حديث الطائفتين من المسلمين بين القبول والرفض
السيد علي الجرّاش
منذ سنةحديث الطائفتين من المسلمين بين القبول والرفض
تمهيد :
يروق للبعض أن يقصر لفظ الجهاد على الجهاد بالسيف والسلاح فقط بحيث لا يطلق لفظ المجاهد إلّا على مَن حمل السلاح ، ولا يخفى أنّ هذا غفلة من معنى الجهاد ، فانّ مفهوم الجهاد مفهوم أوسع من ذلك ؛ إذ انّ كل ما فيه إعلاء لكلمة الإسلام وكل ما كان في سبيل الله فهو جهاد ، أكان ذلك بالسلاح أم لا ، فكما يُطلَق الجهاد على حمل السلاح كذلك يُطلَق على حمل القلم ، وكما يكون بالفعل يكون بالقول ، بل وكذلك يكون بالسكوت والصبر إذا كان في ذلك حفظ الدين ؛ إذ لا يخفى أنّ أمير المؤمنين هو أمير المجاهدين في حربه وسلمه ، ولعل فترة جهاده التي استمرت خمساً وعشرين عاماً ليست أقل شأناً من حروبه ، بل لعلها تكون أشد جهاداً ، وهو كذلك فأنّها أقسى مراحل جهاد الأمير عليه السلام.
ومثل ذلك من قصر حياته أو قلمه على التبليغ ونشر التشيّع والإسلام وعلى الدفاع عن الحق ، فإن كل ذلك جهاد في سبيل الله ، طبعاً يكون ذلك جهاداً إذا كان في موضعه فالسيف في موضع القلم وبالعكس ليس جهاداً.
فإنّ من حمل السلاح في غير مورده لا يُسمّى مجاهداً إذ لا يكون في عمله إعلاء لكلمة الإسلام ، ومن ذلك يظهر جليّاً أنّ الإمام الحسن عليه السلام بصلحه لم يترك الجهاد ، بل انتقل من جهاد إلى آخر.
وجهاده بالصلح أقسى مرارة وأشدّ من جهاده بالسيف ، فكلا موقفيه ـ يوم وقف في الميدان مصالحاً ، ويوم وقف في حومة الوغى محارباً ـ جهاد في سبيل الله.
ولا يخفى أنّ أسباب صلحه ـ كما هي أسباب حربه ـ ليست أسباباً ناشئة عن مصالح شخصية ، وأنّما هي بحسب ما أملته عليه الوظيفة الإلهية ليس غير ، ولهذا لم يتبيّن لنا المراد ممّا جاء في كتاب صلح الحسن في قوله : « فليكن الحسن ابن رسول الله هو ذلك المخلوق الذي ادّخره الله للإصلاح لا للحرب ، وللسلام لا للخصام » (1) وقوله : « والحسن رسول السلام في الإسلام » (2) ، فسواء كان لذلك مفهوم ـ كما يقول الأصوليون ـ أم لا ، لم يتبيّن مراده قدّس سرّه فإنّ الإصلاح والحرب والسلام والخصام إذا كان في سبيل الله ولإعلاء كلمة الإسلام لا فرق بينهما أصلاً.
إنّ المهم أن يكون الإصلاح والحرب في سبيل الله ليس غير ، وأنّ تقديم الحرب في مواطن على السلم لا يعني أن مَن قاد الحرب لا يحب ـ أو لا يتفاعل ـ مع الإصلاح والسلام ، بل حربه في سبيل الله هي إصلاح وسلام.
فليس عندنا في الإسلام صنفان ـ مصلحون ومحاربون ، مسالمون ومخاصمون ـ وليس عندنا رسول للسلام ورسول للحرب في الإسلام.
فإنّ المحارب هو المسالم والمصالح وانّ رسول الحرب ـ إن صحّ التعبير ـ هو رسول السلام.
فالمنهج الذي يجب اتّباعه والطريق الذي ينبغي السير عليه هو أن يكون العمل في سبيل الله حرباً أو سلماً وصلحاً.
وإنّ من صالح فيما يفرضه الواجب الشرعي عليه من الحرب فقد خرج عن منهج الحق والهدى وكذلك العكس.
فالإمام الحسن انّما صالح لأجل الظروف والأسباب التي أوجبت عليه الصلح حسب ما أملاه عليه الواجب الإلٰهي ، لا ـ كما قيل ـ « لأنّ طابع سياسة الحسن عليه السلام هو حقن الدماء في سائر مراحله » (3) فإنّ طابع الحسن عليه السلام هو العمل بالوظيفة الإلٰهية ـ على السواء ـ موجبة حرباً أو حقناً للدماء.
وليس قوله : « لا تهرق فيّ ملء محجمة دماً » إلّا لذلك ، فان إراقة الدماء ـ في مثل ذلك الموقف وفي مثل موقفه في الصلح ـ ليس فيه صلاح للإسلام ولا نفع للمسلمين ، ولسنا بصدد الخوض في أسباب الصلح ها هنا ، إلّا أنّ البعض حاول أن يسند صلح الإمام الحسن عليه السلام إلى سبب ـ غير تلك الأسباب التي أوجبت الصلح ـ وهو أنّ الإمام عليه السلام استند في صلحه إلى الخبر المروي عن رسول الله صلّى الله عليه وآله انّه قال : « انّ بنيَّ سيد عسى الله أن يصلح به بين فئتين من المسلمين » ، ولكن هذا بعيد عن الحق ، فإنّ هذا الخبر على فرض صحّته لا يفرض الصلح على الإمام الحسن عليه السلام وصدور ذلك ليس سبباً للصلح ، مضافاً إلى أنّ هذا الخبر قد وقع الخلاف في صدوره.
ألفاظ الخبر الواردة :
وقد شاع هذا الخبر فيما روي عن الرسول عليه السلام في الكتب الحديثية والتاريخية ، وقد ورد بألفاظ متقاربة المضمون فقد ورد ـ إن ابني هذا سيّد ـ في بعض الروايات ، وورد عسى ان يصلح به ـ لعل ـ ان يصلح على يديه ـ إن الله سيصلح به ـ بين فئتين ـ فئتين عظيمتين ـ فئتين من اُمّتي ـ فئتين من المسلمين ـ من المؤمنين ـ.
رواة الخبر
وكاد ينحصر سند هذه المرويات عن النبي صلّى الله عليه وآله بأبي بكرة نفيع بن الحارث بن كلدة شقيق زياد من اُمّه سمية ، وإن كان قد روي عن جابر بن عبد الله وابن الزبير وابن عباس وأبي هريرة وبريدة ، إلّا أنّ الملاحظ أنّ رواية ابن عباس ليست إلّا في كتاب إعلام الورى والمناقب ، ولعل إعلام الورى نقلها عن المناقب ، إذن هي من مصدر واحد ، مع أنّه قد رواها مرسلة ، ولم يذكر مصدرها.
وأمّا رواية أبي هريرة وبريدة فهي في المناقب عن المحاضرات للراغب ، إذن هي ليست إلّا في مصدر واحد ، مع أنّها مرسلة أيضاً.
وأمّا رواية ابن الزبير فقد رواها ابن عساكر ورواها ابن كثير.
وأمّا رواية جابر فقد رواها في مجمع الزوائد ، وابن كثير في البداية والنهاية ، وابن عساكر ، وفي تاريخ بغداد ، فالملاحظ أنّ رواية هؤلاء لم تذكر إلّا في هذه الكتب.
وأمّا رواية أبي بكرة فهي المشهورة والمعتمدة عندهم ، فإنّ ما رواه البخاري لهذا الخبر في أربعة موارد كله عن الحسن عن أبي بكرة ، ومثله ما رواه أحمد وسنن أبي داود والترمذي والسنن الكبرى للنسائي ومسند الحميدي والطيالسي والفتن لابن حماد والمصنف لعبد الرزاق والمصنف لابن أبي شيبة وفضائل الصحابة ومعرفة الرجال والمستدرك وكنز العمّال وسنن البيهقي وفرائد السمطين وحلية الأولياء والذخائر والطبقات الكبرى لابن سعد ، إلى غير ذلك من المصادر السنيّة التي تقرب من سبعين مصدراً (4) والتي نقلت هذا الخبر ، فكلها غير ما ذكرناه ـ في رواية ابن الزبير وجابر وأبي هريرة وبريدة ـ ترويه عن الحسن عن أبي بكرة فقط ، ـ ولا تذكر رواية غيره ـ سواء كان بطريق واحد أو طرق متعدّدة ، كما في مسند أحمد والطبقات الكبرى لابن سعد وفرائد السمطين ، وكذلك ابن عساكر فإنّه رواها بطرق متعدّدة عن الحسن عن أبي بكرة إلى غير ذلك.
