت واعتماره فإنهما ينفيان الفقر، ويرحضان (5) الذنب، وصلة الرحم فإنها مثراة (6) في المال ومنساة (7) في الأجل وصدقة السر فإنها تكفر الخطيئة، وصدقة العلانية فإنها تدفع ميتة السوء، وصنائع المعروف فإنها تقي مصارع الهوان... » (8).
كما أن شفاعة الأنبياء والأئمة والأولياء الصالحين تقرب - أيضا - إلى الله وفق ما نص عليه القرآن الكريم، وهي داخلة في المفهوم الواسع لكلمة " الوسيلة " - وكذلك اتباع النبي والإمام والسير على نهجهما، كل ذلك يوجب التقرب إلى الساحة الإلهية المقدسة. وحتى عندما نقسم على الله بمقام الأنبياء والأئمة والصالحين فأنه يدل على حبنا لهم والاهتمام بالدين الذي دعوا إليه، هذا القسم يعتبر - أيضا - واحدا من المعاني الداخلة في المفهوم الواسع لكلمة " الوسيلة ".
والذين خصصوا هذه الآية وقيدوها ببعض هذه المفاهيم لا يمتلكون في الحقيقة أي دليل على هذا التخصيص، لأن كلمة " الوسيلة " تطلق في اللغة على كل شئ يؤدي إلى التقرب.
والجدير بالذكر هنا هو أن المراد من التوسل لا يعني - أبدا - طلب شئ من شخص النبي أو الإمام، بل معناه أن يبادر الإنسان المؤمن - عن طريق الأعمال الصالحة والسير على نهج النبي والإمام - بطلب الشفاعة منهم إلى الله، أو أن يقسم بجاههم وبدينهم (وهذا يعتبر نوعا من الاحترام لمنزلتهم وهو نوع من العبادة) ويطلب من الله بذلك حاجته، وليس في هذا المعنى أي أثر للشرك، كما لا يخالف الآيات القرآنية الأخرى، ولا يخرج عن عموم الآية الأخيرة موضوع البحث " فتدبر " (9).
قصة أبي الوفاء الشيرازي
يقول العلّامة المجلسي رحمه الله وجدت في بعض مؤلفات اصحابنا هذا الخبر رواه باسناده عن أبي الوفاء الشيرازي قال : كنت مأسورا بكرمان في يد ابن إلياس مقيداً مغلولاً، فأخبرت أنه قد هم بصلبي، فاستشفعت إلى الله عزوجل بزين العابدين علي بن الحسين عليه السلام . فحملتني عيني فرأيت في المنم رسول الله صلى الله عليه وآله وهو يقول : لا يتوسل بي ولا بابنتي ولا بابني في شئ من عروض الدنيا بل للآخرة ، وما تؤمل من فضل الله عزوجل فيها ، فأما أخي أبوالحسن فانه ينتقم لك ممن يظلمك.
فقلت : يا رسول الله أليس قد ظلمت فاطمة فصبر ، وغصب هو على إرثك فصبر ، فكيف ينتقم لي ممن ظلمني ؟ فقال صلى الله عليه وآله : ذلك عهد عهدته إليه وأمرته به ولم يجد بدا من القيام به ، وقد أدى الحق فيه والآن فالويل لمن يتعرض لمولاه.
وأما علي بن الحسين فللنجاة من السلاطين ، ومن مفسدة الشياطين ،
وأما محمد بن علي وجعفر بن محمد فللآخرة ،
وأما موسى بن جعفر فالتمس به العافية ،
وأما علي بن موسى فللنجاة في الاسفار في البر والبحر ،
وأما محمد بن علي فاستنزل به الرزق من الله تعالى ،
وأماعلي بن محمد فلقضاء النوال وبر الاخوان ،
وأما الحسن بن علي فللآخرة.
وأما الحجة فاذا بلغ السيف منك المذبح وأومأ بيده إلى حلقه فاستغث به فهو يغيثك ، وهو كهف وغياث لمن استغاث به.
فقلت : يا مولاي ياصاحب الزمان أنا مستغيث بك ، فاذا أنابشخص قد نزل من السماء تحته فرس ، وبيده حربة من حديد ، فقلت : يا مولاي اكفني شر من يؤذيني ، فقال : قد كفيتك فانني سألت الله عزوجل فيك وقد استجاب دعوتي ، فاصبحت فاستدعاني ابن إلياس وحل قيدي ، وخلع علي وقال : بمن استغثت ؟ فقلت : استغثت بمن هو غياث المستغيثين ، حتى سأل ربه عزوجل والحمد لله رب العالمين (10).
أبعاد القصة ومعانيها
هذه الرواية ليست مجرد قصة كرامة ، بل هي بيان لعقيدة عميقة في التوسل ، تُظهر أن لكل إمام خصوصية في باب من أبواب الحوائج، وأن توسل المؤمن لا يكون عبثاً ، بل وفق الحكمة الإلهية التي جعلت لكل وليّ من أوليائه وظيفة روحية تتصل بجانب من حياة الإنسان.