فيلاحظ أنّ الرواية المعتمدة والمشهورة هي رواية أبي بكرة حتى تكاد لا تجد غيرها ، وإن وجد فهو هامشي كما يلاحظه المتتبّع في كتب الحديث.
الخبر عند العامّة والخاصّة :
وقد تلقى هذا الحديث بالقبول أعلام السنة واتفقت كلماتهم على صدوره ، وكما قلنا إنّه شايع في كتب الحديث والتاريخ ، بل ان ابن عبد البرّ في الاستيعاب (5) في ترجمة الإمام الحسن قال : « وتواترت الآثار الصحاح عن النبي أنّه قال للحسن ابن علي : انّ ابني هذا سيّد ، عسى الله أن يبقيه حتى يصلح به بين فئتين عظيمتين من المسلمين » ، وعده ابن الأثير (6) انّه معجزة نبوية حيث قال : « ثم سار معاوية إليه من الشام وسار هو إلى معاوية فلما تقاربا علم أنّه لن تغلب احدى الطائفتين حتى يقتل أكثر الاُخرى فظهرت المعجزة النبوية في قوله صلّى الله عليه وآله : « ان ابني هذا سيّد » ، إلى غير ذلك من كلمات أعلامهم.
وأمّا عندنا فقد اختلفت الكلمات حوله فذهب كثير إلى صدوره وثبوته ، بل قال بعضهم : « انّ رسول الله قال ذلك يقيناً دون شكّ وقال : إنّ رسول الله قاله أكثر ممّا يحصى » (7) وذهب كثير إلى أنّها موضوعة ، وهو الصحيح كما ستعرفه.
فانّ هذا الخبر ممّا دسّ في المرويات عن النبي صلّى الله عليه وآله باُسلوب يخفى عليه أثر الوضع ، وقد أشار إلى وضعه الكثير إلّا انّي لم أرَ من بحث ذلك من جميع جوانبه فأرتأيت أن يكون ما أشارك به هو هذه الدراسة لهذا الخبر.
ولإثبات ما ندّعيه سيكون البحث في جهتين كل منهما تكفي لإثباته :
الجهة الاُولى : جهة الرواية لهذا الخبر فهل تتناسب روايته بهذه الصورة الموجودة في كتب الحديث والتاريخ مع ما نقل من مناسبات قيل فيها ذلك الخبر ؟ وهل تليق كيفية نقله مع شأن هذا الخبر الذي ادّعي تواتره أو لا ؟ وهل صدر عن النبي صلّى الله عليه وآله أو لا ؟
الجهة الثانية : جهة المروي فهل تجتمع دلالة هذا المروي مع ما جاء عن النبي صلّى الله عليه وآله ومع الثابت من الاعتقاد أو لا ؟
أمّا الجهة الاُولى :
إعتبار المقولات التاريخية :
وقبل الدخول في البحث عنها ، نود أن نشير إلى مطلب وهو : انّ المنقولات على قسمين : قسم يتعرّض فيه لبيان الأحكام الشرعية ، وقسم يتعرّض فيه لبيان أحداث تاريخية ونحوها.
ولكل من القسمين أحكامه ، أمّا القسم الأوّل فليس مورد بحثنا ، وأمّا الثاني فمنه هذه الرواية ـ التي نحن بصدد البحث عنها ـ فإن قبوله واعتباره يختلف عن القسم الأوّل فيكفي في اعتباره الاعتبار التاريخي بأن يذكر في الكتب المعتبرة مثل تاريخ الطبري وابن الأثير ونحوهما فإنّهما معتبران ، بمعنى أن يطمئن للمؤلِّف والمؤلَّف في الجملة.
ولكن هذا الاعتبار إنّما يكفي بهذا الشرط وهو عدم منافاة الخبر المروي للعقل أو النقل وإلّا فيرد ، وليس الاعتبار بمعنى ملاحظة السند في كل خبر رواته ثقات أم لا ؟ وإلّا لما صحّ عندنا خبر فان أكثر رواة تلك الأخبار أو كلهم من المخالفين ، بل ممّا وصف الكثير منهم بالضعف عندهم.
ومن الخطأ بمكان مناقشة سند الخبر أولاً فإن صحّ سنده صحّ الخبر وإلّا فلا.
فالتعبير ـ ابتداء ـ بأنّ سند هذا الخبر ضعيف غير صحيح ، بل ينظر ـ إذا روي في الكتب المعتبرة ـ أهو مخالف للعقل أو النقل ، فإن كان فلننظر في سنده من وجه إذ انّ أحد رواته لا بدّ أن يكون قد وضعه إذا لم يكن تأوّله.
ونحن سنسير على ذلك فإن دراستنا لهذه الجهة التي سنبحث فيها لن يكون فيها تعرّض لسند الخبر أهم من الثقاة أو الضعاف ؟.
نعم لذلك وجه بعد البحث في الجهة الثانية وإثبات منافاة دلالة هذا الخبر مع ما جاء عن النبي صلّى الله عليه وآله كما سيأتي بيانه ، وإن كنّا لا نحتاج للبحث عن السند أصلاً فبعد الاختلاف في ثبوته سنرى هل انّ روايته تجتمع مع شهرة الخبر وشيوعه ؟
وسيكون بحثنا في ذلك لا في السند كما أشرنا.
تسليط الضوء على الرواية المشهورة
وسنسلط الضوء على رواية أبي بكرة ـ لأنّها المشهورة إن لم تكن المعتمدة ، وأمّا غيرها ـ كما أشرنا إليه ـ فلا يعد شيئاً في قبالها.
فإذا ثبت عدم صدورها ، فتلك لا حاجة للتكلّم عن صدورها وعدمه إذ سيظهر ضعفها أيضاً بالتبع ، فإن بعض الملاحظات يشملها ، ولنا عليها من هذه الجهة ملاحظات :
الملاحظة الاُولى :
إنّ رواية أبي بكرة رويت بعدّة مضامين متقاربة مع ذكر المناسبة التي قال فيها النبي صلّى الله عليه وآله الحديث في أكثرها ، وأمّا رواية غيره فهي خالية عن ذكر المناسبة وإن اشتركت في ألفاظ الخبر أو أكثره مع رواية أبي بكرة ، والمناسبات التي ذُكرت في رواياته متعدّدة وإنّ كلّاً منها كانت على ملأ من الناس بحيث انّ الراوي لها لا بدّ أن يكون متعدّداً حسب العادة.
وهذه المناسبات هي :
المناسبة الاُولى : انّ أبا بكرة قال : « لقد رأيت رسول الله صلّى الله عليه وآله على المنبر والحسن بن علي إلى جنبه وهو يُقبل على الناس مرّة وعلى الحسن مرّة ويقول .. ».
المناسبة الثانية : « انّ رسول الله كان يصلّي فإذا سجد وثب الحسن على ظهره أو قال على عنقه فيرفع رأسه رفعاً رفيقاً لئلّا يصرع فعل ذلك غير مرّة .. الخ ».
المناسبة الثالثة : قال : « إنّ الحسن بن علي جاء ذات يوم فصعد المنبر ورسول الله صلّى الله عليه وآله يخطب فأخذه فوضعه في حجره فجعل يمسح على رأسه وقال .. ».
المناسبة الرابعة : قال : « إنّ النبي صلّى الله عليه وآله كان يخطب يوماً فصعد إليه الحسن فضمّه النبي صلّى الله عليه وآله إليه وقال .. ».
المناسبة الخامسة : قال : « كان النبي صلّى الله عليه وآله يصلّي الضحى فجاء الحسن وهو غلام فلمّا سجد النبي ركب على ظهره كأنّي أنظر إلى رجليه يقلّبهما على ظهر رسول الله صلّى الله عليه وآله فلمّا رفع رأسه من السجود أخذه أخذاً رفيقاً حتى وضعه بالأرض فلمّا فرغ من صلاته أقبل عليه بوجهه يقبّله فقال له رجل : أتفعل هذا بهذا الغلام ؟ فقال النبي صلّى الله عليه وآله .. ».
المناسبة السادسة : قال : « صعد رسول الله صلّى الله عليه وآله المنبر فقال .. ».
فمن الملاحظ أنّ هذه المناسبات لم تكن من وضع الراوي بحيث كانت مناسبة واحدة والراوي جعلها متعدّدة ، بل إنّ كلّ مناسبة تختلف عن الاُخرى ، وتعدّد المناسبات يقتضي تعدّد وتكرار صدور هذا الخبر.
فمع التوجّه إلى أنّ هذا الخبر قد تكرّر من النبي صلّى الله عليه وآله في مناسبات متعدّدة وكان في ملأ من الناس.
فينبغي أن يكون رواة هذا الخبر متعدّدين بحيث تكثر رواته من الصحابة وبالتبع تكثر رواته من التابعين.
فانّ مقتضى تكرار النبي صلّى الله عليه وآله ليس إلّا لأهميّته لكي يلتفت المسلمون ويعلموا به ويتناقلوه لكي ينتشر.
فكان مقتضى مناسبة الحكم للموضوع هو تعدّد الرواة ، لا أن يكون راويه يكاد أن ينحصر بفرد واحد وقد انتشرت عنه وهو أبو بكرة ، وأمّا رواية غيره فقد قلنا إنّها لم تُذكر في الصحاح الستة ولا غيرها من الكتب الحديثية المشهورة ، بل ذكرت في بعض الكتب المتأخرة إذ لم تُذكر في كتب القدماء ، بل من الواضح أنّ روايتهم لها ليس بتلك الأهميّة وإلّا لذكرت رواية كل منهم في أكثر من كتاب ، أو ذكرت في بعض الكتب الحديثية المشهورة.
وعلى كلٍ لو كانت صادرة عن النبي صلّى الله عليه وآله مع تعدّد صدورها منه لنقلت بنحوٍ أكثر استفاضة عن الصحابة إن لم يكن نقل مثل هذا الخبر بنحو متواتر ، فأين أبو هريرة وعائشة وابن عمر وابن عباس وأنس والمكثرون من الحديث ؟ فكيف خفيت عليهم ولم يسمعوها من النبي صلّى الله عليه وآله ؟.
بل لو رُويت عن هؤلاء لرُويت بنحوٍ يكون معروفاً لدى أهل الحديث ولا تخلو منه الكتب الحديثية المهمّة ، كما في حديث : « الحسن والحسين سيّدا شباب أهل الجنة » و « الحسن والحسين إمامان إن قاما وإن قعدا » إلى غير ذلك من الأحاديث التي قد يكون لم يذكر لها بعض تلك المناسبات مع أنّها قد رويت في كتب الحديث وأنّها معروفة عندهم.
مناقشة دعوى التواتر :
وأمّا ما ذكره ابن عبد البرّ بقوله : « فقد تواترت الآثار من الصحاح النبي صلّى الله عليه وآله » فهي دعوى تحتاج لإثبات.
بل لو قلنا بتواتره فهو لم يتواتر إلّا عن أبي بكرة لا عن النبي صلّى الله عليه وآله ، بل لم يتواتر ـ على فرض قبول التواتر ـ إلّا عن الحسن ، لأنّ كل ما روي عن أبي بكرة كلها عن الحسن ، وما رواه الحسن كله عن أبي بكرة ، كما تقدّمت الإشارة إليه ، وإن تعدّدت الطرق إلى الحسن ففي ترجمة الإمام الحسن عليه السلام لابن عساكر رواها بإثنين وعشرين طريقاً دون غيره ، وعليه لا يمكن تحقّق التواتر حتى لو قبلنا رواية ابن الزبير وجابر فإنّ رواية جابر وإن رواها ابن عساكر بطريقين (8) فهي تنتهي إلى أبي سفيان عن جابر ، بل كل من رواها مسندة فهي عن أبي سفيان (9) ، وعلى هذا فهي رواية واحدة ، إذ الرواة عن النبي صلّى الله عليه وآله حينئذ ثلاثة ولا يتحقّق التواتر بذلك ، وأمّا رواية غيرهم فهي مرسلة كما تقدّم.
الملاحظة الثانية : انّ من الثابت مجيء الإمام الحسن عليه السلام للنبي صلّى الله عليه وآله في المسجد وصعوده المنبر ، ومجيئه له وقت الصلاة وصعوده على ظهره وعنقه وحمل النبي صلّى الله عليه وآله له ، ولكن إلى متى كانت سيرة الحسن هذه ؟ لا شك انّها كانت في أوائل طفولته عليه السلام وهي سنيه الاُولى والثانية إلى الرابعة لا أكثر ؛ إذ من البعيد جداً أن يستمر على ذلك وهو في سن الخامسة ، فإنّ ذلك غير مقبول ممّن له قليل فهم وإدراك من الأطفال فكيف من الإمام الحسن عليه السلام.
وبعبارة اُخرى ان من المستهجن صدور ذلك من الأطفال العاديين فكيف من الإمام الحسن عليه السلام.
مع أنّ الثابت تاريخياً انّ أبا بكرة التحق بالنبي صلّى الله عليه وآله والإسلام في السنة الثامنة بعد فتح مكة وانتهاء النبي صلّى الله عليه وآله من معركة حنين ، فكان عمر الحسن عليه السلام آنذاك خمس سنين.
وعلى ذلك كيف أمكن لأبي بكرة أن يرى الحسن عليه السلام على ظهر النبي صلّى الله عليه وآله أو على عنقه أثناء الصلاة ؟ وكيف تأتى له أن ينظر إلى رجلي الحسن يقلبهما على ظهر الرسول صلّى الله عليه وآله مع أنّ تعدّد المناسبات يكشف عن صدور ذلك في أوقات متفرّقة لا في أوقات متقاربة جداً.
وفي وقت صدور مثل ذلك عن الحسن عليه السلام لما كان عمره الثانية أو الثالثة لم يكن أبو بكرة بعد قد التحق بالإسلام.
الملاحظة الثالثة : إنّي لم أقف على رواية (10) لأبي بكرة في فضائل الإمام الحسن عليه السلام غير هذه ، بل ولا شيء من فضائل أهل البيت عليهم السلام ، فإنّه لم يذكر له في الفضائل إلّا هذه الرواية كما في كتاب المسند الجامع (11) ، وكذلك في غيره ، من الكتب التي تعرّضت لذكر الفضائل كالطبقات الكبرى لابن سعد وغيره.
فهل يا ترى لم يسمع أبو بكرة شيئاً من فضائل الحسن عليه السلام إلّا هذه الرواية خلال تلك الفترة التي قضاها مع النبي صلّى الله عليه وآله ، مع أنّه رواها بأنحاء متعدّدة وروى أنّه سمعها من النبي صلّى الله عليه وآله مرات متعدّدة ، فكأنّه مدّة بقاءه مع النبي صلّى الله عليه وآله ، لم يكن همّه إلّا سماع هذا الخبر ليرويه وقت الحاجة ، وأمّا غيره فلا يهمّه ، أو انّه لم يرق له أن يروي غيرها ؟ أو انّه اكتفى بوضع هذا الخبر ؟ أو انّه لم يطلب منه أن يضع إلّا ذلك ؟ أو ان من وضع هذا الخبر على لسان أبي بكرة اكتفى بذلك ؟
الملاحظة الرابعة : انّه مع تكرار النبي صلّى الله عليه وآله له كيف خفى على مثل أبي هريرة ـ الذي لم يبق ولم يذر في النقل حيث ضبطت أحاديثه فبلغت خمسة آلاف وثلاث مائة وأربعة وسبعين حديثاً ـ ؟ وأمّا ما أشرنا إليه سابقاً من أنّه رواها فقد كان بنحو الإرسال وليست في كتب أصحاب الحديث ولا في الكتب القديمة ، على أنّه لو رويت عنه لاشتهرت ونُقلت عنه فإنّهم رووا عنه ما هو أقل من هذه الرواية شأناً وصدوراً.
فإنّه لو سمعها من النبي صلّى الله عليه وآله لكان أوّل من يرفع بها عقيرته بعد الصلح أمام أهل الكوفة.