فالإمام زين العابدين عليه السلام، المعروف بدعائه وخشوعه، هو ملجأ الخائفين من بطش الظالمين.
والإمام الكاظم عليه السلام، الذي سُجن وصبر على البلاء، هو رمز طلب العافية ودفع البلاء.
والإمام الرضا عليه السلام، الذي سافر من المدينة إلى خراسان، هو كفيل السلامة في الأسفار.
أما الإمام الجواد عليه السلام، المعروف بسعة عطائه وكان هو شاباً حين شهادته ، فهو باب الرزق والفيض.
والإمام الهادي عليه السلام ، الذي كان عوناً للمؤمنين ، هو باب قضاء الحاجات.
والإمام العسكري عليه السلام ، لأمور الآخرة حيث كان تحت الأقامة الجبرية ، ويمهد لإمامة ولده المؤمل الموعود.
وأما الإمام المهدي عليه السلام ، فهو الغوث الأكبر وملجأ المستضعفين عند اشتداد الكرب.
بهذا تتكامل منظومة التوسل في الفكر الإمامي، لتكون تربية روحية متصلة بالله من خلال أوليائه ، لا انفصالاً عنه ، بل توجهاً إليه عبر من اصطفاهم وهذبهم ليكونوا حججه وأبواب رحمته.
خاتمة
إن التوسل بالمعصومين عليهم السلام ليس خرافة ولا بديلاً عن الدعاء إلى الله ، بل هو امتداد لمعنى العبودية الخالصة لله ، واعتراف بأن رحمته تجري عبر وسائط جعلها سبباً للفيض والهداية. فالمؤمن حين يقول : « اللهم إني أسألك بحق محمد وآل محمد »، فإنه لا يطلب من غير الله ، بل يسأل الله بحق من أحبهم وكرمهم واصطفاهم.
القصة التي رواها أبو الوفاء الشيرازي تمثل نموذجاً من نماذج الإغاثة الإلهية التي تأتي عبر التوسل بأوليائه، وهي شاهد على صدق الوعد الإلهي بأنّ أولياءه لا يُخذلون ولا يخذلون من لجأ إليهم بإيمان ويقين.
وفي زمن تتعاظم فيه الفتن وتشتدّ المحن، يبقى باب التوسل مفتوحاً للمؤمنين، باب رحمة لا يُغلق، ونوراً يهدي القلوب إلى يقين أن الله قريب، يسمع دعاء من يدعوه، ويستجيب لمن توسّل إليه بصفوة خلقه، صلوات الله عليهم أجمعين.
وعلى ضوء ذلك، فإننا في هذا العصر، عصر غيبة الإمام المهدي عجل الله تعالى فرجه الشريف ، أحوج ما نكون إلى تقوية ارتباطنا بولي الله الأعظم ، لأنه هو الواسطة الإلهية في هذا الزمان ، وبيده بإذن الله مفاتيح الفرج والنصر والهداية. فالتوجه إليه والدعاء له والتوسل به ليس مجرد عادة روحية ، بل هو تعبير عن الإيمان العميق بامتداد الحجة الإلهية في الأرض ، وعن ارتباط الأمة بإمامها الغائب الذي يرعاها وإن غابت عينه عن الأنظار.
علينا أن نجعل علاقتنا بالإمام المهدي عليه السلام حاضرة في قلوبنا وأعمالنا ودعائنا ، وأن نطلب منه العون في كل أمورنا ، كما أوصت النصوص الشريفة، فهو كهف المستغيثين وغوث الملهوفين ، وملجأ المؤمنين عند الشدائد. ومن لجأ إليه بإخلاص ، لجأ إلى الله من أوسع أبوابه.
فسلامٌ على محمد وآله الطاهرين ، وسلامٌ على الحجة المنتظر ، الذي بذكره تُستجاب الدعوات وبنوره تُنار القلوب ، والحمد لله رب العالمين.
الهوامش
1. سورة النساء : الآية 64.
2. سورة البقرة : الآية 255.
3. سورة المائدة : الآية 35.
4. الملة = شريعة الإسلام.
5. يرحضان = يطهران أو يغسلان.
6. مثراة = مكثرة.
7. منساة = مطيلة.
8. نهج البلاغة : الخطبة 110.
9. الأمثل في تفسير كتاب الله المنزل / الشيخ ناصر مكارم الشيرازي / المجلّد : 3 / الصفحة : 696.
10. بحار الأنوار / العلامة المجلسي / المجلّد : 94 / الصفحة :35 ـ 36 / ط مؤسسة الوفاء ؛ الدعوات / قطب الدين الراوندي / المجلّد : 1 / الصفحة : 191 ـ 192.








التعلیقات