فقد روى التاريخ انّه لما قدم أبو هريرة العراق مع معاوية عام الجماعة ، جاء إلى مسجد الكوفة فلمّا رأى كثرة من استقبله من الناس جثا على ركبتيه ثم ضرب صلعته مراراً وقال : يا أهل العراق أتزعمون انّي أكذب على الله ورسوله وأحرق نفسي بالنار ، والله لقد سمعت رسول الله يقول ان لكلّ نبي حرماً وانّ المدينة حرمي فمَن أحدث فيها حدثاً فعليه لعنة الله والملائكة والناس اجمعين ( قال ) وأشهد بالله انّ علياً أحدث فيها ، فلمّا بلغ معاوية قوله أجازه وأكرمه وولّاه امارة المدينة.
إلى غير ذلك ممّا كان الغرض منه الحط من شأن علي عليه السلام ، والتقرّب إلى معاوية.
فلو كان سمع هذه الرواية ، أو لو كانت قد صدرت عن النبي صلّى الله عليه وآله لكان بمقتضى المناسبة أن يذكر هذا الخبر الذي يجعل معاوية وفئته من المؤمنين ـ المسلمين ـ خصوصاً بعد ان اشتهر بين أهل الكوفة انّ الفئة الباغية هي معاوية وفئته ، ليرفع الشك من نفوس الناس ، فإنّ روايته لذلك الخبر إنّما للحطّ من شأن علي عليه السلام والرفع من مقام معاوية ، فإذا أمكنه أن يرفع من شأن معاوية بشيء ينطبق على معاوية نفسه وثابت عن النبي صلّى الله عليه وآله كان ذكره مناسباً جداً وأولى في بيان مراده.
بل لو سمعها أو صدرت عن النبي صلّى الله عليه وآله لنقلت عنه فيما بعد ، فإنه لم يبق شيئاً لم يروه ممّا سمعه عن النبي صلّى الله عليه وآله وممّا لم يسمعه فانّ المجال كان أمامه مفتوحاً على مصراعيه.
الملاحظة الخامسة : لو صدرت عن النبي صلّى الله عليه وآله كيف لم يذكرها الإمام الحسن عليه السلام في الجواب على مَن اعترض عليه بعد الصلح مع أنّه قد ذكر ـ كما يروون ـ وأجاب بقوله (12) « مع أنّ أبي كان يحدّثني أنّ معاوية سيلي الأمر فوالله لو سرنا إليه بالجبال والشجر ما شككت انه سيظهر .. » وأجاب أيضاً على بعض من اعترض عليه بقوله (13) « لا تؤنّبن يرحمك الله فانّ النبي قد رأى بني اُميّة يخطبون على منبره رجلاً رجلاً فساءه ذلك فنزلت ( إِنَّا أَعْطَيْنَاكَ الْكَوْثَرَ ) نهر في الجنة ، ونزلت ( إِنَّا أَنزَلْنَاهُ .. ) تملّكها بنو اُميّة.
مع أنّ من المناسب جداً هو أن يجيب بهذه الرواية التي عدّت من إخبارات النبي الغيبية.
فكما انّه ذكر ذلك جواباً كان ينبغي أن يذكر هذه الرواية فانّها أوقع في الجواب وأوضح في العذر.
الملاحظة السادسة : ممّا يؤكّد انّها موضوعة وعدم صدورها عن النبي صلّى الله عليه وآله ما رواه في مروج الذهب (14) : « انّه لما صالح الإمام الحسن عليه السلام معاوية كبّر معاوية بالخضراء وكبّر أهل المسجد لتكبير أهل الخضراء فخرجت فاختة بنت قرضة من خوخة لها وقالت : سرك الله يا أمير المؤمنين (15) ما هذا الذي بلغك ؟ فقال : أتاني البشير بصلح الحسن وانقياده فذكرت قول رسول الله : إنّ ابني هذا سيّد أهل الجنة وسيصلح الله به بين فئتين عظيمتين من المؤمنين فحمدت الله الذي جعل فئتي إحدى الفئتين المؤمنتين ».
فتلاحظ أن معاوية لم يفرح ويكبّر للصلح نفسه بل لتحقّق إخبار النبي صلّى الله عليه وآله ففرح لكونها معجزة للنبي صلّى الله عليه وآله ، ولأنّ فئته إحدى الفئتين المؤمنتين ، وهذا هو الذي يهمّه ويشغل باله وهو ان يضفي على نفسه وفئته الإيمان على لسان النبي صلّى الله عليه وآله بعد ان ثبت عنه صلّى الله عليه وآله « عمّار تقتله الفئة الباغية » واشتهار انّها معاوية وأصحابه.
مضافاً إلى أنّ روايته عن النبي صلّى الله عليه وآله قال : « انّ ابني هذا سيد أهل الجنة وسيصلح .. » لم يروه أحد ممّن روى هذا الخبر فان أقصى ما روي هو انّ ابني هذا سيد فقط لا « سيّد أهل الجنة ».
الملاحظة السابعة : انّ هذه لم ترو إلّا في كتب العامّة ومن طرقهم ولم ترو من طرفنا لا عن الأئمة عليهم السلام ولا من طرقنا عن الصحابة ، بل لم تُذكر في كتب قدمائنا كالشيخ الصدوق والمفيد رحمهم الله.
والذي ذكرها ممّن تأخّر عنهم كالمناقب وأعلام الورى وكشف الغمة انّما نقلها عن كتب العامّة.
بل حتى البحار (16) لم يذكرها إلّا في ضمن ما نقله عن المناقب وأعلام الورى وكشف الغمة والعدد القوية ، فلو صدرت عن النبي صلّى الله عليه وآله بهذه الكثرة والتعدّد لرأينا لها أثراً في طرقنا ولذكرها الأئمة عليهم السلام لا أقل عند تعرضهم لصلح الإمام الحسن عليه السلام ، فمثلاً قد روي عن الإمام الباقر عليه السلام حين سُئل عن صلح الحسن عليه السلام انّه قال : « انّه أعلم بما صنع ولولا ما صنع لكان أمر عظيم ».
وهذا لا يعني أنّ كل ما روي من فضائل أهل البيت عليهم السلام في كتب العامّة يجب أن يُروى عن أئمتنا عليهم السلام أو من طرق أصحابنا.
بل مرادنا أنّ مثل هذه الرواية التي تكرّر صدورها عن النبي صلّى الله عليه وآله واشتهرت وادّعي تواترها ، لو كانت قد صدرت لرأينا فيما ورد عن الأئمة عليهم السلام أو رُويت من طرقنا عن الصحابة أو لا أقل رأيناها في كتب قدمائنا كأمثالها من الروايات.
من موهّنات الخبر
ولن نكون بعيدين عن الحقّ لو قلنا : إنّ من موهنات الحديث هو اتفاق وإجماع علماء العامّة عليه محدثين ومؤرخين ، وخلو مجاميعنا منه وعدم روايتنا له.
بل كل ما قويت واشتهرت روايتهم لحديث كان أوهن للرواية ، بل وإن بلغ التواتر عندهم كان أقوى في الوهن خصوصاً إذا كانت الرواية ممّا تحتاج للتأويل أو مخالفة العقل والنقل.
شبيه ونظير
وممّا يشبه هذا الخبر ما روي عن النبي صلّى الله عليه وآله قال : « علماء اُمّتي أفضل من أنبياء بني اسرائيل » فهي مع شهرتها على الألسنة والكتب لم تروَ إلّا في كتب العامّة وإن ذكرت في كتبنا فهي عنهم.
فهي مع شيوعها وشهرتها نرى أنّ كثيراً من علمائنا ممّن تعرّض لها يصرح بانّها من موضوعات العامّة وليس إلّا لعدم روايتنا لها.
النتيجة
وبعد هذا كلّه يتضح أنّ هذه الرواية من الموضوعات ، وانّ أبا بكرة لم يروها عن النبي صلّى الله عليه وآله فلا وجه للتمسّك بهذه الرواية وإن قلنا إنّها رويت عن غيره.
وهذا تمام الكلام في الجهة الاُولى.
وأمّا الجهة الثانية : وهي ما سنتعرّض فيها إلى المروي ودلالاته أهي منافية لما جاء عن النبي صلّى الله عليه وآله وللاعتقاد الثابت أو لا ؟
لفظ الرواية المشهور
فمع غضّ الطرف عمّا تقدّم في الجهة الاُولى الذي نراه هو المنافاة ، وقبل بيان ذلك نعيد ما أشرنا إليه من أنّ الرواية جاءت تارة بلفظ فئتين فقط ، واُخرى فئتين عظيمتين ، وثالثة فئتين من اُمتي ورابعة فئتين من المسلمين أو المؤمنين.
إلّا انّ الغالب فيما جاء هو ـ فئتين من المسلمين ـ وفي بعض ـ من المؤمنين ـ بحيث يعد غير ذلك من النادر في نقل هذه الرواية حتى انّ هذه الرواية اشتهرت بفئتين من المسلمين وانّ غير ذلك كأن لم يروَ.
مدلول الخبر :
وعلى كل فأنّ مدلول هذا الخبر هو إثبات الإيمان للفئتين بما فيها فئة معاوية المحاربة لإمام زمانها ، فإنّ المراد من الفئتين هما الفئتان المتقابلتان ، إمّا بالحرب أو بإرادة الحرب ، وليس المراد منها ما قبل الحرب أو ما بعدها ، فإنّ الإصلاح إنّما هو بين الفئتين المختلفتين بالحرب أو بإرادتها والتهيّؤ لها كما هو موضع الاستشهاد بالخبر.
وهذا المروي بهذا النحو هو الذي يكون مورد ملاحظاتنا لبيان المنافاة وإليكها :
الملاحظة الاُولى : منافاة هذا الحديث لما روي عن النبي صلّى الله عليه وآله : « يا علي حربك حربي » و « ألا انّ عليّاً بضعة مني فمن حاربه فقد حاربنا » و « عاديت مَن عاداك » مخاطباً عليّاً ، وقوله مخاطباً لعلي وفاطمة والحسنين : « أنا حرب لمَن حاربكم وسلم لمَن سالمكم ».
إذ ممّا لا شك فيه أنّ حرب النبي صلّى الله عليه وآله كفر فتكون حرب علي والحسن كفراً ، وقد حاول بعض العامّة أن يفصّل في مدلول هذه الرواية الثابتة ـ يا علي حربك ـ إلى أنّ مَن حاربه عالماً معانداً فينطبق عليه أنّه حرب للنبي ، وأمّا مَن حاربه عن شبهة كما في أصحاب الجمل وصفين فلا ينطبق على حربهم انّها حرب النبي صلّى الله عليه وآله فلا يكون كافراً.
إلّا انّ هذه المحاولة متكلّفة جداً ، فانّ الرواية مطلقة وتشمل كل مَن حارب عليّاً أكان معانداً أو عن شبهة هذا أوّلاً.
وثانياً : وليكن مَن حارب عن شبهة كمَن حارب النبي عن شبهة فهل يقال له أنّه ليس بكافر ؟
وثالثاً : مضافاً إلى ذلك انّ الإشكال في تحقّق الصغرى إذ أي شبهة يمكن تحقّقها بعد ما قال النبي صلّى الله عليه وآله في علي عليه السلام ما قال مثل : الحقّ مع علي يدور معه أينما دار ، بل انّ هذا الحديث حربك حربي كافٍ لرفع أيّ شبهة.
ورابعاً : وعلى فرض إمكان وجود شبهة فإثباتها لأمثال أولئك الذين حاربوا عليّاً وكان قادتهم أعرف الناس بعلي ومكانته دونه خرط القتاد.
والخلاصة إنّ مدلول هذه الأحاديث يتنافى مع مدلول هذا الخبر ؛ إذ انّ مدلوله هو إيمان مَن حارب عليّاً وتلك مدلولها كفره.
الملاحظة الثانية : منافاته لإجماع الإمامية على كفر مَن حارب عليّاً.
قال الشيخ الصدوق في اعتقاداته : واعتقادنا فيمَن قاتل عليّاً قوله صلّى الله عليه وآله : « مَن قاتل عليّاً قاتلني ».
وقال الشيخ المفيد في كتاب الجمل اجتمعت الشيعة على الحكم بكفر محاربي علي.
وقال الشيخ الطوسي في تلخيص الشافي : « عندنا انّ مَن حارب أمير المؤمنين عليه السلام وضرب وجهه وواجه أصحابه بالسيف كافر ، والدليل المعتمد في ذلك إجماع الفرقة المحقّة الإمامية على ذلك فانّهم لا يختلفون في هذه المسألة على حال من الأحوال ».
وقال المحقّق الطوسي في التجريد : « محاربو علي كفرة ».
أضف إلى ذلك إجماع الزيدية والخوارج قال الشيخ المفيد في كتاب أوائل المقالات : « واتفقت الإمامية والزيدية والخوارج على أنّ الناكثين والقاسطين من أهل البصرة والشام أجمعين كفّار ضلال ملعونون بحربهم أمير المؤمنين عليه السلام وانّهم بذلك في النار مخلّدون ».
الملاحظة الثالثة : منافاة هذا الحديث لكثير من الروايات الواردة عن المعصوم عليه السلام المصرّحة بكفرهم وإليك بعضها :
1 ـ ما رواه في شرح النهج ج 2 ص 233 ، والبحار ج 32 ص 543 : انّه قيل لعلي حين أراد أن يكتب الكتاب بينه وبين معاوية وأهل الشام أتقرّ أنّهم مؤمنون مسلمون ؟
فقال عليه السلام : « ما أقرّ لمعاوية ولا لأصحابه أنّهم مؤمنون ولا مسلمون ، ولكن يكتب معاوية ما شاء ويقرّ بما شاء لنفسه ولأصحابه ويسمّي نفسه بما شاء وأصحابه ».
2 ـ عن الأصبغ بن نباتة قال : جاء رجل إلى علي بن ابي طالب عليه السلام قال : يا أمير المؤمنين هؤلاء القوم الذي نقاتلهم ، الدعوة واحدة والرسول واحد والصلاة واحدة والحج واحد فبما نسميهم ؟ قال : « بما سمّاهم الله تعالى في كتابه فقال : ما كل ما في كتاب الله أعلمه ، فقال : أما سمعت الله تعالى يقوله في كتابه : ( تِلْكَ الرُّسُلُ فَضَّلْنَا بَعْضَهُمْ عَلَىٰ بَعْضٍ مِّنْهُم مَّن كَلَّمَ اللَّهُ وَرَفَعَ بَعْضَهُمْ دَرَجَاتٍ وَآتَيْنَا عِيسَى ابْنَ مَرْيَمَ الْبَيِّنَاتِ وَأَيَّدْنَاهُ بِرُوحِ الْقُدُسِ وَلَوْ شَاءَ اللَّهُ مَا اقْتَتَلَ الَّذِينَ مِن بَعْدِهِم مِّن بَعْدِ مَا جَاءَتْهُمُ الْبَيِّنَاتُ وَلَٰكِنِ اخْتَلَفُوا فَمِنْهُم مَّنْ آمَنَ وَمِنْهُم مَّن كَفَرَ ) فلمّا وقع الاختلاف كنّا نحن أولى بالله عزّ وجل وبدينه وبالنبي صلّى الله عليه وآله وبالكتاب وبالحقّ فنحن الذين آمنوا وهم الذين كفروا وشاء الله منّا قتالهم قاتلناهم بمشيئته وإرادته » (17).
3 ـ عن أبي جعفر أنّه قال : قال أمير المؤمنين عليه السلام : « يا معشر المسلمين قاتلوا أئمة الكفر إنّهم لا إيمان لهم لعلهم ينتهون ثم قال : هؤلاء القوم هم وربّ الكعبة » (18) ، يعني أهل صفّين والبصرة والخوارج.
4 ـ ما رواه في شرح النهج (19) : روى نصر بن مزاحم لما نظر علي عليه السلام إلى أصحاب معاوية وأهل الشام قال : « والذي فلق الحبّة وبرأ النسمة ما أسلموا ولكن استسلموا وأسروا الكفر فلمّا وجدوا عليه أعواناً رجعوا إلى عداوتهم لنا إلّا أنّهم لم يتركوا الصلاة ».
5 ـ عن أبي جعفر محمّد بن علي عليهما السلام قال : « لعن علي عليه السلام أهل الجمل فقال رجل : يا أمير المؤمنين إلّا من كان مؤمناً فقال عليه السلام : ويلك ما كان فيهم مؤمن » (20).
6 ـ ما ورد عن الإمام الحسين عليه السلام في جوابه لما قال له : هل بلغك ما صنعنا بحجر وأصحابه وأشياعه شيعة أبيك ؟ قال عليه السلام : « وما صنعت بهم ؟ » قال : قتلناهم وكفنّاهم وصلينا عليهم ودفناهم. فضحك الإمام الحسين عليه السلام ثم قال : « خصمك القوم يا معاوية ، لكنّا لو قتلنا شيعتك ما كفنّاهم ولا صلّينا عليهم ولا قبرناهم » (21). مع أنّ المسلم يجب تجهيزه والصلاة عليه ودفنه.
7 ـ ما ورد عن علي بن الحسين عليه السلام : جاء رجل من أهل البصرة له فقال : انّ جدّك قتل المؤمنين فهملت عين علي بن الحسين عليه السلام دموعاً حتى امتلأت كفّه منها ثم ضرب بها على الحصى ثم قال : « يا أخا البصرة لا والله ما قتل علي مؤمناً ولا قتل مسلماً وما أسلم القوم ولكن استسلموا وكتموا الكفر وأظهروا الإسلام فلمّا وجدوا على الكفر أعواناً أظهروه » (22).
8 ـ ما ورد عن أبي جعفر عليه السلام : « من أنّ مَن حارب عليّاً عليه السلام أعظم جرماً ممّن حارب رسول الله صلّى الله عليه وآله ، وما ورد عنه أنّ حرب علي أشرّ من حرب رسول الله » وعلّل ذلك بانّ أولئك كانوا جاهلية ولم يقرّوا بالإسلام وهؤلاء أقرّوا بالإسلام ثم جحدوه (24).
9 ـ ما ورد في تفسير علي بن ابراهيم بسنده عن جعفر بن محمّد عن أبيه عليهما السلام انّه قال : « وأمّا القاسطون فكانوا لجهنم حطبا ، معاوية وأصحابه ».
ومع هذا كلّه لا يلتفت إلى ما رواه في البحار (25) عن بعض الكتب عن عمرو بن شمر عن جابر بن أبي جعفر عليه السلام أنّ أمير المؤمنين عليه السلام لمّا دنا إلى الكوفة مقبلاً من البصرة خرج له الناس فقال له الراسبي : أي والله انّهم الباغون الظالمون المشركون فقال له أمير المؤمنين عليه السلام : « ليس القوم كما تقول لو كانوا مشركين سبينا واغنمنا أموالهم وما ناكحناهم ولا وارثناهم » فانّ هذه الرواية تتناقض مع ما مرّ من تصريح الإمام بكفرهم.
ومن المؤيدات على كل انّ هذه الروايات التي ذكرناها صريحة ونصّاً في كفر أولئك ، ومضافاً إلى هذه الروايات وغيرها هناك أقوال عن غير المعصوم صرحت بكفرهم وبعضها يروى عمّن حارب عليّاً عليه السلام وهي :
1 ـ عن صالح ابن ابي الأسود عن أخيه اُسيد بن أبي الأسود قال سألت عبد الله بن الحسن عن محاربي أمير المؤمنين عليه السلام فقال : « ضُلّال » فقلت : ضُلّال مؤمنون فقال : « لا » ولا كرامة إنّ هذا قول المرجئة الخبيثة (24).
2 ـ ما روى عن الحسن البصري انّه قال : حدّثني مَن سمع طلحة يوم الجمل حيث أصابه السهم ورأى الناس قد انهزموا أقبل على رجل فقال ما أرانا بقية يومنا إلّا كفاراً (26). ورويت أيضاً عن الزبير انّه قال ذلك لمولى له يوم الجمل (27).
3 ـ عن عمّار لما كان قتال صفّين قال رجل لعمّار يا أبا اليقظان ألم يقل رسول الله قاتلوا الناس حتى يسلموا فإذا أسلموا عصموا مني دماءهم وأموالهم ؟ قال : بلى ولكن والله ما أسلموا ولكن استسلموا وأسروا الكفر حتى وجدوا عليه أعواناً (28).
الملاحظة الرابعة : لو صحّت هذه الرواية عن النبي صلّى الله عليه وآله وكما ادّعى تواترها لما وقع هذا الخلاف فيمَن حارب عليّاً عليه السلام بعد الاتفاق على كونه باغياً أهو كافر أو مشرك أو فاسق مخلّد في النار ؟.
فقد ذهب واصل بن عطاء وعمر بن عبيد ومَن تبعهما إلى أنّ أحّد الفريقين ضال في البصرة مضل فاسق خارج عن الإيمان والإسلام ملعون مستحقّ الخلود في النار ، والفريق الآخر هادٍ مهدي مصيب مستحق للثواب والخلود في الجنّات.
إلّا انّه لا دليل على تعيين الفريق الضال ولا برهان على المهتدي ولا بينة يتوصّل بها إلى التمييز.
وذهب غيرهم من المعتزلة إلى أنّ كلَّ مَن حارب أمير المؤمنين عليه السلام ضال عن الهدى ومستحقّون بحربه والخلاف عليه النار.
وذهب كثير من المعتزلة إلى أنّ جميع مَن مات على اعتقاد إمامة معاوية وتصويبه في قتال أمير المؤمنين فهو عندهم ضال عن الهدى وخارج عن الإسلام ومستحقّ الخلود في النار.
وقالت الخوارج بانّهم كانوا بقتالهم ضلّالاً كفاراً. وهو الذي ذهب إليه الإمامية والزيدية. وهذا الاختلاف الشديد لا يتناسب مع القول بصدور هذه الرواية.
إلى هنا تبيّن انّ مَن حارب الإمام علياً عليه السلام فهو كافر وبوحدة المناط يكون مَن حارب الإمام الحسن عليه السلام كافراً.
وهذا لا يجتمع مع إيمان الفئة التي حاربت الإمام عليه السلام ، فانّها تدلّ على إيمانه وإسلامه أثناء حربه كما هو مقتضى التصالح فانّ التصالح لا يكون إلّا بين المتخالفين وهما هنا المتحاربان. ولا علاقة لها بما قبل الحرب أو بعده.
وما تقدّم ممّا ذكرناه دلّ على كفر محارب الإمام عليه السلام فهل يجتمع الإيمان والكفر في وقت واحد ؟
نتيجة البحث :
وعلى هذا لا مناص من القول بانّ هذا الخبر من الموضوعات.
ونتيجة هذا البحث هو أنّ هذه الرواية من الموضوعات ولا يخفى أنّ الغرض من وضعها ـ أيّاً كان الواضع ـ هو إضفاء صبغة الإسلام والإيمان على معاوية وفئته ، وإخفاء وطمس ما صدر عن النبي صلّى الله عليه وآله من أنّهم الباغون.
إذ انّ معاوية حاول صرف قول الرسول صلّى الله عليه وآله : « عمّار تقتله الفئة الباغية » عن مساره معتمداً على تأويل ابن العاص بأنّ مَن قتله هو الذي أخرجه وجاء به.
وقد انطلت هذه الشبهة على السذّج من أهل الشام وهم الكثير ، وهناك من لم يقبله منهم كما أنّ غير أهل الشام كانوا ينبزونه وجماعته بذلك.
أهداف الوضع
فراحت محاولاته تبحث عن شيء يسدل الستار على ذلك الوصف ، امّا برفعه أو بإثبات وصف آخر يزيله ، فانّ معاوية ينظر إلى المستقبل وإن مضى على استشهاد ذلك الوصف حتى وقع الصلح فلم يرَ ظرفاً أنسب من ذلك الوقت ليرفع ذلك الوصف ، فوضع هذه الرواية ليثبت أمام المسلمين أنّ النبي قد شهد بإيمانه وإيمان جماعته كما عرفته عند نقلنا لكلامه عند وصول خبر الصلح إليه. فلا مجال لأحد بعد ذلك ليتكلم عليه.
وأيضاً حاول واضعوه إثبات أنّ حرب معاوية لم تكن محبوبة لله ولرسوله ، لأنّ معاوية وأصحابه من المؤمنين بشهادة النبي صلّى الله عليه وآله ، وإلّا لو كانت محبوبة لله ولرسوله لما مدح النبي صلّى الله عليه وآله الحسن على صلحه ، ونتيجة ذلك أنّ الصلح محبوب والحرب غير محبوبة ومن ثم تكون حرب علي عليه السلام لمعاوية غير محبوبة لله ولرسوله صلّى الله عليه وآله.
وبمثل ذلك تشبّث محمّد بن عبد الوهاب في كتابه عقائد الإسلام حيث قال : « قال العلماء رحمة الله عليهم إنّ قتال أهل الشام ليس بواجب قد أوجبه الله ورسوله ، ولو كان واجباً لم يمدح النبي صلّى الله عليه وآله الحسن بتركه فدلّ الحديث على أنّ ما فعله الحسن بن علي ممّا يحبّه الله ورسوله .. » (29).
مضافاً إلى أنّ الواضع يريد أن يجعل معاوية والإمام الحسن عليه السلام على قدم المساواة ولا فضل لأحدهما على الآخر ، فإنّ كلّاً مع أصحابه فرقة من المؤمنين وما الصلح محبوباً مع معاوية إلّا لكونه مؤمناً وبالتساوي مع الإمام الحسن عليه السلام.
واضع الحديث
وأمّا مَن هو الواضع ؟ إنّه على خطّ معاوية فهو إمّا معاوية وبأمر منه ، أو مَن سار على نهجه ، وبما أنّ الرواية المشهورة إنّما هي عن أبي بكرة ، فيكون قد وضعها تزلفاً وتقرّباً من معاوية.
انحراف أبي بكرة عن علي عليه السلام
فهو وإن عدّ من خيار الصحابة إلّا أنّه من المنحرفين عن خطّ علي عليه السلام ، فهو الراوي كما عن الحسن وابنه عبد الرحمن أن النبي صلّى الله عليه وآله قال ذات يوم : « مَن رأى منكم رؤيا ؟ فقال رجل : أنا رأيت ، كأنّ ميزاناً نزل من السماء فوزنت أنت وأبو بكر فرجحت ، ووزن أبو بكر وعمر فرجح أبو بكر ، ووزن عمر وعثمان فرجح عمر ، ثم رفع الميزان فرأينا الكراهة في وجه رسول الله صلّى الله عليه وآله ، وفي رواية عبد الرحمن فاستاء لها رسول الله صلّى الله عليه وآله ، فقال : خلافة نبوة ثم يؤتي الله تبارك وتعالى الملك مَن يشاء » (30).
وهو الراوي : « إذا المسلمان حمل أحدهما على أخيه السلاح فهما في جرف جهنّم ، فإذا قتل أحدهما صاحبه دخلاها جميعاً » (31).
وهو الراوي : « إنّها ستكون فتن ألا ثم تكون فتنة القاعد فيها خير من الماشي فيها ، والماشي فيها خير من الساعي إليها ».
وكأنّه فهم من ذلك أنّ حرب صفّين والجمل والنهروان ممّا دعا النبي صلّى الله عليه وآله لاعتزالها ، لأنّها من الفتن التي لا خير فيها للإسلام ، بل كان يثبّط الآخرين عن الحرب مع علي عليه السلام ، فقد روي عن الأحنف بن قيس قال : خرجت وأنا أريد هذا الرجل فلقيني أبو بكرة فقال : اين تريد يا أحنف ؟ قال قلت : أريد نصر ابن عم رسول الله صلّى الله عليه وآله ـ يعني عليّاً ـ قال : فقال لي : يا أحنف ارجع فإنّي سمعت رسول الله صلّى الله عليه وآله يقول : « إذا تواجه المسلمان بسيفيهما فالقاتل والمقتول في النار .. » (32).
ويظهر من ذلك ـ مع الالتفات إلى أنّه لم يرو شيئاً من فضائل أهل البيت عليهم السلام ـ أنّه من المنحرفين عن علي وآله عليهم السلام ، فشخص مثل هذا لا يستبعد منه أن يضع مثل هذه الرواية تقرّباً لعدو علي وآله عليهم السلام ، إمّا هذا أو تكون قد وضعت ونسبت إليه.
والخلاصة : أنّ هذه الرواية ممّا وضع باُسلوب ذكيّ ، فإنّ كلمة ان ابني سيّد وردت عن النبي صلّى الله عليه وآله في حقّ الإمام الحسن عليه السلام ووردت في حقّ الإمام الحسين عليه السلام أيضاً.
نص الرواية غير المشهور
نعم وردت هذه الرواية عن أبي بكرة بدون لفظة من المسلمين أو المؤمنين ، بل بلفظ بين فئتين عظيمتين فقط ، كما في مجمع الزوائد وتاريخ الثقاة واُسد الغابة لابن الأثير ، وأيضاً نقلها في المناقب بين فئتين فقط ، وفي دلائل الإمامة عن كثير بن سلمة بين طائفتين فقط.
وهذا المضمون لا يرد عليه ما ذكرناه في الجهة الثانية ، ولذا احتمل البعض أنّ الرواية هي هذه وأنّ كلمة من المسلمين أو المؤمنين قد اُضيفت إليها ، إلّا أنّ في النفس شيئاً من ذلك ، إذ أنّ بعض الملاحظات في الجهة الاُولى ترد عليها.
استظهار
وقد ظهر ممّا أثبتناه من كفر محارب الإمام عليه السلام انّ قوله تعالى : ( وَإِن طَائِفَتَانِ مِنَ الْمُؤْمِنِينَ اقْتَتَلُوا فَأَصْلِحُوا بَيْنَهُمَا فَإِن بَغَتْ إِحْدَاهُمَا عَلَى الْأُخْرَىٰ فَقَاتِلُوا الَّتِي تَبْغِي حَتَّىٰ تَفِيءَ إِلَىٰ أَمْرِ اللَّهِ .. ) (33) لا تتعلّق بقتال الباغين بالمعنى المعروف الذي ورد في رواية : « عمّار تقتله الفئة الباغية » لما هو من كفر هؤلاء والآية تشير إلى إيمانها. وكون الآية ناظرة لحالهم قبل الحرب بعيد ، بل انّ ظاهر ما بعد هذه الآية : ( إِنَّمَا الْمُؤْمِنُونَ إِخْوَةٌ فَأَصْلِحُوا بَيْنَ أَخَوَيْكُمْ ) هو بقاء المتقاتلين على إيمانهما.
ولعل ذلك هو السر في خلو كثير من الروايات عن الاحتجاج بهذه الآية.
فانّها مسوقة لبيان حكم الطائفتين من المؤمنين التي بغت إحداهما على الاُخرى في أمر دنيوي أو أمر ديني لا يستوجب الكفر كما استظهر ذلك العلّامة المجلسي في البحار (34). وبعبارة اُخرى أن لا يكون في إحدى الطائفتين الإمام عليه السلام.
شبهة ودفع
وأمّا ما ذهب إليه البعض بالحكم على البغاة بحصانة الإسلام مستدلّاً عليه بموقف أمير المؤمنين عليه السلام حيث منع من سبي نسائهم وذراريهم ورد أمير المؤمنين عليهم أموالهم كما روي انّه نادى في حرب البصرة : « من وجد ماله فهو له » ، ولو كانوا كفاراً لوجب أن يسير فيهم بسيرة الكفار فيتبع موليهم ويجهز على جريحهم إلى غير ذلك من الأحكام. فغير صحيح فان ما ذكره لا يقاوم ما مرّ من التصريح بكفرهم ومن الإجماع على ذلك هذا أوّلاً.
وثانياً : انّ قسمة الأموال بين أصحابه ثم ردها عليهم دليل على أنّ ذلك جائز والرد كان من باب المن لا الاستحقاق.
وثالثاً : انّ الذي يستفاد من الأخبار التي سنوردها عليك هو كفرهم واقعاً ، وانّ حكم سبيهم وغنائمهم حكم سبايا وغنائم الكفّار ، إلّا انّ أمير المؤمنين عليه السلام لم يجر ذلك فيهم لحكمة وانّه من باب المن وإليك بعض هذه الروايات :
1 ـ عن زرارة قال سمعت أبا جعفر يقول : « انّما أشار علي عليه السلام بالكفّ عن عدوّه من أجل شيعتنا لأنّه كان يعلم انّه سيظهر عليهم بعده فأحبّ أن يقتدي به مَن جاء بعد فيسير فيهم بسيرته ويقتدي بالكفّ بعده » (35).
2 ـ وعن أبي بكر الحضرمي قال : سمعتُ أبا عبد الله يقول : « لسيرة علي بن أبي طالب عليه السلام في أهل البصرة كانت خيراً لشيعته ممّا طلعت عليه الشمس وانّه علم انّ للقوم دولة فلو سباهم سبت شيعته ». قلت فأخبرني عن القائم عليه السلام أيسير بسيرته ؟ قال : « لا ».
« إنّ عليّاً عليه السلام سار فيهم بالمن للعلم من دولتهم وان القائم يسير فيهم بخلاف تلك السيرة لانّه لا دولة لهم » (36).
3 ـ عن أبي عبد الله عليه السلام : « إنّ عليّاً انّما منّ عليهم كما منّ رسول الله صلّى الله عليه وآله على أهل مكة ، وانّما ترك علي عليه السلام أموالهم لانّه كان يعلم انّه سيكون له شيعة وان دولة الباطل ستظهر عليهم فأراد ان يقتدى به في شيعته ، وقد رأيتم آثار ذاك هو ذا ، يُسار في الناس بسيرة علي عليه السلام ولو قتل علي عليه السلام أهل البصرة وأخذ أموالهم لكان ذلك له حلالاً لكنّه منّ عليهم ليُمنّ على شيعته من بعده » (37).
4 ـ عن أبي عبد الله عليه السلام : « إنّ علياً سار فيهم بالمنّ والكف لأنّه علم ان شيعته سيظهر عليهم عدوّه من بعده » (38).
5 ـ ما كتبه الإمام لأهل الكوفة بعد حرب البصرة : « فقتل الله مَن قتل منهم ناكثاً ، وولّى مَن ولّى إلى مصرهم ، فسألوني ما دعوتهم إليه من قبل القتال فقبلت منهم وأغمدتُ السيف عنهم وأخذت بالعفو عنهم » (39).
6 ـ ما روى عن الأمير عليه السلام انّه قال : « مننتُ على أهل البصرة كما منّ النبي صلّى الله عليه وآله على أهل مكة » (40). هذا بالنسبة لسبيهم وغنائمهم.
أمّا بالنسبة لاتّباع مدبّرهم والإجهاز على جريحهم وأسيرهم ، فالذي عليه الإمامية هو أنّ مَن كان له فئة منهم فيتبع ويجهز عليه ولا يُقتل بخلاف غيره ، كما ورد فيما روي عن الإمام الرضا عليه السلام في الفرق بين حرب البصرة وصفّين حيث قتلهم في صفّين مدبرين ومقبلين ، من أنّ يوم الجمل لم يتبع مولّياً ولم يجهَز على جريح ومَن ألقى سلاحه آمن ومَن دخل داره آمن فأن أهل الجمل قتل إمامهم ولم يكن لهم فئة يرجعون إليها فكان الحكم فيهم رفع السيف عنهم والكف عن أذاهم ، وأهل صفّين كانوا يرجعون إلى فئة مستعدّة وإمام يجمع لهم السلاح (41).
اختلاف الحكم في الكفّار
وأمّا القول بأنّهم لو كانوا كفّاراً لسار فيهم بسيرة الكفّار فيردّه مضافاً إلى ما تقدّم ان أحكام الكفّار تختلف وليس التساوي في الكفر يوجب التساوي في الأحكام. فحكم الحربي الذمي والكتابي غير مَن لا كتاب له. فالكتابي يوخَذ منه الجزية ويبقى على دينه ولا يقبل ذلك من غير الكتابي.
فعلى هذا لا يمنع أن يكون مَن حاربه كفّاراً وإن سار فيهم الإمام عليه السلام بأحكام غير أحكام الكفّار. وقد عرفت بما لا مزيد عليه كفر مَن حارب الإمام عليه السلام.
دفع وهم
نعم الحكم عليهم بعد ذلك بالإسلام إنّما هو بحسب الظاهر وللمصلحة العامّة ليس غير ، لا أنّهم واقعاً كذلك ، قال الشيخ المفيد في كتاب الجمل : « اجتمعت الشيعة على الحكم بكفر محاربي علي عليه السلام ، ولكنّهم لم يخرجوهم بذلك عن حكم ملّة الإسلام إذ كان كفرهم من طريق التأويل كفر ملّة ، ولم يكفروا كفر ردّة عن الشرع مع أقامتهم على الجملة منه وإظهار الشهادتين والاعتصام بذلك عن كفر الردّة المخرج لهم من الإسلام ، وإن كانوا بكفرهم خارجين من الإيمان مستحقّين اللّعنة والخلود في النار ».
حكمهم بعد الحرب
ثم انّ مَن بقي بعد الحرب على رأيه ولم يتب فهو باق على كفره ومَن تاب ورجع إلى طاعة الإمام عليه السلام وتولّيه حُكِمَ عليه بالإيمان.
إلّا انّ الكلام في إثبات توبتهم ، وبالأخص رؤساؤهم فانّه مضافاً إلى عدم توبته وجود الدليل على عدمه.
وما ذكر من توبة بعضهم فهو رواية ، وحربه دراية والرواية لا تقاوم الدراية كما أجاب به الشيخ المفيد على كلام علي بن عيسى الرّماني.
إلى هنا تمّ ما أردنا ذكره في هذه الدراسة ، والحمد لله رب العالمين.
الهوامش
1. صلح الحسن : ص 147.
2. صلح الحسن : ص 175.
3. صلح الحسن : ص 175.
4. كما استقصاه في الأحاديث الغيبية : ج 1 ، ص 164 ، تأليف ونشر مؤسّسة المعارف الإسلامية.
5. ج 1 ، ص 385.
6. اسد الغابة : ج 2 ، ص 13.
7. صلح الحسن
8. ص 125 ، تحقيق المحمودي.
9. هو أبوسفيان الواسطة طاحة بن نافع القرشي مولاهم.
10. نعم روي في الطبقات الكبير لابن سعد في ترجمة الحسن عليه السلام انّه لما نعي الحسن عليه السلام في البصرة بكى الناس وأبو بكرة مريض فسمع الفجه فقال ما هذا فقالت امرأته عبسة بنت سحام ـ من بني ربيع ـ مات الحسن بن علي فالحمد لله الذي أراح الناس منه فقال أبو بكرة : اسكتي ـ ويحك ـ فقد أراحه من شرّ كثير وفقد الناس خيراً كثيراً ص 94 ، تحقيق السيد عبد العزيز الطباطبائي.
11. الجامع لأحاديث الكتب الستة ومؤلّفات أصحابه االاُخرى ، وموطأ مالك ، ومسانيد الحميدي ، وأحمد بن حنبل ، وعبيد ابن حميد ، وسنن الدارمي ، وصحيح ابن خزيمة.
12. قادتنا : ح 5 ، ص 249 ، عن تاريخ الخلفاء الراشدين : ج 1 ، ص 151.
13. نفس المصدر : ص 250 ، عن المستدرك على الصحيحين : ج 3 ، ص 175.
14. أوائل : ج 3.
15. لا يخفى أن معاوية كان يسمي نفسه أمير المؤمنين قبل الصلح كما في بعض كتبه لأصحابه.
16. ج 8 ، ص 142وج 43 ، ص 293.
17. البحار : ج 32.
18. البحار : ج 32 ، ص 322.
19. نفس المصدر : ص 325 ، شرح النهج : ج 4 ، ص 31.
20. البحار : ج 32 ، ص 326.
21. صلح الحسن : ص 340.
22. البحار : ج 32 ، ص 343.
23. المصدر : ص 322.
24. المصدر : ص 353.
25. البحار : ج 32 ، ص 326.
26. المصدر : ص 327.
27. اوائل كتاب الجمل للشيخ المفيد.
28. المصدر
29. ص 22 ، نقلاً عن كتاب شيعني الحسين ص 47.
30. أخرجه أحمد 5 / 44 ، وأبو داود 4634 ، 4635.
31. المسند الجامع : ج 15 ، ص 557.
32. المسند الجامع : ج 15 ، ص 595.
33. الحجرات : 9.
34. البحار : ج 32 ، ص 328 بتصرّف.
35. البحار : ج 33 ، ص 442.
36. البحار : ج 32 ، ص 330.
37. البحار : ج 33 ، ص 443.
38. البحار : ج 32 ، ص 333.
39. البحار : ج 32 ، ص 329.
40. البحار : ج 33 ، ص 444.
41. نفس المصدر.
مقتبس من كتاب : المجتبى بين وميض الحرف ووهج القافية / الصفحة : 57 ـ 85
التعلیقات